«لا يُمْسِكَنَّ أحدُكُمْ ذَكَرَهُ بيمينِهِ وهو يَبولُ، ولا يَتَمَسَّحْ من الخلاءِ بيمينِهِ، ولا يَتَنَفَّسْ في الإناءِ».
رواه البخاري برقم: (153) ومسلم برقم: (267)، واللفظ له، من حديث أبي قتادة -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«الخلاءِ»:
الخَلَاءُ أصلُهُ: المكانُ الخَالِي، فَسُمِّيَ به الخَارِجُ. النظم المستعذب في تفسير غريب ألفاظ المهذب، للركبي (1/ 33).
شرح الحديث
قوله: «لا يُمْسِكَنَّ أحدُكُمْ ذَكَرَهُ بيمينِهِ وهو يَبولُ»:
قال السفاريني -رحمه الله-:
«لا يمسكنَّ» «لا» ناهية، و«يمسكن» فعل مضارع مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، و«أحدكم» فاعل، و«ذكره» مفعول، و«بيمينه» متعلق بيمسك، وجملة «وهو يبول» من المبتدأ والخبر جملة حالية؛ أي: في حال بوله، فيقتضي النهي عن مَسِّ الذَّكر باليمين في حال البول، فيكون ما عداه مباحًا.
وقال بعض العلماء: بل يكون ممنوعًا أيضًا من باب الأولى؛ لأنه إذا نهي عن ذلك مع مظنة الحاجة في تلك الحال، ففي سواها أولى...
التنصيص على الذَّكَر لا مفهوم له، بل مثله الدُّبر وفرج المرأة، وإنما خص الذَّكَر بالذِّكْر؛ لكون الرجال في الغالب هم المخاطبون، والنساء شقائق الرجال في أحكام التكليف، إلا ما خَصَّ الرجال. كشف اللثام شرح عمدة الأحكام (1/ 208- 212).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«لا يُمسكنَّ» أي: لا يأخذن كما هو رواية البخاري «أحدكم ذكره بيمينه» أي: بيده اليمنى «وهو» أي: والحال أنه «يبول» أي: يقضي حاجة البول تكريمًا لليمين، وأما في غير حالة البول فمباح. الكوكب الوهاج (5/ 335).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«لا» ناهية، وقوله: «يُمْسِكَنَّ» مجزوم المحلّ بها؛ لكونه مبنيًّا؛ لاتّصال نون التوكيد به...، ورُوي بالرفع فيها على أن «لا» نافية.
وقوله: «يُمْسِكَن» بضم أوله من الإمساك، أي: لا يأخذنّ «أحَدُكُمْ ذَكَرَهُ» بفتحتين: الفرج من الحيوان، جمعه ذِكَرَةٌ بكسر، ففتح بوزن عِنبَةٍ، ومَذَاكيرُ على غير قياس؛ قاله الفيّوميّ.
«بِيَمِينِهِ» أي: بيده اليمين؛ تشريفًا لها... وقوله: «وَهُوَ يَبُولُ» جملة حاليّة في محلّ نصب، أفادت أن النهي مقيّد بحالة البول، وهو الحقّ. البحر المحيط الثجاج (6/ 553- 554).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
إنما كُرِهَ مس الذكر باليمين تنزيهًا لها عن مباشرة العضو الذي يكون منه الأذى والحدث، وكان -صلى الله عليه وسلم- يجعل يمناه لطعامه وشرابه ولباسه، ويسراه لما عداها من مهنة البدن. وقد تعرض ها هنا شبهة ويشكل فيه مسألة؛ فيقال: قد نهى عن الاستنجاء باليمين، ونهى عن مس الذكر باليمين، فكيف يعمل إذا أراد الاستنجاء من البول؛ فإنه إن أمسك ذكره بشماله احتاج إلى أن يستنجي بيمينه، وإن أمسكه بيمينه يقع الاستنجاء بشماله فقد دخل في النهي؟
فالجواب أن الصواب في مثل هذا أن يتوخى الاستنجاء بالحجر الضخم الذي لا يزول عن مكانه بأدنى حركة تصيبه أو بالجدار، أو بالموضع الناتئ من وجه الأرض وبنحوها من الأشياء، فإن أدته الضرورة إلى الاستنجاء بالحجارة والنُّبَل (حجارة صغيرة للاستنجاء) ونحوها فالوجه أن يتأتى لذلك بأن يلصق مقعدته إلى الأرض، ويمسك الممسوح بين عقبيه، ويتناول عضوه بشماله فيمسحه به، وينزه عنه يمينه. معالم السنن (1/ 23).
