«خُلِقَتِ الملائكةُ مِن نُورٍ، وخُلِقَ الجَانُّ مِن مَارِجٍ مِن نارٍ، وخُلِقَ آدَمُ مما وُصِفَ لكم».
رواه مسلم برقم: (2996)، من حديث عائشة -رضي الله عنها-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«الجَانُّ»:
الجَانُّ: هو إبليس، وهو أبو الشياطين، وقيل: المراد به أبو الجن، وهل هو إبليس أو غيره؟ قولان. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (8/ 667).
قال الراغب -رحمه الله-:
أصل الجِنِّ: ستر الشيء عن الحاسة، يقال: جَنَّهُ الليل، وأَجَنَّهُ، وجَنَّ عليه فَجَنَّهُ: سَتَرَهُ...، والجِنّ يقال على وجهين: أحدهما: للروحانيين المستترة عن الحواس كلها بإزاء الإنس، فعلى هذا تدخل فيه الملائكة والشياطين، فكلُّ ملائكة جنٌّ، وليس كلُّ جنٍّ ملائكة، وعلى هذا قال أبو صالح (المصري): الملائكة كلها جنٌّ، وقيل: بل الجن بعض الروحانيين؛ وذلك أنَّ الروحانيين ثلاثة:
• أخيار: وهم الملائكة.
• وأشرار: وهم الشياطين.
• وأوساط فيهم أخيار وأشرار: وهم الجِنُّ، ويدلُّ على ذلك قوله تعالى:{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} إلى قوله: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ} الجن: 1- 14، والجِنَّة: جماعة الجن، قال تعالى: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} الناس: 6، وقال تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} الصافات: 158، والجِنَّة: الجنون، قال تعالى: {مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} سبأ: 46، أي: جنون، والجُنون: حائل بين النفس والعقل، وجُنَّ فلان قيل: أصابه الجن، وبُني فعله كبناء الأدواء، نحو: زُكِمَ ولُقيَ (أي: أصابته اللقوة وهي داء في الوجه يعوجُّ منه الشّدق) وحُمَّ، وقيل: أصيب جَنانه، وقيل: حيل بين نفسه وعقله، فجن عقله بذلك...، وقوله تعالى: {وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ} الحجر: 27، فنوع من الجنِّ، وقوله تعالى: {كَأَنَّها جَانٌّ} النمل: 10، قيل: ضَرْبٌ من الحيّات. المفردات في غريب القرآن (1/ 248-251).
«مَارِج»:
المارج: اللهب المختلط بسواد النار. معاني القرآن وإعرابه، للزجاج (6/1740).
قال ابن قتيبة -رحمه الله-:
المارج ها هنا: لهب النار، من قولك: مَرَجَ الشيءُ؛ إذا اضطرب ولم يستقرَّ. غريب القرآن (ص: 437).
وقال ابن الهائم -رحمه الله-:
يُقال: مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ، أي: من خليط من النّار، أي: من نوعين من النار خُلِطَا، من قولك: مرَجْتَ الشَّيئين: إذ خَلَطْتَ أحدهما بالآخر. التبيان في تفسير غريب القرآن (ص: 307).
شرح الحديث
قوله: «خُلِقَت الملائكة من نور»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«خُلِقَت» بالبناء للمفعول. البحر المحيط الثجاج (45/253).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
ملَك: بفتح اللام، فقيل: مخفف من مالك، وقيل: مشتق من الألوكة، وهي الرسالة، وهذا قول سيبويه والجمهور، وأصله لَاكَ، وقيل: أصله الملَك بفتح ثم سكون، وهو الأخذ بقوة، وحينئذٍ لا مدخل للميم فيه، وأصل وزْنِه مفعل، فتركت الهمزة لكثرة الاستعمال، وظهرت في الجمع، وزيدت الهاء إما للمبالغة وإما لتأنيث الجمع، وجمع على القلب، وإلا لقيل: مالكه، وعن أبي عبيدة الميم في الملَك أصلية، وزنه فَعَلَ كأسد، هو من المَلْك بالفتح وسكون اللام، وهو الأخذ بقوة، وعلى هذا فوزن ملائكة فعائلة، ويؤيده أنهم جوَّزوا في جمعه أملاك، وأفعال لا يكون جمعًا؛ لما في أوله ميم زائدة.
قال جمهور أهل الكلام من المسلمين: الملائكة أجسام لطيفة أُعطيت قدرة على التشكل بأشكال مختلفة، ومسكنها السماوات، وأبطل من قال: إنها الكواكب، أو إنها الأنفس الخيِّرة التي فارقت أجسادها، وغير ذلك من الأقوال التي لا يوجد في الأدلة السمعية شيء منها.فتح الباري (6/306).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «خُلقت الملائكة من نور» أي: من جواهر مضيئة منيرة، فكانوا خيرًا محضًا. المفهم (7/315).
