الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

«إذا شَرِبَ أحدُكُمْ، فلا يَتنفَّس في الإِناءِ، فإذا أرادَ أن يعودَ، فلْيُنَحِّ الإناءَ، ثم لِيَعُدْ إن كان يُرِيدُ».


رواه ابن ماجه برقم: (3427)، وابن أبي شيبة برقم: (24169)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (624)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (‌‌386).


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«فلا يتنفَّس»:
أي: فلا يُخْرِجُ نَفَسَهُ. شرح المصابيح، لابن الملك (1/ 250).

«فلْيُنَحِّ»:
أي: يزيله، ويبعده عن فيه. التيسير، للمناوي (1/ 109).


شرح الحديث


قوله: «إذا شَرِبَ أحدُكُمْ، فلا يَتَنَفَّسْ في الإِناءِ»:
وقال الأسطواني -رحمه الله-:
«إذا شرِب» بكسر الرَّاء «أحدُكم» فاعله، ومفعوله محذوف؛ ليعم الماء وغيره، أو هو مُنزَّل منزلة اللازم. أصل الزراري شرح صحيح البخاري (ص:57).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«إذا شرب أحدكم» ماءً أو غيره. إرشاد الساري (1/ 240).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«‌إذا ‌شرب ‌أحدكم» الماء كما يدل عليه قوله في حديث: «إذا شربتم الماء»، ويلحق به غيره من المائع كلبن وعسل. فيض القدير (1/ 386).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«إذا شرب» كلمة شرب تشمل كل شراب من ماء أو لبن أو عصير وغير ذلك. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (4/ 626).

قوله: «فلا يَتَنَفَّسْ في الإِناءِ»:
قال الأسطواني -رحمه الله-:
«فلا يتنفسْ» بالجزم فيه، وفي الفعلين بعده على النهي، وبالرفع فيهما على النفي بمعنى النهي... «في الإِناء» بكسر الهمزة: الوعاء، جمعها: آنية، وجمع الآنية: الأواني؛ مثل: سقاء وأسقية وأساقي، وأصله غير مهموز، فأصله: إناي، قلبت الياء همزة؛ لوقوعها في الطرف بعد ألف ساكنة، وهو نهي، ويحتمل النفي، وعلى كل فالنهي للأدب...، فإن شرب وتنفس في الإناء من غير أن يَبِيْنَه عن فيه؛ فهو مكروه، أمَّا لو شرب في نفس واحد ولم يتنفس فيه؛ فلا يكره؛ لأنَّه إنَّما نهي عن التنفس في الإناء، وهذا ليس كذلك، وكرهه جماعة، وقالوا: إنه شرب الشيطان.
وإنما السنة: أن يشرب الماء في ثلاثة أنفاس، كلما شرب نَفَسًا من الإناء؛ نحَّاه عن فيه، ثم عاد مصًّا له غير عبٍّ إلى أن يأخذ ريَّه منه...
ولم يبيِّن في الحديث عدد التنفس خارج الإناء، وقد بيَّنه في الحديث الآخر بالتثليث، ففي الترمذي محسَّنًا من حديث ابن عباس مرفوعًا: «لا تشربوا واحدًا كشرب البعير، ولكن اشربوا مثنى وثلاثًا، وسمُّوا إذا أنتم شربتم، واحمدوه إذا أنتم رفعتم». أصل الزراري شرح صحيح البخاري (ص:57).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«فلا يتنفس» ندبًا «في الإناء» فيكره تنزيهًا؛ لأنه يقذره، ويغير ريحه. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 109).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«فلا يتنفس» أي: فلا يخرج نَفَسَه في الظرف، بل إذا أراد التنفس، فليدفع فمه عن الإناء، ويتنفس ويستريح، ثم يشرب.