وقال ابن العطار -رحمه الله- معلقًا:
والجواب عن هذه الشبهة: أنه لا يلزم منه أن يمسك الحجر بها، بل يمكنه الاستجمار بحجر ضخم؛ لا يزول عن مكانه، أو بجدار هو ملكه، لا يتأذى مارّ بالتنجس به حين استناده إليه إذا كان رطبًا، ويمسك ذكره بيساره، فيحركه بها من غير تكرار وضعه في الموضع الذي وضعه أولًا عليه؛ لئلا يتنجس رأس ذكره بوضعه ثانيًا عليه، فلا يجزئه حينئذٍ إلا الماء، فلو كان الحجر صغيرًا، جعله بين عقبيه، وفعل ما ذكرناه بالصفة المذكورة، فلو عجز أو شق عليه أخذ الحجر باليمين، وجعله بمنزلة الحائط، أو حجر كبير، ومسح عليه، حرك اليسار دون اليمين، ومتى حرك اليمين، دخل في النهي، -والله أعلم-...
واعلم أن الأصل في النهي التحريم، إلا أن يدل دليل على إرادة الكراهة، وقد حمله في هذا الحديث وأمثاله داود الظاهري وابن حزم على التحريم مطلقًا، وجمهور الفقهاء حملوه هنا على الكراهة، وبعض أصحاب الشافعي وغيرهم أشار إلى التحريم. العدة في شرح العمدة (1/ 133- 134).
وقال المازري -رحمه الله-:
فينبغي لمن أراد أن يستجمر من البول أن يأخذ ذكره بشماله، ثم يمسح به حجرًا لِيَسْلم. المعلم بفوائد مسلم (1/ 361).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
الحديث يقتضي النهي عن مس الذكر باليمين في حالة البول، ووردت رواية أخرى في النهي عن مسه باليمين مطلقًا، من غير تقييد بحالة البول، فمَن الناس مَن أخذ بهذا العام المطلق، وقد يسبق إلى الفهم: أن المطلق يحمل على المقيد، فيختص النهي بهذه الحالة، وفيه بحث؛ لأن هذا الذي يقال يتجه في باب الأمر والإثبات، فإنا لو جعلنا الحكم للمطلق، أو العام في صورة الإطلاق، أو العموم مثلًا، كان فيه إخلال باللفظ الدال على المقيد، وقد تناوله لفظ الأمر، وذلك غير جائز.
وأما في باب النهي: فإنا إذا جعلنا الحكم للمقيد أخللنا بمقتضى اللفظ المطلق، مع تناول النهي له؛ وذلك غير سائغ. هذا كله بعد مراعاة أمر من صناعة الحديث، وهو أن ينظر في الروايتين: هل هما حديث واحد، أو حديثان؟ ولك أيضًا بعد النظر في دلائل المفهوم، وما يعمل به منه، وما لا يعمل به، وبعد أن تنظر في تقديم المفهوم على ظاهر العموم -أعني رواية الإطلاق والتقييد- فإن كانا حديثًا واحدًا مخرجه واحد، اختلف عليه الرواة؛ فينبغي حمل المطلق على المقيد؛ لأنها تكون زيادة من عدل في حديث واحد؛ فتقبل، وهذا الحديث المذكور راجع إلى رواية يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه.
ظاهر النهي التحريم، وعليه حمله الظاهري، وجمهور الفقهاء على الكراهة. إحكام الأحكام (1/ 103).
وقال ابن حزم -رحمه الله-:
ولا يجوز لأحد مس ذكره بيمينه جملةً، إلا عند ضرورة لا يمكنه غير ذلك، ولا بأس بأنْ يمس بيمينه ثوبًا على ذكره، ومس الذكر بالشمال مباح، ومسح سائر أعضائه بيمينه وبشماله مباح، ومس الرجل ذكر صغير لمداواة أو نحو ذلك من أبواب الخير كالختان ونحوه، جائز باليمين والشمال، ومس المرأة فرجها بيمينها وشمالها جائز، وكذلك مسها ذكر زوجها أو سيدها بيمينها أو بشمالها جائز. المحلى بالآثار (1/ 318).
