إنْ كنت لَأَرَى الرُّؤيا تُمرضني، قال فًلقيت أَبا قتادة فقال: وأَنا كُنت لأرى الرؤيا فتمرضني، حتى سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول «الرُّؤيا الصالحة من الله، فإذا رأَى أَحدكم ما يحب فلا يُحدث بها إِلا مَن يُحب، وإنْ رأى ما يَكره فَليتفلْ عن يسارهِ ثلاثًا، وليتعوَّذ مِن شَرِّ الشيطان، ولا يُحدث بها أَحدًا فإنها لنْ تَضُرَّهُ».
رواه البخاري برقم: (7044)، ومسلم برقم: (2261) واللفظ له، من حديث أبي قتادة -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«الرؤيا»:
هو ما يراه النائم في منامِه، تقول: رأيتُ رؤيةً، إذا عاينتَ ببصرك، ورأيتُ رأيًا إذا اعتقدت شيئًا في قلبك، ورأيتُ رؤيا إذا رأيتَ شيئًا في منامك، وقد تُستعمل الرؤيا مصدرًا في اليقظةِ، كما قال الراعي: وكبَّر للرؤيا وهشَّ فؤاده *** وبشَّرَ نفسًا كان قبل يلومها.
والأبيات قبله تدلُّ على أنَّها رؤية اليقظةِ. القبس، لابن العربي (ص: 1135).
«فليتفل»:
التَّفل: نفخٌ معه أَدنى بُزاق، وهو أكثر من النَّفث. النهاية، لابن الأثير (1/ 192).
«ولتعوذ»:
أي: يعتصم بالله من شر تلك الرؤيا. المهيأ في كشف أسرار الموطأ، للكماخي (4/ 271).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
يقال: عذتُ به أعوذ عوذًا وعياذًا ومُعاذًا، أي: لجأتُ إليه. النهاية، لابن الأثير (3/ 318).
شرح الحديث
قوله: «إن كنتُ لأرى الرؤيا تُمرضني»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«إن» أي: إنه «كنتُ لأرى الرؤيا تُمرضني» بضم التاء وكسر الراء من أمرض الرباعي، أي: تأخذني بالمرض. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (22/ 427).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
الرؤيا والحُلْم عبارة عمَّا يراه النائم في نومه من الأشياء، لكن غَلبت الرؤيا على ما يراه من الخير والشيء الحَسن، وغَلب الحُلْم على ما يراه من الشَرِّ والقَبيح، ومنه قوله تعالى: {أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ} يوسف: 44، ويستعمل كل واحد منهما موضع الآخر، وتُضم لام الحُلم وتُسكَّن. النهاية (1/ 434).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
وقوله: «تمرضني» بضم أوله، من الإمراض، رباعيًّا؛ أي: تؤلمني. البحر المحيط الثجاج (37/ 34).
وقال المازري -رحمه الله-:
كثُر كلام النّاس في حقيقة الرؤيا، وقال فيها غير الإسلاميّين أقَاويل كثيرةً منكرةً؛ لمّا حَاولوا الوقوف على حقائق لا تعلم بالعَقل ولا يقوم عليها برهان، وهم لا يصدّقون بالسمع فاضطربت لذلك مقالاتهم.
فمَن ينتمي إلى الطبّ يَنسب جمَيع الرّؤيا إلى الأخلاط، ويستدلّ بالمنامات على الِخلطِ الغالب، ويقول: مَن غلب عليه البلغم رأى السِّباحة في الماء أو ما يشبهه؛ لمناسبة الماء في طبيعته طبيعة البلغم، ومَن غلب عليه الصّفراء رأى النّيران والصعود في الجوّ وشِبهِهِ؛ لمِناسبة النّار في الطّبيعة طبيعة الصفراء؛ ولأنّ خفّتها واتّقادها يخيّل إليه الطَّيرَان في الجوِّ والصُّعود في العلوّ، وهكذا يصنعون في بقيّة الأخلاط، وهذا مذهَب وإن جوّزه العقل وأمكن عندنا أن يجرِيَ البَاري -جلَّت قدرته- العادة بأن يخلق مثلما قالوه عند غلبةِ هذه الأخلاط؛ فإنّه لم يقم عليه دليل، ولا اطَّردت به عادة، والقطع في موضع التّجويز غَلط وجَهالة، هذا لو نسبوا ذلك إلى الأخلاط على جهة الاعتياد، وأما إن أضافوا الفعل إليها فإنّا نقطع بخطئهم، ولا نجَوّز ما قالوه؛ إذ لا فَاعل إلا الله سبحانه.
