كنتُ مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة، فلما قَفَلْنَا تَعَجَّلْتُ على بعير قَطُوفٍ، فَلَحِقَنِي راكب من خلفي، فالتفتُّ فإذا أنا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: «ما يُعْجِلُكَ؟» قلتُ: إني حديث عهد بعرس، قال: «فبكرًا تزوجتَ أم ثَيِّبًا؟» قلتُ: بل ثَيِّبًا، قال: «فَهَلَّا جارية تلاعبها وتلاعبك؟» قال: فلما قَدِمْنَا ذهبنا لندخل، فقال: «أَمْهِلُوا، حتى تدخلوا ليلًا -أي: عشاء-؛ لكي تمتشط الشَّعِثَةُ، وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ».
قال: وحدثني الثقة: أنه قال في هذا الحديث : «الْكَيْسَ الْكَيْسَ يا جابر» يعني: الولد.
رواه البخاري برقم: (5245)، واللفظ له، ومسلم برقم: (715)، من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«غزوة»:
أصل الغزو: القصد، ومغزى الكلام: مقصده، والمراد بالمغازي...: ما وقع من قصد النبي -صلى الله عليه وسلم- الكفار بنفسه، أو بجيش من قِبَلِه، وقصدهم أعم من أن يكون إلى بلادهم، أو إلى الأماكن التي حَلُّوها، حتى دخل؛ مثل: أُحُد والخندق.فتح الباري لابن حجر (7/ 279).
«قَفَلْنَا»:
بفتح القاف، وتخفيف الفاء، أي: رجعنا.فتح الباري لابن حجر(9/ 341).
«قَطُوفٍ»:
القَطُوْف من الدَّوَابّ: التي تُسِيْءُ السّير، وتُبْطِئُ، وقد يُوصف بها الإنسان، فيقال: هذا غُلَام قَطُوف.المعجم الوسيط(2/ 747).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
«قَطُوف» بفتح القاف بَطِيْءُ المشي.الكواكب الدراري (19/ 172).
«حديث عَهْدٍ»:
أي: جديد التَّزَوُّج.الكواكب الدراري (19/ 172).
«الثَّيِّب»:
المرأة التي دخل بها الزوج، وكأنَّها ثابت إلى غالب أحوال كبار النساء.المفهم (4/ 214).
«هَلَّا»:
بالتشديد: حرف معناه: الحث والتحضيض.النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 272).
«جارية»:
أي: شابَّة بكرًا.الكوكب الوهاج (16/ 138).
«أَمْهِلُوا»:
أي: ارفقوا.المفهم (4/ 219).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
من الإمهال: الإنظار، وعدم التعجيل.شرح المصابيح (3/ 542).
«تمتشط»:
قال العيني -رحمه الله-:
يُقال: امتشطت المرأةُ، ومَشطتها الماشطةُ: إذا سرَّحت شعرها بالمشط. شرح أبي داود للعيني (2/ 185).
«الشَّعِثَةُ»:
بكسر العين المهملة، وهي: الْمُغْبَرَّة الرأس، المُنْتَشِرة الشعر.الكواكب الدراري (19/ 173).
«وَتَسْتَحِدَّ»:
الاستحداد: استعمال الحديدة في شعر العانة، وهو إزالتها بالموسى، والمراد هنا: الإزالة كيف كانت.الكواكب الدراري (19/ 173).
«المُغِيبَةُ»:
هي التي غاب عنها زوجها.الكواكب الدراري (19/ 173).
«الْكَيْسَ»:
الجماع والعقل، والمراد: حثه على ابتغاء الولد، يُقَالُ: أَكْيَسَ الرجل إذا وُلِدَ له أولاد أكياس.الكواكب الدراري (19/ 173).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
والكيس: يجري هاهنا مجرى الحذر، وقد يكون بمعنى: الرفق في الأمر، وحُسْن التَّأَتِّيْ له.أعلام الحديث (3/ 2028).
شرح الحديث
قوله: «كنتُ مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
يقال: إن الغزوة التي كان فيها هي: غزوة ذات الرقاع.فتح الباري (4/ 321).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
هي غزوة ذات الرقاع، كذا رواه ابن هشام في السِّيَر.الكوثر الجاري (8/ 542).
قوله: «فلمّا قَفَلْنَا»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «فلما أقفلنا» كذا لابن ماهان، ووجه الكلام: قفلنا -ثلاثيًّا -، يقال: قفل الجند من مبعثهم؛ أي: رجعوا، وأقفلهم الأمير، وقَفَلَهُم أيضًا. وتحتمل الرواية: أن تكون بفتح اللام؛ أي: أقفَلَنَا النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتحتمل أن تكون اللام ساكنة، ويكون معناه: أقفل بعضُنا بعضًا، ورواه ابن سفيان: «أقبلنا» بالباء المنقوطة بواحدة، من الإقبال. المفهم (4/ 218).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
«فلما قفلنا» أي: رجعنا، والقافلة بمعنى: الراجعة، وإنما سُمِّيَتْ بها قبل الرجوع باعتبار ما يَؤُولُ تفاؤلًا.لمعات التنقيح (6/ 13).