وقال ابن سيد الناس -رحمه الله-:
ظاهر النهي التحريم، وعليه حمله الظاهري؛ فإنه قال: مَن استنجى بيمينه لا يجزئه؛ لاقتضاء النهي فساد المنهي عنه، وعند الجمهور لا يقتضيه، وأيضًا فإن الجمهور صرفوا هذا النهي إلى غير ذات المنهي عنه، وهو احترام المطعوم واليمين، والمطلوب الذي هو الإنقاء قد حصل، فيجزئ عندهم لكنه أساء، واللفظ الذي ذكره الترمذي يقتضي النهي عن مس الذكر باليمين مطلقًا، فمن الناس من أخذ بهذا العام.
ولفظ مسلم: «لا يمسكنَّ أحدُكم ذكره بيمينه وهو يبول» فقد سبق إلى الفهم أن العام محمول على الخاص، فيختص النهي بهذه الحالة، وهذا هو الظاهر في هذه الصورة؛ فإن الحديثَ واحدٌ والمخرج واحد، وكله راجع إلى حديث يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه؛ فزيادة الثقة فيه مقبولة، مقيدة بمطلق من لم يزد، وأما إذا اختلف الحديثان فقد يتوجه ذلك في بعض الصور، وقد لا يتوجه. النفح الشذي شرح جامع الترمذي (1/ 182).
وقال الفاكهاني -رحمه الله-:
وفي حديث عائشة -رضي الله عنها-: «كانت يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اليمنى لطهوره وطعامه، واليسرى لخلائه، وما كان من أذى».
وروينا في الحلية الكبرى لأبي نعيم الحافظ: أن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال: «ما تغنيتُ (من الغِناء)، ولا تمنيتُ -يعني: كذبتُ-، وما مسستُ ذكري بيميني منذ بايعت بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-».
وهذا من التقوى والأدب، الذي يؤيد الله به من يشاء من عباده المتقين.
وروي عن علي -رضي الله عنه-: أنه قال: يميني لوجهي، وشمالي لحاجتي.
وقد امتخط ابنه الحسن بيمينه عند معاوية فأنكر عليه، فقال له: بشمالك.
ولا مفهوم لقوله -عليه الصلاة والسلام-: «وهو يبول»؛ إذ المعنى على النهي مطلقًا، في حال البول وغيره، بل قد وردت رواية أخرى في النهي عن مسه باليمنى غير مقيدة ببول ولا غيره؛ تنزيهًا لليمين، وتكريمًا لها عن الشمال...
جمهور الفقهاء من أصحابنا (المالكية) وغيرهم، على أن النهي على الكراهة دون التحريم، وإن كان ظاهر الحديث التحريم، وكذلك حمله أهل الظاهر على التحريم، فقالوا: لا يجوز مس الذكر باليمين إلا من ضرورة، والعجب منهم أنهم أجازوا مس المرأة فرجها بيمينها وشمالها، وأجازوا لها مس ذكر زوجها بيمينها وشمالها، وأجازوا مس الخاتن ذكر الصغير للختان باليمين، وكذا الطبيب، وحرموا مس الإنسان ذكره. رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام (1/ 219).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
وإنما خص النهي بحالة البول من جهة أن مجاور الشيء يعطي حكمه، فلما منع الاستنجاء باليمين منع مس آلته حسمًا للمادة. مرعاة المفاتيح (2/ 53).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
لا يجوز للمسلم أن يمسك ذكره بيمينه وهو يبول؛ لأنه قد يناله شيء من النجاسة، واليمنى يجب أن تبعد عن هذا؛ لأن اليمنى للمصافحة والأكل والأخذ والعطاء، فينبغي أن تكون بعيدة عن التلطخ بالنجاسة، وإذا أراد أن يمسك ذكره يمسكه باليسرى لا باليمنى. الإفهام في شرح عمدة الأحكام (ص:88).
