الخميس 27 رمضان 1446 هـ | 27-03-2025 م

A a

«إذا كان أوَّلُ ليلةٍ مِن شهرِ رمضانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ، ومَرَدَةُ الجِنِّ، وغُلِّقَتْ أبوابُ النَّارِ، فلم يُفْتَحْ منها بابٌ، وفُتِّحَتْ أبوابُ الجَنَّةِ، فلم يُغْلَقْ منها بابٌ، ويُنَادِي مُنَادٍ: يا باغِيَ الخيرِ أَقْبِلْ، ويا باغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وللَّهِ عُتَقَاءُ مِن النَّارِ، وذلكَ كُلُّ ليلةٍ».


رواه الترمذي برقم: (682) واللفظ له، وابن ماجه برقم: (1642)، وابن حبان برقم: (3435)، والحاكم في المستدرك برقم: (1532)، وابن خزيمة برقم: (1883)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
صحيح الترغيب والترهيب برقم: (998)، مشكاة المصابيح برقم: (1960).


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«رمضانُ»:
رَمَضَانُ: سُمي لشِدَّة الرَّمْضِ، وهو الحَرُّ؛ وقيل: لأنه تَرْمُضُ فيه الذنوب؛ وقيل: لأنه مِنْ رَمَضَت الفِصَالُ صغار الإبل مِن الحَرِّ. الإبانة في اللغة العربية (4/ 752).

«صُفِّدَت»:
أي: شُدَّتْ ورُبِطَتْ بالأصفاد، وهي القيود. قوت المغتذي على جامع الترمذي (1/ 254).

«مَرَدَةُ»:
جمع: مَارِدٍ، وهو كلُّ شرِّيرٍ، كثيرِ الفسادِ، مجاوزٍ عن الحدِّ. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 11).

«يا باغِيَ»:
أي: يا طالبَ الثوابِ، تعالَ واطلُبِ الثوابَ بالعبادة. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 11).

«أَقْصِرْ»:
أي: امْتَنِعْ عما أنت فيه من الذنب. شرح المصابيح، لابن الملك (3/ 148).
قال الفتني -رحمه الله-:
الإقصار هو الكفُّ عن الشيء مع القدرة عليه، فإنْ عجَزَ عنه يقول: قصرتُ عنه، بلا ألف. مجمع بحار الأنوار (4/ 281).

«عُتَقَاءُ»:
جمع عتيق، والمراد من النار. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 328).


شرح الحديث


قوله: «إذا كانَ أوَّلُ ليلةٍ مِن شهرِ رمضانَ»:
قال عبيد الله المباكفوري -رحمه الله-:
قوله: «إذا كان» أي: وُجِدَ وتحقَّق، على أنَّ الكون تام، وإذا كان الزمان أول ليلة على أنَّ الكون ناقص. مرعاة المفاتيح (6/ 412-413).

