أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -كان يُعطي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- العطاء، فيقول له عمر: أَعطه، يا رسول الله! أَفقر إليه مِني، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «خُذهُ فتموله أو تصدق به، وما جاءك مِن هذا المال وأنت غير مُشْرفٍ ولا سائلٍ، فخُذْهُ، وما لا، فلا تتبعه نفسك».
رواه البخاري برقم: (7164)، ومسلم برقم: (1045)، من حديث عبد الله بن عمر عن عمر -رضي الله عنهما-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«العطاء»:
اسم ما يُعطى، والجمع أُعْطِيَة وأُعْطِيَات. المغرب في ترتيب المعرب، للمطرزي (ص: 319).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
والعطاء: هو المال الذي يقسمه الإمام في المصالح. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (23/225).
«مُشْرِفٍ»:
بسكون الشين المعجمة بعد الميم المضمومة. إرشاد الساري، للقسطلاني(3/62).
وقال النووي -رحمه الله-:
المشرف إلى الشيء هو المتطلع إليه الحريص عليه. شرح صحيح مسلم(7/134).
شرح الحديث
قوله: «يعطيني عمر بن الخطاب العطاء»:
قال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
أي: يعْرِضُ عليَّ العطاء. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (4/397).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«يعطيني العطاء» أي: بسبب العَمالة، كما في مسلم: «لا من الصدقات» فليست من جهة الفَقر. إرشاد الساري (3/62).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «كان يعطي عمر بن الخطاب» ما هذا العطاء؟ هذا العطاء هو العمالة على الصدقة؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعث عمر على الصدقة، فلما رجع أعطاه منها سهم العاملين عليها، فكان عمر يقول: «أعْطِهِ أَفْقَرَ مني». فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (3/158).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وقد يحتمل: أن يكون قوله في هذا الحديث: «بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عمر بعطاء» أي: مما كان يقسمه من الفيء على سبيل الأعطية، وهو بعيد؛ لأن أول مَن فَرَضَ الأعطية عمر بن الخطاب، ويستحيل أيضًا أن يردَّ نصيبه من الفيء ويقول فيه ذلك القول لمن تدبره.
والوجه عندي: أنها عطية على وجه الهبة والهدية والصلة. التمهيد (5/84).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«يعطيني العطاء فأقول» (بحسب الرواية الأخرى) هذا التعبير يفيد ظاهره التكرار، وكأن عمر كان يردُّ ما يُعْطَاه بعد أن أمره الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالأخذ لكن هذا الظاهر غير مُراد، فقد أوضحَتْهُ رواية البخاري في الأحكام، ولفظها: «حتى أعطاني مرة مالًا فقلتُ: أعطه من هو أفقر مني، فقال: خذه فتَمَوَّلْهُ وتصدَّق به»، فكان عمر يأخذ دون اعتراض، فلما اعترض وأُجِيْبَ عاد يأخذ من غير اعتراض. المنهل الحديث في شرح الحديث (2/168).
قوله: «فأقول: أعطه من هو أفقر إليه مني»:
قال ابن الملك -رحمه الله-:
«أعطه أَفْقَر» أي: أحوج منِّي إليه. شرح مصابيح السنة (2/446).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «أفقر إليه منِّي» فإن قلتَ: كيف جاز الفصل بين أفعل التفضيل وبين كلمة (مِن)؟ قلتُ: ليس أجنبيًّا، بل هو ألْصَقُ به من الصلة؛ لأن ذلك محتاج إليه بحسب جوهر اللفظ، والصلة محتاج إليها بحسب الصيغة. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (24/211).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«أفقر إليه مني» عبَّر بـ«أفقر» ليفيد نُكْتَةً حسنة، وهي كون الفقير هو الذي يملك شيئًا ما؛ لأنه إنما يتحقق فقير وأفقر إذا كان الفقير له شيء يَقِل ويكثر، أما لو كان الفقير هو الذي لا شيء له ألبتة كان الفقراء كلهم سواء ليس فيهم أفقر. إرشاد الساري (3/62).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «أعطه أفقر منِّي» ليس أمرًا فيما يظهر؛ لأن مثل عمر لا يأمر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وليس التماسًا؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أعلى من عمر، إذًا فما هو؟
سؤال لكنه أشد أدبًا من الالتماس، الالتماس نحو: أن يسألك قرينُك وهو يشعر بأنك مثله في المرتبة، لكن السؤال يسألك السائل وهو يرى أنك أعلى منه، فإن رأى أنك دونه فهو أمر. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (3/158).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «أفقر منِّي» إشارة إلى أن الناس يختلفون في الغنى والفقر، وأن الأفقر أحق بالعطاء من الأغنى. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (3/158).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«إليه» أي: العطاء بمعنى المعْطَى. دليل الفالحين (4/521).
