الأحد 23 رمضان 1446 هـ | 23-03-2025 م

A a

«إذا أَصْبَحَ أحدُكُمْ يومًا صائمًا، فلا يَرْفُثْ ولا يَجْهَلْ، فإنِ امْرُؤٌ شاتَمَهُ أو قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إنِّي صائمٌ، إنِّي صائمٌ».


رواه البخاري برقم: (1894)، ومسلم برقم: (1151) واللفظ له، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«فلا يَرْفُثْ»:
أي: لا يتكلَّم بِفُحْشٍ. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 123).
والرَّفَثُ: كَلمةٌ جَامِعَة لكُلِّ مَا يُريده الرجُلُ مِن أَهْلِه. تهذيب اللغة (15/ 58).
قال الفيروز آبادي -رحمه الله-:
الرَّفَثُ، محرَّكةً: الجِماعُ والفُحْش. القاموس المحيط (ص: 170).

«ولا يَجْهَلْ»:
أي: لا يَفْعَلُ خِلاف الصواب من قولٍ أو فعلٍ. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 123).
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
أي لا يقل قولَ أهل الجَهْل مِن رَفَثِ الكلام والسَّفَهِ، أو لا يَشْتُم أحدًا ويَجْفُهُ، يُقال: جهِل على فلان إذا جَفَاهُ. مشارق الأنوار على صحاح الآثار (1/ 162).

«شاتَمَهُ»:
أي: تعرَّض لِمُشَاتَمَتِه. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (4/ 337).
والشَّتْمُ: السَّبُّ، وَبَابُهُ: ضَرَبَ، وَالِاسْمُ الشَّتِيمَةُ، وَالتَّشَاتُمُ: التَّسَابُّ، وَالْمُشَاتَمَةُ: الْمُسَابَّةُ. مختار الصحاح (ص: 161).

«قَاتَلَهُ»:
أي: دافَعَهُ ونَازَعَهُ. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 123).


شرح الحديث


قوله: «إذا أَصْبَحَ أحدُكُمْ يومًا صائمًا»:
قال ابن الملك -رحمه الله-:
الظرف (يومًا) مفعول، «صائمًا» مُقدَّم عليه، معناه: ناويًا صومَ يومٍ. مبارق الأزهار في شرح مشارق الأنوار (1/ 266).
وقال المناوي -رحمه الله-:
أي: فرضًا أو نفلًا. فيض القدير (1/ 543).
وقال العراقي -رحمه الله-:
لا فرق في ذلك بين يوم ويوم، فالأيام كلها في ذلك سواء، فمتى كان صائمًا نفلًا أو فرضًا، في رمضان أو غيره، فليَجْتَنب ما ذُكِرَ في الحديث. طرح التثريب في شرح التقريب (4/ 92).

قوله: «فلا يَرْفُثْ»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«فلا يَرْفُثْ» مُثَلَّثُ الفاء، أي: لا يتكلَّم بِفُحْشٍ، قال أبو زُرْعة: ويُطلق في غير هذا المحل على الجِمَاع ومُقَدِّماته، وعلى ذكره مع النساء، ومطلقًا. فيض القدير (1/ 543).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
«فَلَا يَرْفُثُ» فائدةٌ: فاءُ الرَّفَثِ مُثَلَّثَةٌ في الماضي والمضارِعِ، والأفْصَحُ: الفتحُ في الماضي، والضَّمُّ في المستقبَلِ، واللَّه أعلم. فتح الباري (3/ 382).
وقال ابن حجر -رحمه الله- أيضًا:
والمراد بالرَّفَّث هنا... الكلام الفاحش، وهو يطلق على هذا، وعلى الجِمَاع، وعلى مقدماته، وعلى ذكره مع النساء، أو مُطلقًا، ويُحتمل: أنْ يكون لما هو أعم منها. فتح الباري (4/ 104).
وقال صفي الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
وقال كثير من العلماء: إنَّ المراد به الرفث في هذا الحديث: الفُحش، رديء الكلام وقبِيحُه، ويُحتمل: أنَّ يكون أعم من ذلك كله. منة المنعم في شرح صحيح مسلم (2/ 186).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
لا يُفهم من هذا الشرط: أنَّ غير يوم الصوم يُباح فيه الرَّفَث والسَّخَبُ، فإنهما ممنوعان على الإطلاق، وإنما تأكد منعهما بالنسبة إلى الصوم. المفهم (3/ 214).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
والمعنى: إذا كان أحدكم صائمَ يوم من الأيام، فلا يرْفُثُ، أي: لا يتكلَّم الكلام الفاحش، كَسَبِّ الناس وشَتْمِهِم، والغيبة والنميمة، ومُرَاوَدَة النساء. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (13/ 111).