وعلة النهي عن التنفس في الإناء؛ لتغير ما في الإناء بنَفَسِه. المفاتيح في شرح المصابيح (1/ 373).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
قوله: «في الإناء» قال العلقمي: هو عام في كل إناء فيه طعام أو شراب، أو ليس فيه شيء؛ لأنه يقذره، وربما يغير رائحته. السراج المنير شرح الجامع الصغير (1/ 141).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«فلا يتنفس» أي: لا يخرج نَفَسه في الإناء الذي يشرب منه سواء كان ذلك حين مص الشراب أو بعد ذلك، وإنما نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن هذا إن كان الإنسان في أثناء الشرب، فإن النفس ربما يصطدم بما نزل من الشراب، ويحصل بذلك الشَّرَق، وإن كان في غير أثناء الشرب فإنه يلوث هذا الشراب على غيره ويكرهه له، وربما يكون في الإنسان أمراض خفية تنطلق من نفسه حتى تلصق في هذا الإناء أو في هذا الشراب، فلهذا نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك.
ثم إذا كان التنفس في أثناء الشرب فإنه يشبه الحيوان؛ لأن الحيوان كثيرًا منه يتنفس وهو يشرب، وبعض الحيوان لا يتنفس وهو يشرب، إذا أراد التنفس رفع رأسه، فمن ثَمَّ نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن التنفس في الإناء.
ولكن نقول: ما الذي يسن للإنسان في حال الشراب، هل يسن أن يكون بنَفَس واحد ونقول: لا تتنفس في الإناء بل تصبر حتى تروى، ثم تتنفس بعد ذلك خارج الإناء؟
نقول: السنة للشارب أن يتنفس ثلاثًا، وألا يعبّ الماء بنَفَس واحد؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن ذلك أهنأ وأبرأ وأمرأ» يعني: التنفس ثلاثًا، وهذا فيما لا تقتضي الحال أن يتنفس فيه أكثر من ثلاثة؛ لأن بعض الأشربة تتطلب الحال أن يتنفس فيه أكثر من ثلاث مرات مثل الأشربة الحارة، وكذلك الباردة الشديدة البرودة فإنه يتطلب أن تتنفس أكثر من ثلاث مرات؛ لأنك تأخذ الجرعة ثم تبقيها في فمك حتى تشبع قليلًا ثم تنزلها، لكن الشراب العادي يتنفس الإنسان فيه ثلاث مرات، هذا هو السنة. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (4/ 626).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«ولا يتنفس» أي: لا يُخرِج نَفَسَه «في» داخل «الإناء» عند الشرب، وأما التنفس خارج الإناء ثلاثًا فسنة معروفة. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (5/ 335).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
والنفس خارجه (أي: الإناء) أحسن ‌في ‌الأدب وأبعد عن الشَّرَه وأخف للمعدة، وإذا تنفس فيه تكاثر الماء في حلقه وأثقل معدته، وربما شَرِق (غصَّ) وآذى كبده، وهو فعل البهائم، وقد قيل: إن في القلب بابين يدخل النفس من أحدهما ويخرج من الآخر فيُنقى ما على القلب من همٍّ وقذى، ولذلك لو احتبس النفس ساعة هلك الآدمي، فكره التنفس في الإناء خشية أن يصحبه شيء مما في القلب فيقع في الماء ثم يشربه فقد يتأذى به، وقيل: علة الكراهة أن كل عبة شربة مستأنفة فيستحب الذكر في أولها والحمد في آخرها، فإذا وصل ولم يفصل بينهما فقد أخل بعدة سنن. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (4/ 143).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
