الخميس 27 رمضان 1446 هـ | 27-03-2025 م

A a

«ثلاثةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يومَ القيامةِ ولا يُزَكِّيهِمْ -قال أبو معاويةَ: ولا يَنْظُرُ إليهم- ولهم عذابٌ أليمٌ: شيخٌ زانٍ، ومَلِكٌ كذَّابٌ، وعائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ».


رواه مسلم برقم: (107)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«شيخ»:
أي: مَن طَعَنَ في السِّن، واستطال فيه؛ وذلك من الخمسين فما فوق. دليل الفالحين، لابن علان (5/ 73).

«زَانٍ»:
الزنا: الوطءُ في قُبُلٍ خالٍ عن مِلْكٍ وشُبهة. التعريفات، للجرجاني (ص:115).

«عَائِل»:
العائل: ذو العيال. المفاتيح في شرح المصابيح، للمظهري (5/255).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«وعائل» أي: فقير. فيض القدير (3/331).

«مستكبر»:
المستكبر: الـمُتَكبِّر. المفاتيح في شرح المصابيح، للمظهري (5/255).


شرح الحديث


قوله: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة»:
قال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«ثلاثة» مبتدأ، سَوَّغَ الابتداء به وهو نكرة ملاحظةُ الإضافة أو الوصف، أي: ثلاثة أشخاص، أو ثلاثة من الناس. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/345).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
قوله: «ثلاثة» يعني: ثلاثة أصناف من الناس، كل واحد منهم صنف في جِنْسِ عمله. الإفصاح عن معاني الصحاح (6/ 346).
وقال الشيخ عبد الله الغنيمان -حفظه الله-:
قوله: «ثلاثة لا يكلمهم الله» أي: ثلاثة من أجناس الناس يعمُّ الذكور والإناث، والأحرار والعبيد. شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (2/167).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
التخصيص بعدد لا ينفي الزائد عليه. الكواكب الدراري (24/ 245).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
يحتمل أنْ تبلغ (الأصناف) أكثر من ذلك إذا اعتبرنا مطلق المغايرة، فما بينها عموم وخصوص؛ ولما كانت كل رواية مصدرة بعبارة: «ثلاثة لا يكلمهم الله...» إلخ، وأصبح العدد أكثر من ثلاثة، كان لازمًا التوفيق بين الروايات، وفي ذلك يقول الكرماني: ليس ذلك باختلاف؛ لأن التخصيص بعدد لا ينفي ما زاد عليه، اهـ. وهو توجيه حسن، خيرٌ من قول بعضهم: إنَّ المجموع منصوص، وبعض الرواة حَفِظَ ما لم يحفظ الآخر، فاقتصر كلٌّ من الرواة على ثلاثة، بل هذا التوجيه الأخير غير مقبول؛ لأن لفظ «ثلاثة» وارد في نص قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/ 353).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«ثلاثة لا يكلمهم» ...ومثل هذا ‌التركيب ‌لا ‌يدل ‌على ‌الحصر، أي: أنه لا يوجد سوى هؤلاء؛ لأنه يوجد سوى هؤلاء كثيرون. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (6/ 208).
وقال الشيخ ابن عثمين -رحمه الله- أيضًا:
فالحاصل: أن مثل هذا ‌الحصر يأتي به النبي -صلى الله عليه وسلم- لمناسبة المقام، ولا يعني ذلك أن ‌الحصر ينفي ما سواه؛ ولهذا قال الأصوليون: إن أضعف المفاهيم مفهوم العدد، حتى إن بعضهم قال: إنه لا مفهوم للعدد إطلاقًا. فتح ذي الجلال والإكرام (6/11).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