وقال محمد الأُبي -رحمه الله-:
قلتُ: والحديث يشهد للقول بأنَّ النور جوهر لا عَرَض، وهو الصحيح. إكمال إكمال المعلم (7/302).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«خُلقت الملائكة من نور» فلذا كانت أجسامًا لطيفة نورانية لها قُدْرَة على التَّشكل بأيّ صورة كانت. دليل الفالحين (8/ 667).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«خُلقت الملائكة من نور» فهي أرواح مجردة عن كل كثيف. التنوير شرح الجامع الصغير (5/504).
وقال العراقي -رحمه الله-:
النور جسم لطيف مشرق. طرح التثريب (8/277).
قوله: «وخُلق الجَانُّ من مَارِج من نار»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«وخُلق الجان» قيل: المراد به إبليس، وقيل: جنس الجن، وقيل: الجان اسم لأبي الجن كما أن آدم -عليه السلام- أب لنوع البشر. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (26/431).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «وخُلق الجان من مارج من نار» أي: من شواظ ذي لهب واتِّقاد ودخان، فكانوا شرًّا محضًا، والخير فيهم قليل. المفهم (7/315).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«من مارج من نار» أي: من نار مختلطة بهواء مشتعل، والْمَرْجُ: الاختلاط، فهو من عنصرين هواء ونار. التنوير شرح الجامع الصغير (5/504).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
والمارج ما اختلط من أحمر وأصفر وأخضر، وهذا مشاهد في النار؛ ترى الألوان الثلاثة مختلِطٌ بعضها ببعض، وقيل: الخالص، وقيل: الأحمر، وقيل: الحمرة في طَرْقِ النار، وقيل: المختلِط بالسواد، وقيل: اللهب المضطرب. دليل الفالحين (8/ 667).
وقال صفي الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
«من مارج من نار» أي: من خالص النار، وهو لسان النار الذي يكون في طَرَفها إذا التهبَت، أي: اللهب الذي يعلو النار. منة المنعم في شرح صحيح مسلم (4/ 406).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
أما الشياطين الجن فقال: إنهم خلقوا من نار، وفي هذا دليل على أنَّ الجن هم ذرية الشيطان الأكبر الذي أبى أنْ يسجد لآدم، وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} الأعراف: 12، فالجن كلهم مخلوقون من النار؛ ولهذا كَثُرَ منهم الطيش والعبث والعدوان على كل من يستطيعون العدوان عليه. شرح رياض الصالحين (6/ 661).
قوله: «وخلق آدم مما وُصِفَ لكم»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«وخُلق آدم مما وَصَفَ لكم» الله تعالى في كتابه، أي: من تراب عُجِنَ بماء، فحدث له اسم الطين، كما حدث للجان اسم المارج. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 518).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
وقوله: «مما وُصِفَ لكم» يشير إلى المذكور من صفات آدم في القرآن بأنه خُلِق من طين، وشَرَحَ أحوال الطين بأنَّه من صلصال كالفخار. كشف المشكل (4/ 401).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وخُلق آدم» بصيغة المجهول كما قبله «مما وُصِفَ لكم» على بناء المفعول، أي: مما بينه الله لكم في قوله: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} آل عمران: 59، وقوله: {خَلَقَ الإنْسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالفَخَّارِ} الرحمن: 14، وقوله: {وَلَقَد خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِن حَمَأٍ مَسْنُون} الحجر: 26، وقوله: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ} ص: 71، ولعل كثرة ما ورد في حقه مع اشتهارها ما أوجبت الإبهام في قوله: «مما وُصِفَ لكم». مرقاة المفاتيح (9/ 3635).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «وخُلق آدم مما تعملون» أي: مما أعلمكم به، أي: من تراب صُيِّر طينًا، ثم فُخَّارًا، كما أخبرنا به تعالى في غير موضع من كتابه، والفُخَّار: الطين اليابس، وفي الخبر: «إن الله تعالى لما خلق آدم أمر مَن قَبَضَ قبضةً من جميع أجزاء تراب الأرض، فأخذ مِن حَزْنِهَا (الحَزْنُ: ما غَلُظَ من الأرض) وسهلها، وأحمرها وأسودها، فجاء ولده كذلك». المفهم (7/315).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«وخُلق آدم مما وُصِفَ لكم»... أي: وصفه الله في كتابه، ففي بعضها أنه خلقه من ماء، وفي بعضها من تراب، وفي بعضها من المركَّب منهما وهو الطين، وفي بعضها من صلصال وهو الطين ضربته الشمس والريح حتى صار كالفخار. التنوير شرح الجامع الصغير (5/504).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في هذا الحديث: إثبات وجود الملائكة، وأنهم مخلوقون من نور....
في هذا الحديث: إثبات الجن، وأنهم مخلوقون من مارج من نار، ولم ينكر وجودهم إلا أهل الأهواء الزائغة. البحر المحيط الثجاج (45/256-258).