قوله: «تَعَجَّلْتُ على بعير قَطُوف»:
والقطوف: تقارب الخطو في سرعة، وهو ضد الوساج.التوضيح لشرح الجامع الصحيح، لابن الملقن(25/ 157).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
«قَطُوف»: هو البَطيء المشي، قاله أبو زيد. وقال الخليل: "هو البطيء المتقارب الخطو، وقد جاء في الرواية الأخرى مُفَسَّرًا من قوله: «فأبطأ بي جملي»"، وفي الأخرى: «على ناضحٍ، إنما هو في أخريات الناس» والنّاضح: الجمل، سُمِّيَ بذلك لأنه يُنْضَح عليه الماء، أي: يُسْتَقَى به.إكمال المعلم بفوائد مسلم(4/675).
قوله: فلحقني راكب من خَلفي، فالتفتُّ فإذا أنا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: «ما يعجلك؟» قلت: إني حديث عهد بعرس:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «ما يعجلك» بضم أوله، أي: ما سبب إسراعك.فتح الباري (9/ 122).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
و«حديث» أي: جديد التزوُّج، فإن قلت: كيف طابق السؤال الجواب؟ قلتُ: لازمه وهو الحداثة مطابق.الكواكب الدراري (19/ 172- 173).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «كنت حديث عهد بعرس» أي: قريب عهد بالدخول على الزوجة، وفي رواية عطاء، عن جابر في الوكالة: «فلما دنونا من المدينة -على ساكنها أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام- أخذت أرتحل، قال: أين تريد؟ قلت: تزوجت»، وفي رواية أبي عقيل، عن أبي المتوكل، عن جابر: «من أحب أن يتعجل إلى أهله فليتعجَّل».فتح الباري (9/ 122).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
وقوله: «حديث عَهدٍ بعرس» بالضّم وبضمتين بمعنى: طعام الوليمة، ومنه حديث: «كان إذا دُعِيَ إلى طعام قال: أَفِيْ عرس أم خرس؟» يريد طعام الوليمة يسمى باسم سببه، أو بمعنى النكاح، وهو اسم مِنْ أعرس، وهو المراد هنا.لمعات التنقيح (6/ 13).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
فائدة مهمة: وفي هذا الحديث: دلالة على أن الاهتمام البليغ في الدعوة إلى مجلس النكاح -كما يفعل في زماننا- ليس بمطلوب شرعًا، فانظر إلى جابر -رضي الله عنه- تزوج امرأة، ولم يَدْعُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى مجلس زواجه مع ما لَهُ من علاقة وصحبة قوية برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم انظر إليه -صلى الله عليه وسلم- كيف دعا له بخير ولم ينكر عليه أنه لم يَدْعُهُ عند عقد النكاح، ولو كان الاهتمام مطلوبًا في الشرع لم يكن جابر لِيَذْهَلَ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الدعوة إلى عقد النكاح، ولو قيل: إن الحفل الحادث في هذا الزمان حرام لم يَبْعُدْ؛ لما فيه من إسراف الأطعمة والأشربة، وفي أقمشة المرأة الْمُزَوَّجة مما لا فائدة فيه، وفي إجارة المحافل بأجرة غالية، وفيه اجتماع الفسقة، وتشغيل الملاهي، وتضييع وقت صلاة الصبح -والله سبحانه وتعالى أعلم-.الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (16/ 139).
قال: «فبكرًا تزوجت أم ثَيِّبًا؟» قلت: بل ثَيِّبًا:
قال ابن الملقن -رحمه الله-:
تقديره: أبكرًا تزوجت؛ لأن (أم) لا يُعْطَف بها إلا بعد همزة الاستفهام.التوضيح لشرح الجامع الصحيح (25/ 157).