وتقديم النبي -صلى الله عليه وسلم- ذِكْر الثلاث بالعدد، ثم وصفها بهذه الأوصاف قبل أن يذكرها من كمال بيانه -عليه الصلاة والسلام-؛ وذلك أن النفوس عندما تذكر لها هذه الصفات الثلاث، فإنها تتشوَّق وتتشوَّف وتكون متهيئة لمعرفة هذه الثلاث التي وُصفت بهذه الأوصاف الدالة على خطورتها، فهذا من كمال بيانه -صلى الله عليه وسلم- ونُصحه لأُمَّته -عليه الصلاة والسلام-.
أيضًا: ذِكْرُ العدد فيه فائدة وهي: أن الإنسان يُطَالِب نفسه بالعدد، وأن العدد اكتمل أو لم يكتمل، فإما أن يستوفي وإما أن يكون هناك نقص حصل فيبحث عنه. شرح سنن أبي داود (458/14).
وقال النووي -رحمه الله-:
«لا يكلمهم» أي: لا يكلمهم تَكْلِيم أهل الخيرات، وبإظهار الرضا بل بكلام أهل السُّخط والغضب، وقيل: المراد الإعراض عنهم، وقال جمهور المفسرين: لا يكلمهم كلامًا ينفعهم ويسرُّهم، وقيل: لا يُرْسِل إليهم الملائكة بالتحية. شرح صحيح مسلم (2/116).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«لا يكلمهم الله يوم القيامة» عبارة عن غضبه عليهم، وتَعْرِيْضٌ بحرمانهم حال مقابلتهم في الكرامة والزلفى من الله، وقيل: لا يكلمهم بما يحبون، ولكن بنحو قوله: {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُون} المؤمنون: 108. إرشاد الساري (4/205).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة» أي: كلامًا يرضى به عنهم، أو لا يرسل ملائكته بالتحية إليهم، أو بالبشارة بالنجاة بالرحمة. التنوير شرح الجامع الصغير (5/ 227).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «لا يكلمهم الله» أي: بكلام من يرضى عنه، ويجوز: أن يكلمهم بما يكلِّم به من سخط عليه، كما جاء في كتاب البخاري: يقول الله لمانع الماء: «اليوم أمنعك فضلي كما منعتَ فضل ما لم تعمل يداك»، وقد حكى الله تعالى أنه يقول للكافرين: {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُون} المؤمنون: 108، وقيل: معناه: لا يكلمهم بغير واسطة؛ استهانة بهم، وقيل: معنى ذلك: الإعراض عنهم والغضب عليهم. المفهم (1/302).
وقال الشيخ عبد الله الغنيمان -حفظه الله-:
وعدم تكليم الله لهم يوم القيامة دليل على غضبه عليهم، ومقتضاه: أنهم يُذهب بهم إلى النار بدون سؤال ومحاسبة؛ لأنهم قد تناهى جُرْمُهم في القبح، فاستحقوا أليم العذاب مع الإعراض عنهم وإهانتهم من أول الأمر، فيكون هذا الحديث مخصِّصًا لحديث عَدِيّ، وهو قوله: «ما منكم من أحد إلَّا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه تَرْجُمَان». شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (2/167).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«يوم القيامة» أي: وقت ظهور عدله وفضله وغضبه ورضاه. مرقاة المفاتيح (8/3190).
وقال العراقي -رحمه الله-:
فإن قلتَ: ما معنى التقييد بيوم القيامة؟ قلتُ: لأنه محل الرحمة العظيمة المستمرة التي لا تنقطع، بخلاف رحمة الدنيا فقد تنقطع عن المرحوم، ويأتي له ما يخالفها. طرح التثريب (8/ 171).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
والتقيد بيوم القيامة لأنه يوم المجازاة، وبه يحصل التهديد والوعيد. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/345).

