الخميس 27 رمضان 1446 هـ | 27-03-2025 م

A a

«لا تَقَدَّمُوا رمضان بصوْم يومٍ ولا يومين، إلا رجلٌ كان يصومُ صومًا، فَلْيَصُمْهُ».


رواه البخاري برقم: (1914)، ومسلم برقم: (1082) واللفظ له، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«لا تَقَدَّمُوا»:
بفتح التاء والدال، أصله: تَتَقَدَّمُوا، فحُذفت إحدى التاءين تخفيفًا، أي: لا تتقدَّموا الشهر بصوم تعدُّونه منه؛ احتياطًا. إرشاد الساري، القسطلاني (3/ 350).


شرح الحديث


قوله: «لا تَقَدَّمُوا رمضانَ بصوْمِ يومٍ ولا يومينِ»:
قال البرماوي -رحمه الله-:
قوله: «لا تَقَدَّموا» رواه مسلم، وأصْل تَقَدَّموا: تتَقَدَّموا، فحُذفت إحدى التاءين، وهو في البخاري أيضًا بعد أبواب، بلفظ: «لا يَتَقدَّمنَّ أحدُكم رمَضَان بصومِ يَومٍ أو يومين»، والمعنى: لا تَتقدَّموا الشَّهر بصوم يومٍ تُقَدِّمونه منه، ويُروى: «لا تُقَدِّموا» بضمِّ أوَّله، وكسر الدَّال، أي: لا تُقدِّموا صومًا قبلَه؛ ليَكون منه، تَجعلونَه احتياطًا. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (6/ 363-364).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
«لا تَقَدَّموا رمضان» بفتح التاء والدال؛ لأنه مضارع، أصلُه: تتَقَدَّموا، فحُذفت إحداهما تخفيفًا؛ أي: لا تتقدَّموا الشهرَ بصومٍ تَعُدُّونه منه، وبضم التاء وكسر الدال؛ أي: تُقَدِّموا صومًا قبله؛ ليكون منه احتياطًا. مصابيح الجامع (4/ 338).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
«لا تَقدَّموا الشَّهر بيوم ولا بيومين» إنما نُهي عن فعل ذلك احتياطًا؛ لاحتمال أنْ يكون من رمضان...، وإنما ذكر اليومين؛ لأنه قد يحصل الشك في يومين بحصول الغَيْمِ، أو الظُّلْمَةِ في شهرين أو ثلاثة، فلذلك عقَّب ذِكْر اليوم باليومين.
والحكمة في النَّهي: أنْ لا يختلط صوم الفرض بصوم نَفْلٍ قبله، ولا بعده؛ حذرًا ممَّا صنعت النصارى في الزيادة على ما افتُرض عليهم برأيهم الفاسد. قوت المغتذي على جامع الترمذي (1/ 256).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وقوله: «لا تَقَدَّموا رمضان بصومِ يومٍ ولا يومين» هذا النهي لما يُخَافُ من الزيادة في شهر رمضان، وهو مِن أدِلَّة مالك على قوله بسدِّ الذرائع، لا سيما وقد وقع لأهل الكتابَيْنِ من الزيادة في أيام الصوم غَلَطٌ، حتى أنهوا ذلك إلى ستين يومًا، كما هو المنقول عنهم، وقد وسّعَ في المنع في الحديث الذي خرَّجه الترمذي عن أبي هريرة وصحَّحه، فقال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا بقي نصفٌ من شعبان، فأمسكوا عن الصوم، حتى يأتي رمضان».
ومَحمَلُ هذا النهي: ما يُخَافُ من الزيادة في رمضان، فإنْ أَمِنَ ذلك جاز، بدليل قوله: «إلا رجلٌ كان يصوم صومًا فلْيَصُمْهُ»، وبدليل ما قالت عائشة -رضي الله عنها-: «كان -صلى الله عليه وسلم- يصوم شعبان كله»، «كان يصوم شعبان إلا قليلاً»...، وفي هذا الحديث ما يدل على أنَّ صوم يوم الشك جائز، وقد اختُلف في ذلك. المفهم (3/ 146-147).