وقال العراقي -رحمه الله-:
البكر: هي الجارية الباقية على حالتها الأولى، والثَّيِّب: المرأة التي دخل بها الزوج، وكأنها ثابت إلى حال كبار النساء غالبًا.طرح التثريب في شرح التقريب (7/ 10).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
فيه حذف الهمزة المعادلة لـ (أم)؛ أي: أَفَبِكرًا تزوجت؟
فإن قلت: فقول جابرٍ: «لا، بل ثَيِّبًا»، ما وجهُه، ولم يتقدم له شيء يُضْرَب عنه؟
قلت: معناه: لم أتزوَّج بكرًا، وأضرَبَ عنه، وزاد (لا) توكيدًا؛ لتقرير ما قبلها من النفي، فقال: «لا، بل ثَيِّبًا».مصابيح الجامع (9/ 71).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
«قال: أبكرًا أم ثَيِّبًا؟ قلت: ثَيِّبًا» هو منصوب بفعل محذوف تقديره: أتزوجتَ؟ وتزوجتُ، وكذا وقع في ثاني حديث الباب: «فقلت: تزوجت ثيبًا»، في رواية الكشميهني في الوكالة من طريق وهب بن كيسان، عن جابر قال: «أتزوجت؟» قلت: نعم، قال: «بكرًا أم ثَيِّبًا؟» قلتُ: ثَيِّبًا، وفي المغازي عن قتيبة، عن سفيان، عن عمرو بن دينار عن جابر بلفظ: «هل نكحت يا جابر؟» قلت: نعم، قال: «ماذا، أبكرًا أم ثَيِّبًا؟» قلت: لا، بل ثَيِّبًا.
ووقع عند أحمد، عن سفيان في هذا الحديث: «قلت: ثيبٌ»، وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره: التي تزوجتُها ثَيِّب، وكذا وقع لمسلم من طريق عطاء، عن جابر.فتح الباري (9/ 122).
وقال العيني -رحمه الله-:
«فبكرًا تزوجت؟» منصوب بقوله: زوجت، والضمير المنصوب فيه محذوف، أي: تزوجته. قوله: «بل ثَيِّبًا» منصوب بفعل مقدر، أي: تزوجت ثَيِّبًا.عمدة القاري (20/ 221).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
امرأة جابر المذكورة اسمها: سهلة بنت مسعود بن أوس بن مالك الأنصارية الأوسية، ذكره ابن سعد.فتح الباري (9/ 122).
قال: «فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك»:
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لجابر: «فهلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك»، قال الإمام -يعني: المازري-: قال بعضهم: يحتمل أن يكون أراد بقوله: «تلاعبها» من اللعاب، ويدل عليه ما في بعض طرق مسلم: «فأين أنت من العذارى ولعابها؟»، وما جاء في الحديث الآخر: «أنهن أطيب أفواهًا، وأَنْتَقُ أرحامًا»، ورواية أبي ذرٍّ في البخاري، من طريق المستملي: «ولعابها» بالضم.
قال القاضي: أكثر المتكلمين على الحديث حملوا الملاعبة، من اللعب، بدليل قوله في الحديث: «تضاحكها وتضاحكك».
وفي كتاب أبي عبيد: «تداعبها وتداعبك»، وروايتنا في كتاب مسلم: «لِعابها» بكسر اللام، وهو مصدر لاعَبَ، من الملاعبة، كالقتال من المقاتلة.
وفي الحديث: فضل تزويج الأبكار، ولا سيما للشباب.
وفيه: سؤال الإمام رعِيَّته عن أمورها، وتفَقُّدَه مصالحها، وأن مقصود النكاح: الاستمتاع والاستِلْذاذ، وبقدر ذلك تكون الأُلْفَة، وذلك في الأبكار أوجد.
وفيه: جواز ملاعبة الأهل والترغيب فيها، وقد مدح الله تعالى نساء أهل الجنة فقال: {عُرُبًا أَتْرَابًا} الواقعة: 37، قيل: العُرب: الْمُتَحَبِّبات لأزواجهن، وقيل: الحسنة التَّبَعُّل، وهو من هذا.إكمال المعلم بفوائد مسلم (4/ 674).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
قوله: «فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك» أراد بالجارية: البكر، وقد جاء في لفظ آخر.
وفي البكر معان: منها: حداثة السن، وللنفس في ذلك حظٌّ وافِر.
ومنها: قوة الحرارة التي تُحَرِّك الباءة.
ومنها: أن المرأة يتعلق قلبها بأول زوج؛ إذ لم تعرف سواه، فيكون ودُّها منصرفًا إليه.
ومنها: أن كثيرًا من الطباع تَنْبُوْ عمن كان لها زوج.
ومنها: التَّهَيُّؤُ للولد.
ومنها: أن المداعبة تليق بالجواري دون غيرهن، والمداعبة تبعث على اجتماع الماء وكثرته، إلى غير ذلك من الفوائد.كشف المشكل من حديث الصحيحين (3/ 21).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «فهلا جارية» في رواية وهب بن كيسان: «أفلا جارية؟» وهما بالنصب، أي: فهلا تزوجت؟ وفي رواية يعقوب الدورقي، عن هشام بإسناد حديث الباب: «هلا بكرًا؟».