قوله: «ولا يزكيهم»:
قال الزَّجاج -رحمه الله-:
أي: لا يُثْنِي عليهم، ومن لا يُثْنِي الله عليه فهو معذَّب. معاني القرآن وإعرابه (1/ 245).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وقيل: لا يُطَهِّرهم من خبيث أعمالهم لِعِظَمِ جُرْمِهم؛ لأن ذنوبهم جمعت ذنوبًا كثيرة. إكمال المعلم (1/380).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«ولا يزكيهم» أي: ولا يُطهرهم من ذنوبهم، بل يعذبهم بها. المفاتيح في شرح المصابيح (3/404).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ولا يزكيهم» أي: لا ينمِّي أعمالهم. مرقاة المفاتيح (5/1909).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «ولا يزكيهم» أي: لا يُطهِّرهم عن دَنَسِ الذنوب بالمغفرة، أو لا يُثني عليهم بالأعمال الصالحة، والكل مقيَّد بأوَّل الأحوال لا بالدَّوام، ثم هذا بيان ما يستحقونه، وفضل الله أوسع، فقد قال: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} النساء: 48. كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجه (2/23).
وقال السندي -رحمه الله- أيضًا:
«ولا يزكيهم» من التزكية، أي: يطهرهم من الذنوب بالمغفرة؛ ليدخلوا في الجنة مع السابقين، بل لهم عذاب أليم، فيُعَذَّبون أولًا ثم يدخلون الجنة مع اللاحقين. فتح الودود في شرح سنن أبي داود (4/ 121).

قوله: «-قال أبو معاوية: ولا ينظر إليهم-»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
أبو معاوية: محمد بن خازم التميمي الضرير الكوفي، ثقة من كبار التاسعة، مات سنة (195هـ). الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (3/ 139).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قوله: «قال أبو معاوية: ولا يَنْظُر إليهم» إشارة إلى اختلاف وكيع وأبي معاوية في الحديث، فأما أبو معاوية، فزاد في روايته قوله: «ولا ينظر إليهم»، وأما وكيع فلم يذكر ذلك. البحر المحيط الثجاج (3/284).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«قال أبو معاوية» أي: زاد أبو معاوية في روايته على وكيع وقال: «ولا ينظر الله إليهم» نَظَرَ رحمة وإحسان. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (3/ 139).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«ولا ينظر إليهم» كناية عن الإهانة. الكوثر الجاري (11/247).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«ولا ينظر إليهم» أي: لا يلطف بهم. شرح مصابيح السنة (3/491).
وقال النووي -رحمه الله-:
«لا ينظر إليهم» أي: يُعْرِض عنهم، ونَظَرُهُ -سبحانه وتعالى- لعباده رحمته ولطفه بهم. شرح النووي على مسلم (2/116).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
تفسيره النظر بالرحمة واللطف غير صحيح، بل النظر على ظاهره ثابت لله -سبحانه وتعالى-، كما ثبت اللطف والرحمة. البحر المحيط الثجاج (3/271).
وقال العراقي -رحمه الله-:
معنى كون الله تعالى لا ينظر إليه أي: لا يرحمه، ولا ينظر إليه نظر رحمة، ونظره سبحانه لعباده رحمته لهم ولطفه بهم.
قال والدي -رحمه الله-: فعبر عن المعنى الكائن عن النظر بالنظر؛ لأن من نظر إلى متواضع رَحِمَهُ، ومن نظر إلى متكبِّر متجبِّر مَقَتَه، فالنظر إليه اقتضى الرحمة أو المقت. طرح التثريب (8/ 171).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
هذا الذي ذكروه من نفي نظر الله -سبحانه وتعالى- حقيقة، وأنه ليس له نظر، وإنما هو مجاز عن الرحمة غير صحيح، وإنما حملهم على ذلك أنهم ظنوا أن النظر لا معنى له إلا تقليب الحدقة وهذا خطأ؛ لأن هذا معنى النظر المضاف إلى المخلوقين، وأما نظر الخالق فهو نظر يليق بجلاله -سبحانه وتعالى- لا نعلم كيفيته، كما لا نعلم حقيقة ذاته العلية؛ لأن الصفة فرع عن الذات.
فالحق: أن النظر ثابت لله تعالى حقيقة لا مجازًا، وأما تفسير نظره هنا بأنه نظر رحمة وإحسان فلا يتنافى مع تفسيرنا المذكور؛ لأن هذا بيان للمقصود هنا بقرينة الأدلة الأخرى؛ لأن نظر الله تعالى محيط بجميع مخلوقاته، لا يخفى عليه شيء، فكان المراد هنا نظرًا خاصًّا، وهو الذي يكون لأوليائه تعالى، وهو نظر الرحمة واللطف والإحسان، والفرق بين إثبات النظر وكون المراد نظرًا خاصًّا وهو نظر الرحمة وبين نفي النظر، وكونه بمعنى الرحمة واضح لا يخفى على مَن تأمَّلَه بالإنصاف، ولم يسلك سبيل التقليد والاعتساف. البحر المحيط الثجاج (3/271-272).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«لا ينظر إليهم» أي: نظر رحمة وإِشفاق وإِكرام وعِزَّة، بل يَذُلُّهم -عزّ وجلّ-.شرح رياض الصالحين(6/٦٧٢).
وقال الشيخ عبد الله الغنيمان -حفظه الله-:
قوله: «ولا ينظر إليهم» نظر الله تعالى إلى العبد يقتضي الرحمة، وهؤلاء فعلوا أفعالًا مَقَتَهُم الله عليها فأعرض عنهم، ومَن أعرض الله عنه فهو هالك الهلاك الأكبر.
والمقصود بالنظر المنفي هنا: نظرٌ خاصٌ يتضمن الإحسان والرحمة، ويُفهم منه نظر العبد إلى الله تعالى لا يَحْجُبُ بصرَه شيء أبدًا في أي وقت كان. شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (2/168).