قوله: «صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ، ومَرَدَةُ الجِنِّ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«صُفِّدت» بالتشديد ويُخفَّف، أي: قُيِّدت «الشياطين، ومَرَدَةُ الجن» جمع مَارِدٍ، كطَلَبَةٍ وجَهَلَةٍ، وهو المتجرِّد للشرِّ، ومنه الأمْرَدُ لتجرُّده من الشَّعْر، وهو تخصيص بعد تعميم، أو عطفُ تفسير وبيان، كالتَّتْمِيم. مرقاة المفاتيح (4/ 1364).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«ومَرَدَةُ الجن» جمع مارِدٍ، وهو الشرير؛ أي: شُدُّوا بالأغلال؛ كيلا يُوَسْوِسُوا في الصائمين، ويحملوهم على المعاصي. شرح المصابيح (2/ 507).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «صُفِّدت الشياطينُ، ومَرَدَةُ الجِن» صُفِّدَت: أي: شُدُّوا بالأغلال؛ كيلا يوسوسوا في الصائمين، ويحملوهم على المعاصي، كما قال -عليه السلام- في هذا الحديث في موضع آخر: «كيلا يُفْسِدُوا على الصائمين صيامَهم».
والمَرَدَة: جمع: مارِدٍ، وهو كلُّ شرِّيرٍ كثيرِ الفسادِ، مجاوزٍ عن الحدِّ. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 11).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
«وصُفِّدَت الشياطين»: غُلَّتْ وقُيِّدت، والصَّفد: الغُلُّ؛ وذلك لئلا تُفْسِدَ الشياطين على الصائمين.
فإنْ قيل: فنرى الشرور والمعاصي تقعُ في رمضان كثيرًا؛ فلو كانت الشياطين مُصفَّدة لما وقع شرٌّ؟ فالجواب من أوجهٍ:
أحدها: إنما تُغَلُّ عن الصائمين الصوم الذي حُوفِظَ على شروطه، ورُوْعِيَتْ آدابُه، أما ما لم يُحافظ عليه، فلا يُغَلُّ عن فاعله الشيطانُ.
والثاني: أنَّا لو سلَّمنا أنها صُفِّدت عن كل صائم، لكن لا يلزم من تصفيد جميع الشياطين، ألا يقع شرٌّ؛ لأنَّ لوقوع الشرِّ أسبابًا أُخَر غير الشياطين، وهي: النفوس الخبيثة، والعادات الرَّكيكة، والشياطين الإنسية.
والثالث: أنْ يكون هذا الإخبار عن غالب الشياطين، والْمَرَدَة منهم جمع مارد وهو العاتي الشديد، وأما مَن ليس من الْمَرَدَةِ فقد لا يُصفَّد.
والمقصود: تقليل الشرور، وهذا موجود في شهر رمضان؛ لأن وقوع الشرور والفواحش فيه قليل بالنسبة إلى غيره من الشهور... وتصفيد الشياطين: عبارة عن كَسْرِ شهوات النفوس التي بسببها تتوصل الشياطين إلى الإغواء والإضلال، ويشهد لهذا قوله: «الصوم جُنَّة»، وقوله: «إنَّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فضيِّقُوا مجاريه بالجوع والعطش». المفهم (3/ 136-137).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
أمَّا قولُه: «صُفِّدَتْ الشَّياطين» فمن النَّاس من قال: إنَّه حُمِلَ المُطْلَق على المقيَّد وليس كذلك، وإنَّما هو من باب الخَاصِّ والعامِّ؛ وذلك قولُه: «صُفِّدَتِ الشّيَاطِينُ» عامٌّ في المَرَدَةِ وغيرهم، وقوله: «صفِّدَتِ المَرَدَةُ مِن الشَّيَاطِينِ» خاصٌّ في المَرَدَةِ لا غير.
والأصلُ في هذا الباب -أعني من الخاص والعام- أنَّ الخاصَّ والعامَّ إذا وَرَدا لا يخلو أنَّ يكونا مُتَّفِقَيْنِ أو مخْتَلِفَيْن، فإنْ كانا مُتَّفِقَيْن كان الخاصُّ على خصوصه، والعامُّ على عمومه، ويكونُ في الخاصِّ زيادة فائدة...
وقوله: «صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ» عامٌّ في المَرَدَةِ وغيرهم، وقوله: «مَرَدَة» خاصٌّ في المَرَدَةِ، وهما مُتَّفِقَانِ، فلا بُدَّ من زيادة فائدة في قوله: «مَرَدَة»؛ لأنا إنْ قلنا: إنَّ العموم يدخل تحت المَرَدَة وغيرهم، فما فائدة تَكْرَارِهِم في الاختصاص؟
قلنا: الفائدة تأكيد التَّصْفِيدِ لها، أو زيادة اختصاص. المسالك في شرح موطأ مالك (4/ 244-245).
وقال الحليمي -رحمه الله-:
وأما تصفيد الشياطين فقد يجوز أنْ يكون أراد بذلك أيامه (أي: رمضان) خاصَّة، ويكون وجْهُهُ: أنَّ القرآن كان ينزل إلى السماء الدنيا في كل ليلة قدر ما يكفي لتلك السَّنة إلى مثلها من العام القابل، فكانت الشياطين تُصفَّد في رأس الشهر؛ لئلا يتمكنوا من الترقي في أسباب السماء لاستراق السمع، مبالغة في حراسة القرآن...، وعلى هذا كان تصفيد الشياطين في شهر رمضان مقصورًا على زمان النبي -صلى الله عليه وسلم- خاصَّة...
ويُحتمل: أنْ تكون أيامه ولياليه، ومعناه: أنَّ الشياطين لا يَخْلُصُون فيه من إفساد الناس إلى ما يَخْلُصُون إليه في غيره؛ لاشتغال المسلمين بالصيام الذي فيه قمع الشهوات، وبقراءة القرآن، وسائر العبادات. المنهاج في شعب الإيمان (2/378- 379).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
فإنْ قال قائل: فما أمارة ذلك، ونحن نرى الفاسق في رمضان قلَّما يَرْعَوِي عن فِسْقِه، وإنْ تَرَكَ بابًا منه أتى بابًا آخر، حتى إنَّ مِن هذه الزُّمْرة من يتولَّى قتْلَ النفس، وقطْعَ الطريق، وغير ذلك من المناكير والعظائم؟
قلنا: أمارة ذلك: تنزُّه أكثر المنهمكين في الطغيان عن المعاصي، ورجوعُهم إلى الله بالتوبة، وإِكْبَابُهُم على إقام الصلاة بعد التهاون بها، وإقبالُهم على تلاوة كتاب الله، واستماع الذكر بعد الإعراض عنهما، وتركُهم ارتكاب المحظورات بعد حرصهم عليها، وأما ما يُوجد من خلاف ذلك في بعضهم، ويُؤْنَسُ عنهم من الأباطيل والأضاليل، فإنها تأثيرات مِن تَسْوِيلات الشياطين، أَعْرَقَتْ في عِرْقِ تلك النفوس الشريرة، وباضت في رؤوسها، وقد أشار بعض العلماء فيه إلى قريب من المعنى الذي ذكرنا...
فإن قيل: وإذا قُدِّر الأمر على نحو ما ادعيتم، فأي فائدة في تصفيد من صُفِّد إذا كان أصل الشرِّ مستمرًّا على حاله؟
قلنا: الفائدة فيه: فَضُّ جُمُوحِهِ، وكَسْرُ شوكته، وتَسْكِينُ نَائِرَتِهِ، ولو لم يكن الأمر على ذلك لم يكن لاستظهاره بالأعوان والجنود معنى. الميسر في شرح مصابيح السنة (2/ 456-457).
وقال محمد الطاهر بن عاشور -رحمه الله-:
وتصفيد الشياطين تمثيل لتعطيل كثير من حِيَلِ الشيطان وحَبَائِلِهِ؛ لأن المصفَّد تَقِلُّ حركاته وتصرُّفاته، فليس في الحديث دلالة على تمحُّضِ الناس في أيام الصيام للطاعات، وعِصْمَتِهم من المعاصي، ومَن حَمَلَهُ على ذلك لم يجد التأمُّل فيما يَؤُولُ إليه كلامُه مِن مُخالفة الحديث لما هو مُشاهد.
وقوله: «فُتِّحَتْ، وغُلِّقت، وصُفِّدَت» ثلاثتها بالتشديد؛ للدلالة على قوَّة الفعل في ثلاثتها، قال تعالى: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} الأعراف: 40، وقال: {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} يوسف: 23. كشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطأ (ص: 176).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
المَرَدَة: يعني الذين هم أشد الشياطين عداوةً وعدوانًا على بني آدم، والتَّصْفيد معناه: الغَلُّ، يعني: تُغَلُّ أيديهم حتى لا يَخْلُصُوا إلى ما كانوا يَخْلُصُون إليه في غيره، وكل هذا الذي أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- حقٌّ، أخبر به نُصْحًا للأُمَّة، وتحفيزًا لها على الخير، وتحذيرًا لها من الشرِّ. شرح رياض الصالحين (5/ 274).

