الأحد 23 رمضان 1446 هـ | 23-03-2025 م

A a

«‌أَحَبُّ الصيام إلى الله صيامُ داود، كان يصوم يومًا، ويفطر يومًا، ‌وأَحَبُّ الصلاة إلى الله صلاةُ داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثُلُثَهُ، وينام سُدُسَهُ».


رواه البخاري، برقم: (3420) ومسلم، برقم: (1159)، من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-.


شرح مختصر الحديث


.


شرح الحديث


قوله: «أَحَبُّ الصيام إلى الله صيام داود»:
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
أي: أكثر ثوابًا، وأعظَمُه أجرًا. إكمال المعلم بفوائد مسلم (4/ 127).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
معنى أَحَبُّ إلى الله: أكْثَرُهُ ثوابًا، وأعْظَمُهُ أجرًا، وتقديره بما ذكر. الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (5/ 345).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«أَحَبُّ» أي: أكثَرُ ما يكون مَحبُوبًا، وهذا قليل، والأكثَر ما يكون في التَّفضُّل أن يكون من فِعْل الفاعل، ونِسْبة المَحبَّة فيها إلى الله تعالى على معنَى إرادة الخيْرِ لفاعلها. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (5/ 21).
وقال الشيخ عبد العزيز المشيقح -حفظه الله- معلقًا:
الحُبُّ صفة لله -سبحانه- فهو يحب الطاعات وأهلها، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} آل عمران: 146، وأيضًا {يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} آل عمران: 76، وما أشبه ذلك.
فهي صفة يجب إثباتها لله -عز وجل- على ما يليق بجلاله من غير تحريف، ولا تأويل، ولا تشبيه، ولا تعطيل، على ما وصف به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-. حاشية الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (5/ 345).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«أَحَبُّ الصيام» المتطوع به «إلى الله» تعالى، أي: أكثر ما يكون محبوبًا إليه، والمراد: إرادة الخير بفاعله. فيض القدير (1/ 171).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«أَحَبُّ الصيام إلى الله» أي: أفْضَلُهُ إليه كما صرح به حديث آخر، وهذه الأَحَبِّيَّة للصيام والصلاة باعتبار الزَّمَانَين التي وقعت هذه العبادة فيهما، فهما أَحَبُّ الفعل إليه باعتبار زمانهما؛ وذلك لأنهما في غاية العدل، والله يحب العدل كله، فإنه جعل للعبد لنفسه حقًّا، ولربه حقًّا، وقام بالحَقَّيْنِ، فأتى بالعبادة على وجهها من الكمال والنشاط والرغبة، فامتاز عمَّن أَغْفَلَ حقَّ الله، وآثر حق نفسه وراحَتها، وعمَّن أَوْغَلَ في عبادة الله، وأَفْرَطَ حتى ملّ وكرهها إلى النفس...، وقد أبان ذلك بقوله: «صيام داود» أي: ما كان على صِفَتِهِ في الزمان، لا أنه مجرد إخبار عن أَحَبِّيَةِ «صيام داود» فقط، وكأنه قيل: وكيف كان؟ قال: «كان يصوم يومًا ويفطر يومًا»، فقام بحق الله وحق نفسه، فهذا الأفضل منه. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 393).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«أَحَبُّ» أي: أَشَدُّهُ حُبًا. تنبيه الأفهام شرح عمدة الأحكام، (ص: 454).

قوله: «كان يصوم يومًا ويفطر يومًا»:
قال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
قوله -عليه السلام- في صوم داود: «وهو أفضل الصيام» ظاهرٌ قويٌّ في تفضيل هذا الصوم على صوم الأبد، والذين قالوا بخلاف ذلك: نظَروا إلى أن العمل متى كان أكثر كان الأجر أوْفَرَ، هذا هو الأصل، فاحتاجوا إلى تأويل هذا، وقيل فيه: إنه أفضل الصيام بالنسبة إلى مَن حاله مثل حاله، أي: من يتعذر عليه الجمع بين الصوم الأكثر وبين القيام بالحقوق.
والأقرب عندي: أن يُجرى على ظاهر الحديث في تفضيل ‌صيام ‌داود -عليه السلام-، والسبب فيه: أن الأفعال متعارِضة المصالح والمفاسد، وليس كل ذلك معلومًا لنا، ولا مُستحضرًا، وإذا تعارضت المصالح والمفاسد، فمقدار تأثير كل واحد منها في الحث والمنع غير محقق لنا.
فالطريق حينئذٍ أن نفوض الأمر إلى صاحب الشرع، ونجري على ما دل عليه ظاهر اللفظ مع قوة الظاهر ههنا.
وأما زيادة العمل واقتضاء القاعدة لزيادة الأجر بسببه: فيعارضه اقتضاء العادة والجِبِلَّة للتقصير في حقوق يعارضها الصوم الدائم، ومقادير ذلك الفائت مع مقادير ذلك الحاصل من الصوم غير معلوم لنا.
وقوله -عليه السلام-: «لا صوم فوق صوم داود» يحمل على أنه لا فوقه في الفضيلة المسؤول عنها. إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (2/ 31- 32).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
وهذا صريح في أنه إنما كان أحبَّ إلى الله لأجل هذا الوصف، وهو ما يتخلل الصيام والقيام من الراحة التي تُجِمّ لها نفسُه، وتستعين بها على القيام بالحقوق. تهذيب سنن أبي داود (2/ 127).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«ويصوم يومًا ويفطر يومًا»؛ فإن ذلك أشق على النفس؛ لأنها تصادف مألوفها في يوم، وتفارقه في آخر. شرح المصابيح (2/ 166).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
وقوله: «كان يصوم يومًا ويفطر يومًا» ظاهره أنه أفضل من صوم الدَّهر عند عدم التضرر، وقد صرح به بعض أصحابنا، ولا شك أن المكلَّف لم يُتَعَبَّدْ بالصيام خاصة، بل به وبالحج والجهاد وغير ذلك.
