الأحد 23 رمضان 1446 هـ | 23-03-2025 م

A a

«إذا كان رمضانُ فُتِّحَتْ أبوابُ الرَّحمةِ، وغُلِّقَتْ أبوابُ جَهنَّمَ، وسُلْسِلَتِ الشَّياطينُ».


رواه البخاري برقم: (1899)، ومسلم برقم: (1079) واللفظ له، وفي رواية لمسلم أيضًا: «وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ» من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«رَمَضَانُ»:
رَمَضَانُ: سُمي لشِدَّة الرَّمْضِ، وهو الحَرُّ؛ وقيل: لأنه تَرْمُضُ فيه الذنوب؛ وقيل: لأنه مِنْ رَمَضَت الفِصَالُ (صغار الإبل) مِن الحَرِّ. الإبانة في اللغة العربية (4/ 752).

«سُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ»:
أَي: رُبِطَتْ بالسلاسل. فتح الباري، لابن حجر (1/ 133).

«صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ»:
أي: شُدَّتْ وأُوثِقتْ بالأغلال، يُقالُ: صَفَدْتُهُ وصَفَّدْتُهُ، والصَّفْدُ والصِّفَادُ: القَيْدُ. النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 35).


شرح الحديث


قوله: «إذا كانَ رمضانُ»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قوله: «إذا كان رمضانُ» بالرفع على أنَّ «كان» تامَّة، و«رمضان» فاعلها. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (20/ 276).
وقال الشيخ حسن أبو الأشبال -حفظه الله-:
«إذا كان رمضانُ» (كان) بمعنى: صار كائنًا وموجودًا، وهو بمعنى الرواية الأولى: «إذا جاء رمضانُ» أي: إذا جاء رمضان وصار كائنًا. شرح صحيح مسلم (12/ 7).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
ودخول رمضان يبدأ بمغرب أول ليلة منه. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (4/ 486).
وقال الشيخ سليمان اللهيميد -حفظه الله-:
هذا في أول ليلة من رمضان؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صُفِّدت الشياطين...». إعانة المسلم في شرح صحيح مسلم (ص: 2).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
رمضان: مصدر رَمَضَ إذا احْتَرَق، لا ينصرف؛ للعَلَميَّة والألف والنون، وإنما سمَّوه بذلك: إما لارْتِمَاضِهم فيه مِن حرِّ الجوع والعطش، أو لارْتِمَاضِ الذنوب فيه، أو لوقوعه أيام رمْضِ الحَرِّ، حيث نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام رمْضِ الحَرِّ، أو مِن رَمَضَ الصائم: اشْتدَّ حرُّ جَوفه، أو لأنه يُحْرِقُ الذنوب.
ورمضان إنْ صح أنَّه من أسماء الله تعالى فغير مُشتق، أو راجع إلى معنى الغافِر، أي: يمحو الذنوب ويمحَقُها. إرشاد الساري (3/ 344).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وقد ذكر أبو الخير الطَّالِقَاني في كتابه (حظائر القُدْس) لرمضان ستين اسمًا، وذكر بعض الصوفية: أنَّ آدم -عليه السلام- لما أكل من الشجرة ثم تاب، تأخر قبول توبته، مما بقي في جسده من تلك الأكلة ثلاثين يومًا، فلما صفا جسدُه منها تِيْبَ عليه، ففُرض على ذريته صيام ثلاثين يومًا، وهذا يحتاج إلى ثبوت السند فيه إلى من يقبل قوله في ذلك، وهيهات وُجْدَان ذلك. فتح الباري (4/ 102-103).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
فيه: حُجَّة على جواز قول مثل هذا (أي تسمية رمضان بهذا الاسم) دون ذِكْر الشهر، خلافًا لمن كَرِهَه، ورُوي أثرٌ في النهي عن ذلك، وأنَّ رمضان اسم من أسماء الله، وهو أثر لا يصح، واختار القاضي أبو الطيب الباقلاني أنَّ تمثيل النهي فيما أَشْكَل، مثل: جاء رمضان وذهب وتمَّ ودخل، ويُباح فيما لا يُشْكِل مثل: صُمْنَا، وقُمْنَا رمضان، وهذا الحديث وغيره ردٌّ على الجميع. إكمال المعلم (4/ 5).