وقال النووي -رحمه الله-:
«لا تَقَدَّموا رمضان بصوم يومٍ ولا يومين» فيه التصريح بالنهي عن استقبال رمضان بصوم يوم ويومين، لمن لم يُصادِف عادةً له، أو يَصِلْهُ بما قبله، فإنْ لم يصله، ولا صادف عادة، فهو حرام، هذا هو الصحيح في مذهبنا؛ لهذا الحديث، وللحديث الآخر في سنن أبي داود وغيره: «إذا انتصف شعبان فلا صيام حتى يكون رمضان»، فإنْ وَصَلَهُ بما قبله، أو صادف عادة له، فإنْ كانت عادته صوم يوم الاثنين ونحوه، فصادَفَه فصامه تطوعًا بنية ذلك جاز؛ لهذا الحديث، وسواء في النهي عندنا لمن لم يُصادِف عادته ولا وَصَلَهُ: يوم الشك وغيره، فيوم الشك داخل في النهي.
وفيه مذاهب للسلف فيمن صامَهُ تطوعًا، وأَوْجَبَ صَوْمَهُ عن رمضان أحمد وجماعة، بشرط أنْ يكون هناك غَيْمٌ، والله أعلم. شرح النووي على مسلم (7/194- 195).
وقال المغربي -رحمه الله-:
قوله: «لا تَقَدَّموا رمضان..» إلخ، في الحديث دلالة على النهي عن صوم يوم أو يومين قبل رمضان، قال العلماء -رحمهم الله تعالى-: معنى الحديث: لا تَسْتَقْبِلُوا رمضان بصيامٍ على نية الاحتياط لرمضان...، والعلة بذلك: أنَّ حُكْم الصيام تعلَّق بالرؤية، فمن تقدَّم بيوم أو يومين فقد حاول الطعن في ذلك الحُكْم.
ومعنى الاستثناء: أنَّ مَن كان له وِرْدٌ، فقد أُذِنَ له فيه؛ لأنه اعْتَادَهُ وأَلِفَهُ، وليس ذلك من استقبال رمضان في شيء، ويُستثنى أيضًا القضاء والنَّذْرُ بالقياس على ما ذُكِر؛ لعدم كونه مستقبِلًا لرمضان، فالصوم من أجْلِهِ، ولكنه يلزم من التعليل المذكور أنه لا نهي عن مطلق الفعل؛ لعدم تناول العلة له، ولعله يقال: إنَّ النهي عام لما لا سبب له، وإنْ لم يقصد استقبال رمضان به، وفي ذلك تكميل لحصول المَقْصِد الذي اعتبره الشارع، ولا يخرج عنه إلَّا مَا له سبب واضح، والله أعلم.
وفي ذلك ردٌّ على الرافضة في تجويزهم تقديم الصوم على الرؤية، وعلى مَنْ جَوَّزَ النفل المطلق.
وإنما اقتصر على اليوم أو اليومين؛ لأنه الغالب في حق مَنْ يقصد ذلك؛ إذ لا يقع الاحتمال في أكثر من ذلك، وقال بعضهم: ابتداءُ المنع من أوَّل السادس عشر من شعبان؛ لحديث أبي هريرة مرفوعًا: «إذا انتصف شعبان فلا تصوموا» أخرجه أصحاب السُّنن، وصححه ابن حبان وغيره، وقال الروياني من الشافعية: يحرم التقدَّم بيوم أو يومين؛ لحديث الباب، ويُكْرَه مِنْ نِصْف شعبان؛ للحديث الآخر.
وقال جمهور العلماء: يجوز الصوم تطوعًا بعد النصف من شعبان، وضُعِّف الحديث الوارد فيه، وقد قال أحمد وابن مَعِين: إنه مُنْكَرٌ، واستظهر بحديث أنس مرفوعًا: «أفضل الصيام بعد رمضان: شعبان». البدر التمام شرح بلوغ المرام (5/6- 7).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «لا يتقدَّم رمضان بصوم يوم أو يومين» أي: لا يتقدَّم رمضان بصوم يومٍ يُعَدُّ منه بقصد الاحتياط له؛ فإنَّ صومه مرتبط بالرؤية، فلا حاجة إلى التكلُّف. فتح الباري (4/ 128).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«لا تَقَدَّموا» بفتح التاء والقاف كما تقدم، «الشهر بصيام يوم ولا يومين» بقصد الاحتياط له؛ فإنَّ صومه مُرتبط بالرؤية، فلا حاجة إلى التَّكَلُّف، وإنما اقْتَصَرَ على يوم أو يومين؛ لأنه الغالب ممن يقصد ذلك.