فإذا استفرغ جهده في الصوم خاصة انقطعت قُرَبُهُ، وبطلت سائر العبادات، فأُمِرَ أن يستبقي قُوَّتَه لها.
وبيَّن ذلك في الحديث الآخر في قصة داود: «وكان لا ‌يَفِرُّ إذا لاقى».
وبيَّن ذلك لعبد الله بن عمرو فقال: «إِنَّكَ إذا قمتَ الليل -يريد كله- هَجَمَتْ له العين، ‌وَنَفِهَتْ له النفس (أي: أعيت وكلت)، لا صَامَ من صَامَ الدهر».
وقيل: النهي لمن صام الأيام المنهي عنها، وقيل في قوله: «لا أفْضَلَ من ذلك» بالنسبة إلى المخاطب؛ لما عُلِمَ من حاله ومنتهى قُوَّتِهِ، وأن ما هو أكثر من ذلك يُضْعِفُهُ عن فرائضه، ويَقْعُدُ به عن حقوق نفسه. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (9/ 58- 59).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«كان يصوم يومًا ويفطر يومًا»؛ لما فيه من المشقّة. إرشاد الساري (5/ 398).
وقال المُلّا علي القاري -رحمه الله-:
«ويصوم» أي: داود «يومًا، ويفطر يومًا» قال ابن الْمَلَكِ: فإن ذلك أشقُّ على النفس؛ لأنها تصادف مأْلُوفَها في وقت، وتفارقه في وقت.
ولعل هذا لَمَّا لم يكن خاليًا عن أُلْفَةِ النفس في الجملة ما التزم النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الوصف في صيامه، وقد ورد عن أنس: أنه -عليه الصلاة والسلام-: «كان يصوم من الشهر حتى نرى أن لا يريد أن يفطر منه، ويفطر منه حتى نرى أن لا يريد أن يصوم منه شيئًا، وَكُنْتَ لا تَشَاءُ أن تراه من الليل مُصَلِّيًا إلا رأيته مُصَلِّيًا، ولا نائمًا إلا رأيته نائمًا» أخرجه الترمذي في الشمائل.
فكان -عليه الصلاة والسلام- أبَا الوقت، وغيرَ ابْنِ الوقت، فهو حاكم غير محكوم، فكان يفعل العبادات بحسب ما يظهر له من الحكمة في أوقات الطاعات دون الحالات المألوفات والعادات، وإن كانت عادات السادات سادات العادات، والله أعلم. مرقاة المفاتيح (3/ 926).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
والوجه في كون صوم داود أحَبّ وأفضل مشهور، وهو ما يدل عليه حديث: «من صام الدهر فكأنه ما صام وما أفطر» كما بيّن في موضعه، وفِعْلُ نبينا -صلى الله عليه وسلم- كان مختلفًا طَوْرًا فَطَوْرًا، يتضمن حِكَمًا ومصالح لا تُعَدُّ ولا تحصى، راجِعَة إلى نفسه الكريمة، وإلى أُمَّتِهِ المرحومة، أقْوِيَائِهم وضُعَفَائِهِم، فافهم، وباللَّه التوفيق. لمعات التنقيح (3/ 338).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«وكان يصوم يومًا ويفطر يومًا»؛ لِيَجْبُرَ بالغذاء فيه الضعف الحاصل من الصوم قَبْلَه، وإنما كان هذا أحبّ لأنه أَخْذٌ بالرفق على النفوس التي تُخشى منها السآمة التي هي سبب ترك العبادة، والله يحبّ أن يوالي فضله ويُدِيم إحسانه؛ ولأن فيه إبقاءً لِقُوَى النفس التي تستعين بها على أداء العبادات ومجاهدة الكفار، ولذا قال: «وكان لا يَفِرُّ إذا لاقى» العدوّ في الحرب؛ لِقُوَّةِ نفسه بما أبقى فيها. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (2/ 402).
وقال ابن علان -رحمه الله- أيضًا:
اختُلف هل الصوم كما ذُكِرَ أفضل من صوم الدهر بشرطه لكل أحد، أو ذلك خاص بابن عمرو؟
والجمهور على الأول؛ وذلك لما فيه من المشقة على النفس، ومن إعطاء النفس حقها؛ إذ يحصل لها من القُوَى يوم الفطر ما يَجْبُرُ ما قام بها مِن ضَعْفٍ يوم الصوم. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (6/ 645).
وقال المناوي -رحمه الله-:
وبيَّن وجْهَ الأَحَبِّيَّةِ بقوله: «كان يصوم يومًا ويُفطر يومًا» فهو أفضل مِن صوم الدهر؛ لأنه أشقُّ على النفس بمصادفة مألوفها يومًا ومفارقته يومًا.
قال الغزالي: وَسِرُّهُ أن مَن صام الدهر صار الصوم له عادة، فلا يَحُسُّ وقْعُهُ في نفسه بالانكسار، وفي قلبه بالصفاء، وفي شهواته بالضعف؛ فإن ‌النفس ‌إنما ‌تتأثر ‌بما ‌يَرِدُ ‌عليها، لا بما تَمَرَّنَتْ عليه، ألا ترى أن الأطباء نَهَوْا عن اعتياد شرب الدواء، وقالوا: مَن تَعَوَّدَه لم ينتفع به إذا مَرِضَ؛ لِأِلْفِ مزاجه له، فلا يتأثر به، وطِبُّ القلوب قريب من طِبِّ الأبدان، انتهى.
