الإثنين 24 رمضان 1446 هـ | 24-03-2025 م

A a

«إذا شَكَّ أحدُكُمْ في صلاتِهِ، فلم يَدْرِ كم صلَّى ثلاثًا أم أربعًا؟ فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ وليَبْنِ على ما اسْتَيْقَنَ، ثم يسجدُ سجدتين قبلَ أنْ يُسلِّمَ، فإنْ كان صلَّى خمسًا شَفَعْنَ له صلاتَهُ، وإنْ كان صلَّى إتمامًا لأربعٍ كانَتَا تَرْغِيمًا للشيطانِ».


رواه مسلم برقم: (571)، من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«شكَّ»:
قال أئمة اللغة: الشك: خلاف اليقين، فقولهم: خلاف اليقين هو التردد بين شيئين، سواء استوى طرفاه أو رُجِّح أحدهما على الآخر. المصباح المنير، للفيومي (1/320).

«اسْتَيْقَن»:
أي: علم يقينًا. مرقاة المفاتيح، للقاري (2/ 799).
واليقين: العلم الحاصل عن نظر واستدلال...، ويَقِنَ الأمر يَيْقَن يَقَنًا من باب تَعِب، إذا ثبت ووضح فهو يقين. المصباح المنير، للفيومي (2/ 681).

«شَفَعْنَ»:
أي: رَدَّتْهَا إلى الشفع، أي: الأربع. شرح مسلم، للسيوطي (2/ 238).
ضمير جمع المؤنث، راجع إلى سجدتين؛ لأن المثنى جمع عند بعض. مبارق الأزهار، لابن ملك (ص: 233).
وقال الفتني -رحمه الله-:
أي: جَعَلْنَ صلاته زوجًا، أي: بسبب السجدة. مجمع بحار الأنوار، للفتني (3/ 235).

«تَرْغِيْمًا»:
الترغيم: الإذلال، والإغضاب، والإيصال إلى التراب. المفاتيح في شرح المصابيح، للمظهري (2/196).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
قوله: «ترغيمًا للشيطان» أي: دحرًا له ورميًا له بالرَّغَام: وهو التراب. كشف المشكل (3/162).


شرح الحديث


قوله: «إذا شك أحدكم في صلاته»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«إذا شك أحدكم في صلاته» أي: تردَّد بلا رجحان، فإنه مع الظن يبني عليه عندنا (يعني: الأحناف) خلافًا للشافعي. مرقاة المفاتيح (2/799).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«إذا شك أحدكم في صلاته» أي: في عدد الركعات التي صلاها «فلم يَدرِ كم صلى». البحر المحيط الثجاج (12/562).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- أيضًا:
«إذا شك أحدكم في صلاته» أي: في كونه صلى ثلاثًا، أم أربعًا مثلًا. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (15/17).
وقال السندي -رحمه الله-:
وحَمَلَه (أي: الشك) علماؤنا (يعني: الأحناف) على ما إذا لم يَغْلُبْ ظنه على شيء، وإلا فعند غلبة الظن ما بقي شك.
فمعنى «إذا شك أحدكم» أي: إذا بقي شاكًّا ولم يترجح عنده أحد الطرفين بالتَّحري، وغيرهم حَمَلُوا الشك على مطلق التردد في النفس وعدم اليقين. حاشية السندي على سنن النسائي (3/27).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
قوله: «إذا شك أحدكم في صلاته» ليس المراد بالشك التردد مع التساوي، بل مطلق التردد في النفس وعدم اليقين على ما في اللغة، فيشمل الشك المصطلح عند الأصوليين والوهم والظن وغالب الظن. مرعاة المفاتيح (3/399).

قوله: «فلم يَدْرِ كم صلى ثلاثًا أم أربعًا، فليطرح الشك»:
قال ابن الملك -رحمه الله-:
«فلم يَدْرِ كم صلى ثلاثًا» تمييز رافع لإبهام العدد في «كم». شرح المصابيح (2/69).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«أو أربعًا» أي: مثلًا. مرقاة المفاتيح (2/799).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «فليطرح الشك» أي: المشكوك. لمعات التنقيح (3/142).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فليطرح الشك» أي: ما يشك فيه وهو الركعة الرابعة، يدل عليه قوله «وليَبْن» بسكون اللام وكسره. مرقاة المفاتيح (2/799).
وقال السندي -رحمه الله-:
ليطرح الشك أي: الزائد الذي هو محل الشك، ولا يأخذ به في البناء، ولْيَبْنِ على اليقين، أي: المتيقَّن وهو الأقل، وحَمَلَه علماؤنا (الأحناف) على ما إذا لم يغلب ظنه على شيء، وإلا فعند غلبة الظن ما بقي شك. حاشية السندي على سنن النسائي (3/27).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فليطرح الشك» وفي رواية النسائي: «فَلْيُلْغِ الشك» من الإلغاء، وفي نسخة منه (أي: للحديث): «فَلْيُلْقِ الشك» من الإلقاء، وكلها بمعنى واحد، والمراد: أنه يطرح المشكوك فيه، وهو الزائد، فلا يأخذ به في البناء، يعني: الركعة الرابعة. البحر المحيط الثجاج (12/562).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله في حديث أبي سعيد: «فليطرح الشك ولْيَبْنِ على ما اسْتَيْقَنَ» أقول: هذا ظاهره معارضًا «وأكبر ظنك»؛ لأنه هنالك فعل البناء على أكثر الظن، وهنا جعله على اليقين، أي: فيجعل الأربع ثلاثًا. التحبير لإيضاح معاني التيسير (5/554).