وأبْعَدَ من قال: المراد بالنهي التَّقَدُّم بنية رمضان، واستُدرك عليه بلفظ التقدُّم؛ لأنَّ التقدُّم على الشيء بالشيء إنما يتحقَّق إذا كان من جنسه. شرح سنن أبي داود (10/ 282-283).
وقال السفاريني -رحمه الله-:
قوله: «بصومِ يومٍ» واحد «ولا» بصومِ «يومين». كشف اللثام شرح عمدة الأحكام (3/ 484).
وقال السفاريني -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «بصوم يوم أو يومين» فإنَّ مفهومه جواز التقدُّم بأكثر من يومين. كشف اللثام شرح عمدة الأحكام (3/ 487).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
مفهوم الحديث: الجواز إذا كان التقدُّم بأكثر من يومين، وقيل: يمتد المنع لما قبل ذلك، وبه قَطَعَ كثير من الشافعية، وأجابوا عن الحديث: بأنَّ المراد منه التقدُّم بالصوم، فحيث وُجِدَ مُنِعَ، وإنما اقْتَصَر على يوم أو يومين؛ لأنه الغالب ممن يقصد ذلك، وقالوا: أَمَدُ المنع من أوَّل السادس عشر مِن شعبان؛ لحديث: «إذا انتصف شعبان فلا تصوموا» رواه أبو داود وغيره.
وظاهره: أنَّه يحرم الصوم إذا انْتَصَفَ، وإنْ وَصَلَهُ بما قبله، وليس مرادًا؛ حِفْظًا لأصل مَطْلُوبِيَّةِ الصوم. إرشاد الساري (3/ 360).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
إنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ بالصوم، وقيَّدَهُ بالرؤية، فهو كالعِلَّةِ للحُكْم، فمَن تقدَّمه بصوم بيوم أو يومين فقد حاول الطعن في العلة، وَتَقَدَّمَ بين يدَي الله ورسوله في الحُكْم، وإليه الإشارة بقوله: «مَن صام اليوم الذي يُشَكُّ فيه فقد عصى أبا القاسم»، ومَن أتى بالقضاء والنَّذْرِ والْوِرْدِ أَمِنَ من ذلك، وقد نهى الله تعالى عن التَّقَدُّم على ما يَحْكُمُهُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قوله تعالى: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الحجرات: 1. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1581).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
قوله: «بصومِ يومٍ أو يومين» أي: بنية الرمضانية احتياطًا؛ ولكراهة التقدُّم معان:
أحدها: خوفًا من أنْ يُزاد في رمضان ما ليس منه، كما نُهي عن صيام يوم العيد لذلك؛ حذرًا مما وقع فيه أهل الكتاب في صيامهم، فزادوا فيه بآرائهم وأهوائهم، وخرَّج الطبراني عن عائشة: أنَّ ناسًا كانوا يتقدَّمون الشهر، فيصومون قبل النبي -صلَّى اللَّه عليه وسلَّم-، فأنزل الله تعالى: {يَا أيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الحجرات: 1؛ ولهذا نُهي عن صوم يوم الشك.
والمعنى الثاني: الفصل بين صيام الفرض والنفل، فإنَّ جنس الفصل بين الفرائض والنوافل مشروع؛ ولذا حرم صيام يوم العيد، ونهى رسول الله -صلَّى اللَّه عليه وسلَّم- أنْ تُوصَلَ صلاةٌ مفروضة بصلاة، حتى يفصل بينهما بسلام أو كلام، خصوصًا سُنَّة الفجر، وفي المسند أنه -صلَّى اللَّه عليه وسلَّم- فَعَلَهُ، وهذا فيه نظر؛ لأنه يجوز لمن له عادة.