نهيه عن التنفس في الإناء نهي أدب وتعليم؛ وذلك أنه إذا فعل ذلك لم يأمن أن يبدر من فيه الريق فيخالط الماء، فيعافه الشارب منه، وربما تَرَوَّح بنكهة المتنفِس إذا كانت فاسدة، والماء للطفه ورقة طبعه تسرع إليه الروائح، ثم إنه من فعل الدواب؛ إذا كَرَعَت (مَدَّت عنقها لتناول الماء بفمها) في الأواني جَرَعَت (ابتلعته دفعة واحدة) ثم تنفست فيه، ثم عادت فشربت، وإنما السنة والأدب أن يشرب الماء في ثلاثة أنفاس، كلما شرب نَفَسًا من الإناء نحّاه عن فمه، ثم عاد مصًّا له، غير عَبٍّ إلى أن يأخذ رِيَّه منه. أعلام الحديث (1/ 244- 245).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
هو على طريق الأدب ومخافة التقزّز للغير لأجل ذلك، كما نهى عن النفخ في الشراب لذلك، ومخافة ما لعله يخرج مع النفخ والنفس من البُصاق ورطوبةِ الأنف، ويقع في الشراب والطعام فيُتَقَذَّر لذلك؛ ولأن ترداد النَفَس في الإناء يُبَخِّرُه وَيُكسبه رائحةً كريهةً، وهو أحد معاني النهي عن اختناث الأسقية،... وهناك معنى الحديث الآخر: أنه كان يتنفس في الإناء ثلاثًا. إكمال المعلم (2/ 74).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
هذا التأديب مبالغة في النظافة؛ إذ قد يخرج مع النفس بصاق أو مخاط أو بخار رديء فيكسبه رائحة كريهة، فيتقذر الغير عن شربه، أو الشارب نفسه، وهذا من باب النهي عن النفخ في الشراب، ومن باب النهي عن اختناث الأسقية، وتزيد هذه مصالح أخر. المفهم (1/ 519).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
«ولا يتنفس في الإناء» يراد به إبانة الإناء عند إرادة التنفس؛ لِمَا في التنفس من احتمال خروج شيء مستقذر للغير، وفيه إفساد لِمَا في الإناء بالنسبة إلى الغير؛ لعيافته له. وقد ورد في حديث آخر إبانة الإناء للتنفس ثلاثًا، وهو ها هنا مطلق. إحكام الأحكام (1/ 104).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
أما التنفس فهو هنا خروج النفس من الفم، يقال: تنفس الرجل، وتنفس الصعداء، وكل ذي رئة متنفس، ودواب الماء لا رئات لها.
والحكمة في النهي عنه أنه أبعد عن تقذير الإناء، وعن خروج شيء تعافه النفس من الفم، فإذا أبانه عند إرادة النفس، أمن ذلك.
وقد ثبت إبانة الإناء للتنفس ثلاثًا، وهو في هذا الحديث مطلق؛ ولأن إبانة الإناء أهنأ في الشرب، وأحسن في الأدب، وأبعد عن الشَّرَه (النَهَم والجَشَع)، وأخف للمعدة.
وإذا تنفس في الإناء، واستوفى رِيَّه، حمله ذلك على فوات ما ذكرنا من حكمة النهي، وتكاثر الماء في حلقه، وأثقل معدته، وربما شَرِقَ به (غصّ به).
وأما النهي عن التنفس في الإناء، فمعناه: لا يتنفس فيه نفسه، بل يتنفس خارجه؛ فإنه سنة ثابتة، وأدب شرعي في الشرب؛ لما يحصل بالتنفس في الإناء من نتنه، وغير ذلك من الحكم المتقدمة.
وقد روى الترمذي من رواية أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن النفخ في الشراب، فقال رجل: القَذَاة (ما يقع في الماء من أشياء صغيرة كذرات التراب أو نحوها) أراها في الإناء؟ فقال: «أهرقها» قال: فإني لا أروى من نَفَس واحد، قال: «فأبنِ القدح إذًا عن فيكَ» وقال: حديث حسن صحيح.