قوله: «وغُلِّقَتْ أبوابُ النَّارِ، فلم يُفْتَحْ منها بابٌ»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «وغُلِّقَت أبواب النار» كأنَّه لا يدخلها أحد ممن كُتب عليه العذاب، وقيل: إنَّه عبارة عن صرف الهمم عن المعاصي الآيِلَةِ بأصحابها إلى النار. التحبير لإيضاح معاني التيسير (6/ 187).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
وغُلِّقت أبواب جهنم حقيقة، أو كناية عن تنزُّه أنْفُسِ الصُّوَّام عن رجس الفواحش، والتخلُّص من البواعث على المعاصي بقمع الشهوات. إرشاد الساري (5/ 294).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
حَمْلُ الحديث على ظاهره من أنَّ فَتْحَ أبواب الجنة، وغَلْقَ أبواب النار على حقيقتهما لا على المجاز هو الحقُّ، كما رجَّحه ابن المنيِّر، والقرطبي -رحمهما اللَّه تعالى-، فتنبَّه. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (20/ 255).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وغُلِّقتْ أبواب جهنم؛ لكثرة عفو الله عن العُصاة. التنوير شرح الجامع الصغير (2/ 41).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وغُلِّقت عنهم أبواب النَّار؛ فلا يدخلها منهم أحدٌ مات فيه أي: رمضان. المفهم (3/ 136).
وقال السندي -رحمه الله-:
وغَلْقُ أبواب النار لا ينافي موت الكفرة في رمضان، وتعذيبهم بالنار فيه؛ إذ يكفي في تعذيبهم فتح بابٍ صغير من القبر إلى النار غير الأبواب المعهودة الكبار. حاشية السندي على سنن النسائي (4/ 126).