قوله: «تلاعبها وتلاعبك» زاد في رواية النفقات: «وتضاحكها وتضاحكك»، وهو مما يُؤَيِّد أنه من اللعب، ووقع عند الطبراني من حديث كعب بن عجرة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لرجل -فذكر نحو حديث جابر وقال فيه-: «وتعضها وتعضك»، ووقع في رواية لأبي عبيدة: «تذاعبها وتذاعبك» بالذال المعجمة بدل اللام.
وأما ما وقع في رواية محارب بن دثار، عن جابر ثاني حديثي الباب بلفظ: «مالك وللعذارى ولعابها»؛ فقد ضبطه الأكثر بكسر اللام، وهو مصدر من الملاعبة أيضًا، يقال: لاعب لعابًا وملاعبة، مثل: قاتل قتالًا ومقاتلة.
ووقع في رواية المستملي: بضم اللام، والمراد به: الريق، وفيه إشارة إلى مَصِّ لسانها ورشف شفتيها، وذلك يقع عند الملاعبة والتقبيل، وليس هو ببعيد -كما قال القرطبي-، ويُؤَيِّد أنه بمعنى آخر غير المعنى الأول: قول شعبة في الباب: أنه عرض ذلك على عمرو بن دينار فقال اللفظ الموافق للجماعة، وفي رواية مسلم التلويح بإنكار عمرو رواية محارب بهذا اللفظ، ولفظه: إنما قال جابر: «تلاعبها وتلاعبك»؛ فلو كانت الروايتان متحدتين في المعنى لما أنكر عمرو ذلك؛ لأنه كان ممن يُجِيْز الرواية بالمعنى.
ووقع في رواية وهب بن كيسان من الزيادة: «قلت: كُنَّ لي أخوات، فأحببت أن أتزوج امرأة تَجْمَعُهُنَّ وتُمَشِّطُهُنَّ وتقوم عليهن» أي: في غير ذلك من مصالحهن، وهو من العام بعد الخاص، وفي رواية عمرو، عن جابر الآتية في النفقات: «هلك أبي وترك سبع بنات - أو تسع بنات - فتزوجت ثَيِّبًا، كرهت أن أَجِيْئُهُنَّ بمثلهن. فقال: بارك الله لك، أو قال: خيرًا».
وفي رواية سفيان، عن عمرو في المغازي: «وترك تسع بنات كُنَّ لي تسع أخوات، فكرهت أن أجمع إليهن جارية خرقاء مثلهن، ولكن امرأة تقوم عليهن وتمشطهن. قال: أصبت». وفي رواية ابن جريج، عن عطاء وغيره عن جابر: «فأردت أن أنكح امرأة قد جربت خلا منها، قال فذلك».
وأما امرأة جابر المذكورة فاسمها: سهلة بنت مسعود بن أوس بن مالك الأنصارية الأوسية؛ ذكره ابن سعد.فتح الباري (9/ 122).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «فهلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك»؛ يعني: لمَ لمْ تتزوَّجْ بكرًا تُكْثِر ملاعبتك إياها، وملاعبتها إياك؟.
هذا الحديث: يدل على أنَّ تزوُّج البكر أولى.
ويدل أيضًا: على أن ما يجري بين الزوجين من الملاعبة مرضيٌّ للشارع، وهو سنةٌ؛ لأنها سبب زيادة الألفة والنشاط، ومُهَيِّجُ الشهوة التي هي سبب الولادة.المفاتيح في شرح المصابيح (4/ 12- 13).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «فهلا بكرًا» أي: فهلا تزوجت بكرًا؟، ثم علَّلَه بقوله: «تلاعبها وتلاعبك»، وهو عبارة عن الألفة التامة؛ فإن الثيب قد تكون متعلقة القلب بالزوج الأول، فلم تكن محبتها كاملة؛ بخلاف البكر، وعليه ما ورد: «عليكم بالأبكار، فإنهن أشد حبا وأقل خبًّا».شرح المشكاة (7/ 2262).
وقال العراقي -رحمه الله-:
وفيه: استحباب نكاح البكر؛ لكونه -عليه الصلاة والسلام- حضَّ على ذلك.
وفي سنن ابن ماجه: عن عبد الرحمن بن سالم، عن عتبة بن غويم بن ساعدة الأنصاري عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «عليكم بالأبكار؛ فإنهن أعذب أفواهًا، وأَنْتَقُ أرحامًا، وأرضى باليسير»، ورواه الطبراني في المعجم الكبير من حديث ابن مسعود.