ولبعض أئمة الفلاسفة تخليط طويل في هذا، وكأنّه يرى أنّ صور ما يجري في الأرض في العالم العلويّ كالمنقوش، وكأنه يدور بدوران الكرة، فما حَاذى بعض النّفوس منه انتقش فيها، وهذا أوضَح فَسَادًا من الأوّل مع كونه تحكّمًا بما لم يقع عليه برهان، والانتقاش من صِفَات الأجسَام، وكثِير ما يجري في العالم الأعراض، والأعراض لا تنتقش ولا يُنتقَش فيها.
والمذهب الصّحيح ما عليه أهل السُّنّة وهو أنّ الله سبحانه يخلق في قلب النّائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليَقظان، وهو -تبارك اسمه- يفعل ما يشاء، ولا يمنعه من فعله نوم ولا يقظة، فإذا خلق هذه الاعتقادات فكأنّه سبحانه جعلها عَلَمًا على أمورٍ أُخَر يخلقها في ثاني حال، أو كان قد خلقها، فإذا خلق في قلب النّائم اعتقاد الطّيران وليس بطائر فقصارى ما فيه أنّه اعتقد أمرًا على خلاف ما هو عليه، وكم في اليقظة مَن يعتقد أمرًا على غَير ما هو عليه فيكون ذلك الاعتقاد عَلَمًا على غيره، كما يكون خلق الله سبحانه للغيم عَلَمًا على المطر، والجميع خَلْقُ الله سبحانه، ولكن يخلق الرؤيَا والاعتقادات التي جَعَلها عَلمًا على ما يسرّ بحضرة الَملَك أو بغير حضرة الشيطان، ويخلق ضِدّها مِمَّا هو عَلَم على ما يضرّ بحضرة الشيطان، فتنسب إليه مجازًا واتّساعًا. المعلم بفوائد مسلم (3/ 199- 201).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«كنتُ أرى الرؤيا» الرؤيا: ما يراه الشخص في منامه، وهي على وزن فُعْلَى، وقد تسهَّل الهمزة. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (9/ 55).
وقال الواحدي -رحمه الله-:
«الرؤيا» مصدر كالبُشْرى والسُقيا والتقى والشورى، إلا أنه لما صار اسمًا لهذا المتُخيل في المنام جرى مجرى الأسماء. التفسير البسيط (12/ 20).
قوله: «قال: فلقيتُ أبا قتادة، فقال: وأنا كنتُ لأرى الرؤيا فتُمرضني»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«قال» أبو سلمة «فلقيتُ أبا قتادة» الأنصاري... «فقال» لي أبو قتادة: «وأنا كنتُ لأرى الرؤيا فتمرضني». الكوكب الوهاج (22/ 427).
قوله: «حتى سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «الرؤيا الصالحة من الله»:
قال الخطابي -رحمه الله-:
قوله: «الرؤيا الصالحة من الله» يريد أنها بشارة من الله؛ يبشر بها عبده، ليحسن به ظنه، ويكثر عليها شكره. أعلام الحديث (3/ 1518).
وقال أبو الوليد الباجي -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «الرؤيا الصالحة» يحتمل -والله أعلم- أن يريد به المبشرة، ويحتمل أن يريد به الصادقة من الله تعالى. المنتقى شرح الموطأ (7/ 277).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وقوله: «الرؤيا من الله» أي: بشرى من الله، أو تحذير وإنذار. المفهم (6/ 9).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وقيل في معناه: «الرؤيا الصالحة من الله» وهو معنى الرواية الأخرى التي ليس فيها لفظ: «الصالحة» إضافة اختصاص وإكرام؛ لسلامتها من الأضغاث، وهو التخليط وجمع الأشياء المتضادة، كضغث الحشيش وشبهه، وطهارتها عن حضور الشيطان وإفساده لها، وهذا مثل قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} الحجر: 42، والكل من عنده، كما أن الرؤيا كلها مما حضره الشيطان أو لم يحضره من خلق الله وقدرته، فخص ما طهر من الشيطان وسلم من تخليطه بالإضافة إلى الله؛ تكريمًا وتشريفًا وتخصيصًا. إكمال المعلم (7/ 206).
