«إنَّما الشَّهْرُ تِسْعٌ وعِشْرُونَ، فلا تَصُومُوا حتَّى تَرَوْهُ، ولا تُفْطِرُوا حتَّى تَرَوْهُ، فإنْ غُمَّ عليكم، فَاقْدِرُوا له».
رواه البخاري برقم: (1900)، ومسلم برقم: (1080) واللفظ له، من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«غُمَّ»:
بضم المعجمة، وتشديد الميم: أي: حَالَ بين الهلال وبينكم سَحَابٌ، أو نحوه. نيل الأوطار (4/ 225).
قال ابن الأثير -رحمه الله-:
يُقالُ: غُمَّ علينا الهلالُ إذا حالَ دُون رُؤيته غَيْم، أو نحوه، مِنْ غَمَمْتُ الشيءَ: إذا غَطَّيْتُهُ.النهاية لابن الأثير(3/ 388).
«فَاقْدِرُوا له»:
أي: قَدِّرُوا له عِدَدَ الشَّهْرِ حتَّى تُكَمِّلوه ثلاثينَ يومًا. النهاية، لابن الأثير (4/ 23).
شرح الحديث
قوله: «إنَّما الشهر تِسْعٌ وعشرونَ»:
قال الباجي -رحمه الله-:
قوله: «الشهر تسعٌ وعشرون» يُحتمل: أنَّ شهر رمضان قد يكون تسعًا وعشرين، فلا يُرِيبُكُم نقْصُهُ إنْ نَقَصَ، ولا تَشْرَعُوا في صومه حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروا الهلال، فإنْ غُمَّ عليكم في أوَّله، أو رأيتم الهلال، ثم رأيتم هلال الفطر لتسع وعشرين، فلا ترتابوا بذلك، فإن الشهر قد يكون تسعًا وعشرين.
ويُحتمل: أنْ يريد بقوله: «الشهر تسعٌ وعشرون» التنبيه على ترائي الهلال لتسع وعشرين من شعبان، وتسع وعشرين من رمضان، ثم قال: ومع ذلك فلا تصوموا لتسع وعشرين حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، فإنْ غُمَّ عليكم، فاقدروا له. المنتقى شرح الموطأ (2/ 38).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
«الشَّهرُ تسعٌ وعشرون» معناه: حصْرُه من جهة أحَد طَرَفَيْه وهو النُّقْصَان، أي: أنَّه قد يكون تسعًا وعشرين، وهو أقلُّه، وقد يكون أكثر، فلا تأخذوا أنتم بصوم الأكثر لأنفسكم احتياطًا، ولا تقتصروا على الأقل تخفيفًا، ولكن اربطوا عبادتكم برؤيته، واجعلوا عبادتكم مرتبطة ابتداءً وانتهاءً باسْتِهْلَالِهِ. المسالك في شرح موطأ مالك (4/ 157).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «إنَّما الشهرُ تسعٌ وعشرون» قيل: المراد بالشهر هنا الهلال، وبه سُمِّي الشهر لاشتهاره، أي: إنما فائدة ارتقاب الهلال لتسع وعشرين؛ ليُعْرَفَ نقص الشهر قَبْلَهُ، لا في إكماله؛ ولذلك جاء بـ«إنما»، وقال الشاعر: والشَّهرُ مثلُ قُلَامَة الظُّفْرِ. مشارق الأنوار على صحاح الآثار (2/259- 260).
وقال النووي -رحمه الله-:
«الشهر تسعٌ وعشرون» معناه: أنَّ الشهر قد يكون تسعًا وعشرين، وحاصله: أنَّ الاعتبار بالهلال، فقد يكون تامًّا ثلاثين، وقد يكون ناقصًا تسعًا وعشرين، وقد لا يُرى الهلال، فيجب إكمال العدد ثلاثين، قالوا: وقد يقع النقص متواليًا في شهرين وثلاثة وأربعة، ولا يقع في أكثر من أربعة. شرح النووي على مسلم (7/ 190-191).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «الشهر تسعٌ وعشرون» ظاهره حصر الشهر في تسعٍ وعشرين، مع أنَّه لا ينحصر فيه، بل قد يكون ثلاثين.