وقوله: «أَنْتَقُ أرحامًا» بالنون والتاء المثناة من فوق، والقاف، أي: أكثر أولادًا، يقال للمرأة الكثيرة الولد: ناتق؛ لأنها ترمي بالأولاد رميًا، والنتق الرمي والنفض والحركة.
وفي صحيح البخاري عن عائشة قالت: «قلت: يا رسول الله، أرأيت لو نزلت واديًا وفيه شجرة قد أُكِلَ منها، وشجرة لم يؤكل منها، في أيِّها كنت تُرْتِعُ بعيرك؟ قال: في الشجرة التي لم يؤكل منها، قالت: فأنا هي» تعني: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يتزوج بكرًا غيرها.
وقد استشكل بعضهم الحضَّ على البكر مع الحضِّ على الولود وقال: إنهما صفتان متنافيتان؛ فإنها متى عُرِفَتْ بكثرة الولادة، لا تكون بكرًا.
وأُجِيْبَ عن ذلك: بأنه قد تُعْرَفُ كثرة أولادها من أقاربها، وفيه نظر، وقد يقال: هما صفتان مُرَغَّبٌ فيهما، فإما أن يحصل على البكر، أو على كثرة الأولاد إن كانت ثَيِّبًا.
والحق: أنه لا تنافي بينهما، وأنه ليس المراد بالولود: كثرة الأولاد، وإنما المراد: مَنْ هي في مظنة الولادة، وهي الشابَّة دون العجوز التي انقطع حبلها، فالصفتان حينئذ من واد واحد، وهما متفقتان غير متنافيتين، -والله أعلم-.طرح التثريب في شرح التقريب (7/ 11).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
فيه: حضٌّ على تزويج البكر، وعلى ما هو أقرب لطول الصحبة والمودة، وما تستريح إليه النفوس؛ لما فيها من طبع البشرية والضعف، وقيل: معنى تلاعبها: من اللعاب لا اللعب، يؤيده رواية البخاري في موضع آخر: «فأين أنت من الأبكار ولعابها؟» بضم اللام -كما قيده المستملي-.التوضيح لشرح الجامع الصحيح (14/ 208).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «تلاعبها وتلاعبك» تعليل للترغيب في الأبكار، سواء كانت الجملة مستأنفة كما هو الظاهر، أو صفة لـ بكرًا، أي: ليكون بينكما كمال التآلف والتآنس؛ فإن الثَّيِّب قد تكون معلقة القلب بالسابق.حاشية السندي على سنن ابن ماجه (1/ 573).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«تلاعبها» من اللعب المعروف، وفيه: دليل على أنه يقصد ملاعبة الزوجة، وقيل: أنه من اللعاب، وهو الريق وهو بعيد، «وتلاعبك» يلاعب كل منهما صاحبه، ويؤيد الأول.التنوير شرح الجامع الصغير (7/ 518).
قوله: «أمهلوا، حتى تدخلوا ليلًا -أي: عشاء- لكي تمتشط الشَّعِثَةُ، وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ»:
قال ابن بطال -رحمه الله-:
فإن قال قائل: قوله -عليه السلام-: «أمهلوا حتى تدخلوا ليلًا» -أي: عشاء- يعارض نهيه -عليه السلام- أن يأتي الرّجل أهله طروقًا.
قيل: لا تعارض بينهما -بحمد الله-، وفي هذا الحديث: أمر للمسافر إذا قدم نهارًا أن يتربَّص حتى يدخل إلى أهله عشاء؛ لكي يَتَقَدَّمه إلى أهله خبر قدومه، فتمتشط له الشعثة، وتتزين وتَسْتَحِدّ له وتتنظف؛ لئلا يجدها على حالة يكرهها فتقع البغضة، رفقًا منه -عليه السلام- بأمته، ورغبة في إدامة المودة بينهما وحسن العشرة.
وقوله في الحديث الآخر: «أمهلوا حتى تدخلوا ليلًا»، أي: عشاء، يدل على قدومهم في النهار، والحديث الآخر الذي نهى فيه عن طروق أهله ليلًا بخلاف هذا المعنى؛ لأن الطروق لا يكون وقت العشاء، وإنما يكون لمن يقدم فجأة بعدما مضى وقت من الليل، فنهى عن ذلك للعلة التي ذكرها في الحديث، وهي خشية أن يَتَخَوَّنَهُم أو يطلب غِرَّتَهم، لا سيما إذا طالت غيبته، فإنها تبعد مراقبتها له، وتكون يائسة من تعجُّله إليها، فيجد الشيطان سبيلًا إلى إيقاع سوء الظن.شرح صحيح البخاري (7/ 371).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «أمهلوا حتى تدخلوا ليلًا -أي: عشاء- كي تمتشط الشَّعِثَةُ، وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ» قال الإمام -يعني: المازري-: الاستحداد: استفعال من الحديد، يعني: الاستحلاق به.