قوله: «وفُتِّحَتْ أبوابُ الجَنَّةِ، فلم يُغْلَقْ منها بابٌ»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «وفُتِّحت أبواب الجنة» وهي ثمانية، وكأنَّ تفتيحها استبشار بفضل رمضان، وإعلام بأن الصائمين يُدْخَلون الجنة، وبأنَّه علامة للملائكة بدخول الشهر العظيم، وتعظيم حُرْمَته. التحبير لإيضاح معاني التيسير (6/ 187).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وفتِّحَت أبواب الجنة، فلم يُغْلَق منها باب» ولعلها أبواب مخصوصة منهما، أو أبوابهما في غير رمضان، قد تُفتح وتُغلق، بخلافها في هذا الزمن المبارك؛ تعظيمًا لشأنه.
وفيه: إشارة إلى أنَّ الأزمنة الشريفة والأمكنة اللطيفة لها تأثير في كثرة الطاعة، وقلة المعصية، ويشهد به الحسُّ والمشاهدة، فلتغتنم الفرصة. مرقاة المفاتيح (4/ 1364).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وقيل: إنَّ فتح أبواب الجنة... علامة على دخول هذا الشهر العظيم للملائكة وأهل الجنة؛ حتى يستشعروا عظَمَة هذا الشهر وجلالته.
ويُحتمل: أنْ يُقال: إنَّ هذه الأبواب المفتَّحة في هذا الشهر هي: ما شَرَعَ اللهُ فيه من العبادات والأذكار والصَّلوات والتلاوة؛ إذ هي كلُّها تُؤدِّي إلى فتح أبواب الجنة للعاملين فيه. المفهم (3/ 137).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
وإنَّما تُفْتَح أبوابُ الجنَّة في رمضان لِيَعْظُم الرَّجاء، ويكثُر العمل، وتتعلَّق بها الهِمَم، ويتشوَّف إليها الصَّابر الصَّائم. المسالك في شرح موطأ مالك (4/ 246).
وقال ابن العربي -رحمه الله- أيضًا:
فُتحت أبوابها -يعني الجنة- «وغُلقت أبواب النار» يحتمل الحقيقة؛ بأن يُفعل ذلك فيهما، ويحتمل المجاز؛ بأن يكون ذلك عبارة عن تيسير سُبُلِ الطاعة التي هي أبواب إلى الجنة، وتعسير سُبُلِ المعاصي التي هي أبواب النار.
ويجوز أنْ تجتمع الحقيقة والمجاز في هذه الأوجه كلها، فتكون مرادة بالحديث، موجودة فيه، لكن لم يرد من الشرع تعيين في ذلك كله. القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (ص: 281).
وقال ابن عاشور -رحمه الله-:
جاء هذا الحديث من هذا الطريق -طريق ابن شهاب- تامًّا أغْرَب اللفظ؛ إذ وقَع فيه: «فُتِحت أبواب السماء»، ووقَع من طريق إسماعيل «فُتِحت أبواب الجنة»، ووقَع في رواية مسلم «فُتِحت أبواب الرحمة»، ولا أحسب لفظ النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا «أبواب السماء»؛ لأنه أشْمَلُ وأَوْجَزُ؛ ولأنه يُحاكي به قوله تعالى: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} الأعراف: 40، والسماء في التعاليم الدينية هي مقر الخيرات الروحانية، والفيوضات الربانية، والتزكيات النفسانية، فمعنى فَتْح أبوابها: تهيئتها لاكتساب المؤمنين من خيراتها على حسب أعمالهم ومراتبهم، ورضا الله تعالى عنهم، بقبول أعمالهم ودعائهم، ومكاشفة أرواحهم، فالأبواب استعارة لوسائل الوصول إلى الخير، والسماء حقيقة عُرفيَّة في مقر الخيرات، وخزائن الرحمات؛ ولذلك كثُر إثبات الارتفاع والصعود للفضائل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} فاطر: 10، {إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} المطففين: 18، وليس المراد بالسماء الجنة، فقد دلَّ على عدم قصْدِها عَطْفُ الجنة عليها في قوله تعالى: {تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} الأعراف: 40، وما وقع من الروايتين الأخيرتين من أبواب الجنة، وأبواب الرحمة، فهو من الرواية بالمعنى. النظر الفسيح عند مضائق الأنظار في الجامع الصحيح (ص: 54).