وقال ابن علان -رحمه الله- أيضًا:
وكان ذلك من عُمَرَ لسماعه من النبيّ للنهي عن الاستكثار من الدنيا والحرص عليها، وعنده حين دَفَعَ النبيُّ له من العطاء ما يكفيه¬. دليل الفالحين (4/521).
قوله: «فقال: خُذه»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«فقال» أي: النبيّ -صلى الله عليه وسلم-. دليل الفالحين (4/522).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله له: «خذه» أمر على جهة الندب والإرشاد للمصلحة. المفهم (3/89).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«خذه» أي: بالشرط المذكور بَعْدُ، وزاد في رواية شعيب عن الزهري في الأحكام: «فتموَّله وتصدَّق به» أي: اقبله وأدخله في مُلْكِك ومَالِكَ، وهو يدل على أنه ليس من أموال الصدقات؛ لأن الفقير لا ينبغي أن يأخذ من الصدقات ما يتخذه مالًا. إرشاد الساري (3/62).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«خذه» هذا المطلق في الأمر بالأخذ محمول على المقيَّد الآتي، أي: خُذْهُ وأنت غير مُشْرِف ولا سائل. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (4/397).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
وفي هذا الحديث من الفقه أيضًا: أنه قال له: «فتَمَوَّلْهُ وتصدَّق به» (بحسب الرواية الأخرى) ولم يقل: فتصدق به من غير ذكر تقديم قوله: «فتموله»؛ لأنه إذا تموَّله وصار له مالًا وملكًا دخل حينئذٍ في جملة من قال الله -عزَّ وجلَّ- فيهم: {يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} البقرة:261، على ما يملكونه من حلالهم الطيب، إذ لو أنفق الإنسان من شيء في يده على سبيل الغصب لم يكن مُنْفِقًا لماله بل مُنْفِقًا مال غيره، ولو تصدَّق به من قَبْلِ أن يتموَّله كان فيه كالوكيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكان لا يحظى هو بكمال ثوابه، وينقص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من عشرة أضعاف إلى ضعف واحد؛ وذلك أن المتصدق الأول يكتب له الدرهم بعشرة، فإذا تصدق الثاني انتقلت رتبة العشرة إلى الثاني، وانتقلت العشرة مضروبة في نفسها فصارت للمتصدق الأول؛ لأن الأصل منه وفرع العشرة انتقل إلى غيره، ولو تصدق بها الذي تصدق عليه عُمَرُ لكان لذلك الإنسان العشرة ولعمر مائة، ولرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألف، وعلى ذلك ما زاد وهذا من قوله سبحانه وتعالى: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} البقرة:245، {وكثيرة} ههنا نكرة، والنكرة في هذا الموضع أعم من المعرفة. الإفصاح عن معاني الصحاح (1/103-104).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله- أيضًا:
وفي هذا الحديث من الفقه: قوله في الرواية الأخرى: «فتموله وتصدق به» وذلك دليل على أنه لم يعزم عليه في الصدقة به؛ لأنه ربما يكون في نفسه محتاجًا إليه. الإفصاح عن معاني الصحاح (1/104).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
ومنها (يعني فوائد الحديث): أن التصدق بالمال بعد قبضه أفضل من التصدق قبله؛ لأن الإنسان إذا دخل المال في يده يكون أحرص عليه، فإذا تصدق به طيِّبَة نفسه كان أدل على حُبّه للخير، وقوة إيمانه، بخلاف ما إذا تصدق قبل قبضه فإن النفس لا تطمع إليه كثيرًا. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (23/227).
قوله: «إذا جاءك من هذا المال شيء»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«إذا جاءك» أي: وصلك «من هذا المال». دليل الفالحين (4/522).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«جاءك من هذا المال» إشارة إلى جنس المال، أو إلى الذي أعطاه -صلى الله عليه وسلم-. شرح مصابيح السنة (2/446).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«هذا المال» قوله: «هذا» لا شك أنه إشارة، و (أل) في «المال» هل المراد بها: الجنس، أو المراد بها: العهد؛ يعني: هل المراد بالمال هنا: مال الزكاة، أو المراد: جنس المال؟
يحتمل، وقد يرجِّح أن المراد به الزكاة اسم الإشارة «هذا المال»؛ لأن عمر كان عاملًا على الصدقة، فهذا يرجِّح أن يكون المراد به: مال الزكاة، ولكن حتى وإن كان اللفظ لا يشمل سواه من الأموال من حيث اللفظ فهو يشمله من حيث المعنى بالقياس؛ لأن الشمول المعنوي هو ما شمل الأشياء بالقياس، والشمول اللفظي: هو ما شمل بمقتضى دلالة اللفظ. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (3/158).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«إذا جاءك من هذا المال» أي: المال الذي يقسمه الإمام. المنهل الحديث في شرح الحديث (2/168).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«شيءٌ» التنوين فيه للتعميم، فيشمل القليل والجليل. دليل الفالحين (4/522).