وأما ما ثبت في الصحيحين من رواية أنس -رضي الله عنه-: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتنفس في الإناء ثلاثًا» فمعناه: خارج الإناء، -والله أعلم-. العدة في شرح العمدة (1/ 132- 135).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «ولا يتنفس في الإناء» ‌جملة ‌خبرية ‌مستقلة إن كانت «لا» نافية، وإن كانت ناهية فمعطوفة، لكن لا يلزم من كون المعطوف عليه مقيدًا بقيد أن يكون المعطوف مقيدًا به؛ لأن التنفس لا يتعلق بحالة البول، وإنما هو حكم مستقل، ويحتمل أن تكون الحكمة في ذكره هنا أن الغالب من أخلاق المؤمنين التأسي بأفعال النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد كان إذا بال توضأ، وثبت أنه شرب فضل وضوئه، فالمؤمن بصدد أن يفعل ذلك، فعلمه أدب الشرب مطلقًا لاستحضاره، والتنفس في الإناء مختص بحالة الشرب كما دل عليه سياق الرواية التي قبله، وللحاكم من حديث أبي هريرة: «لا يتنفس أحدكم في الإناء إذا كان يشرب منه» والله أعلم. فتح الباري (1/ 255).
وقال الفاكهاني -رحمه الله-:
«ولا يتنفس في الإناء»: النهي أيضًا على الكراهة -كما تقدم-؛ وذلك حمل لأمته -صلى الله عليه وسلم- على مكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب؛ لأنه إذا تنفس في الإناء، ربما انفصل من ريقه شيء، فيعافه الغير، ويستقذره، هذا مع ما في ذلك من الضرر، فهو مكروه نزاهة وطبًّا، ولا يختص ذلك بالشراب، بل بالطعام، والكتاب كذلك، أعني: أنه يكره النفخ فيهما كالشراب، أما الشراب: فكما تقدم، وأما الطعام والكتاب فللاحترام والتنزيه.
والتنفس في معنى النفخ، يدل على ذلك حديث مالك -رضي الله عنه-: أن أبا سعيد الخدري -رضي الله عنه- دخل على مروان بن الحكم، فقال له مروان: أسمعت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن النفخ في الشراب؟ فقال أبو سعيد: نعم، فقال رجل: يا رسول الله، إني لا أروى من نفس واحد، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فأبنِ القدح عن فيكَ، ثم تنفس» قال: إني أرى القَذَى (جمع قَذَاة) فيه، قال: «فأهرقه».
قال بعض مَن شرح هذا الحديث: قوله: «نهى عن النفخ في الشراب» المعنى: ما ذكرناه في التنفس، وهو خشية أن يقع من ريقه شيء، وقول الرجل: «يا رسول الله، إني لا أروى من نفس واحد» يقتضي أن التنفس في الإناء في معنى النفخ يتقذره الناظر، كما ذكرناه.
قلتُ: ومن آداب الشرب: أن يمص الماء مصًّا، ولا يعبه، كما في الحديث.
وظاهر حديث مالك المذكور آنفًا جواز الشرب من نفس واحد؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- لم ينكر على الرجل القائل: «إني لا أروى من نفس واحد»، بل أقره عليه، فاقتضى ذلك إباحته، وإن كان الأولى التنفس ثلاثًا؛ أعني أن يبين الإناء عن فيه ثلاث مرات، ويتنفس في كل مرة، فإنه أهنأ وأمرأ؛ كما في الحديث. رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام (1/ 222- 224).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
تنبيه: لا يختص النهي المذكور بالشراب، بل الطعام مثله؛ فيكره النفخ فيه، والتنفس في معنى النفخ، يدل على ذلك ما في الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن النفخ في الشراب، فقال رجل: القذاة أراها في الإناء؟ فقال: أهرقها. قال: فإني لا أروى من نفس واحد، قال: «فأبنِ القدح إذًا عن فيكَ» قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وأما ما ثبت في الصحيحين من حديث أنس -رضي الله عنه- أنه -عليه السلام-: «كان يتنفس في الشراب ثلاثًا»، فمعناه خارج الإناء.
فائدة: اختلف العلماء في هذه الأنفاس الثلاثة أيها أطول؟
على قولين:
أحدهما: الأول، فيمحض الثاني والثالث للسنة، فإنه إذا أطال المرة الأولى حصل الري منها، فيبقى ما عداها اتباعًا للسنة.