والجواب: أنَّ المعنى: أنَّ الشهر يكون تسعة وعشرين، أو اللام للعهد، والمراد: شهرٌ بِعَيْنِهِ، أو هو محمول على الأكثر الأغلب. فتح الباري (4/ 123).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«الشهر تسعٌ وعشرون» أي: جنس الشهر يكون تسعًا وعشرين تارة؛ وإنما أخبرهم لعدم علمهم بذلك، ألا ترى أنَّ عائشة في حديث الإيلاء قالت: يا رسول الله، آليتَ شهرًا، وهذا اليوم التاسع والعشرون؛ قال: «الشهر تسعٌ وعشرون»، يريد بذلك الشهر الذي آلى فيه، وأما هنا لا يصح حمله على ذلك الشهر الذي كان فيه؛ لقوله: «فلا تصوموا حتَّى تروه»، فإنَّ هذا التفريع إنما يصح إذا أُرِيد جنس الشهر.
فإن قلتَ: الشهر تسعٌ وعشرون في رواية ابن عمر ظاهرهُ الحصر؛ لا سيما رواية مسلم: «إنما الشهر تسعٌ وعشرون».
قلتُ: إشارة إلى أنَّه الأكثر؛ لما رَوَى أبو داود عن ابن مسعود: «أكثر ما صُمنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تسعًا وعشرين، أكثر مما صمنا ثلاثين يومًا». الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (4/ 263).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
«الشهر تسعٌ وعشرون» أراد به شهرًا مُعيَّنًا، أو أنَّ الشهر قد يكون كذلك، كما يكون ثلاثين، فلا تأخذوا أنفسكم بصوم ثلاثين احتياطًا، بل انظروا رؤية الهلال. التوشيح شرح الجامع الصحيح (4/ 1422).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«الشهر تسعٌ وعشرون» أي: الشهر قد يكون كذلك، أو أَقَلُّه ذلك، وقيل: أي: هذا محقَّق، وفيه حثٌّ على طلب الهلال ليلة الثلاثين. مرقاة المفاتيح (4/ 1373).
قال المناوي -رحمه الله-:
قوله: «الشهر» أي: العربي الهلالي، قد يكون تسعة وعشرين يومًا، كما قد يكون ثلاثين، ومن ثم لو نَذَرَ شهرًا معينًا، فكان تسعًا وعشرين، لم يلزمه أكثر. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 288).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
الشهر يكون تسعةً وعشرين يومًا...، كما يكون ثلاثين، وكلٌّ من العددين أصل. التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 483).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
قوله: «الشهر تسعٌ وعشرون» أي: قد يكون تسعًا وعشرين، أو أقَلُّه تسع وعشرون، فلا ينافي أنَّه قد يكون ثلاثين. المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود (10/ 33).
قوله: «فلا تَصُومُوا حتَّى تَرَوْهُ»:
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
قوله: «فلا تصوموا حتَّى تروا الهلالَ» قال علماؤنا: الصوم يجب بطريقين:
أحدهما: الرُّؤْيَةُ العامَّة، مثل أنْ يراه العدد الكثير، والجمُّ الغفير، فهذا لا يفتقر فيه إلى تعديل؛ لأنَّه من باب الخَبَرِ المتواتر، نَصَّ عليه ابن عبد الحَكَم؛ لأنَّ باب الشهادة من باب الإخبار، والرُّؤْيَةُ إذا كانت فَاشِيَةً صِيْمَ بغير خلاف، وإنْ كان الغيمُ قُبِلَ فيه الشهادة بغير خلاف، وإنْ كان الصَّحْوُ والنَّظر عسير، فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي: لا يُقْبَل الواحد، وقبِلَهُ أبو ثَوْر، وأمَّا الصَّوم، فاتَّفَقَ هؤلاء على قَبُولِ الواحدِ فيه، إلا مالكًا خاصة، فإنَّه رَدَّه، وأجاز أبو حنيفة فيه شهادة الواحد والمرأة والعبد.