قوله: «وأنت غير مُشْرِفٍ»:
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «وأنت غير مُشْرِفٍ» (الواو) حاليَّة، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الفاعل في «جاءك»، أو من المفعول، فهي حال من الكاف. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (3/158).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قوله: «غير مُشْرِفٍ» يعني: غير مُتَعَرِّض ولا حريص عليه بِشَرَهٍ وطمع، وأصله من قولهم: أَشْرَفَ فلان على كذا، إذا تطاول له. شرح صحيح البخاري (3/ 511).
وقال الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-:
وإشراف النفس أن تقول: يبعث إليَّ فلان بكذا وكذا. الجامع لعلوم الإمام أحمد (10/ 264).
وقال الطحاوي -رحمه الله-:
وقد يحتمل قوله: «ولا مُشْرِفٌ» أي: ولا تأخذ من أموال المسلمين أكثر مما يجب لك فيها، فيكون ذلك شرفًا فيها. شرح معاني الآثار (2/21).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
المُشْرِف والمسْتَشْرِفُ على الشيء: المتطلِّع إليه الطامع فيه، ومتى طمِعَت النفس في شيء فحصل لها عادت فاستعملت آلات الفكر في الطمع، فإذا وقع عندها اليأس من ذلك بالعزم على الترك رأت أن الاستشراف لا يفيدها صرفت الفكر إلى غير ذلك، وإذا جاء الشيء لا عن استشراف قلَّ فيه نصيب الهوى، وتمحَّض تعلُّق القلب بالمسبِّب. كشف المشكل (1/49).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
إشراف النفس: تطلُّعها وتشوُّفها وشَرَهُهَا لأخذ المال.
ولا شك أن هذه الأمور إذا كانت هي الباعثة على الأخذ للمال كان ذلك مِن أدلِّ دليل على شدة الرغبة في الدنيا والحب لها، وعدم الزهد فيها، والركون إليها، والتوسع فيها، وكل ذلك أحوال مذمومة، فنهاه عن الأخذ على هذه الحالة؛ اجتنابًا للمذموم، وقمعًا لدواعي النفس، ومخالفة لها في هواها، فإنَّ من لم يكن كذلك جاز له الأخذ للأمن من تلك العلل المذمومة. المفهم (3/90).
قوله: «ولا سائلٌ فخذه»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«ولا سائل» عطف على مشرف، بإعادة النافي دفعًا لِتَوَهُّم أن النفي مُنْصَبٌّ على مجموعهما. دليل الفالحين (4/522).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«ولا سائلٌ» أي: ولا طالب له، وجواب الشرط في قوله «إذا جاءك» قوله: «فخذه». إرشاد الساري (3/62).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«فخذه» الفاء رابطة للجزاء، أين الشرط الذي هي رابطة له؟ في قوله: «ما جاءك» ففعل الشرط؛ أي: فعل «جاءك»، و«من هذا المال» بيان لـ«ما»، والفاعل مستتر عائد على ما الشرطية، «ما» شرطية، و«جاء» فعل الشرط، وفاعلها يعود على «ما» الشرطية، و«من هذا المال» بيان لـ«ما» الشرطية، و«خذه» جواب الشرط. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (3/159).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«فخذه» أي: فاقبله، وتصدق به إن لم تكن محتاجًا. شرح مصابيح السنة (2/446).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «فخذه» يعني: لا تَرُدّه؛ لأنه رزق ساقَه الله إليك. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (3/159).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فخذه» أي: وُجوبًا على ما قاله بعضهم؛ عملًا بظاهر الأمر، وهو الأظهر، أو استحبابًا على ما عليه الجمهور. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (20/21).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
وأَطْلَقَ الأخذ أولًا وعلَّقَه ثانيًا بالشرط، فحَمَلَ المطلق على المقيد، وهو مقيد أيضًا بكونه حلالًا، فلو شك فيه فالاحتياط الرد وهو الورع.
نعم يجوز أخذه عملًا بالأصل، وقد رهن الشارع -عليه الصلاة والسلام- درعه عند يهودي مع علمه بقوله تعالى في اليهود: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} المائدة: 42، وكذلك أخذ منهم الجزية مع العلم بأن أكثر أموالهم من ثمن الخنزير والخمر والمعاملة الفاسدة.