وقال الشيخ ابن جبرين -رحمه الله-:
وفي هذا تكريم لليد اليمنى، وقد كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يحب التيمن في الأشياء المستحبة، ويجعل شماله للأشياء المستقذرة، فيأكل بيمينه، ويشرب بها، ويأخذ بها، ويعطي بها، ويقدمها في الأشياء الفاضلة؛ فيقدمها في دخول المسجد، وفي لبس النعل، وثبت عنه أنه قال: «إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين، وإذا خلع فليبدأ بالشمال، ولتكن اليمنى أولهما تنعل وآخرهما تخلع»، وهذا مما يدل على تفضيل اليمين، فإذا كانت اليمين فاضلة فإن ذلك دليل على ميزتها...، واليمين مشتقة من اليمن الذي هو البركة، فلذلك ميزت اليمين وفضِّلت، فلا يجوز للإنسان أن يمسك ذكره في حالة البول بيمينه تنزيهًا لها.
ويفهم منه أنه يجوز إمساكه باليسرى؛ لأن الإنسان قد يحتاج إلى أن يمسك ذكره حتى يأمن رشاش البول، فإذًا يمسكه إذا كان ولا بد باليد اليسرى، وينزه اليد اليمنى. شرح عمدة الأحكام (2/ 14).
قوله: «ولا يَتَمَسَّحْ من الخلاءِ بيمينِهِ»:
قال العيني -رحمه الله-:
«ولا يتمسح» أي: ولا يستنجي، وهو من باب التفعُّل؛ أشار به إلى أنه لا يتكلف المسح باليمين؛ لأن باب التفعُّل للتكلف غالبًا. عمدة القاري (2/ 295).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
«ولا يتمسح» بالسكون (للحاء) وضمها، «بيمينه» أي: لا يستنجي باليد اليمنى تكريمًا لليمين. مرعاة المفاتيح (2/ 53).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«ولا يتمسح بيمينه» لا يمسح قبله، فيكون تخصيصًا بعد التعميم، ولا يمسح ذكره، ولا دبره. التنوير شرح الجامع الصغير (2/ 113).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«ولا يتمسح» أي: يستنجي «من الخلاء» أي: الغائط سمي باسم مكانه «بيمينه» بل يفعل ذلك بيساره؛ لأن اليمين لِمَا شرف وعلا، واليسار لِمَا خس ودنئ؛ ولأنه إذا باشر النجاسة بها قد يذكر عند تناوله الطعام على ما باشرت يمينه من النجاسة فينفر طبعه من ذلك. فتح العلام بشرح الإعلام بأحاديث الأحكام (ص:111).
وقال السفاريني -رحمه الله-:
«ولا يتمسح من» إتيان «الخلاء بيمينه» من بول ولا غائط، في قُبُل ولا دُبُر. كشف اللثام شرح عمدة الأحكام (1/ 209).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«ولا يتمسح» بالأحجار «من الخلاء» أي: من الغائط «بيمينه» فيكون مستجمرًا بها.
قال السنوسي: «من» الداخلة على الخلاء سببية؛ أي: لا يَتَمَسح من أجل الخلاء الذي أصابه بيمينه، ويحتمل وجهين:
أحدهما: أن يباشر النجاسة بيمينه.
والثاني: أن يمسك بها الحجر ونحوه مما يزيل به النجاسة، وكلاهما منهي عنه، فينبغي حمل الحديث عليهما لصدق لفظه فيهما، والله أعلم. الكوكب الوهاج (5/ 335).