قوله: «ولْيَبْنِ على ما اسْتَيْقَن»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«ولِيَبْنِ» بكسر اللام، وسكونها، تخفيفًا. البحر المحيط الثجاج (12/562).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«وليبن على ما استيقن» وهو ثلاث ركعات. شرح المصابيح (2/69).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«على ما استيقن» أي: عَلِمَ يقينًا وهو ثلاث ركعات. مرقاة المفاتيح (2/799).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«على ما استيقن» بالبناء للفاعل، أي عَلِمَ يقينًا، وهو: استفعال من يَقِن الأمر يَقْنًا... والمعنى: أنه يتم صلاته على المستيقَن، أي: المعلوم يقينًا، وهو الأقل، فلا يقال: إنه لا يقين مع الشك؛ لأن المراد باليقين هنا المتيقَّن، فإذا شك هل صلى ثلاثًا، أم أربعًا فالمتيقَّن هو الثلاث، فليطرح الرابعة المشكوك فيها، وليبن على الثلاث المتيقَّن، وهذا فيما إذا لم يترجح له أحد الطرفين، وإلا فليبن على ما ترجح له، ثم ليسجد سجدتي السهو بعد السلام؛ عملًا بالأحاديث...، وبهذا تجتمع الأدلة من غير إلغاء لبعضها. البحر المحيط الثجاج (12/562-563).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
«ولْيَبْنِ على ما اسْتَيْقَن» وهو الأقل؛ لأنه لو بنى على الأكثر احتمال أن تكون صلاته ناقصة فتكون باطلة. شرح المحرر في الحديث (25/17).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
تمسَّكَ بظاهره جمهور أهل العلم في إلغاء المشكوك فيه، والعمل على المتيقَّن، وألْحَقوا المظنون بالمشكوك في الإلغاء، وردُّوا قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث ابن مسعود: «فليتحرَّ الصواب من ذلك»، إلى حديث أبي سعيد هذا، ورأوا أن هذا التحري هو القصد إلى طرح الشك، والعمل على المتيقَّن.
وقال أهل الرأي من أهل الكوفة (يعني: أصحاب أبي حنيفة) وغيرهم: إن التحري هنا هو البناء على غلبة الظن.
وأما أبو حنيفة فقال: ذلك لمن اعتراه ذلك مرة بعد مرة، فأما لأَوَّل ما ينوبه فليبن على اليقين، وكأن أبا حنيفة جمع بين الحديثين باعتبار حالين للشاكّ. المفهم (2/180).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
وفيه: رد على مَن فصَّل في الشك من كونه أوَّل ما سها أو ثانيًا؛ لأن الحديث مطلق وهو أرفق بالناس، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أُرْسِل رحمة ورأفة لهم. مرعاة المفاتيح (3/400).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«وليبن على اليقين» أي: ليتم صلاته على المتيقَّن، وهو الأقل، فإذا شك هل صلى ثلاثًا، أم أربعًا، فلْيُلْغِ الرابعة المشكوك فيها، وليبن على الثلاث المتيقَّنة، وهذا فيما إذا لم يترجح له أحد الطرفين، وإلا فليبن على ما ترجَّح له، ثم ليسجد سجدتي السهو بعد السلام. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (15/18).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
الصورة التي ذكرها الرسول هنا في صلاته رباعية أثلاثًا أم أرباعًا؟ قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «فليطرح الشك» يُلْغِهِ يعني: «وليس على ما استيقن» ثلاثًا أم أربعًا، ما هو المتيقَّن؟ ثلاث؛ لأن الرابعة مشكوك فيها والثلاث متيقَّنة، فعلى هذا يبني على أنها ثلاث، وإذا شك هل صلى اثنتين أو ثلاثًا؟ فاليقين اثنتان، يطرح الشك وهو الزائد ويبني على اليقين وهو الأقل. فتح ذي الجلال والإكرام (2/205).

قوله: «ثم يسجد سجدتين قبل أن يُسَلِّم»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ثم يسجد» بالجزم، وفي نسخة بالرفع. مرقاة المفاتيح (2/799).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
القياس يقتضي ألَّا يسجد؛ إذ الأصل أنه لم يزد شيئًا، لكن صلاته لا تخلو عن أحد خَلَلَيْن: إما الزيادة وإما أداء الرابعة على تردد، فيسجد جبرًا للخلل والتردد. ( )ولما كان مِن تلبيس الشيطان وتشوشه سمي جبره: «تَرْغِيمًا للشيطان». تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/321).
وقال الإردبيلي -رحمه الله-:
«ثم يسجد» يجوز بالجزم عطفًا على الأمرين (يعني «فَلْيَطْرَحِ» «وليبن») ويجوز الرفع خبر، أو بمعنى الأمر، إشارة إلى المغايرة في الحكم ندبًا ووجوبًا. الأزهار شرح المصابيح مخطوط لوح (157).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
وفي جعل العلة ترغيم الشيطان رد على من أوجب السجود للأسباب المتعمدة، وهو أبو طالب (هو يحيى بن أحمد بن الحسين الطالبي) والإمام يحيى (هو يحيى بن حمزة) والشافعي كما في البحر (وهو البحر الزخار)؛ لأن إرغام الشيطان إنما يكون بما حدث بسببه، والعمد ليس من الشيطان بل من المصلي.
وأما استدلالهم على ذلك بالقياس للعمد على السهو؛ لأنه إنما شرع في السهو للنقص، فالعمد مثله، فمردود بأن العلة ليست النقص بل إرغام الشيطان كما في الحديث. نيل الأوطار (3/140).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
وفي النسائي: «فإن اسْتَيْقَن بالتَّمام فليسجد سجدتين، وهو قاعد» أي: إن عَلِمَ بتمام صلاته بإتيانه بالركعة المشكوك فيها، فليسجد سجدتين جالسًا.
وقوله: «قبل أن يسلِّم» فيه أن محل السجدتين إذا لم يترجح له أحد الطرفين يكون قبل السلام.
فإن قيل: هذا يعارضه حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- (وهو «إذا شك أحدكم في صلاته فليتحرَّ الذي يرى أنه الصواب فيتمه، ثم يسجد سجدتين»)...؛ حيث إن فيه أن محلَّهما بعد السلام.
أُجيب: بأنه لا تعارض بينهما؛ لأن هذا فيما إذا لم يكن له ميل إلى أحد الطرفين، وذاك محمول على ما إذا كان له تحرٍّ ومَيْلٌ إلى أحد الطرفين. البحر المحيط الثجاج (12/563).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وقوله: «ثم ليسجد سجدتين قبل أن يسلِّم» احتج بظاهره الشافعي لأصل مذهبه على أن سجود السهو كله قبل السلام.