والْمُغِيبَة: التي غاب عنها زوجها، يقال: غابت المرأة، أي: غاب عنها زوجها؛ فهي مغيبه بالهاء، وأشهدت إذا حضر زوجها، فهي مُشْهد بغير هاء.
قال القاضي: قال الداودي: في قوله: «تَسْتَحِدّ المغيبة» توقير المرأة منها ذلك مدة مغيب زوجها؛ لتدل على صحتها، وهذا إن كان يشير أنه سنة، فلا أصل له، ولا هو بيّن من الحديث، وإنما أشار في الحديث إلى ما جَرَتْ به عادتهن غالبًا.
وفيه حضُّهُ -صلى الله عليه وسلم- على مكارم الأخلاق، وحسن العشرة، والتأني وترك العجلة، واستجلاب كل ما يوجب الألفة، ودوام الصحبة، وألا يستغفل أهله ويطرقهم؛ لئلا يجد منهم رائحة وشعثًا يكرهه، ويكون سبب زهده وبغضه فيهن، وإمهالهم هنا حتى يدخلوا ليلاً يسبق خبرهم إلى أزواجهم فيستعدوا لهم.
ولا يعارض هذا: النهي عن أن يطرق الرجل أهله ليلاً؛ لأن ذلك إذا لم يتقدمه خبر ليلاً، يستغفلهم، ويرى منه ما يكره من هذا وغيره؛ بل هو موافق له، وقد جاء هذا مُبَيَّنًا في حديثه الآخر الذي ذكره في الجهاد: «كان لا يطرق أهله ليلاً، وكان يأتيهم غدوة أو عشية».إكمال المعلم بفوائد مسلم (4/ 676- 677).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وفي هذا من التنبيه على رعاية المصالح الجزئية في الأهل، والإرشاد إلى مكارم الأخلاق، وتحسين المعاشرة؛ ما لا يخفى؛ وذلك: أن المرأة تكون في حالة غيبة زوجها على حالة بذاذة، وقِلَّة مبالاة بنفسها، وشعث، فلو قَدِمَ الزوج عليها وهي في تلك الحال ربما نفر منها، وزَهِدَ فيها، وهانت عليه، فنبَّه على ما يزيل ذلك.
ولا يعارض قوله: «حتى ندخل ليلًا» نهيه في الحديث الآخر عن أن يطرق الرَّجل أهله؛ لأن ذلك إذا لم يتقدَّم إليهم خبره؛ ليلًا يستغفلهم، ويرى منهم ما يكرهه.
وقد جاء هذا مُبَيَّنًا في الجهاد؛ إذ قال: «كان لا يطرق أهله ليلًا»، وكان يأتيهم غدوًّا وعشيًّا. وقد جاء في حديث النهي عن الطروق: التنبيه على علَّة أخرى، وهي: أنه لا يطرقهم يتخوَّنهم، ويطلب عثراتهم، وهو معنى آخر غير الأول، وينبغي أيضًا: أن يجتنب الطروق لأجل ذلك.المفهم (4/ 220).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «أي: عشاء» إنما فسره به؛ لئلا يعارض ما تقدم أنه لا يطرق أهله ليلًا؛ مع أن المنافاة منتفية من حيث إن ذلك فيمن جاء بغتة، وأما هنا فقد بلغ خبر مجيئهم، وعلم الناس وصولهم.الكواكب الدراري (19/ 173).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
«حتى تدخلوا ليلًا -أي: عشاء-» هذا التفسير في نفس الخبر، وفيه إشارة إلى الجمع بين هذا الأمر بالدخول ليلًا، والنهي عن الطروق ليلًا، بأن المراد بالأمر: الدخول في أول الليل، وبالنهي: الدخول في أثنائه.فتح الباري (9/ 341 -342).
وقال ابن حجر -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «تمتشط الشَّعِثَةُ» بفتح المعجمة وكسر العين المهملة ثم مثلثة: أُطْلِقَ عليها ذلك؛ لأن التي يغيب زوجها في مظنة عدم التزين.
قوله: «وَتَسْتَحِدَّ» بحاء مهملة، أي: تستعمل الحديدة وهي الموسى.
و«الْمُغِيبَةُ» بضم الميم وكسر المعجمة بعدها تحتانية ساكنة، ثم موحدة مفتوحة، أي: التي غاب عنها زوجها، والمراد: إزالة الشعر عنها، وعَبَّر بالاستحداد؛ لأنه الغالب استعماله في إزالة الشعر، وليس في ذلك منع إزالته بغير الموسى، -والله أعلم-.فتح الباري (9/ 123).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «أي: عشاء» إنما فسر به؛ لئلا يعارض ما تقدم أنه لا يطرق أهله ليلًا، مع أن المنافاة منتفية من حيث إن ذلك فيمن جاء بغتة، وأما هنا فقد بلغ خبر مجيئهم، وعلم الناس وصولهم.