وقال النووي -رحمه الله-:
فيه: دليل للمذهب الصحيح المختار الذي ذهب إليه البخاري والمحققون أنه يجوز أنْ يُقال: رمضان، من غير ذِكْر الشهر بلا كراهة، وفي هذه المسألة ثلاثة مذاهب:
قالت طائفة: لا يُقال: رمضان على انفراده بحالٍ، وإنما يُقال: شهر رمضان، وهذا قول أصحاب مالك، وزعم هؤلاء أنَّ رمضان اسم من أسماء الله تعالى، فلا يُطلَق على غيره إلا بقيد.
وقال أكثر أصحابنا وابن الباقلاني: إنْ كان هناك قرينة تصْرِفُه إلى الشهر فلا كراهة، وإلا فيُكْرَه، قالوا: فيُقال: صُمْنا رمضان، قُمْنا رمضان، ورمضان أفضل الأشهر، ويُندب طلب ليلة القدر في أواخر رمضان، وأشباه ذلك، ولا كراهة في هذا كله، وإنما يُكره أنْ يُقال: جاء رمضان، ودخل وحضر رمضان، وأُحِبُّ رمضان، ونحو ذلك.
والمذهب الثالث: مذهب البخاري والمحققين: أنَّه لا كراهة في إطلاق رمضان بقرينة وبغير قرينة، وهذا المذهب هو الصواب.
والمذهبان الأوَّلان فاسدان؛ لأنَّ الكراهة إنما تثبت بنهي الشرع، ولم يثبت فيه نهيٌ، وقولهم: إنَّه اسم من أسماء الله تعالى ليس بصحيح، ولم يصح في شيء، وإنْ كان قد جاء فيه أثر ضعيف، وأسماء الله تعالى توقيفية، لا تُطلَق إلا بدليل صحيح، ولو ثبت أنَّه اسم لم يلزم منه كراهة، وهذا الحديث المذكور في الباب صريح في الردِّ على المذْهَبَين؛ ولهذا الحديث نظائر كثيرة في الصحيح في إطلاق رمضان على الشهر من غير ذِكْر الشهر. شرح النووي على مسلم (7/ 187-188).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
واعلم أنَّ التِّرمذي رَوى هذا الحديثَ بذكر «شَهْر»، وزيادةُ الثِّقَة مقبولةٌ، فتكون رواية البخاري مختصَرةً منه، فلا يبقَى له حُجَّةٌ فيه على إطلاقه بدون شَهْر. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (6/ 364).

قوله: «فُتِّحَتْ أبوابُ الرَّحمةِ»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
أما الرواية التي فيها «أبواب الرحمة» و«أبواب السماء» فمِنْ تصرُّف الرواة، والأصل أبواب الجنة؛ بدليل ما يُقابِله، وهو غَلْق أبواب النار. فتح الباري (4/ 114).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
قيل: رواية: «أبواب السماء» من أفراد البخاري، و«أبواب الرحمة» من أفراد مسلم، والمتفق عليها «فُتحت أبواب الجنة». لمعات التنقيح (4/ 398).
وقال ابن عاشور -رحمه الله-:
جاء هذا الحديث من هذا الطريق -طريق ابن شهاب- تامًّا أغْرَب اللفظ؛ إذ وقَع فيه: «فُتِحت أبواب السماء»، ووقَع من طريق إسماعيل «فُتِحت أبواب الجنة»، ووقَع في رواية مسلم «فُتِحت أبواب الرحمة»، ولا أحسب لفظ النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا «أبواب السماء»؛ لأنه أشْمَلُ وأَوْجَزُ؛ ولأنه يُحاكي به قوله تعالى: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} الأعراف: 40، والسماء في التعاليم الدينية هي مقر الخيرات الروحانية، والفيوضات الربانية، والتزكيات النفسانية، فمعنى فَتْح أبوابها: تهيئتها لاكتساب المؤمنين من خيراتها على حسب أعمالهم ومراتبهم، ورضا الله تعالى عنهم، بقبول أعمالهم ودعائهم، ومكاشَفة أرواحهم، فالأبواب استعارة لوسائل الوصول إلى الخير، والسماء حقيقة عُرفيَّة في مقر الخيرات، وخزائن الرحمات؛ ولذلك كثُر إثبات الارتفاع والصعود للفضائل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} فاطر: 10، {إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} المطففين: 18، وليس المراد بالسماء الجنة، فقد دلَّ على عدم قصْدِها عَطْفُ الجنة عليها في قوله تعالى: {تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} الأعراف: 40، وما وقع من الروايتين الأخيرتين من أبواب الجنة، وأبواب الرحمة، فهو من الرواية بالمعنى. النظر الفسيح عند مضائق الأنظار في الجامع الصحيح (ص: 54).