والمعنى الثالث: أنه للتقوِّي على صيام رمضان؛ فإنَّ مُواصَلَة الصيام تُضْعِف عن صيام الفرض، فإذا حصل الفطر قبله بيوم أو يومين كان أقرب إلى التقوِّي على صيام رمضان، وفيه نظر؛ لأن معنى الحديث أنَّه لو تقدَّمه بصيام ثلاثة أيام فصاعدًا جاز.
المعنى الرابع: أنَّ الحُكْم عُلِّق بالرؤية، فمن تقدَّمه بيوم أو يومين فقد حاول الطعن في ذلك الحُكْم. إرشاد الساري (3/ 360).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
وفي هذا التعليل (أَمْرُهُ بذلك للتقوِّي على صيام رمضان) نظر؛ فإنه لا يُكْرَهُ التقدُّم بأكثر من ذلك، ولا لمن صام الشهر كله، وهو أبلغ في معنى الضَّعف، لكن الفطر بنية التقوِّي لصيام رمضان حَسَنٌ لِمَنْ أضْعَفَهُ مُوَاصَلَةُ الصيام، كما كان عبد الله بن عمرو بن العاص يَسْرُدُ الفطر أحيانًا، ثم يَسْرُدُ الصوم؛ ليَتَقَوَّى بِفِطْرِهِ على صومه، ومنه قول بعض الصحابة: «إني أَحْتَسِبُ نَوْمَتِي، كما أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي».
وفي الحديث المرفوع: «الطَّاعِمُ الشاكر، كالصائم الصابر» خرَّجه الترمذي وغيره.
ولربما ظنَّ بعض الجهال أنَّ الفطر قبل رمضان يُراد به اغتنام الأكل؛ لتأخذ النفوس حَظَّها من الشهوات قبل أنْ تُمنع من ذلك بالصيام؛ ولهذا يقولون: هي أيام توديع للأكل، وتُسمَّى تَنْحِيْسًا؛ واشتقاقه من الأيام النَّحِسَات، ومن قال: هو تَنْهِيْسٌ بالهاء فهو خطأ منه، ذكَرَه ابن دَرَسْتَوِيْه النحوي، وذكر أنَّ أصل ذلك مُتَلَقًى من النصارى، فإنهم يفعلونه عند قُرب صيامهم، وهذا كله خطأ، وجَهْلٌ ممن ظَنَّهُ، وربما لم يقتصر كثير منهم على اغتنام الشهوات المباحة، بل يتعدَّى إلى المحرمات، وهذا هو الخسران المبين. لطائف المعارف (ص: 145- 146).
وقال الترمذي -رحمه الله-:
والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم: كَرِهُوا أنْ يَتَعَجَّل الرجل بصيامٍ قبل دخول شهر رمضان لمعنى رمضان، وإنْ كان رَجُلٌ يصوم صومًا فوافق صيامه ذلك فلا بأس به عندهم. سنن الترمذي (3/ 60).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله (أي: الترمذي): "لمعنى رمضان" تقييد للنهي بأنه مشروط بكون الصوم احتياطًا، لا لو كان الصوم صومًا مطلقًا، كالنَّفْلِ المطلق والنذر، ونحوه.
قلتُ: ولا يخفى أنه بعد هذا التقييد يلزم منه جواز تَقَدُّم رمضان بأيِّ صوم كان، وهو خلاف ظاهر النهي، فإنه عام لم يَسْتَثْنِ منه إلا صوم مَن اعتاد صوم أيام معلومة، ووافق ذلك آخر يوم من شعبان، ولو أراد -صلى الله عليه وسلم- الصوم المقيد بما ذُكِر لقال: إلا مُتَنَفِّلًا، أو نحو هذا اللفظ.
وإنما نُهي عن تقدُّم رمضان؛ لأن الشارع قد علَّق الدخول في صوم رمضان برؤية هلاله، فالمتقدِّم عليه مُخالِفٌ للنَّص أمرًا ونهيًا.