وقال الداودي: اختَلف قول مالك في الذي لا يدري ثلاثًا صلى أم أربعًا؟ فقال: يسجد قبل السلام، وقال: بعد السلام، والصحيح من مذهبه في هذه الصورة: السجود بعد السلام، وقد اعتلَّ أصحابنا (يعني: المالكية) لهذا الحديث بأوجه:
أحدها: أنه يعارضه حديث ذي اليدين؛ حيث زاد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم سجد بعد السلام، وهو حديث لا علّة له، وحديث أبي سعيد أرسله مالك عن عطاء، وأسنده غيره، فكان هذا اضطرابًا فيه، والتسلِيم عن ذلك أرجح.
وثانيها: أن قوله: «قبل أن يسلِّم» يحتمل: أن يريد به السلام على النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي في التشهد، وهو قوله: «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله» فكأنه سجد ولم يستوف التشهد.
وثالثها: أنه يحتمل: أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- سها عن إيقاعه بعد السلام، فأوقعه قبله واكتفى به؛ إذ قد فعله، ولا يتكرر سجود السهو، ولا يُعَاد.
ورابعها: يحتمل: أن يكون شك في قراءة السورة في إحدى الأوليين، فيكون معه زيادة الركعة ونقصان قراءة السورة، فَغَلَّبَ النقصان.
وخامسها: أن السجود في هذه الصورة قبل السلام؛ لأن الزيادة متوهَّمة مقدَّرة، بخلاف الزيادة المحقَّقة؛ كما في حديث ذي اليدين؛ فإنه لما تحققت الزيادة سجد بعد السلام، وهذا إنما يتمشَّى على ما رواه الداوُدي عن مالك على ما تقدم، وعليه حمله ابن لُبابة (وهو محمد بني يحيى بن عمر المالكي).
وسادسها: أن حديث أبي سعيد محمول على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قصد بذلك بيان جواز سجود ما بعد وما قبل، وهذا إنما يتمشى على رواية من روى أن الترتيب في سجود السهو إنما هو من باب الأَوْلَى على ما تقدم، وهذا أشبهها، فإنه جمعٌ بين الأحاديث على وجه حسن، وعلى مذهب الطبري وغيره ممن قال بالتخيير، فيسجد للنقص والزيادة قبل أو بعد، أيّ ذلك شاء فعل، وفي المجموعة (وهو كتاب الفوائد المجموعة لابن عيدروس) عن مالك نحوه. المفهم (2/180-181).

قوله: «فإن كان صلى خمسًا شَفَعْنَ له صلاته»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فإن كان صلى خمسًا» تعليل للأمر بالسجود. مرقاة المفاتيح (2/799).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«فإن كان قد صلى خمسًا» أي: كان ما صلاه في الواقع أربعًا فصار خمسًا بإضافته إليه ركعة أخرى. شرح المصابيح (2/69).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فإن كان صلى خمسًا» أي: أتى بركعة خامسة سهوًا في صلاة رباعية، وهو تعليل بالأمر بالسجود، أي: فإن كان ما صلاه في الواقع أربعًا، فصار خمسًا بإضافته إليه ركعة أخرى. البحر المحيط الثجاج (12/563).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«فإن كان صلى خمسًا شَفَعن صلاته» كيف صلى خمسًا؟ لأنه شك ثلاثًا أو أربعًا، قلنا: يجعلها ثلاثًا فيه احتمال أن تكون أربعًا، إذا أتى بركعة فقد صلى خمسًا إذا كان الواقع أنها أربعًا في الأول.
قال -صلى الله عليه وسلم-: «شَفَعن صلاته» يعني: جعَلْنَهَا شفعًا، فصارت هاتان السجدتان عُوضًا عن ركعة كاملة، وإن كان صلى إتمامًا كانت ترغيمًا للشيطان، فلو أنه بنى على أنها ثلاث -والواقع أنها ثلاث- يكون أتى بواحدة فقد صلى أربعًا تامًّا. فتح ذي الجلال والإكرام (2/205).
وقال المظهري -رحمه الله-:
هذا إشارة إلى أن كل صلاة هي شفع كالظُّهر والعصر والعشاء الآخرة، والصبح لا يجوز أن يصليها أحد وترًا، فإن صلاها أحد وترًا، مثل: أن يصلي الظهر خمس ركعات، فإن زاد الركعة الخامسة عمدًا بطلت، وإن زادها سهوًا يقعد إذا تذكَّر، ويتشهد ويسجد سجدتي السهو، ويسلم عند الشافعي.
وأما عند أبي حنيفة: إذا صلى ركعة خامسة سهوًا، ثم تذكر يصلي ركعة سادسة، ثم يتشهد ويسلم، ثم يسجد سجدتي السهو. المفاتيح في شرح المصابيح (2/196).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«شَفَعن» بتخفيف الفاء وتشديدها، «له صلاته» وإسناد الفعل إلى الخمس مجازي. مرقاة المفاتيح (2/799).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله متعقبًا-:
والتشديد محل نظر.البحر المحيط الثجاج (12/563).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
والنون في «شَفَعن» هي نون جماعة المؤنث، وعادت على معنى فعلات السجدتين، مشيرًا إلى ما فيها من الأحكام المتعددة. المفهم (2/182).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «شَفَعْن له صلاته» الضمير في «شَفَعْنَ» للركعات الخمس، وفي «له» للمصلي، يعني: شَفَعَت الركعات الخمس صلاة أحدكم بالسجدتين، يدل عليه قوله: «شفعها بهاتين السجدتين» أي: شفع المصلِّي الركعات الخمس إلى السجدتين. الكاشف عن حقائق السنن (3/ 1080).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«فإنْ» تعليل للأمر بالسجود «كان صلى خمسًا شفعن» أي: الركعة الخامسة والسجدتان؛ للرواية الصحيحة الآتية: «كانت الركعة والسجدتان نافلة له» أي: وصارت صلاته شفعًا باقيًا على حاله، وفيه أوضح ردٍّ على من قال: يأتي بركعة سادسة حتى تصير صلاته شفعًا...