وسبب الخلاف فيه: هل هذا من باب الإخبار أو من باب الشَّهادة؟ وما كان طريقه السَّماع يُقْبَل فيه الواحد، كالخَبَر عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّه حَكَمَ بحُكْمٍ من الأحكام، وما كان يختصُّ به بعض الأشخاص كالقول: هذا عبد هذا، وشبه ذلك، فيُقْبَل فيه اثنان.
والطَّريق الثَّاني: لا يخلو أنْ تكون السماء مغيمة أو مصحية، فأيَّهما كان فلا يقبل فيهما إلَّا شاهدان، وبه قال الشافعي في الفِطْر، وخالف في الصَّوم.
ودليلنا: أنَّه أحد طرفَي الشَّهر، فافتقر إلى شاهِدَيْن كالطَّرف الثاني.
وأمَّا قول أبي ثَوْر: يُفْطَرُ ويُصَامُ بشاهد واحدٍ؛ لأنَّه من باب الخبر، قلنا: إنَّ هذه شهادة تَفْتَقِرُ إلى العدد كسائر الشَّهادات.
فإنْ كانت السَّماء مصحية، فمَالِك وجمهور أصحابه والشافعي على قَبُولِ عدليْنِ، فأمَّا العامَّة فهو أنْ يرى الهلال الجمُّ الغفير، والعدد الكثير -كما تقدَّم-؛ حتى يقع بذلك العلم الضروري، فهذا لا خلاف في وجوب الصَّوم لمن رآه ولمن لم يره، فهذا يخرج عن حكم الشَّهادة إلى حُكم الخبر المسْتَفِيْضِ؛ وذلك مثل أنْ تكون القرية الكبيرة يَرَى أهلُها الهلال، فيراه منهم الرجال والنِّساء والعبيد، ممن لا يمكن منهم التَّواطؤ على باطل، فيلزم النَّاس الصوم. المسالك في شرح موطأ مالك (4/152- 154).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «فلا تصوموا حتى تروه» ليس المراد تعليق الصوم بالرؤية في حق كل أحد، بل المراد بذلك رؤية بعضهم، وهو مَن يثبت به ذلك، إما واحد على رأي الجمهور، أو اثنان على رأي آخرين، ووافق الحنفية على الأول، إلا أنهم خَصُّوا ذلك بما إذا كان في السماء عِلَّةٌ مِن غَيْمٍ وغيره، وإلا متى كان صَحْوٌ لم يُقبل إلا من جمْعٍ كثيرٍ يقع العلم بخبرهم.
وقد تمسك بتعليق الصوم بالرؤية مَن ذهب إلى إلزام أهل البلد برؤية أهل بلد غيرها، ومَن لم يذهب إلى ذلك قال: لأن قوله: «حتى تروه» خطاب لأناس مخصوصين، فلا يلزم غيرهم، ولكنه مصروف عن ظاهره، فلا يتوقَّف الحال على رؤية كل واحد، فلا يتقيد بالبلد. فتح الباري (4/ 123).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فلا تصوموا» أي: على قصد رمضان «حتى تروه» أي: الشهر، يعني: تعْلَمُوا كماله، أو تُبْصِرُوا هلاله؛ لقوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنْكُم الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} البقرة: 185. مرقاة المفاتيح (4/ 1373).