قوله: «ولا يَجْهَلْ»:
قال المناوي -رحمه الله-:
قوله: «ولا يجهل» أي: لا يفعل خلاف الصواب من قولٍ أو فعلٍ، فهو أعم مما قبله، أو لا يعمل بخلاف ما يقتضيه العلم، أو لا يقل قول أهل الجهل، والمراد أنَّ ذلك في الصوم آكد، وإنْ كان منهيًّا عنه في غيره أيضًا. فيض القدير (1/ 543).
وقال النووي -رحمه الله-:
والجهل قريب من الرَّفَثِ، وهو خلاف الحكمة، وخلاف الصواب من القول والفعل. شرح النووي على مسلم (8/ 28).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «ولا يجهل» أي: لا يفعل شيئًا من أفعال أهل الجهل، كالصياح والسَّفَه، ونحو ذلك. فتح الباري (4/ 104).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«ولا يجهل» أي: لا يفعل شيئًا من أفعال أهل الجهل والبطالة، كضرب الناس، والمقاتلة والصياح والصَّخَب في الأسواق، ونحو ذلك. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (13/ 111).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
والجهل في الصوم: هو العمل فيه على خلاف ما يقتضيه العلم. المفهم (3/ 214).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«ولا يجهل» أي: لا يفعل فعل الجُهَّال، كالصياح والسخرية، أو يسفه على أحد، وعند سعيد بن منصور: «فلا يرفث ولا يجادل»، وهذا ممنوع في الجملة على الإطلاق، لكنه يتأكَّد بالصوم، كما لا يخفى. إرشاد الساري (3/ 346).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قال الداودي: تخصيصه في هذا الحديث ألا يرفث ولا يجهل؛ وذلك لا يحل في غير الصيام، وإنما هو تأكيد لحرمة الصوم عن الرفث والجهل، كما قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} المؤمنون: 1- 2، والخشوع في الصلاة أوكد منه في غيرها، وقال في الأشهر الحرم: {فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} التوبة: 36، فأكَّد حُرمة الأشهر الحُرم، وجعل الظلم فيها آكد من غيرها، فينبغي للصائم أنْ يُعظِّم من شهر رمضان ما عظَّم الله ورسوله، ويَعرف ما لَزِمَهُ مِن حُرمة الصيام. شرح صحيح البخاري (4/ 24).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
والجمهور حمَلوا النهي على التحريم، وهو الأصل في النهي، وعلى أنَّ الصوم لا يَبطل بشيء من ذلك، وقال الأوزاعي: يَبْطل الصوم بالغيبة والكذب، ويجب القضاء، وأجاب الماوردي وغيره: بأنَّ المراد بطلان الثواب لا نفس الصوم. شرح سنن أبي داود (10/ 378).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
وقال الأوزاعي: يُفطِر بالسَّبِّ والغِيْبة، فقيل: معناه: يصير كالمُفطِر في سُقوط الأجْر؛ لا أنه يُفطِر حقيقةً. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (6/ 355).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قال الأوزاعي: إنَّ الغيبة تُفطِّر الصائم، وتُوجِب عليه قضاء ذلك اليوم، وأفرط ابن حزم فقال: يُبْطِلُه (الصيام) كل معصية مِن مُتعمِّد لها، ذاكرٍ لصومه، سواء كانت فعلًا أو قولًا؛ لعموم قوله: «فلا يرفث ولا يجهل»؛ ولقوله في الحديث الآتي بعد أبواب: «مَن لم يدع قول الزور، والعمل به، فليس لله حاجة في أنْ يدع طعامه وشرابه»، والجمهور وإنْ حملوا النهي على التحريم، إلا أنهم خَصُّوا الفِطر بالأكل والشرب والجِماع. فتح الباري (4/ 104).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
دعوى الحافظ على ما قاله ابن حزم بالإفراط غير صحيحة، كيف يقال لمن قال بما اقتضاه ظواهر النصوص: إنه أفرط؟ بل هذا هو الإفراط نفسه، فما قاله ابن حزم هو الظاهر، وقد تقدَّم قريبًا النقل عن عائشة والأوزاعيِّ: أنَّ الغيبة تُفطِّر الصائم، فلم لم يعترض عليهما مع أنَّ الجمهور لا يرون ذلك أيضًا.
والحاصل: أنَّ مذهب الجمهور هو الذي يحتاج إلى دليل، واللَّه تعالى أعلم بالصواب. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (21/ 82).
وقال السبكي -رحمه الله-:
التنزه عن الغيبة وإن كان واجبًا فهو مطلوب في الصوم على جهة الاستحباب، فإذا لم يحصل، حصل الإثم المترتب عليه في نفسه، للنهي المطلق عنه الذي هو للتحريم، وحصل مخالفة أمْرِ الندب بتنزيه الصوم عن ذلك، ونقص الصوم بتلك المخالفة التي هي خاصة به، من حيث هو صوم، وهي غير المخالفة التي هي من حيث ذات الفعل المنهي عنه. فتاوى السبكي (1/ 222).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
ولا يُفهم من النهي عن الرفث والجهل مع الصيام أنَّ غير الصوم يباح فيه ما ذُكِر، وإنما المراد أنَّ المنع من ذلك يتأكَّد بالصوم...، ولا يشك أحدٌ في أنَّ مَن لم يُعرِّض صيامه لشيء من ذلك طول نهاره، ليس هو في الفضل كمن عرَّضَ صيامه للآثام. المنهل الحديث في شرح الحديث (2/ 227).

