«إذا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ وأحدُكُم صائمٌ، فَلْيَبْدَأْ بالعَشَاءِ قبلَ صلاةِ المغْرِبِ، ولا تَعْجَلُوا عَن عَشَائِكُمْ».
رواه ابن حبان برقم: (2068)، والطبراني في الأوسط برقم: (5075)، واللفظ لهما، وبنحوه في البخاري برقم: (672)، ومسلم برقم: (557)، دون ذكر الصيام عن أنس -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (372)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (3964).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«العَشَاء»:
بالفتح: الطعام الذي يُؤكل عند العِشَاء. النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير (3/ 242).
شرح الحديث
قوله: «إذا أقيمت الصلاة وأحدكم صائم فليبدأ بالعَشَاءِ قبل صلاة المغرب»:
قال الفاكهاني -رحمه الله-:
الألف واللام في «الصلاة» ينبغي أن تكون للعموم ولا بدَّ؛ نظرًا إلى العلة في ذلك، وهو التشوش المفْضِي إلى عدم الخشوع والحضور بين يدي الله -عزَّ وجلَّ، والإقبال عليه بالكُلِّية، وهذا لا يخص صلاة دون صلاة، وإن كان قد ورد ذلك في صلاة المغرب، وهو قوله -عليه الصلاة والسلام-: «إذا وُضِعَ العَشَاء وأحدكم صائم فابدؤوا به قبل أن تصلوا»، وهو صحيح، وصح أيضًا: «فابدؤوا به قبل أن تصلوا المغرب»؛ إذ ليس يقتضي ذلك حصرًا في المغرب؛ ولأن الجائع غير الصائم قد يكون أَتْوَق إلى الطعام من الصائم، وقد يكون الصائم لا تَشَوُّفَ له إلى الطعام والحالة هذه، فينبغي أن يدُور الحُكم مع العلة وجودًا وعدمًا، فحيث أَمِنَّا التَّشْوِيش قدِّمت الصلاة والعكس، فلا يختص ذلك بالمغرب ولا غيرها على ما تقرر.
ويؤيد ذلك ويوضحه قوله -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الآخر: «لا صلاة بحضرة طعام» الحديث، فهذه نكرة في سياق النفي فتعم، وإن كان هذا العموم مخصوصًا بما ذكرناه بمن لا تشوُّف له إلى الطعام حينئذٍ. رياض الأفهام (1/584).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
لا ينبغي حمل الألف واللام في «الصلاة» على الاستغراق، ولا على تعريف الماهية، بل ينبغي أن تُحمل على المغرب؛ لقوله: «فابدؤوا بالعَشَاء»؛ وذلك يُخرج صلاة النهار، ويبين أنها غير مقصودة، ويبقى التَّردد بين المغرب والعشاء، فيترجح حمله على المغرب؛ لما ورد في بعض الروايات: «إذا وضع العَشَاء وأحدكم صائم فابدؤوا به قبل أن تصلوا» وهو صحيح، وكذلك أيضًا صح «فابدؤوا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب» والحديث يفسِّر بعضه بعضًا. إحكام الإحكام (1/177).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
وأنت خبير بأنَّ التنصيص على المغرب لا يقتضي تخصيص عموم الصلاة؛ لما تقرر في الأصول من أن موافِق العام لا يخصص به، فلا يصلح جعله قرينة لحمل اللازم على ما لا عموم فيه، ولو سُلِّم عدم العموم لم يُسلم عدم الإطلاق، وقد تقرر أيضًا في الأصول أن موافِق المطلق لا يقتضي التقييد، ولو سلمنا ما ذكره (يعني: ابن دقيق العيد) باعتبار أحاديث الباب لتأييده بأن لفظ العِشَاء يخرج صلاة النهار، وذلك مانع من حمل اللازم على العموم لم يتم له؛ باعتبار حديث: «لا صلاة بحضرة طعام» عند مسلم وغيره، ولفظ: «صلاة» نكرة في سياق النفي، ولا شك أنها مِن صيغ العموم، ولإطلاق الطعام وعدم تقييده بالعِشاء، فذكر المغرب من التنصيص على بعض أفراد العام وليس بتخصيص على أن العلة التي ذكرها شُرَّاح الحديث للأمر بتقديم العَشَاء كالنووي وغيره مقتضية لعدم الاختصاص ببعض الصلوات؛ فإنهم قالوا: إنها اشتغال القلب بالطعام، وذهاب كمال الخشوع في الصلاة عند حضوره، والصلوات متساوية الأقدام في هذا. نيل الأوطار (2/8-9).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
الراجح عندي حمله على العموم؛ لوضوح دليله. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (10/598).
وقال محب الدين الطبري -رحمه الله-:
فيه دلالة على أنَّ التأخير جائزٌ؛ لعذرِ تعلُّق النفس بالطعام، لا مطلقًا، أما في الصائم فبالنَّصِّ، وأما في غيره فلأنه في معناه فأُلحق به. غاية الأحكام (2/49).