قوله: «الشَّعِثَة» بفتح الشين المعجمة وكسر العين المهملة وبالثاء المثلثة، وهي: الْمُغْبَرَّة الرأس المنتشرة الشعر.
قوله: «وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَة» هي التي غاب عنها زوجها، والاستحداد: استعمال الحديد في شعر العانة، وهي إزالته بالموسى، هذا في حق الرجال، وأما النساء فلا يستعملن إلا النورة أو غيرها مما يزيل الشعر.عمدة القاري (20/ 221-222).
قوله: «تمتشط الشَّعِثَةُ»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي-رحمه الله-:
أي: تسرّح شعرها بالْمُشط، يقال: مَشَطتُ الشعر مَشْطًا، من بابي قتل، وضرب: سَرَّحْتُهُ، والتثقيل مبالغة، وامتشطت المرأةُ: مشَطتْ شعرها، والْمُشط الذي يُمْشَط به بضمّ الميم، وتميم تكسرها، وهو القياس؛ لأنه آلة، والجمع: أمشاط.ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (29/ 299).
وقال المظهري -رحمه الله-:
من السنة أن لا يدخل المسافر بيته إلا بعد أن يبلغ الخبر بقدومه إلى أهله؛ لتزين زوجته نفسها وتَطَيَّب؛ لأنه لو دخل عليها زوجها على غفلة منها ربما يجدها شَعِثَة وسِخَة كريهة الرائحة، فيحصل للزوج منها نُفْرَة الطباع.
قوله: «وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَة» صريحٌ على أن السنة حَلْقُ عانتهن كالرجال، وليس عليهن نتفُ عانتهن كما هو عادتهن.المفاتيح في شرح المصابيح (4/ 13).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
فإن قلت: كيف قيل: «وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَة» و«الشَّعِثَة» هي المغيبة أيضًا؟ قلت: تفاديًا عن اللفظ المستهجن، ولما لم يكن لفظ: «الشَّعِثَة» مُسْتَهْجنًا صرح به، وكَنَّى بالمغيبة عن طول شعر عانتها لاستهجانه، ومن ثَمَّة عدل عن النتف إلى الاستحداد؛ لأن النساء لا يرون استعمال الحديد ولا يحسن بهن.شرح المشكاة (7/ 2262).
قال: وحدثني الثقة: أنه قال في هذا الحديث:
قال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «حدثني الثقة»؛ فإن قلت: من القائل بهذا؟
قلتُ: الظاهر أنه البخاري أو مسدد.
فإن قلت: فهذا رواية عن المجهول.
قلتُ: إذا ثبت أنه ثقة فلا بأس بعدم العلم باسمه.
فإن قلت: لِمَ ما صرَّح بالاسم؟.
قلتُ: لعله نَسِيَه أو لم يتحققه.الكواكب الدراري (19/ 173).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
القائل: «وحدثني» هو هشيم، قال الإسماعيلي: كأن البخاري أشار إلى أن هشيمًا حمل هذه الزيادة عن شعبة؛ لأنه أورد طريق شعبة على أثر حديث هشيم.
وأغرب الكرماني فقال: القائل: «وحدثني» هو هشيم أو البخاري. ا. هـ.
وهو جار على ظاهر اللفظ، والمعتمد: أن القائل: هشيم كما أشار إليه الإسماعيلي.فتح الباري (9/ 342).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «قال: وحدثني الثقة» القائل: هو هشيم، أشار إليه الإسماعيلي، وقال الكرماني: الظاهر أنه البخاري أو مسدد.
قلت: هو جرى على ظاهر اللفظ، والمعتمد: ما قاله الإسماعيلي: لا يقال: هذا رواية عن مجهول؛ لأنه إذا ثبت عند الراوي عنه أنه ثقة فلا بأس بعدم العلم باسمه.عمدة القاري (20/ 222).
قوله: «الْكَيْسَ الْكَيْسَ يا جابر» يعني: الولد:
قال الخطابي -رحمه الله-:
أي: الوَلَد.
قلت: وهذا مُشْكِل، وقد يحتمل ذلك وجهين:
أحدهما: أن يكون قد حَضَّه على طلب الولد، وأَمَرَه باستعمال الكيس، والرفق فيه، وحسن التَّأني له، وكان جابر لا ولد له إذ ذاك.