وقال الشيخ سليمان اللهيميد -حفظه الله-:
ولا تَعَارض بين هذه الرواية («فُتِّحَتْ أبوابُ الجنَّة») ورواية «فتحت أبواب الرحمة»؛ لأن المراد بالرحمة الجنة؛ لحديث: قال تعالى في الجنة: «أنتِ رحمتي أرحَمُ بكِ مَن أشاء». إعانة المسلم في شرح صحيح مسلم (ص: 2).
وقال حسن أبو الأشبال -حفظه الله-:
قوله: «فُتِحت أبواب الرحمة» وفي الرواية الأولى: «فُتِحت أبواب الجنة»، وما الرحمة إلا ثمرة من ثمار الجنة. شرح صحيح مسلم (12/ 7).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
وفتْحُ أبواب الرحمة: عبارة عما يَفْتَحُه الله تعالى لعباده من الطاعات في هذا الشهر التي لا تقع في غيره عمومًا، كالصيام والقيام، وفعل الخيرات، والانكفاف عن كثير من المخالفات، وهذه أسباب لدخول الجنَّة، وفتح أبواب لها، وهي بمعنى رواية: «فُتِحت أبواب الجنَّة». الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (12/ 329).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وقيل: إنَّ فَتْحَ أبواب الجنة... علامة على دخول هذا الشهر العظيم للملائكة وأهل الجنة؛ حتى يستشعروا عَظمة هذا الشهر وجلالته.
ويُحتمل: أنْ يُقال: إنَّ هذه الأبواب المفتحة في هذا الشهر هي: ما شرع الله فيه من العبادات والأذكار والصَّلوات والتلاوة؛ إذ هي كلها تُؤدي إلى فتح أبواب الجنة للعاملين فيه. المفهم (3/ 137).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
وإنَّما تُفْتَح أبواب الجنَّة في رمضان؛ ليعظم الرَّجاء ويكثر العمل، وتتعلَّق بها الهِمَم، ويتشوَّف إليها الصَّابر الصَّائم. المسالك في شرح موطأ مالك (4/ 246).

قوله: «وغُلِّقَتْ أبوابُ جَهنَّمَ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وغُلِّقت» بالتشديد أكثر «أبواب جهنم»، وهو كناية عن امتناع ما يدخل إليها؛ لأن الصائم يتنزَّه عن الكبائر، ويُغفر له ببركة الصيام الصغائر، وقد ورد: «الصيام جُنَّة». مرقاة المفاتيح (4/ 1360).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
وإنما قال: «غُلِّقت» بالتشديد، ولم يقل: أُغْلِقَت؛ إرادةً للمبالغة في إتمام هذه المنَّة على الصُوَّام. الميسر في شرح مصابيح السنة (2/ 456).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«وغُلِّقت أبواب جهنم» حقيقة، أو كناية عن تَنزُّه أنْفُس الصُوَّام عن رِجْسِ الفواحش، والتخلُّص من البواعث على المعاصي بقمع الشهوات. إرشاد الساري (5/ 294).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«وغُلِّقتْ أبواب جهنم»؛ لكثرة عفْوِ الله عن العصاة. التنوير شرح الجامع الصغير (2/ 41).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وغُلِّقت عنهم أبواب النَّار؛ فلا يدخلها منهم أحدٌ مات فيه (أي: رمضان). المفهم (3/ 136).