وهذا أوضح في البيان، وأبلغ في البرهان من قول من قال: صوم الدهر قد يُفوِّت بعض الحقوق، وقد لا يشق باعتياده.
وعليه فالمراد: حقيقة اليوم، وقال أبو شامة: يصوم وقتًا، ويفطر وقتًا، أي: لا يديم الصيام؛ خوف الضعف عن الجهاد، قال: وقد جَمَعْتُ الأيام التي ورد فيها الأخبار أن نبينا -صلى الله عليه وسلم- كان يصومها، فقَارَبَتْ أن تكون شطر الدهر، فهو بمثابة صوم داود. فيض القدير (1/ 171).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
«كان يصوم يومًا، ويفطر يومًا» هو أفضل من صوم الدّهر، والسِّرُّ في ذلك: أن صوم الدهر قد يُفَوِّتُ بعض الحقوق، وقد لا يشق باعتياده له، بخلاف صوم يوم وفطر يوم. السراج المنير شرح الجامع الصغير (1/ 51).
وقال السندي -رحمه الله-:
قيل: هو أشد الصيام على النفس؛ فإنه لا يعتاد الصوم، ولا الإفطار، فيصعب عليه كل منهما، وظاهر الحديث أنه أفضل من صوم يومين وإفطار يوم، ومن صيام الدهر بلا صيام أيام الكراهة، وبه قال بعض أهل العلم. كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجه (1/ 523).
وقال السفاريني -رحمه الله-:
قال الزين ابن المنيِّر: كان داود -عليه السلام- يُقَسِّمُ ليله ونهاره لحقِّ ربه، وحقِّ نفسه، فأما الليل فاستقام له فيه ذلك في كل ليلة، وأما النهار فلما تعذَّر عليه أن يُجَزِّئَهُ بالصيام؛ لأنه لا يتبعَّض، جَعَلَ عوضًا من ذلك أن يصوم يومًا، ويفطر يومًا، فيتَنَزَّل ذلك منزلة التجزئة في شخص اليوم.
والمقصود من هذا الحديث: ثبوتُ أفضليةِ صومِ يومٍ وفطرِ يومٍ على بقية صيام التطوع المطلق، واللَّه أعلم. كشف اللثام شرح عمدة الأحكام (3/ 602).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
الحديث يدل على أن صوم يوم وإفطار يوم أَحَبُّ إلى الله من غيره، وإن كان أكثر منه، وما كان أحب إلى الله -جل جلاله- فهو أفضل، والاشتغال به أولى. نيل الأوطار (3/ 72).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«صيام داود» دل الحديث على أنه أفضل من صوم الدهر، وذهب بعضهم إلى عكسه؛ لأن العمل كلما كان أكثر كان الأجرُ أوفَرَ، هذا هو الأصل المستمر في الشرع، فإن قيل: كيف يكون صوم الدهر أفضل وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا صام من صام الأبد»؟
قلنا: هذا محمول على حقيقته؛ بأن يصوم فيه الأيام المنهيَّة، أو على مَن ضَعُفَ حالُه، وتضرر به، يُؤَيِّدُه ما روى مسلم أنه -صلى الله عليه وسلم- نهى عبد الله بن عمرو؛ لِعِلْمِهِ أنه سيُعْجِزُه، ولم يَنْهَ حمزة بن عمرو الأسلمي الذي سبق ذكره في باب التخيير في الصوم والفطر في السفر؛ لِعِلْمِهِ بقدرته، أو نقول: «لا صام» دعاء عليه؛ لارتكابه المنهي عنه، أو أنه لا يجد ما يجد غيره من ألم الجوع. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (13/ 163).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
وظاهر قوله: «أَحَبُّ الصيام» يقتضي ثبوت الأَحَبِّيَّة مطلقًا.
ووقع في بعض الروايات: «أفضل الصيام صيام داود»، ومقتضاه أن تكون الزيادة عليه كصوم يومين، وإفطار يوم، وكصيام الدهر بلا صيام أيام الكراهة مفضولة.
وإنما كان ذلك أعدل الصيام، وأحبه إلى اللَّه تعالى؛ لأن فاعله يُؤَدِّي الحقوق الواجبة عليه... بخلاف من يصوم الدهر، أي: يُتابِعُ الصوم، ويَسْرُدُهُ، فإنه يُفوِّت بعض الحقوق، وقد لا يشقّ عليه باعتياده، فلا يحصّل المقصود مِن قَمْعِ النفس، نظير ما قاله الأطبّاء من أن المرض إذا تَعَوَّدَ عليه البدنُ لم يَحتَج إلى دواء.
ولم يلتزم النبي -صلى الله عليه وسلم- الوصف المذكور في صيامه لما قيل: إن فِعْلَهُ كان مختلفًا، يتضمن مصالح راجعة إلى أُمَّتِهِ، أقويائِهم وضعفائِهم، وكان يفعل العبادات بحسب ما يظهر له من الحكمة في أوقات الطاعات، دون الحالات المألوفات والعادات.