وقال المظهري -رحمه الله-:
أراد بـ«الرؤيا الصالحة» أن يرى في المنام شيئًا فيه بشارة له أو تنبيه عن الغفلة، كما يأمره أحد بخير، أو يرى نفسه مع الصالحين أو في الجنة، أو يرى أن أحدًا يعذبه ويقول له: فعلتَ الذنب الفلاني، وما أشبه ذلك. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 105).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
«الصالحة» إما صفة موضحة للرؤيا؛ لأن غير الصالحة يسمى الحلم، أو مخصصة، والصلاح إما باعتبار صورتها وإما باعتبار تعبيرها، ويقال أيضًا لها: الرؤيا الصادقة والرؤيا الحسنة، والحلم هو ضدها، أي: لغير الصالحة، أي: الكاذبة أو السيئة. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (13/ 207).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «الصالحة» في رواية عقيل: «الصادقة»، وهما بمعنى واحد بالنسبة إلى أمور الآخرة في حق الأنبياء، وأما بالنسبة إلى أمور الدنيا؛ فالصالحة في الأصل أخص، فرؤيا النبي كلها صادقة، وقد تكون صالحة وهي الأكثر، وغير صالحة بالنسبة للدنيا كما وقع في الرؤيا يوم أُحُد، وأما رؤيا غير الأنبياء فبينهما عموم وخصوص إن فسرنا الصادقة بأنها التي لا تحتاج إلى تعبير، وأما إن فسرناها بأنها غير الأضغاث فالصالحة أخص مطلقًا. فتح الباري (12/ 355).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «الرؤيا الصالحة» الرؤيا على وزن: فُعْلى، بلا تنوين، وجمعها: رؤى، مثل: رعى، يقال: رأى في منامه رؤيا، وفي اليقظة: رأى رؤية، قيل: إن الرؤيا أيضًا تكون في اليقظة، وعليه تفسير الجمهور في قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} الإسراء: 60: إن الرؤيا ها هنا في اليقظة. عمدة القاري (15/ 179- 180).
وقال الشيخ عبد الرحمن سعدي -رحمه الله-:
«الرؤيا الصالحة من الله» أي: السالمة من تخليط الشيطان وتشويشه، وذلك لأن الإنسان إذا نام خرجت روحه، وحصل لها بعض التجرد الذي تتهيأ به لكثير من العلوم والمعارف، وتلطفت مع ما يلهمها الله، ويلقيه إليها الملك في منامها، فتتنبه وقد تجلت لها أمور كانت قبل ذلك مجهولة، أو ذكرت أمورًا قد غفلت عنها، أو تنبهت لأحوال ينفعها معرفتها، أو العمل بها، أو حَذِرَتْ مضار دينية أو دنيوية لم تكن لها على بال، أو اتعظت ورغبت ورهبت عن أعمال قد تلبست بها، أو هي بصدد ذلك، أو انتبهت لبعض الأعيان الجزئية لإدخالها في الأحكام الشرعية.
فكل هذه الأمور علامة على الرؤيا الصالحة، التي هي جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، وما كان من النبوة فهو لا يكذب. بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار (ص:149).
قوله: «فإذا رأى أحدكم ما يحب، فلا يحدث بها إلا مَن يحب»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فإذا رأى أحدكم ما يحبـ» ـه ويعجبه من الرؤيا «فلا يحدث» أي: فلا يخبر «بها إلا مَن يحبــ» ـه. الكوكب الوهاج (22/ 427).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وأما قوله -صلى اللَّهُ عليه وسلم-: «لا تخبر بها إلا مَن تحب» فيحتمل عندي أن يكون حذرًا من أن يعبِّرها له مَن يبغضه على الصفة المكروهة، فيحزنه ذلك، أو يتفق وقوعها على ما عبَّر، ويكون وصفها بأنها حسنة بمعنى حسنها في الظاهر، وأهل العبارة يقولون في تقاسيمهم: في المنامات ما هو حسن في الظاهر، مكروه في الباطن، ومنها عكسه، إلى بقية الأقسام التي يعدونها. إكمال المعلم (7/ 206).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«فإذا رأى أحدكم ما يحبه فلا يحدث به إلا مَن يحب»؛ لأن مَن لا يحبه لا يأمن من تأييد تعبيره بسوء، قال الله تعالى حكاية عن يعقوب ويوسف: {يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} يوسف: 5.