وقال السندي -رحمه الله-:
وغَلْقُ أبواب النار لا يُنافي موت الكفرة في رمضان، وتعذيبهم بالنار فيه؛ إذ يكفي في تعذيبهم فتح باب صغير من القبر إلى النار غير الأبواب المعهودة الكبار. حاشية السندي على سنن النسائي (4/ 126).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
تُغلق فيه (رمضان) أبواب النَّار؛ لتخزى الشَّياطين، وتقلُّ المعاصي، وتصِير الحسنات في وجوه السيئات، فتذهب سبيل النَّار....
ومعنى الباب: إنَّما هو سبيلٌ وطريقٌ إلى فِعْلٍ كان سببًا إلى فتح أبواب الجنَّة، وغَلْق أبواب النَّار عنه؛ لأنَّه لا يَدخل الإنسان الجَنَّةَ والنَّارَ إِلَّا بالفَرْجِ والنَّظَرِ والبَطْنِ، فإذا عَفَّ، قيل: فُتِّحَت له أبواب الجنَّة، وإذا أساءَ، قيل: فُتِّحَت له أبواب النّار، فإذا كان في شهر رمضان أَمْسَكَ عن الطَّعَامِ والشّرابِ والمعاصي، فكأنَّ أبواب النَّار غُلِّقَت عن هذا وفتحت له أبواب الجَنَّة، وكذلك قال أكثر النَّاس: إنَّ معنى: «فتحت أبواب الجنَّة» أي: كَثُرَت الطَّاعات، «وغُلِّقَت أبوابُ النَّار» أي: انقطَعت المعاصي وقَلَّتْ، وضُربت لذلك الأبواب في الوجهين مثلًا. المسالك في شرح موطأ مالك (4/ 246-247).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
قوله: «غُلِّقت أبواب جهنم» إِمَّا حقيقة كما ذكرنا في فتح أبواب الجنة؛ وإمَّا مجاز عن قلة الذنوب، وكثرة المغفرة. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (4/ 256).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
حَمْلُ الحديث على ظاهره مِن أنَّ فتح أبواب الجنة، وغَلْقَ أبواب النار على حقيقتهما لا على المجاز هو الحقُّ، كما رجحه ابن المنيِّر، والقرطبي -رحمهما اللَّه تعالى-، فتنبَّه. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (20/ 255).

قوله: «وسُلْسِلَتِ الشَّياطينُ» وفي رواية: «وصُفِّدَت»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «وسُلسِلت الشياطين» جُعِلَت في سلسلة، وهي داير من حديد، يحيط بالعنق؛ وذلك ليقلَّ شرُّهم وإغواؤهم للعباد، ولا يلزم منه أنه لا يُوجد عاصٍ، بل المراد أنَّه يقلُّ شرُّهم، ويتوفَّر الناس على الطاعات، وهذا أمرٌ معلومٌ؛ فإنَّ كثيرًا من العصاة يُقْبِل على الطاعة في شهر رمضان.
أو المراد: أنَّه تعالى يتَجَاوز عن العُصاة، فلا يضرهم إغواء الشياطين لهم؛ إذ بعفوه لهم ما كأنهم أغْوَوهم.
ويحتمل: أنَّ السلسلة مجاز، وأنَّ المراد: منعهم عن إغوائهم حتى كأنهم مُسَلْسَلِين.
وفيه: فضيلة رمضان. التنوير شرح الجامع الصغير (2/ 41).
وقال ابن عاشور -رحمه الله-:
وأما قوله: «وسُلْسِلَت الشياطين» فهو مَنْعٌ مخصوص من بعض الوساوس الشيطانية، فالكلام تمثيل لحال الشياطين في غَلِّ أيديها عن كثير من أعمالها بحال المصْفُود في سلسلة، فإنَّه لا تنقطع حركته تمامًا، وإنما يذهب نشاطه ومَقْدِرَته، فالتمثيل فيه عكس التمثيل في قوله تعالى: {الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} البقرة: 275، وإنْ شئتَ فاجْعَل جميع ما في الحديث تمثيلًا مَكْنيًّا ينْحَلُّ إلى ثلاث تَمْثِيلاتٍ مَكْنِيَّة؛ وذلك بأنْ شبَّه شأن إكرام الله تعالى الصالحين وقبوله أعمالهم بحال الكريم إذا ورد عليه الضيوف، أنْ يفتح أبواب مَنْزِلِه، ويُغْلِقَ أبواب مواقع الأذى والضرر مثل الرابط، ويُسَلْسِلُ كَلْبَه أنْ ينالهم بِنَبْحِهِ، كما قال النابغة في تمثيل لسانه:
سأكْعَمُ سأربِطُ كَلْبي أنْ يُرِيْبَكَ نَبْحُهُ *** وَلَوْ كُنْتُ أرْعَى مُسْحُلانَ فحَامِرَا. (واديان في الشام).