قوله: «فإنِ امْرُؤٌ شاتَمَهُ»:
قال العيني -رحمه الله-:
كلمة (إنْ) مُخَفّفَة موصُولَة بما بعده. عمدة القاري (10/ 258).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فإنْ امرؤٌ» فاعل فعل محذوف، دل عليه قوله: «شاتَمَه أو قاتَلَه». التنوير شرح الجامع الصغير (2/ 178).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«فإنْ امرؤٌ شاتَمه» أي: شَتَمَهُ امرؤ متعرضًا لمشاتمته. فيض القدير (1/ 424).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«فإنْ امرؤ شاتمه» (إنْ) هذه تدخل على الفعل، والتقدير: إنْ شاتَمَه امرؤ شاتَمَه، و«امرؤ» فاعل لفعل محذوف، و«شاتَمَه» المذكورة تفسير للمحذوفة، ولما كانت المفاعلة أصلها الفعل من جانبين فُسِّر «شاتَمَه» بمعنى: تعرَّض للمشاتمة، فهي من جانب غير الصائم شتْمٌ بالفعل، ومن جانب الصائم تأهلٌ وصلاحية لأنْ يشتم الشاتم؛ عقابًا له. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (5/ 19).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
«شاتمه» أي: خاصَمَهُ باللسان. مرعاة المفاتيح (6/ 411).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
الشَّتْمُ: هو الوصف بما يقتضي النقص. السراج المنير شرح الجامع الصغير (3/ 398).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
وقد استُشكِل ظاهرُه بأنَّ المفاعَلة تقتضي وقوع الفعل من الجانبين، والصائم لا تصدر منه الأفعال التي رُتِّب عليها الجواب، خصوصًا المقاتلة.
والجواب عن ذلك: أنَّ المراد بالمفاعلة التهيُّؤ لها؛ أي: إنْ تهيَّأ لمقاتَلَته أو مُشَاتَمَتِه، فليقل: إني صائم، فإنه إذا قال ذلك أمكن أنْ يكفَّ عنه، فإنْ أصرَّ دَفَعه بالأخفِّ فالأخفُّ كالصَّائل، هذا فيمن يروم مقاتلته حقيقة، فإنْ كان المراد بقوله: «قاتَلَهُ» شَاتَمَه؛ لأن القتل يُطلَق على اللعن، واللعنُ من جملة السبِّ، ويؤيِّده ما تقدَّم من الألفاظ المختلفة، فإنَّ حاصلها يرجع إلى الشتم، فالمراد من الحديث: أنه لا يعامله بمثل عمَله، بل يقتصر على قوله: «إني صائم». البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (21/ 346-347).
وقال محمد بن عبد الحق اليفرني -رحمه الله-:
ووصفه ها هنا بأنَّه مُشَاتِم ومُقَاتِل، وإنْ كان هذا لا يُستعمل إلا من فعل اثنين، يحتمل ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنْ يريد: فإنْ امرؤٌ أراد أنْ يُشَاتِمَه أو يقاتِله فيمتنع من ذلك؛ وليقل: إني صائم.
والثاني: أنَّ لفظ المفاعلة وإنْ كانت أظْهر في فِعْلِ الاثنين إلا أنه قد يُستعمل في فعل الواحد، فيقال: سافَر الرَّجُل، وعالَجَ الطبيبُ المريض.
والثالث: أنْ يُراد أنه إنْ وُجِدت المشاتمة والمقاتلة منهما جميعًا فليُذكِّر نفسه الصائم بصومه، ولا يَسْتَدِم المقاتلة والمشاتمة. الاقتضاب في غريب الموطأ وإعرابه على الأبواب (1/ 346).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وأبْعَدَ مَن حَمَلَه على ظاهره، فقال: المراد إذا بَدَرَت من الصائم مُقابَلَةُ الشتم بِشَتْمٍ على مقتضى الطبع، فلينْزَجِر عن ذلك، ويقول: «إني صائم»، ومما يُبْعِده قوله في الرواية الماضية: «فإن شتَمَهُ شَتَمَهُ» والله أعلم. فتح الباري (4/ 105).