وقال القاضي البيضاوي -رحمه الله-:
«لا تصوموا» نهيٌ عن الصوم على قصد أنَّه صوم رمضان، إلا أنْ يَثْبُتَ، وهو أنْ يرى هو، أو مَن يثق به، ويحكم بقوله، والمنفرد بالرؤية إذا لم يُحْكَمُ بشهادته، يجب عليه عندنا أنْ يصوم لرمضان، ويُسِرُّ بإفطار عِيْدِهِ. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/ 491).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«لا تصوموا حتى تروا الهلالَ» حتى تثبت عندكم رؤيته بشهادة عَدْلَيْنِ، أو أكثر، وتَثْبُتُ بِعَدْلٍ واحدٍ عند أبي حنيفة إذا كان في السماء غيمٌ، وعند الشافعي أيضًا في أصح قَوْلَيْهِ، وعند أحمد سواء كان في السماء غيم أو لا، وعند مالك لا تثبت أصلًا. شرح المصابيح (2/ 508).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «لا تَصُومُوا» هو نهيٌ عن صيام رمضان، والدخول فيه، إلا بالرؤية لهلاله، أي: رمضان، والنهي يقتضي التحريم. التحبير لإيضاح معاني التيسير (6/ 191).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
وقوله: «حتى تروا الهلال» ظاهر في إيجاب الصوم حين الرؤية متى وُجِدَت ليلًا أو نهارًا، لكنه محمول على صوم اليوم المستقبل، وبعض العلماء فرَّق ما بين قبل الزوال وبعده، وهو ظاهر في النهي عن ابتداء صوم رمضان قبل رؤية الهلال، فيدخل فيه صورة الغيم وغيرها. التحبير لإيضاح معاني التيسير (6/ 192).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
قوله: «فلا تصوموا حتى تروه» أي: الهلال؛ لدلالة السياق عليه. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (4/ 499).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
وقوله: «حتى تروه» لا يمكن أنْ يكون معناه: رؤية جميع الناس، بحيث يحتاج كلُّ فردٍ في وجوب الصوم عليه إلى رؤية الهلال، بل المعتبر رؤية بعضهم، وهو العدد الذي تثبت به الحقوق، وهو عدلان؛ لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} البقرة: 282، وقولِهِ -صلى الله عليه وسلم- للمدَّعي: «شاهداك...» الحديث، إلا أنَّ هلال رمضان يُكتفَى في ثبوته بعدلٍ واحدٍ عند أكثر أهل العلم، وهو الصواب؛ لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما-، وحديث الأعرابي. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (20/ 398).
قوله: «ولا تُفْطِرُوا حتَّى تَرَوْهُ»:
قال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «ولا تُفْطِرُوا حتى تَرَوه» يعني: ولا تخرجوا من صوم رمضان حتى يثبتَ عندكم رؤيةُ هلالِ شوَّال، ولا يثبت هلالُ شوَّال بأقلَّ من شهادة عَدْلَين بالاتفاق. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 13).
قال ابن الملك رحمه الله-:
«ولا تُفْطِرُوا حتى تَرَوْهُ» أي: تَثبت رؤيته بشهادة عدلين، لا بأقل بالاتفاق. شرح المصابيح لابن الملك (2/ 508).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«ولا تُفْطِرُوا» من صومه «حتى تَرَوْهُ» أي: الهلال، وليس المراد رؤية جميع الناس، بحيث يحتاج كل فرد إلى رؤيته، بل المعتبر رؤية بعضهم، وهو العدد الذي تثبت به الحقوق، وهو عَدْلَان، إلا أنه يكتفي في ثبوت هلال رمضان بِعَدْلٍ واحد، يشهد عند القاضي.