وقد رمَزَ إلى الهيئة المشبَّه بها بذِكْر فتْح وغلْق الأبواب والسلاسل، وهذا التشبيه المركَّب صالح لمقابلة كل جزء من الهيئة المشبَّهة بجزء من الهيئة المشبَّه بها، فالسماوات مُشبَّهة بمنزل الكريم، والشياطين مُشبَّهة بالكلاب، وهذا أحسن التمثيل، وهو الذي يصح معه تشبيه أجزاء المركَّب بأجزاء المركَّب الآخر، كقوله بشار:
كأنَّ مُثار النَّقْع فوق رؤوسنا *** وأسيافنا ليلٌ تهاوى كواكبُه. النظر الفسيح عند مضائق الأنظار في الجامع الصحيح (ص: 55).
وقال الشيخ حسن أبو الأشبال -حفظه الله-:
قوله: «وسُلْسِلَت الشياطين»، أما كيفية سَلْسَلَة الشياطين فلا يعلمها إلا الله -عز وجل-. شرح صحيح مسلم (12/ 7).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«وسُلسلت الشياطين» أي: شُدَّت بالسلاسل حقيقة. إرشاد الساري (3/ 351).
وقال الكرواني -رحمه الله-:
«وسُلْسِلَت الشياطين» كذلك محمول على الحقيقة، أو مجاز عن انقطاع القوى الشَّهَويَّة والغَضَبِيَّة وغيرهما، التي هي جنود إبليس.
فإن قلتَ: لو سُلسِلت الشياطين حقيقة لما وقع شَرٌّ في الدُّنيا؛ قلتُ: لا نُسلِّم؛ لأنَّ أسباب الشرور غير منحصِرة فيهم؛ بل النفوس الخبيثة من البشر أشرُّ، ألا ترى إلى قوله تعالى: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} الناس: 6،5؟. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (4/256- 257).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
واحتجَّ المُهَلَّب لقول مَن جَعَل المعنى على الحقيقة، فقال: ويدلُّ على ذلك ما يُذكر مِن تَغْلِيل الشياطين ومَرَدَتِهم بدخول أهل المعاصي كلها في رمضان في طاعة الله، والتعفُّف عما كانوا عليه من الشهوات؛ وذلك دليل بيِّن. شرح صحيح البخاري (4/ 20).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
ويجوز أنْ تجتمع الحقيقة والمجاز في هذه الأوجه كلها، فتكون مُرادَةً بالحديث، موجودةً فيه؛ لكونه لم يَرِد من الشرع تَعْيِين في ذلك كلِّه. القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (ص: 281).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وصُفِّدت الشياطين: غُلَّتْ وقُيِّدت، والصَّفْد: الغَلُّ؛ وذلك لئلا تُفْسِد الشياطين على الصائمين.
فإنْ قيل: فنرى الشرور والمعاصي تقع في رمضان كثيرًا؛ فلو كانت الشياطين مُصفَّدة لما وقع شرٌّ؟ فالجواب من أوجهٍ:
أحدها: إنما تُغَلُّ عن الصائمين الصوم الذي حُوفِظَ على شروطه، ورُوعِيَت آدابُه، أما ما لم يُحافَظ عليه، فلا يُغَلُّ عن فاعِلِه الشيطانُ.
والثاني: أنَّا لو سلَّمنا أنها صُفِّدت عن كل صائم، لكن لا يلزم من تصفيد جميع الشياطين ألا يقع شرٌّ؛ لأن لوقوع الشرِّ أسبابًا أُخَر غير الشياطين، وهي: النفوس الخبيثة، والعادات الرَّكيكة، والشياطين الإنْسِيَّة.
والثالث: أنْ يكون هذا الإخبار عن غالب الشياطين، والمرَدَة منهم جمع مارد وهو العاتي الشديد، وأما مَن ليس من المرَدَة فقد لا يُصفَّد.