وأما قول الشارح: إنه (الضمير) للركعات الخمس، يعني: شفعت الخمس صلاة أحدكم بالسجدتين، يدل عليه قوله الآتي: «شفعها بهاتين السجدتين» أي: شفع المصلى الركعات الخمس بالسجدتين، وهو بالمحال أشبه، وكيف الوتر يصير نفسه شفعًا بسبب أو بغير سبب؟ وإلى أنَّ المصلي هو الذي شفع الخمس بالسجدتين، وهذا منافٍ لما قبله، كما يظهر ببادئ الرأي. فتح الإله في شرح المشكاة (4/258-259).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله متعقبًا لابن حجر-:
وفيه: أن الشفع الحُكمي ما ينافي الشفع الحقيقي، وأغْرَبَ ابن حجر، وجعل كلام الطيبي بالمحال أشبه، ويشبه أنه ما فهم كلامه على الحقيقة، أو حَمَلَه على الحقيقة وهو قد أراد به المجاز. مرقاة المفاتيح (2/799).
وقال المغربي -رحمه الله-:
قوله: «فإن صلى خمسًا شَفَعْن صلاته» يعني: أن السجدتين هما ركنا ركعة، فكأنه قد فعل ركعة سادسة، فتكون الزيادة المفعولة والسجدتان في حكم ركعتين نافلة له زائدة على الفرض الواجب. البدر التمام (3/203).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«شَفَعْن له صلاته» صيَّرْنها شفعًا، أي: ستًّا؛ لأنه مأمور بالصلاة شفعًا، فحيث تبين الأربع فقد وقع الشفع بالسجدتين. التحبير لإيضاح معاني التيسير (5/555).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«صلاته» أي: ردَّتها إلى شفع، أي: أربع، وعبَّر بالجمع وهو قوله: «شَفَعْن» عن المثنى وهو قوله: «سجدتين» ظاهرًا لتضمنه زائدًا على اثنين كما في قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا} الحج: 19. فتح العلام بشرح الإعلام بأحاديث الأحكام (ص:223).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
وفي رواية النسائي: «شَفَعَتَا له صلاته» أي: صيَّرت السجدتان صلاته شفعًا بعد أن كان وترًا بالخامسة، فكان كأنه صلى ست ركعات.
ويحتمل: أن يكون المعنى: أنه إن أتم صلاته، وزاد ركعة خامسة سهوًا، فالسجدتان تجعلان تلك الركعة الزائدة شفعًا، فكأنه صلى ركعتين نافلة بعد الفريضة، والمعنى الأول أظهر. البحر المحيط الثجاج (12/564).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وقوله: «فإن كان صلى خمسًا شَفَعْن له صلاته» يعني: أنه لما شك هل صلى ثلاثًا أو أربعًا، وبنى على الثلاث، فقد اطّرح الرابعة، مع إمكان أن يكون فَعَلَها، فإن كان قد فعلها فهي خمس، وموضوع تلك الصلاة شفع، فلو لم يسجد لكانت الخامسة لا تناسب أصل المشروعية، فلمَّا سجد سجدتي السهو ارتفعت الوتريَّة، وجاءت الشفعيَّة المناسبة للأصل. المفهم (2/181-182).

قوله: «وإن كان صلى إتمامًا لأربع كانتا تَرْغِيْمًا للشيطان»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وإن كان صلى إتمامًا لأربع» قيل: نصبه على أنه مفعول له. مرقاة المفاتيح (2/799).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«وإن كان صلى إتمامًا لأربع» مفعول له؛ يعني: إن كان صلى ما شك فيه لإتمام أربع، أو حال؛ أي: حال كونه مُتمِّمًا له. شرح المصابيح (2/70).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «إتمامًا» إما مفعول له، أو حال من الفاعل، أي: صلى ما شك فيه حال كونه مُتِمًّا لأربع، فيكون قد أدَّى ما عليه من غير زيادة ونقصان، وكانت السجدتان ترغيمًا له. الكاشف عن حقائق السنن (3/ 1080).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«وإن كان صلى إتمامًا» أي: أربعًا. فتح العلام بشرح الإعلام بأحاديث الأحكام (ص:224).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«كانتا» أي: السجدتان. شرح المصابيح (2/70).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وقوله في هذا الحديث في سجدتي السهو: «كانتا تَرْغِيمًا للشيطان» أي: إغاظة له وإذلال، مأخوذ من الرَّغام وهو التراب، ومنه أرغم الله أنفه.
والمعنى: يشكر الله تعالى بها على جبر صلاته، وتلافي ما لبَّس عليه الشيطان فيها بكيده ووسوسته، والمبادرة إليها لرغم أنفه، وردِّه خاسئًا عن مراده، وامتثال ما عصى هو الله به من تركها حين أمر بها، فأبى؛ ولقوله -عليه السلام-: «إذا سجد ابن آدم اعتزل الشيطان يبكى» الحديث، وهذه كلها نهاية الإغاظة والإذلال له. إكمال المعلم (2/510).
وقال النووي -رحمه الله-:
والمعنى: أن الشيطان لبَّس عليه صلاتَه وتعرَّض لإفسادها ونقصها، فجعل الله تعالى للمصلي طريقًا إلى جبر صلاته، وتدارُك ما لبَّسه عليه، وإرغام الشيطان وردِّه خاسئًا مُبْعَدًا عن مراده، وكَمُلت صلاة ابن آدم، وامتثل أمر الله تعالى الذي عصى به إبليس من امتناعه من السجود. شرح صحيح مسلم (5/60-61).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وقوله: «وإن كان صلى إتمامًا لأربع كانتا تَرْغِيمًا للشيطان» معناه: غِيْظًا للشيطان، ومذلَّة له؛ لأنه لما فعل أربع ركعات أتى بما طلب منه، ثم لما انفصل زاد سجودًا لله تعالى؛ لأجل ما أوقع الشيطان في قلبه من التَّردد، فحصل للشيطان نقيض مقصوده؛ إذ كان إبطال الصلاة، فقد صحَّت، وعادت وسوسته بزيادة خير وأجر. المفهم (2/182).
وقال المغربي -رحمه الله-:
وقوله: «إن كان صلى تمامًا كانتا تَرْغِيمًا للشيطان» وإنما كانتا تَرْغِيمًا له؛ لأن قصده بالتلبيس على المصلي إبطال صلاته، وإذهاب فضيلة عمله، فشرعيتها وفعلهما زيادة ثواب له، فعاد على قصد الشيطان بالنقص. البدر التمام (3/203).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«ترغيمًا للشيطان» أي: إلصاقًا لأنفه بالرَّغام وهو التراب، وهو كناية عن إذلاله؛ لأنه قد أراد تلبيس الصلاة على العبد فأمر الله بترغيم أنفه؛ ولأنه امتنع عن السجود وامتثل العبد فأرغم أنفه وأذله.