وقيل: يجب أن يقبل من السلطان دون غيره؛ لحديث سمرة المروي في السنن: «إلا أن يسأل ذا سلطان». إرشاد الساري (3/62).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قال الطبري: اختلف العلماء في معنى قوله -صلى الله عليه وسلم- لعمر: «ما جاءك من هذا المال فخذه» بعد إجماعهم على أنه أمر ندب وإرشاد، فقال بعضهم: هو ندب من النبي -صلى الله عليه وسلم- لكل من أعطي عطية إلى قبولها كائنًا من كان معطيها، سلطانًا أو عاميًّا، صالحًا أو فاسقًا، بعد أن يكون ممن تجوز عطيته...
وقال آخرون: بل ذلك نَدبٌ من النبي -صلى الله عليه وسلم- لأُمَّتِه إلى قبول عطية غير ذي سلطان، فأما السلطان فإن بعضهم كان يقول: حرام قبول عطيته، وبعضهم كرهها...
وقال آخرون: بل ذلك ندب إلى قبول هدية السلطان دون غيره. شرح صحيح البخاري (3/ 507-509).
وقال ابن حجر -رحمه الله- معلقًا:
التحقيق في المسألة: أن مَن عَلِمَ كون مالِه حلالًا فلا تُرَدُّ عطيَّتُه، ومَن عَلِمَ كون مالِه حرامًا فتَحْرُم عطيته، ومَن شك فيه فالاحتياط ردُّه وهو الورع، ومن أباحه أخذ بالأصل. فتح الباري (3/338).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- معلقًا:
وأما عطية السلطان، فالتفصيل الذي ذكره الحافظ -رحمه الله تعالى- هو الصواب. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (23/228).
وقال النووي -رحمه الله-:
اختلف العلماء فيمن جاءه مال هل يجب قبوله أم يندب؟ على ثلاثة مذاهب، حكاها أبو جعفر محمد بن جرير الطبري وآخرون.
والصحيح المشهور الذي عليه الجمهور: أنه يستحب في غير عطية السلطان، أما عطية السلطان فحرَّمها قوم وأباحها قوم وكرهها قوم.
والصحيح: أنه إن غلب الحرام فيما في يد السلطان حَرُمَتْ، وكذا إن أعطى مَن لا يستحق، وإن لم يغلب الحرام فمباح إن لم يكن في القابض مانع يمنعه من استحقاق الأخذ.
وقالت طائفة: الأخذ واجب من السلطان وغيره.
وقال آخرون: هو مندوب في عطية السلطان دون غيره. شرح مسلم (7/134-135).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
أرجح الأقوال عندي في مسألة القبول: القول بالوجوب؛ لظواهر النصوص، إذ هي بصيغة الأمر، ولا صارف له إلى الندب، وما ادَّعاه بعضهم من الإجماع على الندب غير صحيح؛ لما عرفت من الخلاف. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (20/24).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
فإن قال قائل: فإن كان الأمر كما وصفتَ من أنه لا يحرم على امرئ قبول عطية أحد يجوز حكمه في ماله إلا عطية حرَّمَ الله قبولها، فما وجه فعل مَن ردَّ عطايا السلاطين، وامتنع من قبول هدايا الأمراء، وقد نَدَبَ -صلى الله عليه وسلم- إلى قبول عطية كل أحد؟
قيل له: إنَّ مَن رَدَّ من ذلك شيئًا إنما كان على من كان الأغلب من أمره أنه لا يأخذ المال من وَجْهِهِ، فرأى أن الأسلم لدينه والأبرأ لعرضه ترك قبوله إذا كان الأمر بالقبول غير حتم واجب، وإنما هو ندب إلى قبول ما لا شك في حِلِّه، فإذا كان فيه لَبْسٌ فالحق ترك قبوله، وما لم يكن حلالًا يقينًا فلم يدخل في أمره -صلى الله عليه وسلم- عُمَرَ بقبوله، فأحلَّه محل الشبهات التي مَن وَاقَعَهَا لم يُؤمَن منه مُواقَعَة الحرام. شرح صحيح البخاري (3/509).
وقال ابن بطال -رحمه الله- أيضًا:
فإن قيل: فما تقول فيمن قَبِلَ ممن لم يتبين من أين أخذ المال ولا فيما وضعه؟
قيل: ذلك ينقسم إلى ثلاثة أقسام: فما علمتُ يقينًا أنه حلال فلا أسْتَحِبُّ ردَّه، وما علمتُ يقينًا أنه حرام فلا أسْتَحِلُّ قبوله، وما لم أعْلَم وجه مصيره ولا سبب وصوله إليه فذلك ما قد وَضَعَ عنِّي تكلُّف البحث عن أسبابه، وألزمني في الظاهر الحكم بأنه أولى به من غيره، ما لم يستحقه عليه مستحق، كما أحكم بما في يد أعدل العدول أنه أولى بما في يده ما لم يستحقه عليه مستحق، فسوَّى -عزَّ وجلَّ- بين حكم أفضل خلقه في ذلك وأفجرهم، فالواجب عليَّ التسوية في قبول عطية كل واحد منهما وردِّها من جهة ما يحل ويحرم، وإن اختلفا في أن البّرَّ أحق بأن يُسَرَّ بقبول عطيته من الفاجر. شرح صحيح البخاري (3/ 510).