وقد روى البخاري وغيره عن عائشة -رضي الله عنها-، أنها قالت: «إن كان رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- لَيَدَعُ العملَ بالشيء، وهو يحبّ أن يعمل به؛ خشيةَ أن يَعمَل به الناس، فَيُفْرَض عليهم»، زاد في رواية: قالت: «وكان يحبّ ما خفّ على الناس». ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (17/ 348).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
وقد اختلف الفقهاء في الأفضل من صوم يوم ويوم، أو صوم الدَّهر غير الأيام المنهي عنها، مع اتِّفاقهم على جواز الأمرين إذا لم يتضرَّر بواحد منهما، ولم يفوِّت حقًّا، فاستدلَّ من قال: بأفضلية صوم يوم ويوم بهذا الحديث، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: «وهو أَفْضَلُ الصِّيامِ»، وفي رواية: «أَحَبُّ الصِّيامِ إِلى اللهِ»، وهو أقوى الصيام في ذلك.
واستدلَّ من قال: بأفضلية صوم الدَّهر بالشرط المذكور؛ بأنَّ العمل كلَّما كان أكثر، كان الأجرُ أوْفَرَ، وهذا هو الأصل، فيحتاج إلى تأويل قول من قال بأفضلية يوم ويوم، ودليلهم.
فقيل: إنَّه أفضل بالنسبة إلى حالِ مَنْ حالُه مثل عبد الله بن عمرو ممَّن يتعذَّر عليه الصَّوم الأكثر وبين القيام بالحقوق.
وقال شيخنا الإمام أبو الفتح -رحمه الله-: والأقرب عندي أنْ يجري على ظاهر الحديث في تفضيل صيام داود -صلى الله عليه وسلم-، والسَّبب فيه؛ أنَّ الأقوال متعارضة المصالح والمفاسد، وليس ذلك معلومًا لنا، ولا منحصرًا، فإذا تعارضت المصالح والمفاسد، فمقدار كل واحد منهما في الحثِّ والمنع غير محقَّق لنا، فالطريق حينئذ أنَّ يفوّض الحكم إلى صاحب الشَّرع، ويجري على ما دلَّ عليه ظاهر اللَّفظ مع قوَّة الظَّاهر هاهُنا.
وأَمَّا زيادة العمل، واقتضاء القاعدة زيادةَ الأجر بسببه، فيعارضه اقتضاء العادة والجِبِلَّة والتَّقصير في حقوق يعارضها الصَّوم الدَّائم، ومقادير ذلك بالفائت مع مقادير الحاصل من الصَّوم غير معلوم لنا.
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لَا صَوْمَ فَوْقَ صَوْمِ دَاوُد» يحمل على أنَّه لا فوق في الفضيلة المسؤول عنها.
قلتُ: والذي تقتضيه الأدلَّة كلُّها، وفعل الصَّحابة -رضي الله عنهم- وغيرهم، وتقرير حمزة بن عمرو (الأسلمي في الصوم في السفر) وغيره، وأمره -صلى الله عليه وسلم- بإكثار الصَّوم لمن لا يستطع التَّزوج، وسَرْدُه -صلى الله عليه وسلم- الصَّوم في بعض الشُّهور والإفطار في بعضها، وتخفيف المشقة في الصَّوم سردًا، والمشقة في تفريقه يومًا يومًا: أنَّ الأفضلية تختلف باختلاف الأشخاص، على حسب حاجتهم إليه، والقيام بحقوق الله -عز وجل-، وفي غيره لا يتقدر بصوم يوم يوم، ولا بالسَّرد؛ جمعًا بين الأدلة، والثَّواب وكثرته وقلَّته راجع إلى ما ذكرته، لا إلى كثرة العمل وقلَّته، بل إلى الإخلاص فيه والمقاصد، فَرُبَّ عملٍ قليل أفضلُ من كثير، والذي ذُكر من الترجيحات إنَّما هو بالنِّسبة إلى الظاهر، والله سبحانه أعلم. العدة في شرح العمدة (2/ 894-895).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وذهب جماعة، منهم المتولي من الشافعية إلى أن صيام داود أفضل، وهو ظاهر الحديث، بل صريحه، ويترجح من حيث المعنى أيضًا؛ بأن صيام الدهر قد يُفَوِّت بعض الحقوق...، وبأن من اعتاده فإنه لا يكاد يشق عليه، بل تضعف شهوته عن الأكل، وتقلُّ حاجَته إلى الطعام والشراب نهارًا، ويألَف تناوله في الليل بحيث يتجدد له طبع زائد، بخلاف من يصوم يومًا ويفطر يومًا؛ فإنه ينتقل من فطر إلى صوم، ومن صوم إلى فطر، وقد نقل الترمذي عن بعض أهل العلم أنه أشقُّ الصيام، ويأمن مع ذلك غالبًا من تفويت الحقوق كما تقدمت الإشارة إليه فيما تقدم قريبًا في حق داود -عليه السلام-: «ولا ‌يَفِرُّ إذا لاقى»؛ لأن من أسباب الفرار: ضعف الجسد، ولا شك أن سَرْدَ الصوم يُنْهِكُه، وعلى ذلك يُحمل قول ابن مسعود فيما رواه سعيد بن منصور بإسناد صحيح عنه أنه قيل له: «إنك لَتُقِلُّ الصيام، فقال: إني أخاف أن يُضْعِفَني عن القراءة، والقراءة أَحَبُّ إليّ من الصيام»، نعم إن فُرِضَ أن شخصًا لا يَفُوتُه شيء من الأعمال الصالحة بالصيام أصلًا، ولا يُفَوِّتُ حقًا من الحقوق التي خُوطِب بها لم يبعد أن يكون في حقه أرجح، وإلى ذلك أشار ابن خزيمة، فتَرْجَمَ الدليل على أن صيام داود إنما كان أعْدَلَ الصيام وأَحَبَّهُ إلى الله؛ لأن فاعله يؤدي حق نفسه وأهله وزائره أيام فطره، بخلاف من يتابع الصوم، وهذا يشعِر بأن من لا يتضرر في نفسه ولا يُفَوِّتُ حقًا أن يكون أرجح، وعلى هذا فيختلف ذلك باختلاف الأشخاص والأحوال، فمن يقتضي حالُه الإكثار من الصوم أكْثَرَ منه، ومن يقتضي حاله الإكثار من الإفطار أَكْثَرَ منه، ومن يقتضي حاله الْمَزْجَ فَعَلَهُ، حتى إن الشخص الواحد قد تختلف عليه الأحوال في ذلك، وإلى ذلك أشار الغزالي أخيرًا. والله أعلم بالصواب. فتح الباري (4/ 223- 224).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده:
منها: مشروعية الاقتداء بالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- في العبادات، كما أمر اللَّه تعالى نبيّه -صلى الله عليه وسلم- بذلك، حيث قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} الأنعام: 90.