وقال الطحاوي -رحمه الله-:
عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا أقيمت الصلاة وأحدكم صائم، فليبدأ بالعَشَاء قبل صلاة المغرب، ولا تعجلوا عن عشائكم»، فدلَّ ذلك على أنَّه -صلى الله عليه وسلم- إنَّما قصد بهذا القول إلى الصُّوام دون من سواهم، والله نسأله التوفيق. شرح مشكل الآثار (5/ 240).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
قوله: «فابدؤوا بالعَشَاء» أي: بأكله. نيل الأوطار (2/8).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
«فابدؤوا بالعَشَاء» على الندب؛ لما يُخشى من شغل بَالِه بالأكل، فيفارقه الخشوع. شرح صحيح البخاري (2/ 294).
وقال الكشميري -رحمه الله-:
قوله: «فابدَؤوا بالعَشَاء» هكذا في فقهنا، وينبغي أن لا يُتَوَسَّعَ في مثل هذه المسائل؛ وليَنْظِر الإِنسان لدينه أنه ما يقدِّم لغدٍ، وكيف يُسْتَدَلُّ بهذا مطلقًا وفي مشكل الآثار: أنَّه في حقِّ الصائم، وفي صلاة المغرب خاصةً؟! وكان يَعْمَلُ به ابن عمر -رضي الله عنه-؛ لكونه كثيرَ الصيام، قليلَ الإفطار، وما أظرف ما رُويَ عن إمامنا -رحمه الله تعالى- (أبي حنيفة): "لأن يكون أَكْلِي كلُّه صلاةً، أحبُّ إليَّ من أنْ تكون صلاتي كلُّها أكلًّا". فيض الباري على صحيح البخاري (2/ 262).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وفيه: دليل على تقديم فضيلة الخشوع في الصلاة على فضيلة أول الوقت، واستدل بعض الشافعية والحنابلة بقوله: «فابدؤوا» على تخصيص ذلك بمن لم يَشرع في الأكل، وأما من شرع ثم أُقيمت الصلاة فلا يتمادى، بل يقوم إلى الصلاة. فتح الباري (2/ 161).
وقال النووي -رحمه الله-:
ويلحق بهذا ما كان في معناه مما يشغل القلب ويذهب كمال الخشوع، وهذه الكراهة عند جمهور أصحابنا وغيرهم إذا صلى كذلك وفي الوقت سعة، فإذا ضاق بحيث لو أَكَل أو تطهر خرج وقت الصلاة صلى على حاله؛ محافظة على حرمة الوقت، ولا يجوز تأخيرها، وحكى أبو سعد المتولي من أصحابنا وجهًا لبعض أصحابنا: أنه لا يصلي بحاله، بل يأكل ويتوضأ وإن خرج الوقت؛ لأن مقصود الصلاة الخشوع فلا يفوته. شرح النووي على مسلم (5/ 46).
وقال ابن حجر -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
وهذا إنما يجيء على قول مَن يُوجِب الخشوع، ثم فيه نظر؛ لأن المفسدتين إذا تعارضتا اقتصر على أخفهما، وخروج الوقت أشد من ترك الخشوع؛ بدليل صلاة الخوف والغريق وغير ذلك، وإذا صلى لمحافظة الوقت صحَّت مع الكراهة، وتستحب الإعادة عند الجمهور. فتح الباري (2/ 161).
قوله: «ولا تَعْجَلُوا عن عَشَائِكُم»:
قال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«ولا تَعْجَلُوا» بفتح الفوقية والجيم، وفي نسخة: بضم الفوقية وفتح الجيم، أي: مبنيًا للمفعول من الثلاثي فيهما، وفي أخرى: بضم الفوقية وكسر الجيم من الرباعي. منحة الباري (2/388).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
هذا الحديث (برواية مسلم) محمول على من كان محتاجًا للطعام من صائم أو نحوه، وقد دلَّ على صحة هذا التأويل: ما زاده الدارقطني في هذا الحديث من طرق صحيحة، وذلك قوله: «إذا حضر العَشَاء وأحدكم صائم فابدؤوا به قبل أن تصلوا»، ولو لم تصح هذه الزيادة لكان ذلك معلومًا من قاعدة الأمر بحضور القلب في الصلاة، والإقبال عليها، والنهي عمَّا يشغل المصلي في صلاته ويشوشها عليه، ولا تشويش أعظم من تشويش الجائع عند حضرة الطعام. المفهم (2/163).
وقال ابن المنذر -رحمه الله-:
وقال بظاهر الحديث عمر بن الخطاب، وابن عمر، وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق، وقال مالك: يبدأ بالصلاة إلا أن يكون طعامًا خفيفًا.
وقال الشافعي: يبدأ بالطعام إذا كانت نفسه شديدة التَّوقان إليه، فإن لم يكن كذلك ترك العَشَاء، وإتيان الصلاة أحب إليَّ.