قوله: «أو قَاتَلَهُ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«قاتَلَهُ» أي: أراد قتْلَهُ بحربٍ أو ضربٍ أو مخاصمةٍ ومجادلةٍ. مرقاة المفاتيح (4/ 1363).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
«قاتَلَهُ» أي: دافَعَهُ ونَازَعَه، وتكون بمعنى: شاتَمَهُ ولاعَنَه، وقد جاء القتل بمعنى: اللعن. إكمال المعلم (4/ 109).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«أو قاتَلَهُ» أي: أراد مقاتلته. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 182).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «أو قاتَلَه» يعني: أو خاصَمَه وحاربَه. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 10).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«أو قاتَلَهُ» أي: دافَعَه ونَازَعَه، أو لَاعَنَه متعرِّضًا لمثل ذلك منه، فالمفاعلة حاصلة في الجملة. فيض القدير (1/ 424).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«أو» للتنويع «قاتَلَهُ» أي: ضارَبَه، أو طاعَنَه. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (7/ 49).

قوله: «فَلْيَقُلْ: إنِّي صائمٌ، إنِّي صائمٌ»:
قال المناوي -رحمه الله-
«فليقل» بلسانه: «إني صائم» أي: عن مُكَافَأَتِك، أو عن فِعْل ما لا يرضاه مَن أصوم له، بحيث يسمعه الصائم، وجمْعُه بين اللسان والجَنَان أولى، فيُذكِّر نفسه بإحضاره صيامه بقلبه؛ ليَكُفَّ نفسَه، وينطق بلسانه؛ ليَنْكَفَّ عنه خَصْمُه. فيض القدير (1/ 543).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«فليقل: إني صائم» ويَكُف عن خَصْمه، ويكُنْ عبدَ الله المظلوم، ولا يكن الظالم. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (7/ 49).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فليقل» لنفسه زاجرًا لها عن المشاتمة والمقاتلة: «إني صائم، إني صائم»، والظاهر: أنَّ هذا في غير الجهاد، وأما في الجهاد فيجب مقاتلة مَن قاتله.
وفيه: أنَّ قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} الشورى: 40، تختصُّ بمن ليس بصائم، أو أنَّه هنا حثٌّ على الأفضل، وفي الآية شأن الجواز. التنوير شرح الجامع الصغير (2/ 178).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «إني صائم» يراد به القول باللسان؛ ليندفع عنه خصْمُه، أي: إذا كنتُ صائمًا لا يجوز لي أنْ أُخَاصمك بالشتم والهذيان، وقيل: المراد به الكلام النفسي، بأنْ يتفكر في نفسه أنه صائم، لا يجوز له أنْ يغضب ويهذي ويَسُب. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1575).
وقال النووي -رحمه الله-:
«فليقل: إني صائم، إني صائم» هكذا هو مرتين، واختلفوا في معناه، فقيل: يقوله بلسانه جهرًا، يُسْمِعُهُ الشاتِمُ والمقَاتِل، فينزجر غالبًا، وقيل: لا يقوله بلسانه، بل يُحدِّث به نفسه؛ ليمْنَعها من مُشاتَمتِه ومقاتَلَتِه ومقابَلتِه، ويَحْرُس صومه عن المكدِّرات، ولو جَمَعَ بين الأمرين كان حسنًا.