وإنما قلنا: هو من تلبيس الشيطان؛ لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الشيطان يأتي أحدكم في صلاته فيُلَبِّس عليه حتى لا يدري كم صلى، فإذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتين وهو جالس» أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح. التحبير لإيضاح معاني التيسير (5/555).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
وفي رواية صحيحة لأبي داود: «وإذا شك أحدكم فلم يدر أصلى ثلاثًا أم أربعًا؟ فلْيُلْقِ الشك، ولْيَبْنِ على اليقين، ويسجد سجدتين قبل السلام، فإن كانت صلاته تامة كانت الركعة والسجدة نافلة له، وإن كانت ناقصة كانت الركعة إتمامًا للصلاة، والسجدتان مرغِمَتَان أنف الشيطان»، وفيها التصريح بعدم وجوب سجود السهو كما هو مذهبنا. فتح الإله في شرح المشكاة (4/260).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- معلقًا:
وهو غير محتمل، فضلًا عن أن يكون صريحًا في النظر الصحيح، والله أعلم. مرقاة المفاتيح (2/800).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
والحديث دليل على أن وقت السجود قبل السلام، وهو مذهب الشافعي، ويؤيده حديث عبد الله بن بُحَيْنَه (وهو «صلى لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ركعتين من بعض الصلوات، ثم قام، فلم يجلس، فقام الناس معه، فلما قضى صلاته ونظرنا تسليمه كبَّر قبل التسليم، فسجد سجدتين وهو جالس، ثم سلم»)....
وقال أبو حنيفة والثوري: إنما يسجد الساهي بعد السلام، وتمسك بحديث ابن مسعود (وهو «إذا شك أحدكم في صلاته فليتحرَّ الذي يرى أنه الصواب فيتمّه، ثم يسجد سجدتين») وحديث أبي هريرة، وهي مشهورة بقصة ذي اليدين....
وقال مالك -وهو قول للشافعي-: إن كان السجود لنقصان قَدَّم، وإن كان لزيادة أَخَّر، وحمل الأحاديث على الصورتين توفيقًا بينها.
واقتفى أحمد موارد الحديث وفصَّل بحسبها، فقال: إنْ شكَّ في عدد الركعات قدَّم، وإن ترك شيئًا ثم تداركه أخَّر، وكذا إن فعل ما لا نقل فيه، وأصحابنا زعموا أن التقديم كان في أوائل الإسلام فنُسخ.
قال الزهري: كُلٌّ فعلَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا أن تقديم السجود على السلام كان آخر الأمرين، وقال: قصة ذي اليدين كانت قبل بدر، وحينئذٍ لم يُحْكَمْ أمر الصلاة، ولم ينزل نسخ الكلام، فإنَّ نَسْخَهُ كان بالمدينة، لأن زيد بن أرقم الأنصاري قال: كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} البقرة: 238، وزَيْدٌ كان في أوائل الهجرة صبيًّا، وعلى هذا لا إشكال فيه، غير أن الحديث رواه أبو هريرة وعمران، وهما أسلما عام خيبر، وهو السنة السابعة من الهجرة، وقد قال أبو هريرة: «صلى لنا» وفي رواية: «صلى بنا» وفي رواية: «بينا أنا أصلي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-» ويدل ذلك على أنه من الحاضرين؟
والجواب عنه: أنهما لعلهما سمعاه من غيرهما، فأرسلاه، وأما «لنا» و«بنا» فيحتمل: أن يكون قول من روى عنه، فإنه لما سمع الحديث منه ولم يذكر من يرويه عنه ظن أنه كان من الحاضرين، فنقله بالمعنى، وأن يكون من قوله ذكره حكاية عمَّن سمعه، فغفل عنه الراوي، أو أراد بالضمير الصحابة والمسلمين الحاضرين ثَمَّةَ، وإن لم يكن هو حاضرًا، لكن لما كان من أهل جلدتهم حسُن أن يقال: «لنا» و«بنا»، وأراد وإياكم كنا ندعى بني عبد مناف أراد به قومه؛ لأنه لم ير النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأمثاله كثيرة في الكلام شائعة في العُرف، وأما الرواية الثالثة فتحتمل التأويلين الأوَّلَين، والأول فيه أظهر؛ لأن مسلم بن حجاج -رحمه الله- ذكره بإسناده عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وروي أيضًا من طريق آخر عن أبي سلمة أنه قال: حدثنا أبو هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى ركعتين، وساق الحديث إلى آخره، ولم يذكر: «بينا أنا أصلي» والله أعلم.
وإن لم نقل بما قال الزهري، وجعلنا الحديث من مسانيدهما فتأويله أن ما صدر من الرسول -صلوات الله عليه- من الأفعال والأقوال إنما صدر عن ظنه أنه أكمل صلاته وخرج عنها، وما صدر من الجَمْعِ فلِتَوَهُّمهم أن الصلاة قد قصرت، وأنهم قد خرجوا منها، وأكملوها بالركعتين، فيكون كفعل الساهي والناسي وقولهما؛ وذلك لا يقطع الصلاة، والحديث دليل عليه. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/321-323).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله متعقبًا-:
قلتُ: هو أيضًا فيما لا نقل فيه مشترك الإلزام، وقيل: الخلاف في الأفضل لا في الجواز وهو الأظهر، وبه يحصل الجمع بين الأحاديث. مرقاة المفاتيح (2/799).
وقال ابن المنذر -رحمه الله-:
اختلف أهل العلم في المصلي يشك في صلاته:
فقالت طائفة: يبني على اليقين، ويسجد سجدتي السهو، هذا قول عبد الله بن مسعود، وبه قال سالم بن عبد الله، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، ومالك بن أنس، وعبد العزيز بن أبي سلمة، والأوزاعي، وسفيان الثوري، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور...