والمقصود: تقليل الشرور، وهذا موجود في شهر رمضان؛ لأن وقوع الشرور والفواحش فيه قليل بالنسبة إلى غيره من الشهور... وتصفيد الشياطين: عبارة عن كسر شهوات النفوس التي بسببها تتوصل الشياطين إلى الإغواء والإضلال، ويشهد لهذا قوله: «الصوم جُنَّة»، وقوله: «إنَّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فضيِّقُوا مَجَارِيه بالجوع والعطش». المفهم (3/ 136-137).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
أمّا قولُه: «صُفِّدَتْ الشّياطين» فمِن النَّاس من قال: إنَّه حُمِلَ المُطْلَق على المقيَّد وليس كذلك، وإنَّما هو من باب الخَاصِّ والعامِّ؛ وذلك قولُه: «صُفِّدَتِ الشّيَاطِينُ» عامٌّ في المَرَدَةِ وغيرهم، وقوله: «صفِّدَتِ المَرَدَةُ مِن الشَّيَاطِينِ» خاصٌّ في المَرَدَةِ لا غير.
والأصلُ في هذا الباب -أعني من الخاص والعام- أنَّ الخاصَّ والعامَّ إذا وَرَدا لا يخلو أنَّ يكونا مُتَّفِقَيْنِ أو مخْتَلِفَيْن، فإنْ كانا مُتَّفِقَيْن كان الخاصُّ على خصوصه، والعامُّ على عمومه، ويكونُ في الخاصِّ زيادة فائدة...
وقوله: «صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ» عامٌّ في المَرَدَةِ وغيرهم، وقوله: «مَرَدَة» خاصٌّ في المَرَدَةِ، وهما مُتَّفِقَانِ، فلا بُدَّ من زيادة فائدة في قوله: «مَرَدَة»؛ لأنا إنْ قلنا: إنَّ العموم يدخل تحت المَرَدَة وغيرهم، فما فائدة تَكْرَارِهِم في الاختصاص؟
قلنا: الفائدة تأكيد التَّصْفِيدِ لها، أو زيادة اختصاص. المسالك في شرح موطأ مالك (4/ 244-245).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قيل: يُحتمل الحقيقة، وأنَّ فتح أبواب الجنة، وتغليق أبواب النار، علامة لدخول الشهر، وعِظَمِ قَدْرِهِ، وكذلك تصفيد الشياطين؛ ليمتنعوا مِن أذى المؤمنين وإغوائهم فيه، وقيل: يُحتمل: المجاز؛ لكثرة الثواب والعفو، والاستعارة لذلك بفتح أبواب الجنة، وإغلاق أبواب النار، وقد جاء في الحديث الآخر: «وفُتِحت أبواب الرحمة»، وبأنَّ الشياطين كالمصفَّدة، لَمَّا لم يتم إغواؤهم بِعِصْمَةِ الله عباده فيه، ولم يُفِدْ خُبْث سعيها شيئًا، ويكون معنى تصفيد الشياطين هنا خصوصًا عن أشياء دون أشياء، ولبعضٍ دون بعض، أو على الغالب، وجاء في حديث آخر: «صُفِّدت مَرَدَةُ الشياطين».
وقد يكون فتح أبواب الجنة هنا: عبارة عما يَفتح الله على عباده من الطاعات المشروعة في هذا الشهر الذي ليست في غيره: من الصيام والقيام وفعل الخيرات، وأنَّ ذلك أسباب لدخول الجنة، وأبواب لها، وكذلك تغليق أبواب النار، وتصفيد الشياطين: عبارة عمَّا يَكفُّه الصوم والشغل بفعل الخير في هذا الشهر، وعِظَم قَدْرِه في القلوب، وما جاء في النهي فيه عن أنْ يَرْفُثَ أو يَجْهَل، والكف فيه عن المحارم والمعاصي، وأنَّ الصوم مانع عن كثير من المباحات، فكيف بما وراء ذلك؟ إكمال المعلم (4/ 5-6).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
قوله: «وسُلسِلت الشياطين» مُسْتَرِقُو السمع حقيقة؛ لأن رمضان كان وقتًا لنزول القرآن إلى سماء الدنيا، وكانت الحراسة قد وقَعَت بالشُّهُبِ، كما قال الله تعالى: {وَحِفْظًا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} الصافات: 7، فزَيَّدُوا التسلسل في رمضان؛ مبالغة في الحفظ، وقيل غير ذلك. إرشاد الساري (5/ 294).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
وقد أسلفنا أنه حقيقة، فيُسَلْسَلُون، ويَقِلُّ أذاهم ووَسْوَسَتُهم، ولا يكون ذلك منهم كما هو في غير رمضان، ويدلُّ عليه ما يُذكر من تغليل الشياطين ومَرَدَتهم، بدخول أهل المعاصي كلها في الطاعة، والبعد عما كانوا عليه من الشهوات؛ وذلك دليل بيَّن. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (13/ 56-57).