قال أبو بكر (يعني: نفسه): ظاهر خبر رسول الله-صلى الله عليه وسلم- أولى. الإشراف على مذاهب العلماء (2/ 126).
وقال النووي -رحمه الله-:
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «ولا يَعْجَلَنَّ حتى يفرغ منه» (رواية مسلم) دليل على أنَّه يأكل حاجته من الأكل بكماله، وهذا هو الصواب، وأما ما تأوله بعض أصحابنا على أنَّه يأكل لقمًا يكسِر بها شدة الجوع، فليس بصحيح، وهذا الحديث صريح في إبطاله. شرح مسلم (5/ 46).
وقال المناوي -رحمه الله-:
وأما خبر: «أنَّه كان يحتز من ذراع شاةٍ بسكين ويأكل، فأعلمه بلال بالصلاة، فطرح السكين فصلى» فأُجيب: بأنَّه إنَّما قطع الأكل للصلاة مع كونه أَمَرَ غيره بتقديم الأكل؛ لأنه قضى حاجته منه، أو لأنه أخذ في خاصة نفسه بالعزيمة، وأمر غيره بالرخصة؛ لأن غيره لا يقوى على مدافعة الشهوة قوَّته.
وفيه: رد على الظاهرية الزاعمين أنَّه لا يجوز صلاة مَن حضر الطعامُ بين يديه. فيض القدير (1/ 295).
وقال ابن حزم -رحمه الله-:
ولا تجزئ الصلاة بحضرة طعام المصلي غداءً كان أو عَشاءً...، فإنْ خشي فوات الوقت فكذلك؛ لأنه مأمور على الجملة بأن يبتدئ بالبول أو الغائط والأكل، فصح أنَّ الوقت متمادي له؛ إذ أُمِرَ بتأخيرها حتى يتم شغله، وبالله تعالى التوفيق. المحلى بالآثار (2/ 366).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
في الحديث حُجة على توسعة وقت المغرب. إكمال المعلم (2/494).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
وفي أحاديث هذا الباب: دليل على أن وقت المغرب متَّسِع، وأنه لا يفوت بتأخير الصلاة فيه عن أول الوقت، ولولا ذلك لم يأمر بتقديم العشاء على صلاة المغرب من غير بيانٍ لحدِّ التأخير؛ فإنَّ هذا وقت حاجة إلى البيان، فلا يجوز تأخيره عنه. فتح الباري (6/105).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
واستُدل بالحديث على أن وقت المغرب موسَّع، فإن أريد به مطلق التَّوسعة فصحيح، لكن ليس بمحل الخلاف المشهور، وإن أريد التوسعة إلى مغيب الشفق ففي الاستدلال نظر؛ لأن بعض مَن ضيَّق وقت المغرب جعله مقدَّرًا بزمان يدخل في مقدار ما يتناول لقيمات يكسر بها سَوْرَة (أي: شدَّة) الجوع، فعلى هذا: لا يلزم ألا يكون وقت المغرب موسَّعًا إلى غروب الشفق، على أن الصحيح الذي نذهب إليه: أن وقتها موسَّع إلى غروب الشفق، وإنما الكلام في وجه هذا الاستدلال من هذا الحديث. إحكام الإحكام (1/178).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وفيه: حُجة أن صلاة الجماعة ليست بفرض على الأعيان في كل حال؛ لقوله: «وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعَشَاء». إكمال المعلم (2/494).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
وقد استدل به أيضًا على أن صلاة الجماعة ليست فرضًا على الأعيان في كل حال، وهذا صحيح إن أُرِيْدَ به: أن حضور الطعام -مع التَّشوف إليه- عُذْرُ ترك الجماعة، وإن أريد به الاستدلال على أنها ليست بفرض من غير عذر لم يصح ذلك. إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام (1/178).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
فهذه الأحاديث كلها تدل على أنه إذا أقيمت الصلاة وحضر العَشاء فإنه يبدأ بالعَشاء، سواء كان قد أكل منه شيئًا أو لا، وأنه لا يقوم حتى يقضي حاجته من عَشَائه ويفرغ منه. فتح الباري (6/98).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
فيه: دليل على تقديم فضيلة حضور القلب في الصلاة على فضيلة أول الوقت، فإنهما لما تزاحما قدَّم صاحب الشرع الوسيلة إلى حضور القلب على أداء الصلاة في أول الوقت. مصابيح الجامع (2/310-311).
وقال النووي -رحمه الله-:
في هذه الأحاديث كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله؛ لما فيه من اشتغال القلب به، وذهاب كمال الخشوع. شرح النووي على صحيح مسلم (5/46).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
وقد ظنَّ قومٌ أنَّ هذا من باب تقديم حظ العبد على حق الحق، وليس كذلك، وإنَّما هو صيانة لحق الحق؛ ليدخلوا في العبادة بقلوب مقبلة غير مشغولة بذكر الطعام، وإنَّما كان عَشاء القوم يسيرًا لا يَقْطَع عن لحاق الجماعة. كشف المشكل (2/ 521).