الثاني: أن الشربة الأولى: أقصر، والثانية: أزيد منها، والثالثة: أزيد منها ليجمع بين السنة والطب؛ لأنه إذا شرب قليلًا وصل إلى جوفه من غير إزعاج. الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (1/ 501- 502).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«ولا يتنفس» أي: لا يخرج نفسه من الفم «في الإناء»؛ لئلا يتقذر الماء أو نحوه بذلك؛ وليأمن خروج شيء تعافه النفس من الفم، وكل ذي رئة يتنفس بالمعنى المذكور.
ودواب الماء لا رئة لها كما نقل عن الجوهري؛ قال: والرئة السَّحْر (كل ما تعلق بالحلقوم من قلب ورئة)، وفي القاموس: الرئة موضع النفس والريح من الآدمي وغيره، وأما التنفس بمعنى الزيادة كما في قوله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} التكوير: 18، وبمعنى التصعد كما في قولهم: تنفست القوس إذا تصعدت فمجاز. فتح العلام بشرح الإعلام بأحاديث الأحكام (ص:111).
وقال السفاريني -رحمه الله-:
ففي الصحيحين عن أبي قتادة: «نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يتنفس في الإناء».
وفي حديث أنس عندهما: «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يتنفس في الإناء ثلاثًا».
فظاهر هذه الأحاديث: المدافعة، وليس كذلك، وإنما المقصود في أحاديث النهي: ألا يتنفس داخل الإناء، إذ قد يخرج مع النفس بصاق أو مخاط، أو بخار رديء، فيكسبه رائحة كريهة، فيستقذر منه هو أو غيره، فيترك شربه.
وعند الحاكم، من حديث أبي هريرة: «لا يتنفس أحدكم في الإناء إذا كان يشرب منه».
والمقصود في أحاديث الأمر: أن يشرب، ثم يبين الإناء عن فيه، فيتنفس خارج الإناء ثلاثًا.
ففي حديث لأنس عند مسلم وأصحاب السنن: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتنفس في الشراب ثلاثًا، ويقول: إنه أروى، وأمرأ، وأبرأ»، وفي رواية أبي داود: «أهنأ» بدل «أروى» قال أنس: وأنا أتنفس في الشراب ثلاثًا». كشف اللثام شرح عمدة الأحكام (1/ 213- 214).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
النهي عن التنفس في الإناء نهي أدب بلا خلاف؛ لأن الماء بلطفه يقبل اللعاب السائل من الفم، والنكهة المتغيرة، فيتغير من ساعته، فلا يقدم هو على شربه، فإن اقتحمه لم يقدر غيره عليه...، ونهى عن التنفس، وكان هو يتنفس، فقيل: معناه: يتنفس في الإناء، أي: لا يعمه بالشرب في نفس واحد، ولكنه يقطعه، وقيل: كان ينتفس فيه؛ لأن ريقه كان ألذ من الماء، وأعطر من المسك، فعدمت العلة التي نهى غيره عن ذلك لأجلها. عارضة الأحوذي (8/60).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
التنفس في الإناء منهيٌّ عنه كما نُهي عن النفخ في الإناء، وإنما السنة إراقة القذى من الإناء لا النفخ فيه، ولا التنفس؛ لئلا يتقذره جلساؤه. شرح صحيح البخاري (1/ 243).