قوله: «وما لا فلا تُتْبِعْهُ نفسك»:
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«وما لا فلا» «ما» شرطية، و«لا» نافية، وفعل الشرط محذوف، يعني: وما لا يأتك إلا وأنت مشرف أو سائل فلا، أو ما لا يأتك مطلقًا فلا تتبعه نفسك، وهذا أولى، يعني: هذا إذا جعلنا «ما» شرطية، أما إذا جعلناها موصولة فمعناه: والذي لا يأتك، صار المقدر: والذي لا يأتيك، مقدر الفعل مرفوعًا.
على كل حال: «ما» يصلح أن تكون موصولة أو شرطية؛ فإن كانت موصولة فالمحذوف صلة الموصول، أو فالمحذوف جزء من الصلة؛ لأن «لا» داخلة في الصلة، وإن كانت شرطية فالمحذوف فعل الشرط. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (3/159).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«وما لا فلا تُتْبِعْهُ نفسك» فعل الشرط محذوف؛ للعلم به من الكلام السابق، أي: وما لم يأتكَ فلا تتطلَّع إليه. المنهل الحديث في شرح الحديث (2/168).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«وما لا» أي: وما لا يأتيك بلا سؤال. شرح مصابيح السنة (2/446).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «فلا تُتْبِعْهُ» بضم الفوقية الأولى وسكون الثانية وكسر الموحَّدة وسكون العين. مرقاة المفاتيح (6/264).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «فلا تُتْبِعْهُ نفسك» أي: لا تُعَلِّقْها، ولا تُطْمِعْهَا في ذلك، فإذا فَعَلْتَ ذلك بها سكَنَتْ ويَئِسَت، وهذا النهي على الكراهة يرشد إلى المصلحة التي في الأعراض. المفهم (3/90-91).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«فلا تُتْبِعْهُ نفسك» معاملة لها بنقيض مرادها. دليل الفالحين (4/522).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «وما لا فلا تُتْبِعْهُ نفسك» من الاختصار، أي: ما لا يكون بهذه الصفة ولم يأتك على هذه الحالة فلا تُتْبِعْهُ نفسك، أي: فلا تعلِّقها بطلبه واتباعه. إكمال المعلم (3/579).
وقال السندي -رحمه الله-:
«فلا تُتْبِعْهُ» أي: مِن أَتْبَعَ مخففًا، أي: فلا تجعل نفسك تابعة له ناظرة إليه لأجل أن يحصل عندك، إشارة إلى أن المدار على عدم تعلُّق النفس بالمال لا على عدم أخذه وردِّه على المعطي. حاشية السندي على سنن النسائي (5/104).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «وإلا فلا تُتْبِعْهُ نفسك» أي: إن لم يَجِئْ إليك فلا تطلبه، بل اتركه، وليس المراد منعه من الإيثار، بل لأن أخْذَهُ ثُمَّ مباشرتَه الصدقة بنفسه أعظم لأجره. فتح الباري (13/152).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «فلا تُتْبِعْهُ نفسك» أي: فلا تجعل نفسك تابعة له، أي: متعلِّقة به، فالمال إذا أتاك لا تردَّه، وإذا لم يأتك لا تُتْبِعْهُ نفسك، لا تجعل نفسك تتبعه وتتعلق به، ومعلوم أن الرسول إذا نهى عن اتِّباع النفس للمال فنَهْيُه عن الاستشراف والسؤال من باب أولى؛ لأن المستشرف والسائل قد أَتْبَعَ نفسه المال. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (3/159).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
قال علي بن عقيل: معنى الحديث: ما جاء بمسألتك فإنك اكتسَبْتَ فيه الطلب والسؤال، ولعل المسؤول استحيا أو خاف ردَّك فأعطاك مُصَانَعَة، ولا خير في مال خَرَجَ لا عن طيب نفس، وما اسْتَشْرَفَتْ إليه نفسُك فقد انتظرته وارتقبته، فلنفسك فيه نوع استدعاء، وما جاء من غير ذلك فإنما كان المزعج فيه للقلوب نحوك، والمستسعي للإقدام إليك الخالق سبحانه، فمتى رَدَدْتَه رَدَدْتَ في الحقيقة على المعطي؛ لأن المعطي هو الذي أهاج نحوك القلوب، وحنَّنَ عليك النفوس، فلما كان هو الذي تولى سَوْقَه إليك كان ردُّك له ردًّا عليه. كشف المشكل (1/49-50).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قال الطبري: في حديث عمر الدليل الواضح على أنَّ لمن شُغِل بشيء من أعمال المسلمين أخذ الرزق على عمله ذلك، كالولاة، والقضاة، وجُبَاة الفيء، وعمَّال الصدقة، وشبههم؛ لإعطاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمر العمالة على عمله. فتح الباري (13/154).