قوله: «ولهم عذاب أليم»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«ولهم عذاب أليم»؛ وذلك لسوء عملهم من غير ضرورة بهم إليه. دليل الفالحين (8/676).
قال المناوي -رحمه الله-:
«ولهم عذاب أليم» مؤلم يعرفون به ما جهلوا من عظمته، واجترحوا من مخالفته. فيض القدير (3/329).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
وفائدة ذكر هذه الجملة بعد ما قبلها: التخويف بالعذاب البدني بعد التهديد بالعذاب الروحي. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/346).

قوله: «شيخ زانٍ»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«شيخ زانٍ» خبر لمحذوف: أي: أحدهم. البحر المحيط الثجاج (3/285).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«شيخ» وهو مَن طَعَنَ في السن من الكِبَرِ، بأنْ جاوَزَ العُمُر الغالب ستين سنة. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (3/139).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
الشيخ: هو مَن بلغ سن الشَّيخوخة، قيل: خمسون سنة، وقيل: إحدى وخمسون. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/351).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«شيخ زانٍ» لاستخفافه بحق الحق، وقلَّة مبالاته به، ورَذَالَات طبعه؛ إذ داعِيَتُه قد ضعفت، وهمَّته قد فَترَتْ، فزِنَاهُ عنادٌ ومراغمة. فيض القدير (3/331).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
ويمكن أن يقال: المراد بالشيخ: الْمُحْصَن سواء يكون شابًا أو لا، ولِكُون الزنا أقبح منه شرعًا وعرفًا وجب فيه الرجم كما في الآية المنسوخة: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالًا من الله والله عزيز حكيم). مرقاة المفاتيح (8/3190).