ومنها: أنه يدلّ على أن صوم يوم وفطر يوم أحبّ إلى اللَّه تعالى من غيره، وإن كان أكثرَ منه، وما كان أحبّ إلى اللَّه تعالى فهو أفضل، والاشتغال به أولى، وقد ثبت في رواية مسلم: أن عبد اللَّه بن عمرو -رضي الله عنهما- قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إني أُطِيْقُ أفضل من ذلك، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا أَفْضَلَ من ذلك». ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (17/350).
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله-:
وفي حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- دليل على أن صوم يوم الجمعة أو السبت إذا صادف يومًا غير مقصود به التخصيص: فلا بأس به؛ لأنه إذا صام يومًا وأفطر يومًا فسوف يصادف الجمعة والسبت، وبذلك يتبين أن صومهما ليس بحرام، وإلا لقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: صم يومًا، وأفطر يومًا، ما لم تصادف الجمعة والسبت. الشرح الممتع (6 /476 ).

قوله: «وأَحَبُّ الصلاة إلى الله صلاة داود»:
قال ابن الملقن -رحمه الله-:
قوله: «أَحَبُّ الصلاة إلى الله صلاة داود» يريد لِمَن عدا النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} المزمل: 1، 2. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (9/ 58).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
«أَحَبُّ» بمعنى المحبوب، وهو قليل؛ إذ غالب أَفْعَلَ التفضيل أن يكون بمعنى الفاعل؛ فإن قلتَ: المحبة ما معناها عند الإطلاق على الله ههنا؟ قلتُ: إرادة الخير لِمُصَلِّيْهَا. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (6/ 191).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«وأَحَبُّ الصلاة» من الليل المطلق. فيض القدير (1/ 172).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«أَحَبُّ الصلاة» أي: أكثر ما يكون محبوبًا، واستعمال أَحَبّ بمعنى: محبوب قليل؛ لأن الأكثر في أَفْعَلَ التفضيل أن يكون مِن فعل الفاعل، ونسبة المحبة في الصلاة والصيام إلى اللَّه تعالى على معنى إرادة الخير لفاعلها. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (3/ 201).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
«أَحَبُّ الصلاة إلى اللَّه تعالى صلاة داود» الحديث، يُشْكِلُ أنه لم يكن عمل نبينا -صلى الله عليه وسلم- دائمًا على هذا الوجه، فالجواب: أن صيغة التفضيل إما بمعنى أصل الفعل، أو الأَحَبيَّةُ إضافية محمولة على بعض الوجوه؛ لكونه أقرب إلى الاعتدال، وحِفْظِ صحة المزاج، ولِمَا قيل في نوم السُّدس الأخير مِنْ دَفْعِ الكلفة والْمِلال، وإبقاء أثر العبادة مِن صُفْرَةِ اللون وانكساره. لمعات التنقيح (3/ 337).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
(أَحَبُّ الصلاة إلى الله صلاة داود) أي: أشدُّ مَحْبُوبِيَّة، أَفْعَل التفضيل، مِن بناء المجهول، وفيه شذوذ؛ أي: صلاة داود، ومَن صلى نحو صلاته؛ لأنه بصدد الترغيب فيه. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (3/ 197).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«أَحَبُّ الصلاة» أي: التهجد «إلى الله» أي: أرْضَاها إليه، وأكثرها ثوابًا عنده «صلاة داود» -عليه السلام-. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (6/ 644).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«وأَحَبُّ الصلاة» مِن نوافل الليل إلى الله تعالى. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 393).

قوله: «كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه»:
قال ابن بطال -رحمه الله-:
قال الْمُهَلَّبُ: هذا يدل أن دواد كان يَجُمُّ نفسه بنوم أول الليل، ثم يقوم في الوقت الذي ينادي فيه الله تعالى: «هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ هل من تائب؟» ثم يستدرك من النوم ما يستريح فيه مِن نَصَبِ القيام في بقية الليل.
وإنما صارت هذه الطريقة أحب إلى الله؛ من أجل الأخذ بالرفق على النفوس التي يُخشى منها السآمة والملل، الذي هو سبب إلى ترك العبادة، والله يحب أن يُدِيم فضلَه، ويُوالي إحسانه أبدًا، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله لا يَمَلُّ حتى تملوا» يعني: أن الله لا يقطع المجازاة على العبادة حتى تقطعوا العمل. شرح صحيح البخاري (3/ 122-123).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
أمَّا قيام بعض اللَّيل، فهو سنَّة ثابتة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأفضل قيام اللَّيل في النِّصف الأخير منه، وأي وقت قام فيه منه كان إتيانًا بالسُّنَّة، وكان فاعله ممن يتجافى جَنْبُهُ عن المضاجع، حتَّى وردت السُّنَّة بذلك في حقِّ من قام بين المغرب والعشاء، لكنَّ القيام بين المغرب والعشاء لا يسمَّى تهجُّدًا، بل التَّهجُّد في عُرْف الشَّرع: من قام بين فِعْلِ العشاء ونَوْمِهِ وطلوع الفجر، ووسطُ اللَّيل أفضل من الأول والأخير، وإن كانت الصلاة آخر اللَّيل مشهودة؛ لما فيه من نوم النَّاس وغفلتهم عنها، وقد ورد في حديث حسن: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «ذاكرُ اللهِ في الغافلينَ كشجرةٍ خضراءَ بينَ أشجارِ يابسةٍ».