وقد يحتمل: أن يكون قد أمَرَه بالتّوَقّي والحذر عند إصابة أهله؛ مخافة أن تكون حائضًا، وقد طالت الغيبة عليه، امتدت أيام العُزْبة، فإذا باشَرَها لم يجْتَنِب الْمَأتى، وهو مَوضِع الوَلَد، فَكَنَّى عنه بالوَلَد، والكَيْس: شِدّة الْمُحافظة على الشيء، كقول الشاعر:
وفي بَني عبدِ دُبَير كَيْسُ *** على الطعام ما غنا غُبَيسُ
وقد يكون معنى الكَيس: حُسن التّأديب، وكان علي يقول:
أما تَراني كَيِّسا مُكَيّسا *** بَنَيتُ بعد نافع مُخَيَّسا.أعلام الحديث (2/ 1022-1022).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قال المهلب: طلب الولد مندوب إليه؛ لقوله -عليه السلام-: «إنّي مكاثر بكم الأمم»، وأنه من مات من ولده من لم يبلغ الحلم، فإن الله يدخله الجنة بفضل رحمته إياهم.شرح صحيح البخاري (7/ 370).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
والكيس هنا: يجري مجرى الحذر، قاله الخطابي، قال: وقد يكون بمعنى: الرفق وحسن التأني.
وقال ابن الأعرابي: الكيس: العقل، كأنه جعل طلب الولد عقلاً، وقاله ثعلب، وأنشد:
وإنما الكيس لب المرء يعرضه *** على المجالس إن كيسًا وإن حمقًا
وقيل: أراد الحذر من العجز عن الجماع، ففيه: الحث على الجماع.
فائدة لغوية:
الكوس بالسين مهملة ومعجمة: الجماع، يقال: كاس الجارية، وكاشها...، كل ذلك إذا جامعها.التوضيح لشرح الجامع الصحيح (25/ 157).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «فالكيس» بالفتح فيهما على الإغراء، وقيل: على التحذير من ترك الجماع، قال الخطابي: الكيس هنا بمعنى الحذر، وقد يكون الكيس بمعنى الرفق وحسن التأني.
وقال ابن الأعرابي: الكيس: العقل، كأنه جعل طلب الولد عقلًا.
وقال غيره: أراد الحذر من العجز عن الجماع، فكأنه حث على الجماع.
قلت: جزم ابن حبان في صحيحه بعد تخريج هذا الحديث بأن الكيس: الجماع، وتوجيهه على ما ذكر، ويؤيده قوله في رواية محمد بن إسحاق: «فإذا قدمت فاعمل عملًا كَيّسًا»، وفيه: قال جابر: «فدخلنا حين أمسينا، فقلت للمرأة: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرني أن أعمل عملًا كَيّسًا، قالت: سمعًا وطاعة، فدونك. قال: فبت معها حتى أصبحت» أخرجه ابن خزيمة في صحيحه.
قال عياض: فَسَّر البخاري وغيره: الكيس: بطلب الولد والنسل، وهو صحيح، قال صاحب الأفعال: كاس الرجل في عمله: حَذَقَ، وكاس: وَلَدَ ولدًا كيّسًا.
وقال الكسائي: كاس الرجل: وُلِدَ له ولد كيس. ا. هـ.
وأصل الكيس: العقل -كما ذكر الخطابي-، لكنه بمجرده ليس المراد هنا، والشاهد لكون الكيس يراد به العقل قول الشاعر:
وإنما الشعر لُبُّ المرء يعرضه ... على الرجال فإن كَيْسًا وإن حُمْقًا
فقابله بالحمق وهو ضد العقل، ومنه حديث: «الْكَيِّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت»، والأحمق من أتبع نفسه هواها.
وأما حديث: «كل شيء بقدر، حتى العجز وَالْكَيْس»؛ فالمراد به: الفطنة.فتح الباري (9/ 342).
وقال الكشميري -رحمه الله-:
«الكَيْسَ الكَيْسَ» يريد أنَّ قَصْدَ قضاءِ الشهوة سَفاهةٌ، والنَّظر إلى طلب الولد كَياسةٌ.فيض الباري (5/ 568).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«فإذا قدمت الكَيْسَ الكَيْسَ» نصب على الإغراء والتكرير للتأكيد.
الكَيْسَ: خلاف الحمق لغة، قال الجوهري: والمراد به في الحديث طلب الولد؛ أي: إذا قدمت لا تعجل، كما هو شأن المسافر من المبادرة إلى الوقاع؛ لا سيما إذا كان قريب عهد بزواج؛ بل تربص أوائل الطهر بعد الحيض، فإنه أسرع علوقًا، ولم يكن لجابر إذا ذاك ولد.الكوثر الجاري (4/ 393).
وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)