وقالت طائفة منهم البغوي: ويجب الصوم أيضًا على من أخبره موثوق به بالرؤية، وإنْ لم يذكره عند القاضي، ويكفي في الشهادة: أَشْهَدُ أني رأيتُ الهلال، لا أنْ يقول: غدًا من رمضان؛ لأنه قد يعتقد دخوله بسببٍ لا يُوافِقُه عليه المشهود عنده، بأنْ يكون أخَذَهُ من حساب، أو يكون حنفيًا يرى إيجاب الصوم ليلة الغيم، أو غير ذلك. إرشاد الساري (3/ 356).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ولا تُفْطِرُوا حتى تَرَوْهُ» أي: هلال شوال. مرقاة المفاتيح (4/ 1372).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «ولا تُفْطِرُوا حتى تروا هلال شوال» ظاهره: أنَّه لا بد من رؤيتهم كلهم، والمراد البعض، كما يأتي أدلة الاكتفاء به. التحبير لإيضاح معاني التيسير (6/ 191).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «ولا تُفْطِرُوا» أي: للخروج من رمضان حتى تروه، أي: هلال شوال، وهو نهيٌ عن الأمرين إلا بتحقُّق الرؤية. التحبير لإيضاح معاني التيسير (6/ 192).
قوله: «فإنْ غُمَّ عليكم»:
قال الباجي -رحمه الله-:
قوله: «فإنْ غُمَّ عليكم...» ظاهره: أنَّه أراد: فإنْ غُمَّ عليكم فأَكْمِلُوا عِدَّة الشهر الذي أنتم فيه ثلاثين، يُبيِّن ذلك أنَّه قال مثل ذلك في الفطر، ولا خلاف أنَّه أراد: إنْ غُمَّ عليكم هلالُ شوال فلا بد أنْ يَكْمُلَ عدد رمضان ثلاثين، وإنما ورد هذا في النهي عن الصوم والفطر حتى يُرى الهلال الموجِب للصوم، أو يُرى الهلال الموجِب للفطر، فإنْ غُمَّ علينا أحدُهما فهذا حُكْمُه؛ لأنَّ هذا الشرط وارد بعدهما، فيجب أنْ يكون راجعًا إليهما، فيجب أنْ يَكْمُلَ العدد ثلاثين؛ وذلك إنما يكون في آخر الشهر الذي يَكْمُلُ، فمعناه: وأنْ يَكْمُلَ الشهرُ الذي هو فيه مَن غُمَّ عليه الهلال ثلاثين.
على أنَّه قد ورد ذلك مُفَسَّرًا في حديث أبي هريرة فقال -صلى الله عليه وسلم-: «فإنْ غُمَّ عليكم فأكملوا عِدَّةَ شعبان ثلاثين». المنتقى شرح الموطأ (2/ 38-39).
قال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «فإنْ غُمَّ عليكم» أي: فإنْ خَفِيَ عليكم هلالُ رمضانَ بعد مُضي تسعة وعشرين يومًا من شعبان. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 13).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «فإنْ غُمَّ عليكم» أي: غُطِيَّ الهلال بِغَيْمٍ، مِنْ غَمَمْتُ الشيءَ: إذا غَطَّيتُه، وفيه ضمير الهلال، ويجوز أنْ يُسْنَدَ إلى الجار والمجرور، بمعنى: إنْ كنتم مَغْمُومًا عليكم، وتَرَكَ ذِكْر الهلال للاستغناء عنه. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1579).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«فإنْ غُمَّ» أي: خَفِيَ «عليكم» الهلال ليلة الثلاثين من شعبان، وغُطِّي بِغَيْمٍ. شرح المصابيح (2/ 508).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فإن غُمَّ» أي: أَمْرُ الشهر، أو هلاله «عليكم» أي: بِغَيْمٍ ونحوه. مرقاة المفاتيح (4/ 1373).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«غُمَّ عَلَيْكُمْ» أي: غطَّاه شيء من السَّحَاب أو غَيْمٍ، أو غيره، فلم يظهر. التحبير لإيضاح معاني التيسير (6/ 191).