قال عمر -رضي الله تعالى عنه-: إذا رأى أحدكم رؤيا فقصها على أخيه فليقل: خيرًا لنا، وشرًّا لأعدائنا. شرح المصابيح (5/ 135).
وقال النووي -رحمه الله-:
وأما قوله -صلى الله عليه وسلم- في الرؤيا المحبوبة الحسنة: «لا تخبر بها إلا من تحب» فسببه أنه إذا أخبر بها من لا يحب ربما حمله البغض أو الحسد على تفسيرها بمكروه، فقد يقع على تلك الصفة، وإلا فيحصل له في الحال حزن ونكد من سوء تفسيرها، والله أعلم. شرح صحيح مسلم(15/ 18).
قوله: «وإن رأى ما يكره فليتفل عن يساره ثلاثًا»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«وإنْ رأى ما يكرهـه ويحزنه «فليتفل» أي: فليبصق «عن يساره ثلاثًا». الكوكب الوهاج (22/ 427).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
قوله: «فليتفل» وفي الرواية الآخرة: «فلينفث»، وفي حديث جابر: «فليبصق»، والظاهر أنَّه يحصل الامتثال بما فعله من تفل، أو بصق، أو نفث، والتفل أخف من البزق، والبصق أخف من التفل، والنفخ أخف من النفث. تحفة الذاكرين (ص: 139).
وقال المناوي -رحمه الله-:
قال الزركشي (ولعله في شرحه على البخاري غير متوفر): جاء في رواية: «فليتفل» وفي أخرى: «ينفث»، وفي أخرى: «يبصق» وبينها تفاوت، فينبغي فعل الكل؛ لأنه زجر للشيطان، فهو من باب رمي الجمار. فيض القدير (1/ 350).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
هذه حالات متفاوتة، فينبغي أنْ يُفعل الجميع؛ ليتحققَ الموعودُ به من عدم الضرر -إن شاء الله تعالى-. مصابيح الجامع (10/ 60).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وفي أمره بنفثه وبصقه ثلاثًا طردٌ للشيطان الذي حضر رؤياه المكروهة، واستقذاره لها، كما يبصق على ما يستقذر ويكره، كما أمر بذلك عند التثاؤب.
وكون ذلك في يساره؛ لأن اليسار أبدًا جهة الشيطان وجهة المذامّ والأقذار، والجهة المشؤومة بضد اليمين، والعرب تسميها الشؤما.
وقوله: «فليبصق» «وليتفل» «ولينفث» على اختلاف الأحاديث، كله بمعنى.إكمال المعلم (7/ 207).
وقال النووي -رحمه الله-:
ولعل المراد بالجميع (أي: الروايات) النفث، وهو نفخ لطيف بلا ريق، ويكون التفل والبصق محمولين عليه مجازًا. شرح صحيح مسلم(15/ 18).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«وليتفل» أي: ليرمِ البصاق من طرف لسانه «ثلاثًا» كراهة لتلك الرؤيا وطردًا للشيطان «ولا يحدث بها أحدًا»؛ لئلا يزداد همًّا. شرح المصابيح (5/ 136).
وقال الحكيم الترمذي -رحمه الله-:
وأما التفل الذي أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- به أنْ يتفل عن يساره، فإن التفلة واصلة إلى وجه الشَّيطان فيصير قروحًا. نوادر الأصول في أحاديث الرسول (4/ 32).
قوله: «وليتعوذ بالله من شر الشيطان وشرها»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«وليتعوذ بالله من شر الشيطان» ووسوسته «و» من «شرها» أي: ومن شر ما يقع بعدها. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (22/ 427).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قلتُ: لم أرَ في شيء من الأحاديث الاقتصار على واحدة، نعم أشار المهلب إلى أن الاستعاذة كافية في دفع شرها، وكأنه أخذه من قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} النحل: 98، 99، فيحتاج مع الاستعاذة إلى صحة التوجه، ولا يكفي إمرار الاستعاذة باللسان. فتح الباري (12/ 371).