وقال الحليمي -رحمه الله-:
وأما تصفيد الشياطين فقد يجوز أنْ يكون أراد بذلك أيامه أي: رمضان خاصَّة، ويكون وجْهُهُ: أنَّ القرآن كان ينزل إلى السماء الدنيا في كل ليلة قَدْرَ ما يكفي لتلك السَّنة إلى مثلها من العام القابل، فكانت الشياطين تُصفَّد في رأس الشهر؛ لئلا يتمكَّنوا من الترقي في أسباب السماء لاستراق السمع، مبالغة في حراسة القرآن...، وعلى هذا كان تصفيد الشياطين في شهر رمضان مقصورًا على زمان النبي -صلى الله عليه وسلم- خاصَّة...
ويُحتمل: أنْ تكون أيامه ولياليه، ومعناه: أنَّ الشياطين لا يَخْلُصُون فيه من إفساد الناس إلى ما يَخْلُصُون إليه في غيره؛ لاشتغال المسلمين بالصيام الذي فيه قمع الشهوات، وبقراءة القرآن، وسائر العبادات. المنهاج في شعب الإيمان (2/378- 379).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
فإنْ قال قائل: فما أمارة ذلك، ونحن نرى الفاسق في رمضان قلَّما يَرْعَوِي عن فِسْقِه، وإنْ تَرَكَ بابًا منه أتى بابًا آخر، حتى إن مِن هذه الزُّمْرة من يتولَّى قتْلَ النفس، وقطْعَ الطريق، وغير ذلك من المناكير والعظائم؟
قلنا: أمارة ذلك: تنزُّه أكثر المنهمكين في الطغيان عن المعاصي، ورجوعُهم إلى الله بالتوبة، وإِكْبَابُهُم على إقام الصلاة بعد التهاون بها، وإقبالُهم على تلاوة كتاب الله، واستماع الذكر بعد الإعراض عنهما، وتركُهم ارتكاب المحظورات بعد حرصهم عليها، وأما ما يُوجد من خلاف ذلك في بعضهم، ويُؤْنَسُ عنهم من الأباطيل والأضاليل، فإنها تأثيرات مِن تَسْوِيلات الشياطين، أَعْرَقَتْ في عِرْقِ تلك النفوس الشريرة، وباضت في رؤوسها، وقد أشار بعض العلماء فيه إلى قريب من المعنى الذي ذكرنا...
فإن قيل: وإذا قُدِّر الأمر على نحو ما ادعيتم، فأي فائدة في تصفيد من صُفِّد إذا كان أصل الشرِّ مستمرًا على حاله؟
قلنا: الفائدة فيه: فَضُّ جُمُوحِهِ، وكَسْرُ شوكته، وتَسْكِينُ نَائِرَتِهِ، ولو لم يكن الأمر على ذلك لم يكن لاستظهاره بالأعوان والجنود معنى. الميسر في شرح مصابيح السنة (2/ 456-457).
وقال محمد الطاهر بن عاشور -رحمه الله-:
وتصفيد الشياطين تمثيل لتعطيل كثير من حِيَلِ الشيطان وحَبَائِلِهِ؛ لأن المصفَّد تَقِلُّ حركاته وتصرُّفاته، فليس في الحديث دلالة على تمحُّضِ الناس في أيام الصيام للطاعات، وعِصْمَتِهم من المعاصي، ومَن حَمَلَهُ على ذلك لم يجد التأمُّل فيما يَؤُولُ إليه كلامُه مِن مُخالفة الحديث لما هو مُشاهد.