قوله: «ويُنَادِي مُنَادٍ: يا باغِيَ الخيرِ أَقْبِلْ»:
قال عبيد الله المبارك فوري -رحمه الله-:
قال الطيبي: الإشارة إمَّا للنداء لِبُعده أو للعتق وهو القَريب. وقال السيوطي: قلت الثاني أرجح بدليل الحديث. وأما ونادى (هكذا وقع بلفظ الماضي عند ابن ماجه والحاكم والبيهقي في هذا الحديث)، فإنه معطوف على «صفدت» الذي هو جواب «إذا كان أول ليلة» - انتهى. يُريد أنَّ النداء يكون ليلة واحدة لا في كُلِّ ليلة. وحديث الرَّجل عند أحمد والنسائي فيه تصريح بوقوع النداء في كُلِّ ليلة.مرعاة المفاتيح، شرح مشكاة المصابيح(6/٤١٤).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
قوله: «ويُنَادِي مُنَادٍ» هذا المُنَادي غير مسموع للآدميِّينَ، ولكنَّهم أُخْبِرُوا بذلك؛ ليَعْلَمُوا أنَّهم غير مَغْفُولٍ عنهم، ولا مَهْمُولينَ، فإنَّ البارئ -سبحانه- لا تجوز عليه الغَفْلَة، ولا الإهمال بحالٍ، ولا بِوَجْهٍ، وقد وَهِمَ في ذلك المتكلمون من علمائنا في بعض الإطلاقات على الله؛ وذلك قبيحٌ لا ينبغي، فلا تلتفتوا إليه. المسالك في شرح موطأ مالك (4/ 248-249).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «يا باغي الخير» أي: يا طالِب الثواب «أَقْبِلْ»، هذا أَوَانُكَ، فإنك تُعطى ثوابًا كثيرًا، بعملٍ قليل؛ وذلك لشرف الشهر. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1576).
وقال المظهري -رحمه الله-:
الباغي: الطالب، «يا باغيَ الخيرِ أَقبلْ» يعني: يا طالبَ الثوابِ تعالَ واطلُبِ الثوابَ بالعبادة؛ فإنك تُعطَى ثوابًا كثيرًا بعملٍ قليلٍ؛ وذلك لشرفِ الشهر، فإنَّ الوقتَ إذا كان شريفًا يكون ثوابُ الطاعة فيه كثيرًا، وعذابُ المعصية أيضًا فيه كثيرًا. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 11).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
قوله: «يا باغيَ الخير» أي: يا طالبَ الثواب، «أَقْبِلْ» أي: ارْجِعْ وتعال واطْلُب الثواب بالعبادة؛ فإنك تُعطى ثوابًا كثيرًا، بعملٍ قليل؛ وذلك لشرف الوقت. شرح المصابيح (2/ 507).
قال السيوطي -رحمه الله-:
«ويُنادي منادٍ» قيل: يُحتمل: أنَّه مَلَك، أو المراد: أنَّه يُلقى ذلك في قلوب مَن يريد اللهُ إقْبَالَهُ على الخير، «يا بَاغي الخير» أي: طَالِبَهُ «أَقْبِلْ» أي: فهذا وقتُ تَيَسُّرِ العبادة، وحَبْسِ الشياطين، وَكَثْرَةِ الإعتاق من النَّار فاغْتَنِمْهُ. قوت المغتذي على جامع الترمذي (1/ 254).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «ويُنادي منادٍ» أي: بلسان الحال، أو ببيان المقال، مِن عند الْمَلِكِ المتعال: «يا باغي الخير» أي: طالِب العمل والثواب، «أَقْبِلْ» أي: إلى الله وطاعته، بزيادة الاجتهاد في عبادته، وهو أمر من الإقبال، أي: تعال، فإنَّ هذا أَوَانُكَ، فإنك تُعطى الثواب الجزيل بالعمل القليل، أو معناه: يا طالِبَ الخير المعْرِضَ عنا، وعن طاعتنا، أقْبِلْ إلينا، وعلى عبادتنا، فإنَّ الخير كله تحت قُدْرتنا وإرادتنا. مرقاة المفاتيح (4/ 1364).