قوله: «ومَلِكٌ كذاب»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ومَلِكٌ كذاب» أي: كثير (الـ)كذب، أو ذو كذب؛ بناء على أن الصيغة للمبالغة، أو النسبة، والثاني أبلغ. مرقاة المفاتيح (8/3190).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«ومَلِكٌ كذاب» المراد من الْمَلِكِ الحاكم الذي ليس فوقه بخصوص حكمه حاكم إلا الله، فيشمل الأب بين أولاده، والوالي في ولايته، ورئيس الجمهورية في جمهوريته، وهذا الحديث لا يشمل الْمَلِكَ الصغير إذا كذب بين ملوك كبار، وكذا إذا كذب أمام زوجه التي يخافها، أو كذب في الحروب، ولعل صيغة المبالغة «كذَّاب» أي: كثير الكذب، وشأنه الكذب تُحدِّد الهدف المقصود. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/351).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
«ومَلِكٌ كذاب» لأن الملِكَ برأيه ينتظم أمور الْمُلْكِ ومصالح الخلق، فالكذب منه يُخِلُّ بها، فيكون أقبح وأضر؛ ولأن الكذب مع كونه محظورًا يقع الإنسان فيه غالبًا لجلب نفع أو دفع ضرر، فمن الْمَلِكِ القادر عليه بدونه يكون أقبح وأخبث. لمعات التنقيح (8/347).
وقال المناوي -رحمه الله-:
قال القونوي (علي بن إسماعيل بن يوسف): سِرُّ عَدِّ الْمَلِكِ الكذاب منهم أن الكذب قسمان: ذاتي وصفاتي، فالصفاتي محصور في موجِبين: الرغبة والرهبة، والمـُلْكُ محلهما ظاهرًا، وليس حكمه مع الرعية بصورة رهبة منهم أو رغبة فيما عندهم يوجب الإقدام على الكذب، فإذا كان الْمَلِكُ كذَّابًا فلا موجب له إلا لؤم الطبع، فهو وصف ذاتي له، والأوصاف الذاتية الجِبِلِّيَّة تستلزم نتائج تناسبها. فيض القدير (3/331).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
ويمكن أن يقال: ... المراد بالْمَلِكِ الغني، فإن الفقير قد يكذب لغرض فاسد من منفعة دنيوية ضرورية، والغني لا يحتاج إليه مطلقًا، فالكذب منه أقبح. مرقاة المفاتيح (8/3190).