وقال النووي -رحمه الله-:
في هذا الحديث: جواز أخذ العوض على أعمال المسلمين، سواء كانت لدِين أو لدنيا كالقضاء والحسبة وغيرهما. شرح النووي على مسلم (7/137).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
هل في هذا الحديث: دليل على أن ما يأخذه عامل الزكاة يرجع إلى نظر الإمام، يعني: أن ما يأخذه العامل ليس مقدَّرًا شرعًا، بمعنى: أننا لا نقول: لك من الزكاة العُشر، نصف العُشْر كذا وكذا؟
هذا هو الظاهر؛ لأن الحديث ليس فيه أنه أعطاه شيئًا يُعتبر نسبة إلى الزكاة، ولكن سبق لنا أن عامل الزكاة يعطى بمقدار عمله، يعني: بمقدار أجرته. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (3/161).
وقال العيني -رحمه الله-:
قال ابن التين: في هذا الحديث كراهة أخذ الرزق على القضاء مع الاستغناء وإن كان المال طيبًا. عمدة القاري (24/244).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
وقد اشتمل هذا الحديث على ثلاث فوائد:
أحدها: أنه مَن نوى وجهَ الله بعمَل ولم يرد ثوابًا عاجلًا فأثيبَ جاز له أن يأخذ، ولم يؤثِّر أخذه في قصده الصافي، ومثل هذا أن موسى -عليه السلام- سقى لبنتي شعيب -عليه السلام- لله تعالى، فلما قالت له إحداهما: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ} القصص:25، لم يمتنع؛ لأنه ما عمل ليُجَازَى، فجعل ذكر الجزاء لغوًا.
والثانية: تعليم الجري على اختيار الحق -عزَّ وجلَّ-، فإذا بعث شيئًا قُبِل، وإذا منع رُضِي بالمنع.
والثالثة: أن مثل هذا المستغنى عنه الآخذ جعله مالًا؛ لقوله: «فتَمَوَّلْهُ»، وهذا يدل على فضل الغني على الفقير، أو يتصدق به فيكون الثواب له، ولو لم يأخذه فاته ذلك الأجر. كشف المشكل (1/50).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وقول عمر للنبي -صلى الله عليه وسلم-: «أعطه أفقر مني» دليل على فضل عمر وزهده، وقلَّة حرصه على الدنيا والتكثر منها، وإيثار غيره على نفسه. إكمال المعلم (3/579).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث من الفقه: أنه لم يكن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متهافتين على الدنيا، ولا كانوا يريدون بأعمالهم فيها إلا وجه الله -عزَّ وجلَّ- ألا ترى إلى عمر -رضي الله عنه- قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ادفعه إلى مَن هو أفقر منِّي؟». الإفصاح عن معاني الصحاح (1/103).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
هل في الحديث ما يدل على أن عمر -رضي الله عنه- من الفقراء؟
نعم، الدليل قوله: «أفقر مني»، فهذا اسم تفضيل يدل على اشتراك المفضَّل والمفضَّل عليه في الوصف مع زيادة المفضّل، هذا هو الأصل، وقد يختل الأصل: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُون} النمل: 59، وآلهتهم ليس فيها خير: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} الفرقان: 24. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (3/161-162).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قال المهلب: وفي حديث عمر من الفقه: أن للإمام أن يعطي الرجل العطاء وغيره أحوج إليه منه، إذا رأى لذلك وجهًا لسابقة أو لخير، أو لغناء عن المسلمين. شرح صحيح البخاري (3/ 512).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
وينبغي أن يضاف إليه (يعني: إلى كلام المهلب): إذا كان الإمام عدلًا تقيًّا. المنهل الحديث في شرح الحديث (2/170).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وفيه: أخذ المال من أئمة العدل. إكمال المعلم (3/581).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
وفي الحديث: دليل على مشروعية أخذ المعطى من الزكاة إذا كان أهلًا؛ لقوله: «خذه». وهل هو على سبيل الوجوب أو على سبيل الاستحباب؟
قال بعض أهل العلم: إنه على سبيل الوجوب، وأن الإنسان إذا أُهْدِي إليه، أو تُصِدِّق عليه بشيء وهو أهل له، ولم تستشرف نفسه، ولم يسأل فإنه يجب عليه أن يقبل، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، والأصل في الأمر الوجوب، لا سيما والرسول -صلى الله عليه وسلم- يعلم أن في الناس من هو أحوج من عمر -رضي الله عنه-، فكونه يصرفها لهذا الرجل ويأمره بأخذها يدل على الوجوب.