وقال ابن حجر -رحمه الله- أيضًا:
وقد ذكر العلماء حكمة هذه الأمور؛ فأما الاستعاذة بالله من شرها فواضح، وهي مشروعة عند كل أمر يكره، وأما الاستعاذة من الشيطان فلما وقع في بعض طرق الحديث أنها منه، وأنه يخيل بها لقصد تحزين الآدمي والتهويل عليه. فتح الباري (12/ 371).
وقال ابن حجر -رحمه الله- أيضًا:
وورد في صفة التعوذ من شر الرؤيا أثر صحيح أخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد الرزاق بأسانيد صحيحة عن إبراهيم النخعي قال: «إذا رأى أحدكم في منامه ما يكره فليقل إذا استيقظ: أعوذ بما عاذت به ملائكة الله ورسله من شر رؤياي هذه أن يصيبني فيها ما أكره في ديني ودنياي». وورد في الاستعاذة من التهويل في المنام ما أخرجه مالك قال: بلغني أن خالد بن الوليد قال: يا رسول الله، إني أروع في المنام، فقال: «قل: أعوذ بكلمات الله التامات من شر غضبه وعذابه، وشر عباده، ومن همزات الشياطين، وأن يحضرون». فتح الباري (12/ 371).
وقال ابن حجر -رحمه الله- أيضًا:
واستثنى الداودي من عموم قوله: «إذا رأى ما يكره» ما يكون في الرؤيا الصادقة؛ لكونها قد تقع إنذارًا كما تقع تبشيرًا، وفي الإنذار نوع ما يكرهه الرائي، فلا يشرع إذا عرف أنها صادقة ما ذكره من الاستعاذة ونحوها، واستند إلى ما ورد من مرائي النبي -صلى الله عليه وسلم- كالبقر التي تُنحر ونحو ذلك.
ويمكن أنْ يقال: لا يلزم من ترك الاستعاذة في الصادقة أن لا يتحول عن جنبه، ولا أن لا يصلي، فقد يكون ذلك سببًا لدفع مكروه الإنذار، مع حصول مقصود الإنذار، وأيضًا فالمنذورة قد ترجع إلى معنى المبشرة؛ لأن مَن أُنذر بما سيقع له، ولو كان لا يسرُّه، أحسن حالًا ممن هجم عليه ذلك، فإنه ينزعج ما لا ينزعج من كان يعلم بوقوعه، فيكون ذلك تخفيفًا عنه، ورفقًا به. فتح الباري (12/ 372).
قوله: «ولا يحدث بها أحدًا فإنها لن تضره»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«ولا يحدث» بضم الياء وكسر الدال المشددة وبرفع المثلثة وبالجزم على النهي «بها أحدًا» من الناس «فإنها» أي: فإن تلك الرؤيا «لن تضره» بإذن الله تعالى وحفظه. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (22/ 427).
وقال النووي -رحمه الله-:
وأما قوله -صلى الله عليه وسلم- في الرؤيا المكروهة: «ولا يُحدث بها أحدًا» فسببه أَنه رُبَّما فسَّرها تفسيرًا مكروهًا على ظاهر صورتها، وكان ذلك محتملًا، فوقعت كذلك بتقدير الله تعالى، فإنَّ الرؤيا على رجلِ طائر، ومعناه: أنها إذا كانت محتملة وجهين ففسرت بأحدهما وقعت على قُرب تلك الصِفة، قالوا: وقد يكون ظاهر الرؤيا مكروهًا، ويفسر بمحبوب، وعكسه، وهذا معروف لأهله. شرح صحيح مسلم(15/ 18).
وقال المازري -رحمه الله-:
«فإنها لن تضره» فقيل: معناه: أن الروع يذهب بهذا النفث المذكور في الحديث، إذا كان فاعله مصدقًا به، متكلًا على الله -جلت قدرته- في دفع المكروه عنه.