وقوله: « فُتِّحَتْ، وغُلِّقت، وصُفِّدَت» ثلاثتها بالتشديد؛ للدلالة على قوَّة الفعل في ثلاثتها، قال تعالى: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} الأعراف: 40، وقال: {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} يوسف: 23. كشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطأ (ص: 176).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«وصُفدت الشياطين» يعني: الْمَرَدَة منهم، كما جاء ذلك في رواية أخرى، والْمَرَدَة يعني الذين هم أشد الشياطين عداوةً وعدوانًا على بني آدم، والتَّصْفيد معناه: الغَلُّ، يعني: تُغَلُّ أيديهم حتى لا يَخْلُصُوا إلى ما كانوا يَخْلُصُون إليه في غيره، وكل هذا الذي أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- حقٌّ، أخبر به نُصْحًا للأُمَّة، وتحفيزًا لها على الخير، وتحذيرًا لها من الشر. شرح رياض الصالحين (5/ 274).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«وسُلْسِلَت الشياطين» كناية عن امتناع تسويل النفوس، واستعصائها عن قَبولِ وساوسهم؛ إذ بالصوم تنكسر القوة الحيوانية التي هي مبدأ الشهوة والغضب الدَّاعِيَيْنِ إلى أنواع المعاصي، وتَنْبَعِثُ القوَّة العقلية إلى الطاعات. شرح المصابيح (2/ 504).
وقال القاضي البيضاوي -رحمه الله-:
وهذه (الخصال المذكورة في هذا الحديث) وإنْ كانت مخصوصة بالصائمين لهذا الشهر، فلا يبعد في أنْ تشمل بركتهم مَن عَدَاهُم، ويُحِيط بمَن وراءهم. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/ 488).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث من الفقه: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أخبر أنَّ رمضان تُفتح فيه أبواب الجنة والرحمة، وتُغلق أبواب جهنم؛ وذلك أنَّ شُرْبَ الخُمور، وضَرْبَ الزَّمُورِ، والتظاهر بالمنكرات التي يَكُفُّ الناس عنها في شهر رمضان هي أبواب يدخل منها إلى النار، والصيام والقيام والقراءة وفنون التعبُّد التي تكون في رمضان، أبواب يدخل منها إلى الجنة، فهي التي تُفتح وتُغلق في رمضان.
فأما كون الشياطين تُسَلْسَلُ فهذا الحديث يقتضي ألا يبقى شيطان إلا سُلْسِلَ، وإنما أخبرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهذا ليعلمنا أنَّ في غير رمضان قد كان للعصاة كالعذر؛ يكون إبليس مطلقًا يغوي ويوسوس ويُسَوِّل هو وجنوده؛ لأن الله تعالى خلَقَه متصرفًا للمَذَام، وعذرًا في الجملة لأولاد آدم، فإذا سُلسل في شهر رمضان انقطع عذر من يحتج بإبليس وتَسْويلِه، وقيل له: إنَّ المعصية منك وحدك الآن؛ فاستُفيدَ من هذا القول: شدة التحذير من المعاصي في رمضان. الإفصاح عن معاني الصحاح (6/ 264-265).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
من فوائده (أي: هذا الحديث):
منها: ما بوَّب له المصنِّف، وهو بيان فضل شهر رمضان.
ومنها: إثبات الجنة والنار، وأنهما الآن موجودتان، وأنَّ لهما أبوابًا تُفتح وتُغلق.
ومنها: إثبات وجود الشياطين، وأنهم أجسام يُمْكِنُ شَدُّهَا بالأغلال، وأنَّ منهم مَرَدَةً يُغَلُّون بالأغلال في شهر رمضان؛ لئلا يُبطلوا أعمال الصائمين.
ومنها: بيان عظمة لطف اللَّه تعالى، وكثرة كرمه وإحسانه على عباده، حيث يحفظ لهم صيامهم، ويدفع عنهم أذى المردة من الشياطين؛ لئلا يُفْسِدُوا عليهم عبادتهم في هذا الشهر المبارك الذي تُضاعَف فيه الحسنات، وتُقَالُ فيه العثرات. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (20/ 255).

وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)


ابلاغ عن خطا