واعلم أنَّ نهي الصائم عن الرفث والجهل والمخاصمة والمشاتمة ليس مختصًّا به، بل كل أحد مثله في أصل النهي عن ذلك، لكن الصائم آكد، والله أعلم. شرح النووي على مسلم (8/ 28).
وقال النووي -رحمه الله- أيضًا:
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «فليقل: إني صائم» ذكر العلماء فيه تأويلين:
أحدهما: يقوله بلسانه، ويُسمِعُه لصاحبه؛ ليزْجُره عن نفسه.
والثاني: وبه جزم المتولي: يقوله في قلبه لا بلسانه، بل يُحدِّث نفسه بذلك، ويذكِّرها أنه صائم، لا يليق به الجهل والمشاتمة، والخوض مع الخائضين، قال هذا القائل: لأنه يخاف عليه الرياء إذا تلفظ به، ومن قال بالأول يقصد زجره لا للرياء، والتأويلان حسنان، والأول أقوى، ولو جمعهما كان حسنًا. المجموع شرح المهذب (6/ 356).
وقال السبكي -رحمه الله-:
وهذه العبارة (وهي قول النووي: ولو جمعهما كان حسنًا) تُوهِم أنَّ القائل بذلك يقتصر على اللساني، ولا يجعل قوله في النفس مطلوبًا، ولا أرى بذلك قائلًا، بل الخلاف عندي مردود إلى أنه: هل يقتصر على النفسي فيكون أبْعَد عن الرياء والسمعة، أو يَضُمَّ إليه اللساني؟ فمن قال: يقوله بلسانه، لا يمكنه أنْ يقول: لا يقوله بقلبه، بخلاف مَن عَكَسَ. الأشباه والنظائر (2/ 7).
وقال النووي -رحمه الله-:
قيل: إنه يقول بلسانه، ويُسمع الذي شاتَمَه؛ لعلَّه ينزجر، وقيل: يقوله بقلبه؛ لينكفَّ عن المسافهة، ويحافظ على صيانة صومه، والأوَّل أظهر. الأذكار (ص: 189).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وقد اختُلف في معنى قوله في هذا الحديث: «فليقل: إني صائم»، فقيل: هو على وجْهِهِ كما تقدَّم؛ وليُسْمِع ذلك مُشاتِمَه؛ ليَعلم اعتصامه بالصوم فلا يؤذيه.
ويحتمل: أنْ يكون المراد به أنْ يخاطب بذلك نفسه على جهة الزجر لها عن السباب والمشاتمة.
وقد جاء آخر الحديث في مصنف النسائي مُفسَّرًا قال: «ينهى بذلك عن مراجعة الصائم». إكمال المعلم (4/ 109).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
وفي قوله: «فليقل: إني صائم» وجهان:
أحدهما: فليقل بلسانه؛ ليمتنع الشاتِمُ مِن شَتْمِه إذا عَلِم أنه مُعتصِم بالصوم. والثاني: فليقل لنفسه: أنا صائم فكيف أجيب مَن يجهل؟ كشف المشكل (3/ 336).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
ولا يُعْلِن بقوله: «إنِّي صائمٌ »؛ لما فيه من الرِّيَاءِ واطِّلَاع النَّاس عليه؛ لأنَّ الصَّومَ منَ العملِ الذي لا يَظهر؛ ولذلك يَجْزِي اللهُ الصائمَ أجره بغير حسابٍ، فقولُه: «فَلْتَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ» فيه وجهان من التَّأوِيل:
أحدهما: أنَّ تقول ذلك في نَفسِكَ، فلا تُجَاوِبْهُ بشَتْمٍ ولا غيره.