وقيل: يحتمل أن يريد أن هذا الفعل منه يمنع من نفوذ ما دل عليه المنام من المكروه، ويكون ذلك سببًا فيه، كما تكون الصدقة تدفع البلاء، إلى غير ذلك من النظائر المذكورة عند أهل الشريعة. المعلم بفوائد مسلم (3/ 201).
وقال النووي -رحمه الله-:
وأما قوله -صلى الله عليه وسلم-: «فإنها لا تضره» معناه: أن الله تعالى جعل هذا سببًا لسلامته من مكروه يترتب عليها، كما جعل الصدقة وقاية للمال، وسببًا لدفع البلاء. شرح صحيح مسلم(15/ 18).
وقال النووي -رحمه الله- أيضًا:
فينبغي أنْ يُجمع بين هذه الروايات، ويُعمل بها كلها، فإذا رأى ما يكرهه نفث عن يساره ثلاثًا، قائلًا: أعوذ بالله من الشيطان ومن شرها؛ وليتحول إلى جنبه الآخر، وليصل ركعتين، فيكون قد عمل بجميع الروايات، وإنْ اقتصر على بعضها أجزأه في دفع ضررها بإذن الله تعالى، كما صرحت به الأحاديث. شرح صحيح مسلم(15/ 18).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
فمجموع الآداب المطلوبة (عند رؤية المكروه في المنام) خمسة:
1-النفث: واختلف فيه والتفل، فقيل: هما بمعنى، ولا يكونان إلا بريق...
2-الاستعاذة بالله من شر الشيطان.
3-الاستعاذة بالله من شرها.
4-التحول عن جنبه الذي كان عليه.
5-كتمها وعدم التحديث بها. زاد البخاري سادسًا، وهو الصلاة، ولفظه: «فمَن رأى شيئًا يكرهه فلا يقصه على أحد، وليقم فليصلِّ»، وكذا في روايتنا السادسة. وزاد في بعض الشروح سابعًا وهو قراءة آية الكرسي، ولم يذكر مستندًا. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (9/ 56).
وقال الشيخ عبد العزيز الراجحي -حفظه الله-:
وحاصل ما دل عليه هذا الحديث وغيره من الأحاديث: أن أدب الرؤيا الصالحة ثلاثة أشياء:
الأول: يحمد الله عليها.
الثاني: أن يستبشر بها.
الثالث: أن يتحدث بها، لكن لمن يحب لا لمن يكره. توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم (6/ 431- 432).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
فائدة: الرؤيا المكروهة هي التي تكون عن حديث النفس وشهواتها، وكذلك رؤيا التحزين والتهويل والتخويف يدخله الشيطان على الإنسان؛ ليهوش عليه في اليقظة.
وقد يُجمع هذان الشيئان، أعني: هموم النفس وتحزين الشيطان، وهذا النوع هو المأمور بالاستعاذة منه؛ لأنه من تخيلاته، فإذا فعل المأمور به صادقًا أذهب الله عنه ما أصابه من ذلك، وتحوُّلُه إلى الجانب الآخر؛ ليكمل استيقاظه وينقطع عن ذلك المنام المكروه. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (19/ 216).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده (أي الحديث):
1-منها: أن الرؤيا الصالحة من الله تعالى بشرى، لعبده، والرؤيا السيئة من الشيطان...
2-ومنها: بيان آداب مَن رأى ما يكرهه، وهو أن ينفث عن يساره ثلاثًا، ويتعوذ بالله من شرها، فإنها لا تضره.
3-ومنها: بيان عداوة الشيطان للإنسان في كل أحواله، في يقظته، ومنامه، فلا يتركه في أي حال من الأحوال إلا يتعرض لأذيته، وأنه لا ملجأ ولا منجى له إلا بالالتجاء إلى الله، والتحصن بذكره، فإنه الكافي عبده، فقد وعد بذلك حيث قال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} الإسراء: 65.
4-ومنها: بيان آداب الرؤيا الصالحة، وهي ثلاثة أشياء: أن يحمد الله تعالى عليها، وأن يستبشر بها، وأن يتحدث بها، لكن لمن يحب دون مَن يكره.
5-ومنها: أنه استدل بقوله: «ولا يذكرها» على أن الرؤيا تقع على ما يُعبَّر به. البحر المحيط الثجاج (37/ 12).
وللاستفادة من الروايات الأخرى ينظر (هنا) و (هنا)