والمراد بالوسط: ما في حديث ابن عمرو مِن فِعْلِ داود -صلى الله عليه وسلم- هذا، وهو الثلث الَّذي بين النِّصف الأول والسدس الأخير، وإن كان في عبارة أبي إسحاق الشّيرازي في (التَّنبيه) ما يخالف ظاهره ذلك بقوله: والثُّلث الأوسط أفضلُ من الأول والأخير، لكنَّ المراد به هذا الَّذي ذكرناه.
وإنما كان ذلك أفضل؛ لما فيه من مصلحة الإبقاء على النفس، واستقبال صلاة الصبح وأذكار النَّهار بالنَّشاط، والَّذي يقدَّر في الصُّوم من المعارض وارد هنا من أنَّ زيادة العمل تقتضي زيادة الفضيلة، والكلام فيه كالكلام في الصوم؛ من تفويض مقابلة المصالح والمفاسد إلى صاحب الشَّرع، ومِن مصالح القيام على ما في هذا الحديث أنَّه أقرب إلى عدم الرِّياء في العمل؛ فإن من نام السُّدس الأخير فإن نفسه تكون مجموعة غير منهوكة، لا يظهر عليها أثر العمل عند من يراه، والله أعلم. العدة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام (2/ 897- 898).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
واعلم أن بعض مَن تكلم على هذا الحديث ادعى أن قوله: «وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه، وينام سدسه» يحتمل وجهين: بناء على أن (الواو) لا تُرتِّب أنْ ينام النصف الأول، ثم يقوم السدس الرابع والخامس، ثم ينام الأخير، وأن يكون العكس، ثم نقل الأول عن مذهب الفاروق، والثاني عن مذهب الصِّدِّيق، ولا نُسَلِّمُ له ذلك، والاحتمال الأول مُتَعَيِّن، والثاني هفوة. الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (5/ 346- 347).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«كان ‌ينام ‌نصف ‌الليل» أي: نصفه الأول «ويقوم» بعد ذلك «ثلثه، وينام سدسه» الآخر، ثم يقوم عند الصبح، وإنما صار هذا النوع أحبَّ لأن النفس إذا نامت الثلثين من الليل تكون أخفَّ وأنشط في العبادة. شرح المصابيح (2/ 165).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«ويقوم ثُلُثَهُ» أي: وهو الوقت الذي فيه يُنادي الرَّبُّ تعالى: هل مِن سائلٍ؟ هل من مُستغفِرٍ؟
«وينام سُدُسَه» أي: يَستدرِكُ من النَّوم ما يَستريح فيه مِن نَصَب القيام في بقيَّة اللَّيل، وإنما كان هذا أحبَّ إلى الله؛ لأنه أخْذٌ بالرِّفْق على النُّفوس التي يُخشى منها السآمة التي هي سببٌ إلى تَرْك العبادة، فإنَّه تعالى يحبُّ أن يُديم فضلَه، ويُواليَ إحسانه. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (5/ 21).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
وقد قيل: إن سبب الصُّفرة في الوجه سهر آخر الليل، فإذا نام الإنسان قبل الفجر لم تظهر عليه صفرة في الوجه، ولا أثر في السهر. كشف المشكل من حديث الصحيحين (4/ 352).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
وأفضل أوقات التهجد: أن ‌ينام ‌نصف ‌الليل الأول وسدسه الآخر؛ ويقوم ثلثه الذي بين نصفه وسدسه، هذا مذهب الشافعي. الشافي في شرح مسند الشافعي (2/ 263).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «وينام سُدُسَه» يعني: ينام النصف الأول، ويقوم بعد ذلك ثلثَ اللَّيل، أو ينام السُّدُس الآخرَ، ويقوم عند الصبح؛ يعني: وسطُ الليلِ أفضل مِن أولِه وآخرِه؛ لأنه أَشقُّ على النَّفْسِ وأَبْعَدُ من الرياء، ثم إن كانت له حاجةٌ إلى أهله؛ يعني: إن اشتهى في أولِ الليلِ مباشرة زوجاتِه فَعَلَ، ثم ينام. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 274).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
ونوم سدسه الأخير فيه مصلحة الإبقاء على النفس، واستقبال صلاة الصبح، وأذكار أول النهار بالنشاط.
والذي تَقَدَّم في الصوم من المعارض: وارد هنا، وهو أن زيادة العمل تقتضي زيادة الفضيلة، والكلام فيه كالكلام في الصوم مِن تفويض مقادير المصالح والمفاسد إلى صاحب الشرع.