قوله: «ويا باغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ»:
قال ابن العربي -رحمه الله-:
قال أهل العربية: أصلُ البَغْي فيه (أي: الشَّر) وأقلُّه ما جاء في طلب الخَيْرِ، وأَظُنُّهُم قالوا ذلك؛ لأنَّ الله لما أضاف إليه الشَّر ذكره مُطْلَقًا، فقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} البقرة: 173، وقد يضافُ إليه الشَّرَّ مُقَيَّدًا، كقوله: {يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} يونس: 23.
المسالك في شرح موطأ مالك (4/ 249-250).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «ويا باغيَ الشرِّ أَقصِرْ» الإقصار: التَّرْكُ؛ يعني: يا مَنْ يُسْرِعُ ويَسعَى في المعاصي تُبْ وارجِعْ إلى الله. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 12).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
«ويَا باغي الشَّر أَقْصِرْ» فهذا زمن قبول التوبة، والتوفيق للعمل الصَّالح. قوت المغتذي على جامع الترمذي (1/ 254).
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ويا باغِي الشر» أي: يا مُريد المعصية «أَقْصِرْ» بفتح الهمزة، وكسر الصاد، أي: أَمْسِكْ عن المعاصي، وارْجِع إلى الله تعالى، فهذا أوان قبول التوبة، وزمان الاستعداد للمغفرة.
ولعل طاعة المطيعين، وتوبة المذنبين، ورجوع المقصِّرين في رمضان من أثر النداءين، ونتيجة إقبال الله تعالى على الطالبين؛ ولهذا ترى أكثر المسلمين صائمين حتى الصغار والجواري، بل غالبهم الذين يتركون الصلاة يكونون حينئذٍ مُصلين مع أنَّ الصوم أصعب من الصلاة، وهو يُوجِب ضعف البدن الذي يقتضي الكسل عن العبادة، وكثرة النوم عادة، ومع ذلك ترى المساجد معمورة، وبإحياء الليالي مغمورة، والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله. مرقاة المفاتيح (4/ 1364).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
ويا مَن يَشْرَعُ ويسعى في المعاصي، تُبْ وارجع إلى الله تعالى، هذا أوان قبول التوبة...، والإقصار: الكَفُّ، يقال: أقصرتُ عنه، أي: كففتُ. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1576).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
قال العراقي (لم نعثر على قوله من كتبه): ظنَّ ابن العربي أنَّ قوله في الشقين: باغي؛ من البغي، فنقل عن أهل العربية أنَّ أصل البغي في الشر، وأقلُّه ما جاء في طلب الخير، ثم ذكر قوله تعالى: {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} البقرة: 173، وقوله: {يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} يونس: 23، والذي وقع في الآيتين هو بمعنى التعدي، وأما الذي في هذا الحديث فمعناه: الطلب، والمصدر منه بُغَا، وبُغاية، بضم الباء فيهما، قال الجوهري: بغيتُ الشيء طلَبْتُه.قوت المغتذي على جامع الترمذي (1/ 254-255).