وفيه: إبطال لما يفعله الباطِنِيَّة مِن تَقَدُّم الصوم بيوم أو يومين قبل رؤية هلال رمضان، وزعمهم أنَّ اللام في قوله: «صوموا لرؤيته» في معنى مُسْتَقْبِلِين لها؛ وذلك لأن الحديث يُفيد أنَّ اللام لا يصح حملها على هذا المعنى، وإنْ وردت له في مواضع.
وذهب بعض العلماء إلى أنَّ النهي عن الصوم مِن بَعْدِ النصف الأول من يوم سادس عشر من شعبان؛ لحديث أبي هريرة مرفوعًا: «إذا انتصف شعبان فلا تصوموا» أخرجه أصحاب السُّنن وغيرهم، وقيل: إنه يُكْرَهُ بعد الانتصاف، ويحْرُم قبل رمضان بيوم أو يومين، وقال آخرون: يجوز مِن بعد انتصافه، ويحرم قَبْلَه بيوم أو يومين، أما جواز الأول فلأنه الأصل، وحديث أبي هريرة ضعيف، قال أحمد وابن مَعِين: إنه منكر، وأما تحريم الثاني فلِحَديث الكتاب، وهو قولٌ حَسَنٌ. سبل السلام (1/ 556-557).
وقال المازري -رحمه الله-:
مَحْمَلُهُ (أي: الحديث) على مَن صام تعظيمًا للشهر، واستقبالًا له بذلك، وأما إنْ صِيمَ يَومُ الشك على جهة التطوع، ففيه اختلاف؛ وذلك لمن لم تكن عادته صوم ذلك اليوم أو نَذَرَهُ.
وأمَّا صومه على جهة الاحتياط خوفًا أنْ يكون من رمضان فالمشهور عندنا النهي عنه، وأوْجَبَه بعض العلماء في الغَيْم. المعلم بفوائد مسلم (2/ 47).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
اختُلف في صومه (أي: يوم الشك) تطوعًا، فمَنَعَهُ بعضهم؛ لظاهر عموم النهي، وأجَازَه مالك والأوزاعي والليث، وأجازه محمد بن مسلمة لمن كان يَسْرُدُ لا عن ابتداءٍ، وقد ذكر مسلم الحديث في جواز ذلك، وهو قوله: «لا تقدَّموا رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا رجلٌ كان يصوم صومًا فليصمه»، فحَمَلَهُ محمد بن مسلمة على ظاهره، وحَمَلَهُ الجمهور على أنَّ النهي لتَحَرِّيْهِ من رمضان، لا لغيره؛ لما وقع في الرواية الأخرى: «لا تَحَرُّوا». إكمال المعلم (4/ 13).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
فصيام آخر شعبان له ثلاثة أحوال:
أحدها: أنْ يصوم بنيَّة الرمضانية؛ احتياطًا لرمضان، فهذا منهي عنه، وقد فعله بعض الصحابة، وكأنهم لم يبلغهم النهي عنه، وفرَّق ابن عمر بين يوم الغَيْمِ والصَّحْوِ في يوم الثلاثين من شعبان، وتَبِعَه الإمام أحمد.
والثاني: أنْ يُصام بنيَّة الندب، أو قضاء عن رمضان، أو عن كفارة ونحو ذلك، فجَوَّزَه الجمهور، ونهى عنه مَن أمر بالفَصْلِ بين شعبان ورمضان بفِطْرِ يوم مطلقًا، وهم طائفة من السلف، وحُكي كراهَتُه أيضًا عن أبي حنيفة والشافعي، وفيه نظر.
والثالث: أنْ يُصام بنيَّة التطوع المطلق، فكَرِهَهُ مَن أمَرَ بالفصل بين شعبان ورمضان بالفطر، منهم الحسن، وإنْ وافق صومًا كان يصومه، ورخَّص فيه مالك، ومَن وافقه، وفرَّق الشافعي والأوزاعي وأحمد وغيرهم بين أنْ يُوافِق عادة أو لا، وكذلك يُفرَّق بين صيامه بأكثر من يومين ووَصْلِهِ برمضان، فلا يُكْرَهُ أيضًا إلا عند مَن كَرِهَ الابتداء بالتطوع بالصيام بعد نصف شعبان، فإنه يُنهى عنه إلا أنْ يبتدئ الصيام قبل النصف، ثم يَصِله برمضان.