وقالت طائفة: إذا لم يدرِ كم صلى، أعاد حتى يحفظ، روي هذا القول عن ابن عمر، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو، وشريح، والشعبي، وعطاء، وسعيد بن جبير، وميمون، وبه قال الأوزاعي....
وقالت طائفة: يُعِيد المكتوبة، ويسجد سجدتي السهو للتطوع، روي هذا القول عن سعيد بن جبير، خلاف الرواية التي وافق فيها شريحًا والشعبي.
وقالت طائفة رابعة: بظاهر الحديث الذي بدأنا بذكره في أول هذا الباب (يعني حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: «يأتي الشيطان أحدكم فيلبس عليه صلاته، فلا يدري أزاد أو نقص، فإذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتين وهو جالس»)، وممن قال بذلك أبو هريرة، قال أبو هريرة: إذا خطر الشيطان بين قلب أحدكم وبين صلاته فلم يدرِ كم صلى، يسجد سجدتي الوهم، وقال أنس بن مالك، والحسن البصري: إذا شك في ثلاث أو أربع فإنه يسجد سجدتي الوهم...
وفيه قول خامس: قال عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس قال: إن نَسِيْتَ المكتوبة فعُد لصلاتك، قال عطاء: لم أسمع منه في ذلك غير ذلك، ولكن بلغني عنه، وعن ابن عمر أنهما قالا: فإن نسيتَ الثانية فلا تعُد لها، وصلِّ على أحرز ذلك في نفسك، ثم اسجد سجدتين بعدما تسلِّم وأنت جالس...
وفيه قول سادس: روينا عن سعيد بن جبير، وعطاء، وميمون بن مهران أنهم كانوا إذا شكُّوا في الصلاة أعادوها ثلاث مرات، فإذا كانت الرابعة لم يعيدوا.
وفيه قول سابع: في الإمام لا يدري كم صلى، قال: ينظر ما يصنع مَن وراءَه، هذا قول النخعي، وقال عطاء: يوشك أن يُعلمه مَن وراءَه.
وفيه قول ثامن: قاله مكحول، فيمن شك فلم يدرِ ثلاثًا صلى أم أربعًا قال: فليركع ركعة؛ حتى تكون صلاته إلى الزيادة أقرب منها إلى النقصان، ولا يسجد للسهو، فإنه ليس بالسهو.
قال أبو بكر (يقصد ابن المنذر نفسه): في حديث أبي هريرة، وأبي سعيد إثبات سجود السهو على الشاك في صلاته، وفي حديث ابن عباس (وهو «إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدرِ ثلاثًا صلى أو أربعًا، فليقم، فليُصَلِّ ركعة، ثم ليسجد سجدتين، وهو جالس قبل السلام»)، وأبي سعيد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- الشاك أن يبني على اليقين ثم يسجد السهو، فقبول الزيادة التي زادها أبو سعيد وابن عباس تجب؛ لأنهما حَفِظَا ما لم يحفظه أبو هريرة، فوجب قبول ما حفظ من الزيادة مما لم يحفظه أبو هريرة، كما يجب قبول خبر لو تفرد به كل واحد منهما عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف (3/280-285).
وقال أبو المعالي الجويني -رحمه الله-:
من غوامض المذهب (يعني: الشافعي) في التعليل ما نشير إليه...، أنَّ مَن شك فلم يدر أتكلم ساهيًا أم لا؟ فالأصل أنه لم يتكلم، ثم لا يسجد للسهو، فإنه لم يستيقن السهو، وإذا شك في عدد الركعات، فيبني على المستيقَن، فإنه يجوز أن الركعة الأخيرة هي الركعة الجارية على الترتيب المقتضى، فهو غير مستيقن بصدور السهو منه، فأَمْرُه بسجود السهو خارج عن القاعدة التي أشرنا إليها من أن السهو إذا لم يكن معلومًا فلا سجود.
والذي يعضد الإشكال في ذلك: النظر إلى حالة العمد، فإن من أمرناه بالسجود للسهو وتَرَكَ السجود عمدًا لم تبطل صلاته، ولو سجد حيث ننهاه عن السجود عمدًا بطلت صلاته، ولمكان هذا الإشكال استثنى العراقيون (أي: من أصحاب الشافعي) هذه المسألة، وقالوا: من شكَّ فلم يدر أأتى بشيء من المنهيات فالأصل أنه لم يأت به، ولا نأمره بسجود السهو إلا في مسألة واحدة، وهي إذا شك، فلم يدر أثلاثًا صلى أم أربعًا، فإنه يبني على اليقين ويسجد، فهذا هو التنبيه على وجه الإشكال.
وقد اختلف علماؤنا في تنزيل ذلك، فقال شيخي (أبوه أبو محمد الجويني)، وطائفة من أئمة المذهب (يعني: الشافعي): إن متعلق السجود الخبر، ولا اتجاه له في المعنى أصلًا.
وقال الشيخ أبو علي (هو الحسن بن الحسين بن أبي هريرة): المقتضي لسجود السهو أن الركعة التي أتى بها آخرًا إن كانت زائدة، فهي سهو، فيقتضي السجود، وإن كانت رابعة أتى بها المصلي ولا يدري أصلية هي أم زائدة، فتَضْعُفُ النية فيها، فاقتضى ذلك نقصانًا مجبورًا بسجود.
وينشأ من التردُّد في التعليل مسألة مذهبية، وهي أنه لو صلى هذه الركعة، ثم استيقن في آخر الصلاة أنه ما زاد شيئًا، وإنما أتى بالركعات الأربع، فقد قال الشيخ أبو علي -رحمه الله-: إنه يسجد وإن زال الشك؛ لأن تلك الركعة جرت، وضَعْف النية مقارن لها، فلئن زال الشك آخرًا فذلك التردد، قد تحقق مقارِنًا لما مضى، وكان شيخي يقطع في هذه الصورة بأنه لا يسجد للسهو؛ فإنه كان لا يعتمد معنى في الأمر بالسجود، وإنما كان التعويل على الحديث، وظاهر الحديث (وهو حديث الباب) في دوام الشك والتردد.
والذي ذكره الشيخ أبو علي منقوض عليه، بما إذا لم يدرِ الرَّجُل أقضى فائتة كانت عليه أم لا، فأمرناه بقضائها، فإنه يقضيها ولا يسجد للسهو، وإن كان على التردد في أن الصلاة مفروضة عليه أم لا، من أول الصلاة إلى آخرها.