قوله: «وللَّهِ عُتَقَاءُ مِن النَّارِ، وذلكَ كُلُّ ليلةٍ»:
قال ابن العربي -رحمه الله-:
«ولله عُتَقَاءُ من النَّار» اعْلَمُوا -وفقكم الله وَوَفَّقَ لكم المُعَلِّم- أنَّ لله -سبحانه- عتقاء من النَّار في كلِّ ليلةٍ ويَوْمٍ، وفي كلِّ ساعةٍ من كلِّ شهرٍ، ولِعِتْقِه أسبابٌ من الطَّاعات، فلِلَّهِ عُتقاء من النَّار بالتَّوحيدِ، وبالصَّلاة، وبالزَّكاة، وبالصِّيام، فعُتَقَاء رمضان بثواب الصِّيام وبركته، وفي الحديث الصَّحيح: «والصَّلاةُ نُورٌ، والصَّدَقَةُ برهانٌ، والصَّبْر ضيَاءٌ، والقرآنُ حُجَّةٌ لكَ أو عليك، كلُّ النَّاس يغدو، فَبَائِعٌ نفسَهُ فَمُعتِقُها، أو مُوبِقُها»، فهذا الحديث يُفَسِّر لك معنى قوله: «عُتقاء» والحمدُ لله.المسالك في شرح موطأ مالك (4/ 249).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
«ولله عُتقاء من النار» لعلك تكون من زمرتهم، والإشارة بقوله: «ذلك» إما إلى البعيد، وهو النداء، أو إلى القريب وهو «ولله عُتقاء». الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1576).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «ولله عُتَقاء من النار» أي: ويُعتق الله عبادًا كثيرًا من النار؛ لحُرمةِ هذا الشهر. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 12).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«ولله عُتقاء من النار» أي: يعتق اللهُ عبادًا كثيرًا من النار بحرمة هذا الشهر. شرح المصابيح (2/ 507).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«عُتقاء» مِن صُوَّام رمضان «من النار» أي: من دخول نار جهنم، «وذلك» يعني: العتق المفهوم من عُتقاء، «في كُلِّ ليلة» أي: من رمضان، كما صرَّح به في روايةٍ. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 328).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ولله عُتقاء» أي: كثيرون «من النار» فلعلك تكون منهم. مرقاة المفاتيح (4/ 1364).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«عُتقاء» أي: من النار، كانوا قد صاروا أَرِقَّاءْ لذنوبهم، فأعتقتهم الرَّحمة. التنوير شرح الجامع الصغير (4/ 35).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
قوله: «كلُّ ليلةٍ من رَمَضَانَ» تنبيهٌ على أنَّ الأُجْرَة يأخذها عند انتهاء عَمَلِهِ مُتَّصِلًا به، وفي الحديث الصَّحيح: «أعطُوا الأجِير أَجْرَهُ، قبل أنْ يجفَّ عَرَقُهُ»، وإذا كان تمام الشَّهر أخذَ ثوابًا مُجَرَّدًا، وأجرةً مُضاعفةً مُؤَكَّدَة، وقد بيَّنَهَا النَّبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله عن ربِّه: «مَن صام رمضان إيمانًا واحتِسَابًا، غُفِرَ لهُ ما تقدم مِنْ ذَنْبِهِ» حديثٌ صحيحٌ مَلِيحٌ. المسالك في شرح موطأ مالك (4/ 249).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «وذلك كُلَّ ليلةٍ» يعني: هذا النداء يكون كلَّ ليلةٍ من ليالي شهر رمضان. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 12).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
قوله: «وذلك كُلَّ ليلةٍ» قال العراقي: الظاهر: أنَّه أراد كل ليلة من ليالي شهر رمضان، ويُحتمل: أنْ يُراد في كُلِّ ليلة من السَّنة كُلها، ويتضاعف ذلك في رمضان. قوت المغتذي على جامع الترمذي (1/ 254-255).
وقال الفَتَّنِي -رحمه الله-:
«وذلك كُلَّ ليلة» بالنصب، أي: هذا النداء كُلَّ ليلة من شهر رمضان. مجمع بحار الأنوار (1/ 201).

وللاستفادة من الروايات الأخرى ينظر (هنا) و (هنا) (هنا)


ابلاغ عن خطا