قوله: «وعائل مستكبر»:
قال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «عائل مستكبر»... يعني: من له عيال وليس له مال، ولا يقدر على تحصيل نفقتهم وكسوتهم وتجوعهم، ولا يطلب الزكاة والصدقة، ولا يقبل أموال الناس من التكبُّر، ولا يطلب شيئًا من بيت المال، فمَن هذه صفته أَثِمَ؛ لإيصال ضرر الجوع والعري إلى عياله. المفاتيح في شرح المصابيح (5/255).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
ويمكن أن يقال:... المراد بالفقير الذي يتكبر على الفقراء؛ لأن التكبر على المتكبرين من الأغنياء صدقة، والأظهر أن المراد به الفقير المتكبر عن الكسب والكَدِّ لنفسه وعياله مع القدرة عليه، كما هو مشاهد في أهل زماننا، ولا شك أن هذا التكبر المتضمن للرُّعُوْنَة والرياء والسمعة مع إضرار النفس، وارتكاب السؤال، وأخذ المال من غير وجه حلال أقبح من تكبر الأغنياء، لا سيما إذا كان يتكلف ويَتَزَيَّا بِزَيِّ الأكابر، كبعض الفقهاء القائلين: بأن الحلال ما حلَّ بنا، وأن الحرام ما حُرِمْنَا، فإن العلل المركبة داء عُضَال يعجز عنه الحكماء وإن بلغوا مبلغ الكمال. مرقاة المفاتيح (8/3190).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
خصَّ هؤلاء الثلاثة بأليم العذاب وعقوبة الإبعاد لالتزام كل واحد منهم المعصية التي ذكر على بُعْدِهَا منه، وعدم ضرورته إليها، وضعف دواعيها عنده، وإن كان لا يُعذر أحد بذنب ولا في معصيته لله تعالى، لكن لـمَّا لم تدعُهم إلى هذه المعاصي ضرائر مزعجة، ولا دواعٍ معتادة، ولا حَمَلَتْهُم عليها أسباب لازمة، أشبه إقدامهم عليها المعاندة والاستخفاف بحق المعبود محضًا، وقَصْد معصيته لا لغير معصيته؛ فإن الشيخ مع كمال عقله، وإعذار الله له في عمره، وكثرة معرفته بطول ما مر عليه من زمنه، وضعف أسباب الجماع والشهوة للنساء، واختلال دواعيه لذلك، وبَرْدِ مزاجه، وإخلاق جديده، وعنده من ذلك ما يريحه من دواعي الحلال في هذا الباب من ذاته، ويخلى سره منه بطبيعته، فكيف بالزنا الحرام؟! إذ دواعي ذلك الكُبرى الشباب، وحرارة الغريزة، وقلة المعرفة، وغلبة الشهوة بضعف العقل، وصغر السن.
وكذلك الإمام لا يَخشى من أحد من رعيته، ولا يحتاج إلى مُدَاهَنَتِه ومُصَانَعَتِه؛ إذ إنما يُدَاهِن الإنسانُ ويُصَانِع بالكذب وشبهه من يحذره ويخشى معاقبته، أو أذاه ومعاتبته، أو يطلب عنده بذلك منزلة أو منفعة، فهو غني عن الكذب جملة.
وكذلك العائل الفقير، قد عدم بعدمه المال ولُعَاعَةِ الدنيا سبب الفخر والخيلاء والاستكبار على القُرَنَاء؛ إذ إنما يكون ذلك بأسباب الدنيا والظهور فيها، وحاجات أهلها إليه، فإذا لم يكن عنده أسبابها فلماذا يستكبر ويستحقر غيره؟ فلم يبق إلا أن في استكبار هذا، وكذب الثاني، وزنا الثالث، ضربًا من الاستخفاف بحق الله تعالى، ومعاندة نواهيه وأوامره، وقلَّة الخوف من وعيده؛ إذ لم يبقَ ثَمَّ حامل لهم على هذا سواه، مع سبق القَدَرِ لهم بالشقاء. إكمال المعلم (1/384-384).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
فهؤلاء الثلاثة اشتركوا في هذا الوعيد، واشتركوا في فعل هذه الذنوب مع ضعف دواعيهم؛ فإن داعية الزنا في الشيخ ضعيفة، وكذلك داعية الكذب في الْمَلِكِ ضعيفة؛ لاستغنائه عنه، وكذلك داعية الكبر في الفقير، فإذا أتوا بهذه الذنوب مع ضعف الداعي دل على أن في نفوسهم من الشر الذي يستحقون به من الوعيد ما لا يستحقه غيرهم. مجموع الفتاوى (18/ 14).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث من الفقه: أن الفواحش قد تغلظ في صورة معينة، كما أن الزنا من كل أحد قبيح، ولكنه من الشيخ الذي قد ضعفت قوته وعُدمت أو كادت شهوته أقبح.
والكذب من كل أحد قبيح، إلا أنه من الْمَلِكِ الذي لا يخاف إذا صدق، ولا يبالي بأحد إذا هو صدع بالحق أقبح.