وقال ابن بطال -رحمه الله- أيضًا:
قال المهلب: التنفس إنما نهى عنه -عليه السلام- كما نهى عن النفخ في الطعام والشراب -والله أعلم- من أجل أنه لا يؤمن أن يقع فيه شيء من ريقه، فيعافه الطاعم له، ويستقذر أكله؛ إذ كان التقذر في باب الطعام والشراب، والتنظف فيه الغالب على طباع أكثر الناس، فنهاه عن ذلك؛ لئلا يفسد الطعام والشراب على من يريد تناوله هذا إذا أكل أو شرب مع غيره، وإذا كان الإنسان يأكل أو يشرب وحده أو مع أهله، أو مع من يعلم أنه لا يقذر شيئًا مما يأكل منه، فلا بأس بالتنفس في الإناء، كما فعل النبي مع عمر بن أبي سلمة أمره أن يأكل مما يليه، وكان هو -عليه السلام- يتتبع الدباء في الصحفة، علمًا منه أنه لا يقذر منه شيء -عليه السلام-، وكيف يظن ذلك وكان إذا تنخم تبادر أصحابه نخامته فدلكوا بها وجوههم، وكذلك فضل وضوئه، فهذا فرق بين فعل النبي وأمره غيره بالأكل مما يليه. شرح صحيح البخاري (6/ 79).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
فمن المشكل في الحديث الأول: «إذا ‌شرب ‌أحدكم فلا يتنفس في الإناء» هذا على وجه التعليم للنظافة؛ لأنه ربما خرج مع النفس شيء من الأنف فوقع في الإناء؛ وذلك مما تعافه نفس الشارب فضلًا عن نفس المنتظر لفراغه ليشرب، وربما غيّر النَّفَس ريح المشروب فتعافه النفس، ورُبَّ نَفَس فاسد يفسد ما يلقاه، والماء من ألطف الجواهر وأقبلها للتغير بالريح.
فإن قيل: فقد صح من حديث أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتنفس في الإناء ثلاثًا.
فالجواب: أن المعنى يتنفس في مدة شربه من الإناء ثلاثًا، ومعنى هذا التنفس عند إبانة الماء عن الفم، والنهي في حديثنا هذا أن يجعل النفس في الإناء. كشف المشكل من حديث الصحيحين (2/ 137- 138).
وقال الشيخ ابن جبرين -رحمه الله-:
«ولا يتنفس في الإناء» أمره هنا بأن لا يتنفس في الإناء، والمراد به عند الشرب، فالإنسان إذا شرب فإنه يباشر الشرب بفمه، ومعلوم أن هذا الماء أو اللبن الذي يشرب منه قد يناوله أناسًا آخرين ليشربوا منه، وإذا أخذ يتنفس فيه استقذره الآخرون، فقد يخرج من أنفه إذا تنفس شيء من الأذى أو نحوه، أو يعلق به شيء من آثار نفسه فيستقذر، فأمر الإنسان بأن يحترم هذا الشراب، الذي هو أهم الضروريات للإنسان حتى لا يفسده على غيره.
وقد سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقيل له: يا رسول الله، إنا لا نروى بنفس واحد، أي: أن الإنسان قد يشرب ويضيق نفسه فلا يروى، قال: «فأبعد القدح عن فمك» يعني: إذا أردت التنفس فأخّر القدح عن فمك، ثم تنفس ثم ارجع واشرب بنفس ثانٍ، وقد كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يشرب بثلاثة أنفاس، أي: أنه يشرب، ثم إذا احتاج إلى تنفس أبان القدح ثم تنفس، ثم يشرب مرة ثانية، إلى ثلاث مرات، وكان أيضًا يحث على الشرب بدون عَبٍّ، فقد روي عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إذا شرب أحدكم فليمص الماء مصًّا، ولا يعبه عبًّا؛ فإنه من الكُبَاد» يعني: أنه إذا أخذ يعب عبًّا، ويجرع جرعات كبيرة فإنها تنصب على كبده فتؤثر فيه؛ وذلك من الإرشادات النبوية التي أرشد إليها أمته حتى ينتفعوا بها في حياتهم، وإن كانت من الأمور العادية.
فنهانا أن نتنفس في الإناء حتى لا يفسد هذا الشراب؛ سواء كان هناك من سيشرب منه أو لم يكن، حتى ولو كان سيهريق بقية الماء، ولو كان ذلك الماء قليلًا وسوف يشربه كله، ولا يبقي منه شيئًا، فهو منهي بهذا الحديث عن أن يتنفس في حالة الشرب.