الثَّاني: أنَّ تقولها مُجَاوِبًا له: إنِّي صائمٌ فلا أُجَاوِبُكَ.
والأوّلُ أَوْلَى؛ لنَفْيِ الرِّيَاءِ. المسالك في شرح موطأ مالك (4/ 237).
وقال ابن العربي -رحمه الله- أيضًا:
لم يختلف أحدٌ أنَّه يقول ذلك مُصرِّحًا له في يوم الفرض، كان رمضان أو قضاء أو غير ذلك من أنواع الفرض.
واختُلف في التطوع، فالأصح أنه لا يُصرِّح به، وليقل لنفسه: إني صائم، فكيف أقول الرفث وإنْ قيل لي؟ إنما أسكتُ فأَرْبَحُ سلامة صومي. عارضة الأحوذي (2/232).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
الظاهر: أنَّه يقوله بلسانه مطلقًا؛ لإطلاق النصِّ، فإنه لم يفرِّق بين فرض وتطوُّع، والله تعالى أعلم. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (21/ 347).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
قوله: «فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ» اختُلف هل يقوله بلسانه؛ ليَكُفَّ عن شتمِه، أو بقلبه؟
والأظهر الأول؛ لأنه لا ينْكَفُّ بذلك، ووجه الثاني: خوف الرياءِ، لا جرم فرَّق بعضُ أصحابِنا بين الفرضِ والنفل. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (13/ 20).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«فليقل» أي: بقلبه ولسانه، الأوَّل: لكَفِّ نفْسه عن مُقاتَلَة خَصْمه، والثاني: لكَفِّ خصْمِه عن الزِّيادة، وهو من أسرار الشريعة، فهو مِن حَمْلِ اللَّفظ على حقيقتيه، أو حقيقته ومَجازِه؛ وذلك واجبٌ عند الشَّافعي، وهذا وإنْ لم يختصَّ بالصَّائم إلا أنَّه في الصِّيام أَوْكَد. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (6/ 355).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
قوله: «فليقل: إني صائم»... هو كالعذر أيضًا لنفسه أنْ تَرَكَ ملاحاة خصمه...، وفي هذا دليل على جواز أنْ يُظهِر العامل شيئًا من عمله؛ ليَسْتَجِنَّ به مِن شرٍّ. الإفصاح عن معاني الصحاح (6/ 88).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
فأَرْشَد إلى تعديل قوى الشهوة والغضب، وأنَّ الصائم ينبغي له أنْ يحتمي من إفسادهما لصومه، فهذه تفسد صومه، وهذه تُحبط أجْرَه. عدة الصابرين (ص: 112).
وقال صفي الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
«فليقل: إني صائم» فإنَّ الأغلب أنَّه يَكُفُّ، فإنْ لم يكُفَّ دَفَعَه بالأخفِّ فالأخف. منة المنعم في شرح صحيح مسلم (2/ 187).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
واتفق الروايات كلها على أنَّه يقول: «إني صائم»، فمنهم من ذكرها مرتين، ومنهم من اقتصر على واحدة...، وأما تكرير قوله: «إني صائم» فلِيَتَأكَّد الانزجار منه، أو ممن يخاطبه بذلك، ونقَل الزركشي أنَّ المراد بقوله: «فليقل: إني صائم» مرتين، يقوله مرة بقلبه، ومرة بلسانه، فيستفيد بقوله بقلبه كفَّ لسانه عن خصمه، وبقوله بلسانه كفَّ خصمه عنه، وتُعقِّب: بأنَّ القول حقيقة باللسان، وأُجيب بأنه لا يمنع المجاز. فتح الباري (4/ 104-105).