ثم الشيخ أبو علي إنما يأمر بالسجود إذا انقضى ركن مع التردد، فأما إذا خطر الشك ولم يدم، وزال ولم ينقض معه ركن تام فلا أثر له أصلًا. نهاية المطلب في دراية المذهب (2/237-238).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
وظاهر الحديث أن مجرد حصول الشك موجب للسجود، ولو زال وحصلت معرفة الصواب وتحقق أنه لم يزد شيئًا. نيل الأوطار (3/139).
وقال ابن المنذر -رحمه الله-:
فإذا شكَّ المصلي في صلاته ولم يكن له تحرٍّ، ولم يَمِلْ قلبه إلى أحد العددين، فإنه ينظر إلى ما استيقن أنه صلى فيحتسب به، ويلقي الشك، ويبني على اليقين، ويسجد سجدتي السهو قبل التسليم على ما في حديث ابن عباس، فإن مال قلبه إلى أحد العددين فقد اختُلف في ذلك...، فإذا شك المصلي في صلاته وله تحرٍّ -والتَّحرِّي أن يميل قلبه إلى أحد العددين- وجب عليه استعمال حديث عبد الله (يعني: ابن مسعود)، ويبني على العدد الذي مال إليه قلبه، ويسجد سجدتي السهو بعد السلام، على ما في حديث عبد الله بن مسعود، وإذا لم يكن له تحرٍّ، ولا يميل قلبه إلى أحد العددين بنى على اليقين على ما في حديث ابن عباس، وأبي سعيد، ويسجد سجدتي السهو قبل السلام. الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف (3/285).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
هذا القول (يعني: يبني على العدد الذين مال إليه قلبه، وإن لم يمل قلبه لشيء بنى على اليقين) هو الراجح عندي. البحر المحيط الثجاج (12/572).
وقال ابن المنذر -رحمه الله-:
وقال أصحاب الرأي: إذا صلى فسَهَا في صلاته، فلم يدرِ أثلاثًا صلى أم أربعًا، وذلك أول ما سها، قال: عليه أن يستقبل الصلاة، فإن لقي ذلك غير مرة تحرَّى الصواب، فإن كان أكبر رأيه أنه قد أتمَّ مضى على صلاته، وإن كان أكبر رأيه أنه صلى ثلاثًا، أتمَّ الرابعة ثم يتشهد، ويسلِّم، ويسجد سجدتي السهو.
وكان أحمد بن حنبل يقول: الشك على وجهين: اليقين والتَّحرِّي، فمن رجع إلى اليقين ألغى الشك وسجد سجدتي السهو قبل السلام، على حديث عبد الرحمن بن عوف (وهو «إذا سها أحدكم في صلاته، فلم يدرِ واحدة صلى أو ثنتين، فليبن على واحدة...») وأبي سعيد، وإذا رجع إلى التحرِّي، وهو أكبر الوهم سجد سجدتي السهو بعد التسليم، على حديث ابن مسعود، وبه قال أبو خيثمة (زهير بن حرب).
وقالت طائفة: معنى التحري الرجوع إلى اليقين؛ لأنه أمر أن يتحرى الصواب، والصواب هو الرجوع إلى اليقين، وإنما أمر أن يرجع من شك إلى اليقين، ولم يأمر أن يرجع من شك إلى شك.
ومن حُجَّة من قال بهذا أن يقول: لما كان عليَّ إذا شككتُ أصليتُ الظهر أم لا؟ أن أصليها بتمامها حتى أكون على يقين من أدائها، فكذلك إذا شككتُ في ركعة منها، أن عليَّ أن آتي بها حتى أكون على يقين من أدائها، ومن قال بخبر أبي سعيد، وابن عباس في موضعهما، وبخبر ابن مسعود في موضعه قال: علينا إذا ثبتت الأخبار أن نمضيها كلها، ونستعمل كل خبر في موضعه، وإذا ثبت الخبر ارتفع النظر. الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف (3/286).
وقال ابن حبان -رحمه الله-:
قد يتوهَّم من لم يحكم صناعة الأخبار، ولا تفقه من صحيح الآثار، أن التحري في الصلاة والبناء على اليقين واحد، وليس كذلك؛ لأن التحري هو أن يشك المرء في صلاته فلا يدري ما صلى، فإذا كان كذلك عليه أن يتحرى الصواب، ولْيَبْنِ على الأغلب عنده، ويسجد سجدتي السهو بعد السلام على خبر ابن مسعود.
والبناء على اليقين: هو أن يشك المرء في الثنتين والثلاث، أو الثلاث والأربع، فإذا كان كذلك عليه أن يبني على اليقين وهو الأقل، ولْيُتِمَّ صلاته، ثم يسجد سجدتي السهو قبل السلام على خبر عبد الرحمن بن عوف، وأبي سعيد الخدري، سنتان غير متضادتين. صحيح ابن حبان (6/ 387).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
والذي يلوح لي أنه لا معارضة بين أحاديث البناء على الأقل والبناء على اليقين وتحري الصواب؛ وذلك لأن التحري في اللغة... هو طلب ما هو أحرى إلى الصواب، وقد أمر به -صلى الله عليه وسلم-، وأمر بالبناء على اليقين، والبناء على الأقل عند عروض الشك، فإن أمكن الخروج بالتحرِّي عن دائرة الشك لغة ولا يكون إلا بالاستيقان بأنه قد فعل من الصلاة كذا ركعات، فلا شك أنه مقدَّم على البناء على الأقل؛ لأن الشارع قد شرط في جواز البناء على الأقل عدم الدراية، كما في حديث عبد الرحمن بن عوف، وهذا التحرِّي قد حصلت له الدراية، وأمر الشاكَّ بالبناء على ما اسْتَيْقَن كما في حديث أبي سعيد، ومن بلغ به تحرِّيْهِ إلى اليقين قد بنى على ما اسْتَيْقَن.
وبهذا تعلم أنه لا معارضة بين الأحاديث المذكورة، وأن التحري المذكور مقدم على البناء على الأقل، وقد أوقع الناس ظن التعارض بين هذه الأحاديث في مضايق ليس عليها أَثَارَةٌ من علم. نيل الأوطار (3/138).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
هذا الذي قاله الشوكاني -رحمه الله- تحقيق حسن جدًّا.