قوله: «فَاقْدِرُوا له»:
قال ابن العربي -رحمه الله-:
«فَاقْدُرُوا لَهُ» قال علماؤنا: معناه: أنَّ الشهر مقطوع بأنَّه لا بد أنْ يكون تسعًا وعشرين؛ بأنْ ظهر الهلال، وإلا طُلِبَ أصل العدد الذي هو ثلاثون يومًا، وهو نهاية عدَدِهِ...، وقال أبو العباس بن سُرَيْج، رئيس مذهب الشافعي ومُحْيِي رسم مذهبه: هذا خطاب لمن خصَّ اللهُ بهذا الكلام، وقوله: «فأَكْمِلُوا العِدَّةَ» خطاب للعامَّة.
وهذه هَفوَةٌ لا مردَّ لها، وعثرةٌ لا إقَالَةَ فيها، وكَبْوَةٌ لا استقالةَ منها، ونَبْوَة جفوة لا قُرْبَ معها، وزَلَّةٌ لا استقرارَ بعدها، أَوَّهْ يا ابنَ سُرَيج، أين اسْتِمْسَاكُكَ بالشَّريعة؟ وأين صَوَارِمُكَ السُّرَيْجِيّة؟ تَسْلُكُ هذا المضيق في غير طريق، وتخرج إلى الجهل بعد العلم والتَّحقيق، ما لِمُحَمَّدٍ والنُّجُوم؟ وما لك للتَّرَامِي هكذا والهُجُوم؟ ولو رُوِّيتَ من بحر الآثار، لانْجَلَى عنك الغُبَار، وما خَفِيَ عليك في الرُّكُوبِ الفَرَس من الحمار، وكأنَّك لم تقرأ في الصَّحيح من الحديث الصريح قوله: «نحن أُمَّةٌ أُمِّيَّة لا نكتبُ ولا نَحْسبُ، الشَّهرُ هكذا وهكذا» وأشارَ بيده الكريمة ثلاث إشاراتٍ، وخَنَسَ بإبهامهِ في الثَّالثة، فإذا كان ابن سُرَيْج وبعض التَّابعين يتعلَّق بدقائق النُّجوم ودرجاتها، فإنَّا نقول: نحن لا نُنْكِرُ أصل الحساب، ولا جَرْي العادة في تقدير المنازل، ولكن لا يجوز أنْ يكون المراد بتأويل الحديث ما تأوَّله وذَكَرَهُ لوجهين:
أمَّا أحدهما: فما تَفَطَّن له مالكٌ وجعله أصلًا في تأويل الحديث لمن بعدَهُ؛ وذلك أنَّه قال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الأول: «فَاقْدُرُوا لَهُ» فجاء بلفظٍ مُحْتَمَلٍ، ثم فسَّرَ الاحتمال في الحديث الثاني فقال: «وَأَكْمِلُوا العِدَّةَ ثلاثينَ»، فكان تفسير التَّقْدِير.
وأمَّا الثاني: فلا يجوز أنْ يُعَوَّلَ في ذلك على قول الحساب، لا لأنَّه باطلٌ، ولكنَّه صيانة لعقائد النَّاس من الارتباط بالعُلْويَّات، وأنْ تُعَلَّقَ عباداتها بِتَدَاوِيرِ الأفلاك ومواقعها في الاجتماع والاستقبال؛ وذلك بحر عَجَّاجٌ إنْ دخلوا فيه غَرِقُوا، والنَّجاة في قوله: «إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لا نكتبُ ولا نَحْسبُ...» الحديث.
فإذا كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ينفي عن نفسه تصريف الأنامل المعتادة عند أهل الحساب، فأولى وأحرى أنْ ينفي عن نفسه تصريف الكواكب وتَعْدِيلَهَا. المسالك في شرح موطأ مالك (4/159- 160).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «فاقْدِرُوا» أي: قدِّروا عدد الشهر الذي كنتم فيه ثلاثين يومًا؛ إذ الأصل بقاء الشهر، ودوام خَفَاء الهلال ما أمكن. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1579).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «فاقدُرُوا له» أي: قدِّرُوا، واجعلوا شعبانَ ثلاثين يومًا، ثم صوموا رمضان. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 13).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
«فاقدُروا له» بهمزة وصل، وضم الدال، يعني: حَقِّقوا مقادير أيام شعبان، حتى تُكْمِلوه ثلاثين يومًا، كما جاء مفسَّرًا في الحديث الذي بعده؛ ولذلك أَخَّره البخاري لأنه مفسِّرٌ، واقتدى في ذلك بالإمام مالك في الموطأ. مصابيح الجامع (4/ 334).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«فاقدروا له» أي: قدَّروا عدد الشهر، حتى تُكْمِلُوهُ ثلاثين يومًا، ثم صوموا.