وقال العراقي -رحمه الله-:
فيه: استحباب تكرير هذا القول وهو «إني صائم»، سواء قلنا: إنه يقوله بلسانه أم بقلبه؛ ليتأكد انْزِجَارُه، أو انزجارُ مَن يخاطبه بذلك. طرح التثريب في شرح التقريب (4/ 93).
وقال محمد الطاهر بن عاشور -رحمه الله-:
بعد أنْ نُهِيَ الصائم عن الاعتداء على الناس في المخاطبات والمعاملات بالقول والفعل بما رمز إليه بقوله: «فلا يرفث ولا يجهل»، نُهي أيضًا عن أنْ يجازي اعتداء غيره عليه بمثله، فَلِأَنَّ المجازاة على الشر بمثله مرخَّص فيها، ولكن الصائم لمَّا ارتقى إلى درجة الملَكِيَّة حقيقًا بالإمساك عن التلبُّس بسِمات الحيوانية، فلقوله: «فلْيقل: إنِّي صائم، إنِّي صائم» معناه: فليقتصر على هذا القول، وليس المراد فليقُل ذلك وهو يباشر الانتقام؛ لظهور أنه لا معنى له، وإنَّما لم يُؤمَر بالإمساك مطلقًا، وأُمِرَ بأن يقول لمن اعتدى عليه: إنِّي صائم، مع أنَّ ذلك لا يدفع عنه أذى المعتدين، ترخيصًا للمعتدى عليه في شيء مما يزيل عنه حرج الصبر على الاعتداء؛ لما في النفوس من إباء الضَّيْم، فرخَّص له في هذا القول، وإنْ كان فيه شيء من الرياء لمصلحة أعظمَ، وهي إمساك النفس عن الاندفاع إلى الانتقام؛ ليعلم بذلك لمن اعتدى عليه وللناس أنَّ إمساكه عن الانتقام والمجازاة ليس لعَجْز وضُعف، بل للحفاظ على كمال الصوم من أنْ يَنْثَلم بالدخول في آثار الغضب الذي هو من القوى الحيوانية.
والمقصود من قوله: «إنِّي صائم» مرتين مجرَّد التكرير، أي يُكَرِّرُ ذلك تكريرًا يَعِيْهِ مَن يسمعه، ويرتدع به مَن يَقرعه. كشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطأ (ص:172- 173).
وقال عبد الله العتيبي -رحمه الله-:
فليقل: «إني صائم» ظاهر هذا اللفظ أنَّه يجهر به؛ لقوله: «فليقل»، وهذا خلافٌ لمن قال: إنْ كان الصوم فرضًا فإنه يجهر، وإنْ كان الصوم نفلًا فلْيُسِرَّهُ، فهذا التفريق لا دليل عليه، ونقول: إنَّ الأصل في كلمة «قال» و«يقول» الجهر، وعلى ذلك فليقل جهرًا: إني صائم، مرتين، وجاء أيضًا أن يقولها مرة واحدة، وجاء أيضًا أنه يقول: «إني امرؤ صائم»، فهذا الذي حُفظ في السُّنة، وأما قول البعض: «اللهم إني صائم» فهذا لا نعلم أنه جاء عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
وفي قول الإنسان لمن سابَّه أو شاتَمَه: «إني صائم» فيه فوائد:
1. فيه الانتصار النفسي للشخص حينما يقول لشاتِمِه: إني صائم، فهذا فيه نوع انتصار واستعلاء عن المواجهة بمثل هذا الخَنَا والقبح.
2. فيه توبيخ لهذا السابِّ والمقاتِل. شرح كتاب الصوم من صحيح البخاري (ص: 14).

وللاستفادة من الروايات الأخرى ينظر (هنا) و (هنا) و (هنا)


ابلاغ عن خطا