وخلاصته: أن مَن شك في صلاته لا يخلو إما أن يكون له تحرٍّ وميل إلى أحد العددين، فيبني على العدد الذي مال إليه قلبه، ويسجد سجدتي السهو بعد السلام، على ما في حديث عبد الله بن مسعود....
وإما ألا يكون له ميل إلى أحد العددين، فيبني على اليقين، وهو الأقل، ويسجد سجدتي السهو قبل السلام، على حديث أبي سعيد هذا، وابن عباس -رضي الله عنهما-.
والحاصل أن المذهب الراجح هو الذي فصل الشك على التفصيل المذكور، فإنه يجمع بين أحاديث الباب من غير تعرُّض لإهمال بعضها، وما عداه من الأقوال إما أن يلزم منه حمل بعض الأخبار على بعضها بتكلف وتعسف، وإما أن يكون رأيًا محضًا لا مستند له، ولا أَثَارة عليه من العلم، فتبصَّر بالإنصاف. البحر المحيط الثجاج (12/574).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
وفي هذا الحديث دليل على أن الإنسان إذا شك في صلاته في عدد الركعات ولم يترجح عنده شيء فإنه يأخذ بالأقل، فيكمل عليه، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم. فتح ذي الجلال والإكرام (2/205).
وقال المغربي -رحمه الله-:
وفي هذا الحديث وحديث ذي اليدين وحديث «إذا شك أحدكم أَخَرَجَ منه شيء أم لا فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا» حُجَّةٌ لقاعدة كلية ذهبت إليها الهادوية والشافعي وجمهور العلماء، وهو قول مالك، بإعمال حكم الاستصحاب وإلغاء الشك العارض، وأنه لا يُزال إلا بيقين، وأن الاستصحاب حُجَّةٌ معمول بها، وخالَف فيه أكثر الحنفية وجمهور المتكلمين. البدر التمام (3/203).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
ويستفاد من هذا الحديث: مراعاة النبي -صلى الله عليه وسلم- لكون الصلاة تقع شفعًا؛ لقوله: «إن صلى خمسًا شَفَعْن صلاته».
ويستفاد منه: أنه ينبغي للإنسان أن يراغم الشيطان ويذله ويحقره؛ لقوله: «كانتا تَرْغِيمًا للشيطان». فتح ذي الجلال والإكرام (2/206).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
وفي هذا الحديث: بيان فساد قول من ذهب فيمن صلى خمسًا إلى أنه يضيف إليها سادسة إن كان قد قعد في الرابعة، واعتلُّوا بأن النافلة لا تكون ركعة، وقد نص فيه من طريق ابن عجلان على أن تلك الركعة تكون نافلة ثم لم يأمره بإضافة أخرى إليها. معالم السنن (1/241).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- معلقًا:
القائلون بهذا هم الحنفية، وقد أجاد الخطابي -رحمه الله- في ردِّه؛ لأنه رأي محض مقابلة النص، فيكون فاسد الاعتبار، ولقد أحسن من قال، وأجاد في المقال:
إذا جَالت خُيول النص يومًا *** تُجاري في ميادين الكفاح
غدت شُبَه القياسيين صَرْعَى *** تطير رؤوسهن مع الرياح
لكن الخطابي -رحمه الله- قد نص على أن تلك الركعة تكون نافلة، فيه نظر لا يخفى، فإن الحديث نص على أن السجدتين تشفعان صلاته، فيكون في حكم من صلى شفعًا، فليست الركعة وحدها نافلة، بل مع السجدتين، خلاف ما يفيده قول الخطابي، فتبصَّر. البحر المحيط الثجاج (12/566).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
وفيه: سنُّ سجود السهو للشك فيما صلَّاه، واحتمل زيادته وأنه قبل السلام، وأنه يجب العمل باليقين، وأن اليقين لا يُرفع بالشك، والمراد به هنا مطلق التردد الصادق بمستوى الطرفين وبالراجح منهما. فتح العلام بشرح الإعلام بأحاديث الأحكام (ص:224).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده:
منها: بيان الأمر بإتمام المصلي صلاته إذا وقع له الشك على المستيقَن المعلوم، وهو الأقل.
ومنها: مشروعية سجدتي السهو لمن وقع له الشك في صلاته.
ومنها: بيان أن السجدتين تجعلان الصلاة شفعًا لمن زاد، فصلى خمسًا، ومُرغِمَتَان للشيطان لمن صلى أربعًا، ولم يزد.
ومنها: أن الشيطان يَذِلُّ بسبب هاتين السجدتين، حيث وُفِّق لهما ابن آدم، ولم يُوفَّق هو، بل أبى أن يمتثل أمر ربه، واستكبر، وكان من الكافرين....
ومنها: أن هذا الحديث فيه تفصيل ما أجمل في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-...، فيكون عليه التَّعويل، ويجب إرجاع الإجمال إليه، وقد سبق بيان ذلك.
ومنها: أن فيه الرد على من فصَّل في الشك مِن كونه أول ما سَها، أو ثانيًا؛ لأن الحديث مطلق، وهو أرفق بالناس، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أرسل رحمة، ورأفة لهم.
ومنها: أنه احتج به الجمهور مالك، والشافعي، ومن تبعهما فيما ذهبوا إليه من وجوب طرح الشك، والبناء على المتيقن، أي: الأقل، وعدم إجزاء التحرِّي. البحر المحيط الثجاج (12/566-567).
وقال الشيخ عبد القادر شيبة الحمد -رحمه الله-:
ما يفيده الحديث:
1 - أن مَن شك أصلى أربعًا أم ثلاثًا بنى على اليقين وسجد للسهو.
2 - أن مثل هذا الشك لا يفسد الصلاة.
3 - أن سجود السهو عند حدوثه يكون تَرْغِيمًا للشيطان.
4 - أن الشك مُطَّرَح.
5 - أن السجود قبل السلام.
6 - محاربة الوَسْوَاس ودفع وَسْوَسَتَه. فقه الإسلام شرح بلوغ المرام (2/9).


ابلاغ عن خطا