وقد ذكروا أيضًا أن في هذا تشبهًا بالدواب، فالدواب كالبقر ونحوها إذا شربت تتنفس في حالة الشرب، فإذا تنفس الإنسان في الإناء أثناء الشرب فقد تشبَّه بحيوان بهيم، مستقذر طبعًا التشبه به، فأرشد -عليه الصلاة والسلام- أمته إلى هذه الإرشادات؛ سواء كانت متعلقة بالعبادات أو متعلقة بالعادات.
والشرب أمر عادي، معروف قبل الإسلام، ومعروف أنه أمر معتاد وضروري، فأرشد إليه، وبين كيفيته التي يحبها الشرع، والتي توافق الفطرة السليمة، والتي تبعد الإنسان عن أن يكون قذرًا أو مستقذرًا عند غيره، مما يدل على أهمية هذه الشريعة، وتطرقها إلى كل ما تمس إليه حاجة البشر. شرح عمدة الأحكام (2/ 17).
وقال الشيخ حمزة محمد قاسم -رحمه الله-:
«فلا يتنفس في الإناء» أي: فلا يتنفس داخل الإناء، مريضًا كان أو صحيحًا، سواء كان المشروب ماءً أو لبنًا أو عصيرًا أو غيره، حرصًا على النظافة والسلامة العامة، ووقاية من العدوى. منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري (1/ 245).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
قال علماؤنا: هذا من مكارم الأخلاق أيضًا، ومعنى ذلك لئلا يقع فيه من ريق النافخ فيتقززه غيره.
(قلتُ): بل هو حرام فيمن يعلم أنَّه يناوله لغيره، فإنَّ الإضرار بالغير حرام، فإنْ فعله في خاصة نفسه، ثم ناوله لغيره، فليعلمه به؛ لأنه إنْ كتمه كان من باب الغش، وهو حرام. عارضة الأحوذي (8/65).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
«ولا يتنفس في الإناء» النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- إذا شربَ شربَ ثلاثًا، يتنفس خارج الإناء؛ لئلا يخرج منه شيء مما يستقذر، وكذلكم النَّفَس له رائحة كريهة، ويحتمل أن يصاحب هذه الرائحة أمور تخفى على الناس، أثبت الطب أن هناك جراثيم لا تدرك بالعين المجردة، تخرج من الإنسان مع النَّفَس، فكونه يتنفس خارج الإناء هذا هو المطلوب، والتنفس في الإناء مكروه كراهية شديدة عند أهل العلم؛ لما ثبت فيه من النهي؛ لأنه يقذره، إما على نفسه إن أراد معاودة الشرب، أو على غيره ممن ينتظره ممن يريد الشرب بعده. شرح عمدة الأحكام (2/ 32).

قوله: «فإذا أرادَ أن يعودَ، فلْيُنَحِّ الإِناءَ، ثم لِيَعُدْ إن كانَ يُرِيدُ»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«وإذا أراد أن يعود» إلى الشرب «فلْيُنَحِّ الإناء» أي: يزيله ويبعده عن فيه، ثم يتنفس «ثم لِيَعُد» بعد تنحيته «إن كان يريد» العود، ولا يعارضه خبر: «كان إذا شرب تنفس ثلاثًا»؛ لأنه كان يتنفس خارج الإناء. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 109).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فإذا أراد أن يعود» إلى التنفس ثانيًا «فلْيُنَحِّ» أي: فلْيُبعد «الإناء» عن فمه، ويتنفس خارجه ثانيًا «ثم» بعد تنفسه خارج الإناء «لِيَعُدْ» إلى الشرب ثانيًا «إن كان يريد» الشرب ثانيًا.