ومن مصالح هذا النوع من القيام أيضًا: أنه أقرب إلى عدم الرياء في الأعمال؛ فإن من نام السدس الأخير: أصبح جامًا غير منهوك القوى، فهو أقرب إلى أن يخفي أثر عمله على من يراه. إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (2/ 32).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وفيه من المصلحة أيضًا: استقبال صلاة الصبح وأذكار النهار بنشاط وإقبال، وأنه أقرب إلى عدم الرياء؛ لأن من نام السدس الأخير أصبح ظاهر اللون سليم القوى، فهو أقرب إلى أن يخفي عمله الماضي على من يراه، أشار إلى ذلك ابن دقيق العيد، وحُكي عن قوم أن معنى قوله: «أَحَبُّ الصلاة» هو بالنسبة إلى مَن حاله مثل حال المخاطَب بذلك، وهو من يشق عليه قيام أكثر الليل، قال: وعُمْدَة هذا القائل: اقتضاء القاعدة زيادة الأجر بسبب زيادة العمل، لكن يُعارضه هنا اقتضاء العادة والجِبِلَّةِ التقصير في حقوق يعارضها طول القيام، ومقدار ذلك الفائت مع مقدار الحاصل من القيام غير معلوم لنا، فالأولى أن يجري الحديث على ظاهره وعمومه، وإذا تعارضت المصلحة والمفسدة، فمقدار تأثير كل واحد منهما في الحث أو المنع غير محقق لنا، فالطريق أننا نفوَّض الأمر إلى صاحب الشرع، ونجري على ما دل عليه اللفظ مع ما ذكرناه من قوة الظاهر هنا، والله أعلم.
تنبيه: قال ابن التين: هذا المذكور إذا أجريناه على ظاهره فهو في حق الأُمَّة، وأما النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد أمره الله تعالى بقيام أكثر الليل، فقال: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} المزمل: 1، 2، انتهى.
وفيه نظر؛ لأن هذا الأمر قد نُسخ كما سيأتي، وقد تقدم في حديث ابن عباس: «فلما كان نصف الليل، أو قبله بقليل، أو بعده بقليل» وهو نحو المذكور هنا، نعم سيأتي بعد ثلاثة أبواب أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يجري الأمر في ذلك على وتيرة واحدة، والله أعلم. فتح الباري (3/ 16-17).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم- في داود: «كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه» الحديث فَهِمَهُ بعض العُلماء على الترتيب، وأنه كان ينام سدس الليل الآخر؛ ليقوم إلى صلاة الصبح بنشاط، لكن الذي يظهر أن الواو ليست للترتيب هاهنا، وذلك أن داود -صلى الله عليه وسلم- لا يُظَنُّ به أنه كان ينام حين تغرب الشمس؛ لأن هذا لا يفعله الكُسَالى فضلًا عن ذي العزم والنشاط، لا سيما إن كانت صلاة المغرب والعشاء واجبة عليهم، وإذا لم يكن هذا الترتيب كان المعنى أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يُحْيِي ثلث الليل، إما مِن أَوَّلِهِ، أو أوسطه، أو آخره؛ ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- هو والصحابة يقومون من ثلث الليل قبل فريضة الصلوات الخمس، كما قال تعالى في سورة المزمل، ويكون المعنى على هذا: كان ينام نصف الليل وسدسه، ويقوم ثلثه، وفرَّق -صلى الله عليه وسلم- بين النصف والسدس بالعطف؛ لأن الأمر وقع كذلك في سورة المزمل، قال تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا *نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} المزمل: 2 – 4، أي: على الثلث، أي: أو زِدْ على الثلث السدس، فكأنه قال: أو قُم الثلثين، فالتخيير ثابت في الزيادة على النصف إلى الثلثين، والنقص منه إلى الثلث، واللّه أعلم. فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب (4/ 262).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«كان ينام نصف» وفي رواية: «كان يرقد شَطْرَ الليل»؛ إعانة على قيام البقية المشار إليه بآية {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} يونس: 67، «‌ويقوم ‌ثلثه» من أول النصف الثاني؛ لكونه وقت التَّجَلِّي، وهو أعظم أوقات العبادة، وأفضل ساعات الليل والنهار، «وينام سدسه» الأخير؛ ليريح نفسه، ويستقبل الصبح وأذكار النهار بنشاط، ولا يخفى ما في ذلك من الأخذ بالأرفق على النفس التي يُخشى سآمتها المؤدية لترك العبادة، والله يحب أن يوالي فضله، ويديم إحسانه.
وفي رواية: «ثُمَّ» مكان الواو، وهي تفيد الترتيب، ففيه رد على من زعم حصول السُّنَّة بنوم السدس الأول مثلًا وقيام الثلث، ونوم النصف الأخير.
ثم إنه لا تُعَارِضُ هذه الأحَبِّيَّة قاعدة أن زيادة العمل تقتضي زيادة الفضيلة؛ لأن القاعدة أغلبية كما بيَّنَتْه الشافعية، ولا يُكْرَه على الأصح عندهم صوم الدهر لمن لا يضره، ويُكْره قيام كلِّ الليل ولو لمن لا يضره...، والفرق بين الصلاة والصوم: أن الصائم يستوفي ما فاته، والمصلي إن نام نهارًا تعطَّلت مصالحه، قال ابن المنيِّر: هذا في حق الأُمَّةِ لا المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، فقد أمره الله بقيام أكثر الليل في قوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} المزمل: 2، وعُورِضَ بنسخه، وبما صح أنه لم يكن يجري على وتيرة واحدة. فيض القدير (1/ 172).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«كان ‌ينام ‌نصف ‌الليل»؛ إعطاء للعين والجسد حقهما منه، «ويقوم ثُلُثَهُ» بضمَّتين ويخفف الثاني فيسكن، أي: يُحْيِيِهِ بالقيام بالتهجد، «وينام سدسه» إراحة للجسد مما أصابه من مرادفة الصلاة.