وذهب بعضٌ إلى أنَّ المراد به التقدير بحساب القمر في المنازل؛ أي: قَدِّرُوا منازل القمر؛ فإنه يَدُلُّكم على أنَّ الشهر تسعةٌ وعشرون، أو ثلاثون، وفي رواية: «إنْ غُمَّ عليكم فأَكْمِلُوا العِدَّة ثلاثين». شرح المصابيح (2/ 508-509).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«فاقْدُرُوا له» بضم الدال، أي: أَكْمِلُوا به الشهر؛ سواء كان في الصوم أو في الفطر.
وقال الإمام أحمد: فاقْدُرُوا أي: عُدُّوْهُ تحت السحاب إذا كان يوم غَيْمٍ؛ ولذلك وجب الصوم إذا كان مطلع الهلال فيه غَيْمٌ، وإذا صاموا لِعِلَّةِ الغيم ثلاثين يومًا ولم يروا الهلال صاموا واحدًا وثلاثين يومًا، ويُشْكِلُ على هذا المذهب سائر الروايات، مثل قوله: «أَكْمِلُوا شعبان ثلاثين يومًا»، وقوله: «فاقْدُرُوا ثلاثين يومًا». الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (4/ 257).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
قوله: «فاقدروا له» أي: انْظُرُوا أول الشهر، واحْسبُوا تمام الثلاثين؛ لقوله في الحديث الآخر بدَلَه: «فأكْمِلُوا عِدَّةَ شعبان ثلاثين»، وقيل: المراد: فاقْدُرُوا بحساب المنازل. التوشيح شرح الجامع الصحيح (4/ 1421).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «اقْدُرُوا له» اخُتلف في معناها:
فقيل: القَدْرُ هو التقدير، أي: فارْجِعُوا إلى الحساب، وذهب إليه كثير من المتأخرين، كالذي لا يجد الماء، فيرجع إلى التراب.
وقيل: ضَيِّقُوا عليه، والتضييق من الخَلْفِ، أي: تجعل شعبان تسعة وعشرين يومًا، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} الطلاق: 7، أي: ضُيِّقَ.
وقيل: أي: أَكْمِلُوا العِدَّةَ ثلاثين، وهو أصحُّها؛ لأن كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يُفسِّره أحدٌ أعلم ممن تكلَّم به، ولفظ البخاري أعم، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أَكْمِلُوا العِدَّة ثلاثين»؛ لأنه يشمل هلال الصوم، وهلال الفطر. الشرح المختصر على بلوغ المرام (الطهارة والصلاة والصوم) (7/ 6).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
ذهب كافة الفقهاء إلى أنَّ معنى قوله -عليه السلام-: «فاقْدُرُوا له» مُجْمَل يُفسِّره قوله: «فأَكْمِلُوا العِدَّة ثلاثين يومًا»؛ ولذلك جعل مالك في الموطأ «فأَكْمِلُوا العِدَّة ثلاثين يومًا» بعد قوله: «فاقْدُرُوا له» كما صنع البخاري؛ لأنه مُفسِّرٌ ومُبيِّنٌ لمعنى قوله: «فاقْدُرُوا له»، وحكى محمد بن سيرين: أنَّ بعض التابعين كان يذهب في معنى قوله -عليه السلام-: «فاقْدُرُوا له» إلى اعتباره بالنجوم، ومنازل القمر، وطريق الحساب، ويقال: إنه مُطَرِّف بن الشِّخِّير.