واللام في قوله: «فلْيُنَحِّ» لام الأمر ساكنة؛ لوقوعها بعد الفاء، والفاء رابطة لجواب «إذا» وجوبًا، و«ينح» بضم الياء وفتح النون وبكسر المهملة المشددة: مضارع؛ من نحَّى ينحي -من باب فعَّل المضعف المعتل اللام؛ نظير زكَّى- تنحيةً، مجزوم بلام الأمر؛ وهو إبعاد الشيء عن غيره. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (20/ 151).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
ومن الآداب الشرعية في الشرب: أن يشرب بيمينه، وأن لا يتنفس في الإناء، والأفضل أن يكون بثلاثة أنفاس، يفصل الإناء عن فمه، ويتنفس ثلاثًا إذا شرب الماء، أو اللَّبن، ولا يتنفس في الإناء؛ لأنه قد يُشرب منه، أو يخرج من فمه شيء يقذر الماء، والسنة الفصل؛ يفصل الإناء عن فمه، ويتنفس. الإفهام في شرح عمدة الأحكام (ص:88).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
يستفاد من هذا الحديث: أن الشريعة الإسلامية شاملة كاملة، شاملة لكل شيء؛ ولهذا قال رجل لسلمان الفارسي: «علمكم نبيكم حتى الخِرَاءة، يعني: آداب الخِرَاءة -التخلي- قال: أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة ببول أو غائط، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برَجِيع (روث) أو عظم».
وقال أبو ذر: «ولقد توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا وذكر لنا منه علمًا».
فالشريعة -والحمد لله- شاملة، ومع شمولها كاملة تكمل جميع ما يتعلق بها.
ومن فوائد الحديث: النهي عن التنفس في الإناء، وهل النهي للكراهة أو للتحريم؟ نقول: هو للكراهة إلا إذا أدى إلى إيذاء الغير، كما لو كان هذا الشراب سيشرب من بعدك وأنك لو تنفست فيه لقذرته في نظر غيرك، فحينئذٍ يكون النهي للتحريم من أجل الأذية، وإلا فالأصل أنه للكراهة.
ومن فوائد الحديث: أن السنة إذا أردت أن تتنفس أن تفصل الإناء عن فمك تبعده، ما يكفي أن ترفع رأسك، والتنفس يمكن أن يصل للإناء لا، بل افصله. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (4/ 626).
وقال الشيخ عبد الله الفوزان -حفظه الله-:
الحديث دليل على النهي عن التنفس في الإناء، وإنما يتنفس خارجه، فإن ذلك سنة ثابتة، وأدب شرعي في الشرب.
والتنفس في الإناء فيه ثلاثة محاذير:
1-أن التنفس في الإناء يقذِّر الشراب على من بعده؛ لأنه ربما سقط فيه أثناء النفس شيء من الفم أو الأنف.
2-أن النَّفس ربما حمل أمراضًا يتلوث بها الإناء.
3-أنه يخشى عليه من الشّرَقِ؛ لأن الماء نازل، والنَّفس صاعد، فإذا التقيا فقد يشرق الإنسان، ويتساقط اللعاب في الإناء، وكل ذلك منافٍ للأدب.
والسنة للإنسان إذا شرب ألا يشرب في نَفَسٍ واحد، بل يشرب في نَفَسين أو ثلاثة مع فصل القدح عن فيه؛ لأن ذلك أخف على المعدة، وأنفع لريّه، وأحسن في الأدب، وأبعد من فعل أرباب الشَّرهِ، وقد ورد عن أنس -رضي الله عنه- أنه قال: كان رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يتنفس في الشراب ثلاثًا، ويقول: «إنه أروى، وأبرأ، وأمرأ»، قال أنس: فأنا أتنفس في الشراب ثلاثًا.
ومعنى: «أروى» أي: أكثر ريًّا، «وأبرأَ» أي: أبرأ من ألم العطش، أو أسلم من مرض أو أذى يحصل بسبب الشرب في نفس واحد، و«وأمرأ» أي: أجمل انسياغًا، وأخف على المعدة.
وكذا ورد النهي عن النفخ، وهو أشد، كما في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «نهى رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أن يُتنفس في الإناء، أو يُنفخ فيه»، والله تعالى أعلم. منحة العلام في شرح بلوغ المرام (1/ 381).

وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا


ابلاغ عن خطا