وفيه: طلب إخفاء عمل البِرِّ وسَتْرُهُ عن الغير؛ ليكون أقرب للإخلاص، فإنَّ مَن قام ونام ما ذُكر كأنه لم يقم؛ لذهاب كَلَالِ ذلك السهر بالنوم، ففيه إخفاء التهجد بخلاف المستمر على السهر إلى الفجر؛ فإنه يبدو عليه الأثر، ففيه تعرّض لظهور عمله الليلي. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (6/ 645-644).
وقال السندي -رحمه الله-:
«كان ‌ينام ‌نصف ‌الليل» أي: من الوقت الذي كانوا يعتادونه، لا من وقت المغرب؛ إذ يستبعد النوم منه. كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجه (1/ 523).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«كان ‌ينام ‌نصف ‌الليل، ويقوم ثلثه» مِن أول النصف الثاني، وهو بعد أخذه حظًّا لنفسه من النوم، فيُقْبِل على الطاعة برغبة ونشاط، «وينام سدسه» الأخير؛ ليأتي بصلاة الصبح وقد أخذت النفس راحتها من النوم والراحة والعبادة.
وفيه: أن هذا أفضل النوافل صيامًا وصلاة.
إن قلتَ: إن أَحَبَّ الأوقات وأفضلها ثلث الليل الأخير، وهنا قد جُعل محلاً للنوم.
قلتُ: يحتمل أن ذلك في هذه الشريعة، ويحتمل أنه لمن لم يقم النصف الآخر، أو أنه أَطْلَقَ السدس على جزء منه، فلا يفوت به كل الثلث الآخر. التنوير شرح الجامع الصغير» (1/ 393-394).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
واختلفوا في أفضل أجزائه (أي الليل)، والذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة: ما ذهب إليه الإمام الشافعي -رضي اللَّه تعالى عنه- من أنه إن جزَّأه نصفين، فالنصف الثاني أفضل، أو أثلاثًا، فالثلث الأخير أفضل، أو أسداسًا، فالسدس الرابع والخامس أفضل، وهذا هو الأكمل على الإطلاق؛ لأنه الذي واظب عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال فيه: «أفضلُ الصلاة صلاة أخي داود؛ كان ‌ينام ‌نصف ‌الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه». الفتح المبين بشرح الأربعين (ص: 484).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
ويدل على أفضلية قيام ثلث الليل بعد نوم نصفه، وتعقيب قيام ذلك الثلث، بنوم السدس الآخر؛ ليكون ذلك كالفاصل ما بين صلاة التطوع والفريضة، ويحصل بسببه النشاط لتأدية صلاة الصبح؛ لأنه لو وصل القيام بصلاة الفجر لم يأمن أن يكون وقت القيام إليها ذاهبُ النشاط والخشوع؛ لِمَا به من التعب والفتور. نيل الأوطار (3/ 72).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«كان» داود «ينام نصف الليل» الأول، أي: من الوقت الذي يعتادون النوم فيه؛ وهو بعد العشاء لا من وقت المغرب؛ إذ يستبعد النوم منه فيما اعتادوه، «ويُصلي ثلثه» أي: ثلث الليل الأوسط؛ يعني: أربع ساعات، «وينام سدسه» أي: سدس الليل الأخير؛ يعني: ساعتين قبل الفجر الصادق. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (10/ 206).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
أما صلاته -يعني النافلة، صلاة الليل-: فإنه كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، فيُقَسِّمُ الليل ثلاثة أقسام، النصف الأول للنوم، ثم الثلث للقيام، ثم السدس للنوم؛ لأن هذا فيه راحة البدن، فإن الإنسان إذا نام نصف الليل أخذ حظًا كبيرًا من النوم، فإذا قام الثلث ثم نام السدس فإن التعب الذي حصل له في القيام يذهب بالنوم الذي في آخر الليل.
ولكن مع هذا إذا قام الإنسان في أي ساعة من الليل فإنه يُرجى له أن ينال الثواب، هذا الذي ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الأحبُّ إلى الله والأفضل، لكن يكفي أن تقوم الثلث الأخير أو الثلث الأوسط أو النصف الأول، حسب ما تيسر لك.
قالت عائشة -رضي الله عنها-: «مِن كلِّ الليل أَوْتَرَ النبي -صلى الله عليه وسلم-، مِنْ أَوَّلِ الليل ووسطه وآخره»، فالأمر في هذا -ولله الحمد- واسع. شرح رياض الصالحين (5/ 212).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
التهجد في الليل من أفضل العبادات، وهو أفضل الصلوات بعد الفرائض، فصلاة الليل أفضل من صلاة النهار، ولا سيما في الثلث الأخير منه، وأفضل تَجْزِئَة الليل صلاة داود: «كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه»، وكذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعل ذلك أحيانًا، بل الأغلب عليه ذلك، وعلى هذا فنقول: أفضل صلاة الليل ما كان بعد النصف إلى أن يبقى سدس الليل. فتاوى نور على الدرب (161/ 1).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
فوائد الحديث:
1- أن الأعمال تتفاوت في محبة الله تعالى لها، وكل ما كان أحب إليه فهو أفضل.
2- أنَّ تَفَاوُتَ الأعمال بحسب حُسنها وموافقتها للشرع.
3- أن المحبة من صفات الله تعالى الثابتة على الوجه اللائق.
4- أن محبة الله تعالى تتفاوت.
5- أن أفضل صيام التطوع أن يصوم يومًا ويفطر يومًا.
6- أن أفضل صلاة التطوع أنْ ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه.
7- قوة نبي الله داود في العبادة وحُسن تدبيره فيها. تنبيه الأفهام شرح عمدة الأحكام، لابن عثيمين (ص: 455).


ابلاغ عن خطا