وكذلك الكبر من كل أحد قبيح إلا أنه من العائل -أي: الفقير الذي ليس من أحواله ما يُنَاسِب الكبر- أقبح، فكانت هذه المعاصي في حق هؤلاء أغلظ منها في حق غيرهم؛ لهذه المعاني التي بيناها؛ فلذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: «لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم». الإفصاح عن معاني الصحاح (8/127-128).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قال الأبي: فإن وُجِدَ من الشيوخ من لم تنكسر حِدَّته فلا يكون مساويًا للشاب؛ لأن التعليل بالوصف لا يضره تخلُّف الحكمة في بعض الصور، كالمَلِكِ المسافر يقصر وإن لم تلحقه المشقة، فإن احتاج الملك إلى الكذب في مداهنة بعض المفسدين لم يلحقه الوعيد؛ لأنه أحد المواضع التي استثني فيها جواز الكذب.
ويلحق بالثلاثة مَن شَرَكَهُم في المعنى الموجب للوعيد، كسرقة الغني فإنها ليست كسرقة المحتاج.
ولا يبعد أن يكون المدح في أضداد هذه الأنواع أيضًا يتفاوت، فالعفة من الشاب أمدح منها من الشيخ، والصدق من غير الملك أمدح منه من الملك، والتواضع من الغني أمدح منه من الفقير، ويدل على ذلك حديث: «وسبعة يظلهم الله ...» فذكر شابًا نشأ في طاعة الله تعالى. انتهى. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (3/140-141).
وقال المناوي -رحمه الله-:
وفيه: دلالة على كرم الله في قبول عذر عبيده مما يكون منهم عن مخالفته. فيض القدير (3/331).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
فوائده:
منها: بيان غلظ تحريم هذه الأشياء المذكورة في الحديث، وأنها تنافي كمال الإيمان، وهو وجه المطابقة في إيرادها في أبواب الإيمان؛ لأنها ضده، والشيء ألصق بضده.
ومنها: بيان أن مرتكبي المعاصي تتفاوت مراتبهم بحسب الدواعي الحاملة لهم على ارتكابها، فمن كان له داعٍ يحمله، ويقهره على ارتكابها كان أخف جرمًا ممن لا داعي له إلى ذلك.
ومنها: بيان عظمة رحمة الله -سبحانه وتعالى- الرؤوف الرحيم بعباده المؤمنين؛ حيث خفَّفَ العقاب عن المغلوب المقهور؛ إذ حامله عليه قهر النفس والشهوة، وأما من ليس كذلك فإنه يعظم عقابه، حيث كان حامله على الارتكاب مجرد الاستخفاف بأمر الله تعالى وقلَّة خوفه منه. البحر المحيط الثجاج (3/287).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
ففي هذا الحديث فوائد أصولية وفقهية جَمَّة:
منها: إثبات أن الله -سبحانه وتعالى- يُكَلِّم، ووجه الدلالة: أن الله نفى الكلام عن هؤلاء الثلاثة، ولولا أنه يُكَلِّم مَن سواهم ما كان لتخصيصهم بعدم الكلام فائدة، وكلامه -سبحانه وتعالى- بالحرف والصوت، فهو -عزَّ وجلَّ- يقول قولًا مسموعًا، وهذا شيء متواتِر متفق عليه بين السلف، دل عليه الكتاب والسنة، يقول الله -عزَّ وجلَّ-: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} مريم: 52، لما كان بعيدًا ناده الله مناداة؛ لأن البعيد يحتاج إلى رفع الصوت، والنداء: هو المخاطبة برفع الصوت؛ ولما قَرُبَ صارت مناجاة؛ يعني: بصوت أدنى....
ومن فوائد الحديث: إثبات يوم القيامة، والإيمان به أحد أركان الإيمان الستة وهو معروف.
ومن فوائده: إثبات النظر لله؛ لقوله: «ولا ينظر إليهم» ووجه الدلالة: أن نفي النظر عن هؤلاء دليل على إثباته لغيرهم، كما استدل الإمام الشافعي -رحمه الله- في قول الله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لمَحْجُوبُون} المطففين: 15، قال: يُثبِت الحَجْبَ لهم إلا وهو يراه من سواهم.
ومن فوائد الحديث: إثبات العذاب، وأنه عذاب ليس بالهين بل هو عذاب مؤلم؛ لقوله: «ولهم عذاب أليم». فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (6/209-210).

وللاستفادة من الروايات الأخرى ينظر (هنا) و (هنا) و (هنا)


ابلاغ عن خطا