وفي الجملة فحديث أبي هريرة هو المعمول به في هذا الباب عند كثير من العلماء، وأنه يُكْرَهُ التقدُّم قبل رمضان بالتطوع بالصيام بيوم أو يومين، لمن ليس له به عادة، ولا سَبَقَ منه صيام قبل ذلك في شعبان متصلًا بآخره. لطائف المعارف (ص: 143-144).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وإذا كان هذا في أوَّلِهِ، فينبغي أنْ تُحْمَى الذريعة أيضًا من آخره، فإنَّ توهُّم الزيادة فيه أيضًا مُتوقَّعٌ، فأما صومها (أي: الست من شوال) مُتباعِدة عن يوم الفِطر، بحيث يُؤمَن ذلك المتوقَّع، فلا يَكرهه مالك ولا غيره.
وقد روى مُطَرِّفٌ عن مالك: أنه كان يصومها في خاصة نفسه، قال مُطَرِّف: وإنما كَرِهَ صيامها؛ لئلا يُلْحِقَ أهل الجهالة ذلك برمضان، فأما مَن رَغِبَ في ذلك لِمَا جاء فيه فلم يَنْهَهُ.
وقال بعض علمائنا: لو صام هذه الستة في غير شوال لكانت إذا ضُمَّت إلى صوم رمضان صيام الدَّهر؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، كما ذكره في الحديث، وإنما خصَّ شوال بالذكر لسهولة الصوم فيه؛ إذ كانوا قد تعودوه في رمضان. المفهم (3/ 238).

قوله: «إلا رجلٌ كان يصومُ صومًا، فلْيَصُمْهُ»:
قال السندي -رحمه الله-:
«إلا رجلٌ» بالرفع على أنَّه بدل من فاعل «لا تقدَّموا»؛ لكون الكلام تامًّا غير موجب، وفي مثله البدل هو الأولى. حاشية السندي على سنن ابن ماجه (1/ 506).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «إلا رجلٌ» بالرفع على الإبدال من المستثنى منه؛ وهو واو الجمع المذكَّر في «تقدَّموا»؛ لأن الاستثناء من كلام تامٍّ غير موجب؛ لتَقَدُّم النهي، فيجوز في المستثنى وجهان: الرفع على الإبدال من المستثنى منه، والنصب على الاستثناء؛ كما هو مُقرَّر في مَحَلِّهِ، وهو كتب النحو.
وجملة قوله: «كان» ذلك الرجل «يصوم صومًا» اعتاده نذرًا مُعَينًا أو نَفْلًا مطلقًا؛ كأنْ اعتاد صوم يوم الاثنين أو الخميس نذرًا أو نفلًا، فوافق صومُه ما قبل رمضان بيوم أو يومين. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (10/ 45).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«كان يصوم صومًا» أي: نذرًا مُعينًا، أو نفلًا مُعتادًا، أو صومًا مطلقًا غير مقيد برمضان «فليصم ذلك اليوم» أي: ذلك الوقت، فإنه يجوز له ذلك. مرقاة المفاتيح (4/ 1375).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«كان يصوم صومًا فليصمه» كأنْ تكون عادته صيام الاثنين، فاتفق أنَّه كان قبل رمضان بيومٍ أو يومين، فلا بأس بصيامه. التحبير لإيضاح معاني التيسير (6/ 277).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
معناه: أنْ يكون قد اعتاد صوم الاثنين والخميس، فيوافق صوم اليوم المعتاد فيَصُومه، ولا يتعمَّد صومه إنْ لم تكن له عادة. معالم السنن (2/ 99).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث: إشارة إلى النهي عما فعله النصارى في صومهم؛ فإنهم زادوا فيه.
وفيه: إفراد الفرض عن غيره؛ لئلا يُشَبِّه التطوع بالفرض.
وفيه: الوقوف على حدود الشرع؛ لئلا يقع العمل بالرأي.
وفيه: ردٌّ على المتنطعين بسوء تدبيرهم إلى الزيادة على الفرائض. الإفصاح عن معاني الصحاح (6/ 214).


ابلاغ عن خطا