وقال بعضهم: بل هو على الاستحباب؛ لأن الأمر هنا في مقابل الامتناع، لما امتنع كأنه يقول: خذه فهو مباح لك، وهذا هو الأقرب.
وعلى كِلَا القولين إذا خِفْتَ مضرَّة عليك في قبول هذه الهدية فلا يلزمك القبول؛ لأن بعض الناس إذا أهدى هدية صار يمنُّ بها، كلما حصَلَت مناسبة قال: أعطيتُك كذا وكذا، ثم صار يوبِّخُ هذا الرجل ويـمُنّ عليه، فإذا كنتَ تخشى من هذا فلا شك أنه لا يجب عليك القبول في هذه الحال حتى على القول بوجوب القبول؛ لأن في ذلك ضررًا عليك. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (3/160).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قال الطحاوي: ليس معنى هذا الحديث في الصدقات، وإنما هو في الأموال التي يقسمها الإمام، وليست هي من جهة الفقر، ولكن من الحقوق، فلمّا قال عمر: «أَعْطِهِ من هو أفقر إليه مني» لم يرض بذلك؛ لأنه إنما أعطاه لمعنى غير الفقر، قال: ويؤيده قوله في رواية شعيب: «خذه فتموَّله» فدل ذلك على أنه ليس من الصدقات.
وقال الطبري: اختلفوا في قوله: «فخذه» بعد إجماعهم على أنه أمر ندب، فقيل: هو ندب لكل من أُعطي عطيةً أبى قبولها كائنًا من كان، وهذا هو الراجح، يعني بالشرطين المتقدمين، وقيل: هو مخصوص بالسلطان، ويؤيده حديث سمرة في السنن: «إلا أن يسأل ذا سلطان» وكان بعضهم يقول: يحرم قبول العطيَّة من السلطان، وبعضهم يقول: يُكره، وهو محمول على ما إذا كانت العطية من السلطان الجائر، والكراهة محمولة على الورع، وهو المشهور مِن تصرُّف السلف، والله أعلم.
والتحقيق في المسألة: أن مَن عَلِمَ كونَ ماله حلالًا فلا تُردُّ عطيته، ومن عُلم كون ماله حرامًا فتحرم عطيته، ومن شك فيه فالاحتياط رده، وهو الورع، ومن أباحه أخذ بالأصل. فتح الباري (3/ 338).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: لمَ منعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الإيثار؟
قلتُ: إنما أراد الأفضل والأعلى من الأجر؛ لأن عمر -رضي الله تعالى عنه- وإن كان مأجورًا بإيثاره على الأحوج لكنَّ أخذه ومباشرته الصدقة بنفسه أعظم لأجره؛ وذلك لأن الصدقة بعد التَّمَول إنما هو بعد دفع الشُّح الذي هو مُسْتَولٍ على النفوس. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (24/211).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
وفيه: أن ما جاء من المال الطيب الحلال من غير مسألة فإنَّ أَخْذَهُ خير مِن تَرْكِهِ إذا كان ممن يجْمُل الأخذ منه. شرح صحيح البخاري (3/ 512).
وقال ابن باز -رحمه الله-:
وهذا يدل على أن ما جاء من بيت المال، أو من الأحباب يؤخذ إذا كان بدون طلب، وهو مقيَّد بما لا يحرم من جهة أخرى، كالرشوة أو هدية لإبطال حق. الحلل الإبريزية (1/451).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
إنَّ ردَّ عطية الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا تليق مهما كانت المعاذير. المنهل الحديث في شرح الحديث (2/170).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
وفيه: أنَّ ردّ عطاء الإمام ليس من الأدب؛ لأنه داخل تحت عموم قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الحشر: 7، فإذا لم يأخذه فكأنه لم يأَتَمِرْ لله، فكأنه من سوء الأدب. شرح صحيح البخاري (3/ 512).