وقوله -عليه السلام-: «فإنْ غُمَّ عليكم فأَكْمِلُوا العِدَّة ثلاثين يومًا» نصٌّ في أنَّه -عليه السلام- لم يُرِدْ اعتبار ذلك بالنجوم والمنازل؛ لأنه لو كَلَّف ذلك أُمَّتَهُ لشقَّ عليه؛ لأنه لا يعرف النجوم والمنازل إلا قليل من الناس، ولم يجعل الله تعالى في الدِّين مِن حَرَجٍ، وإنما أحال -عليه السلام- على إكمال ثلاثين يومًا، وهو شيء يستوي في معرفته الكل، وقد انضاف إلى أَمْرِهِ باعتبار العدد ثلاثين عند عدم الرؤية فعله في نفسه، فروي عن عائشة أنها قالت: «كان رسول الله يتَحَفَّظُ من شعبان ما لا يَتَحَفَّظُ من سائر الشهور، فإذا رأى هلال رمضان صام، وإن غُمَّ عليه عَدَّ شعبان ثلاثين يومًا وصام»، ولو كان ها هنا علم آخر لكان يَفْعَلُهُ، أو يأمر به، وجمهور الفقهاء على أنه لا يُصام رمضان إلا بيقين من خروج شعبان، إما برؤية الهلال، أو إكمال شعبان ثلاثين يومًا، وكذلك لا يُقضى بخروج رمضان إلا بيقين مثله؛ لأنه ممكن في الشهر أنْ يكون تسعة وعشرين يومًا، فالرؤية تُصحِّح ذلك وتُوجِب اليقين، كإكمال العِدَّةِ ثلاثين يقينًا، هذا معنى قوله: «فاقْدُرُوا له» عند العلماء. شرح صحيح البخاري (4/ 27-28).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
لم يَخُصَّ -صلى الله عليه وسلم- شهرًا دون شهر بالإكمال إذا غُمَّ، فلا فرق بين شعبان وغيره في ذلك؛ إذ لو كان شعبان غير مراد بهذا الإكمال لَبَيَّنَهُ، فلا تكون رواية مَن رَوَى: «فَأَكْمِلُوا عِدَّة شعبان» مُخَالِفَةً لمن قال: «فأَكْمِلُوا العِدَّةَ» بل مُبيِّنة لها، ويُؤيده رواية: «فإنْ حال بينكم وبينه سَحَابٌ فأَكْمِلُوا العِدَّة ثلاثين، ولا تستقبلوا الشهر استقبالًا». أخرجه أصحاب السُّنن وابن خزيمة وأبو يعلى من حديث ابن عباس. التحبير لإيضاح معاني التيسير (6/ 194).
وقال ابن عبد الهادي -رحمه الله-:
الذي دلَّت عليه الأحاديث في هذه المسألة وهو مقتضى القواعد: أنَّ أيَّ شهرٍ غُمَّ أُكْمِلَ ثلاثين، سواء في ذلك شهر شعبان، وشهر رمضان وغيرهما، وعلى هذا فقوله: «فإنْ غُمَّ عليكم فأكلموا العدَّة» يرجع إلى الجملتين، وهما: قوله: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم فأكلموا العدَّة» أي: غُمَّ عليكم في صومكم أو فطركم، وهذا هو الظَّاهر من اللفظ، وباقي الأحاديث تدلُّ على هذا، كقوله: «فإنْ غُمَّ عليكم فاقْدُرُوا له»، وليس المراد: ضيِّقوا، كما ظنَّه مَن ظنَّه من الأصحاب، بل المعنى: احْسُبُوا له قَدْرَهُ، فهو مِن: قَدْر الشيء -وهو مبلغ كمِّيَّته-، ليس من التَّضييق في شيءٍ. تنقيح التحقيق (3/ 199).