وقال العيني -رحمه الله-:
وفيه: أنَّ أَخْذَ ما جاء من المال بغير مسألة أفضل من تركه؛ لأنه يقع في إضاعة المال، وقد نهى الشرع عن ذلك، وذهب بعض الصوفية إلى أن المال إذا جاء من غير إشراف نفس ولا سؤال لا يُرَدُّ، فإن رُدَّ عوقِب بالحرمان، ويحكى عن أحمد أيضًا وأهل الظاهر. عمدة القاري (24/244).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
وفي هذا الحديث من الفقه: أن ذلك من طريق الأفضل والأشرف؛ لأنه لم يقل له: وما لا فلا تأخذه، وإنما قال: «فلا تُتْبِعْهُ نفسك» أي: لا تجعل نفسك تتحسر على فَوْتِه، وعلى أنه ليس في هذا النطق ما يدل على تحريمه. الإفصاح عن معاني الصحاح (1/103).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
ثم لا بد من النظر في حال الآخذ والمأخوذ منه، فإن كان المأخوذ زكاة أو صدقة والآخذ يستحقها جاز له، وإن كان غير مستحِق مثل أن يكون قادرًا على الكَسب، أو عنده ما يكفيه، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مِرَّة (أي: قوة) سَوِيٍّ»، وإن كان هديةً نَظَرَ الآخذ في حال نفسه: هل يخاف أن يكون قبوله إياها سببًا لمداهنة المأخوذ منه، أو لتعلُّق قلبه به، واستشراف نفسه طمعًا في تكرار العطاء أو لـِمنَّته عليه، أو كسبه غير طيِّب، فمن خاف شيئًا من هذه الأشياء لم يقبل، وقد كان السلف ينظرون في هذه الدقائق، فيَقِلُّ قبولهم للعطايا، ثم جاء أقوام يدعون التزهد، وإنما مرادهم الراحة وإيثار البطالة، ولا يبالون أخَذُوا من ظالم أو مكاسٍ، ويمكن أن تكون الإشارة بقوله: «وما جاءك من هذا المال» إلى بيت المال الذي للمسلم فيه حق، فيؤمر بالأخذ منه بخلاف غيره، ويكون الاستشراف المكروه إلى ما يزيد على حق المسلم فيه. كشف المشكل (1/51).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
وفي هذا الحديث من الفقه: أن العبد المؤمن كما ينبغي أن لا يكون مُشْرِفًا ولا متطلعًا إلى شيء من الدنيا، كذلك ينبغي أن لا يكون مُزاحمًا لله تعالى في تدبيره، ولا رادًّا على الله شيئًا من عطائه، ولا مُظْهِرًا للتَّغَانِي عن الله -عزَّ وجلَّ- بمال ولا بحال، كما روي عن عبد الله بن عمر أنه كان لا يسأل أحدًا شيئًا، وإذا أُعطي شيئًا أخذه. الإفصاح عن معاني الصحاح (1/104).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
وفي هذا الحديث: دليل على أنه لا ينبغي للإنسان أن يُتْبِعَ نفسه المال، إن فاته فلا يهمه، وإن حصل له بطريق مشروع فهذا رزق الله لا يحرمه نفسه، لكن لا يُتْبِعُ نفسه المال؛ لأنه إذا َأتْبَعَ نفسه المال فإنه لا يمكن أن يشبع أبدًا...، اجعلوا الدنيا في أيديكم لا في قلوبكم، بعض الناس يضع الدنيا في قلبه ويده خالية منها، وبعض الناس يجعلها في قلبه ويده ملأى منها، وبعض الناس يجعلها في يده وقلبه خالٍ منها، أسال الله أن يجعلني وإيَّاكم منهم، هؤلاء هم الذين وفِّقوا وعرفوا قدر المال.
إذًا: يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «وما لا فلا تُتْبِعْهُ نفسك» وهذه كلمة في الحقيقة لو أننا اعتبرنا بها لزهِدْنَا في المال زهدًا تامًّا، ولم نأخذ منه إلا ما ينفعنا في الآخرة. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (3/161).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
ومنها (فوائد الحديث): أن ردّ عطية الإمام ليس من الأدب، ولا سيّما من الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الحشر: 7، الآية...
ومنها: أنَّ التصدّق بالمال بعد قبضه أفضل من التصدُّق قبله (وهذا من رواية البخاري «خُذْهُ، فَتَمَوَّلْهُ، وَتَصَدَّقْ بِهِ»)؛ لأن الإنسان إذا دخل المال في يده يكون أحرص عليه، فإذا تصدَّق به طيِّبة نفسه، كان أدلّ على حبه للخير، وقوة إيمانه، بخلاف ما إذا تصدّق قبل قبضه، فإن النفس لا تطمع إليه كثيرًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (23/ 227).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
ورُبما تعلق بهذا الحديث جهال المتزهدين في قعودهم على الفتوح (وهو النصر وأخذ الغنيمة)، ولا حجة لهم في ذلك؛ لأن قعود أحدهم في رباط معروف تهيؤٌ للقبول، ومدُّ كفِّ الطلب، فهو كمن يفتح حانوتًا يُقصد، ثم كونه ينوي القبول لما يأتيه يزيد على استشراف النفس؛ لأن الاستشراف تطلُّع ما، وهذا عازم على القبول قطعًا. كشف المشكل(1/50).
قال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
فيه مَنقبة لعمر وبيان زهده وإيثاره.فتح العلام بشرح بلوغ المرام(ص: ٣٣٥).
وللاستفادة من الروايات الأخرى ينظر (هنا) و (هنا)