وقال الشيخ ابن جبرين -رحمه الله-:
«ولا يتمسح من الخلاء بيمينه» فلا يستنجي باليد اليمنى؛ لأن الاستنجاء: هو غسل أثر البول أو غسل أثر الغائط، وهو يحتاج إلى دلك، والدلك يكون باليد، فاليد اليمنى لا تباشر النجاسة، ولا تباشر الفرج، فلا يمس المرء فرجه بيده اليمنى؛ بل يتولى ذلك باليد اليسرى، فيصب بيده اليمنى، ويدلك فرجيه بيده اليسرى حتى ينظف أثر النجاسة، ثم بعد ذلك يغسل يده مما تلوثت به أو مما علق بها، وكُل ذلك لأجل تكريم اليد اليمنى، وقد ذكرت عائشة أن يد النبي -صلى الله عليه وسلم- اليسرى كانت للاستنجاء والاستجمار والتَّمَخُّطِ ونحو ذلك من الأشياء المستقذرة. شرح عمدة الأحكام (2/ 15).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
أَمَّا مَن أمكنه حجرٌ ثابتٌ يتمسَّح به، وأمكنه الاسترخاء حتى يتمسح بالأرض، أو ما يمكنه التمسح به من ثابتٍ طاهرٍ جامد فنعم، ولكنه قد لا يتهَّيأ له ذلك، ولا يمكنه في كل وقتٍ، وإذا كان هذا ودعت ضرورة إلى الاستعانة باليمين، فأولى ذلك أن يأخذ ذكره بشماله، ثم يأخذ الحجر أو الخرقة أو العود أو ما يتمسَّح به بيمينه، فيمسكه أمامه، ويتناول بالشمال تحريك رأس ذكره، ويمسحه بذلك دون أن يستعمل اليمين في غير الإمساك، فلا يكون ماسًّا ذكره بيمينه، ولا مستنجيًا بها. إكمال المعلم (2/ 68).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله- مُعلِّقًا:
وهذه الكيفية أحسنها لقلة تكلفها وتأتيها، ولسلامتها عن ارتكاب منهي عنه؛ إذ لم يمسك ذكره باليمين ولم يتمسح به، وإنما أمسك ما يتمسح به. المفهم (1/ 519).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
وكذلك الأمر في نهيه عن الاستنجاء باليمين إنما هو تنزيهٌ وصيانة لقدرها عن مباشرة ذلك الفعل.
وإذا كان مس الذكر باليمين منهيًّا عنه، والاستنجاء بها منهيًّا عنه كذلك فقد يحتاج البائل في بعض الأحوال أن يتأنى لمعالجة ذلك وأن يرفق فيه، وذلك إن لم يجد إلا حجرًا ضخمًا لا يزول عن المكان إذا اعتمده، أو لم يجد إلا جِذْم (أصل الشيء) حائط أو نحوه فيحتاج إلى أن يلصق مقعدته بالأرض، ويمسك الممسوح بين عقبيه، ويتناول عضوه بشماله فيمسحه به، وينزه عنه يمينه؛ ليخرج به عن النهي في الوجهين معًا. أعلام الحديث (1/ 245).
وقال القاضي عياض -رحمه الله- مُعلِّقًا:
وهذا أيضًا (يشير إلى كلام الخطابي) لا يتهيأ في كل موضعٍ ولا لكل بائل، والأولى فيه ما ذكرناه، وهو يتهيأ على كل حال، وقد يتساهل الناس في التمسح بالحيطان، وهو مما لا يجب فعله لتنجيسها؛ ولأن للناس ضرائر في الانضمام إليها لا سيما عند نزول الأمطار وبلل الثياب، ولا يجب أيضًا في حيطان المراحيض لهذا؛ ولأنها تتنجس من تكرار ذلك، فيكون التمسح بها بعد من الاستجمار بالتنجس الذى لا يطهر ولا يعفى عنه؛ ولأنه -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الاستنجاء بالرجيع (الروث)؛ لأنه يزيد الموضع تنجّسًا، ويدخل عليه نجاسة من خارج غير ضرورية ولا معفو عنها، وعلة النهي عن هذا إكرامًا للميامن، وتخصيصها بأعالي الجسم وأفعال العبادات والمكرمات والأكل والشرب والسلام، وتنزيهها عن مباشرة الأقذار والنجاسات والعورات. ومذهب مالك وعامة أهل العلم أن المستنجي بيمينه أساء، واستنجاؤه جائز، ومذهب أهل الظاهر وبعض الشافعية إلى أن الاستنجاء باليمين لا يجزئ؛ لاقتضاء النهي فساد المنهي عنه، وهو أصل مختلف فيه عند أرباب الأصول. إكمال المعلم (2/ 68- 69).
وقال النووي -رحمه الله-:
هو من أدب الاستنجاء، وقد أجمع العلماء على أنه منهي عن الاستنجاء باليمين، ثم الجماهير على أنه نهي تنزيه وأدب لا نهي تحريم، وذهب بعض أهل الظاهر إلى أنه حرام، وأشار إلى تحريمه جماعة من أصحابنا (الشافعية)، ولا تعويل على إشارتهم، قال أصحابنا: ويستحب أن لا يستعين باليد اليمنى في شيء من أمور الاستنجاء إلا لعذر، فإذا استنجى بماء صبه باليمنى، ومسح باليسرى، وإذا استنجى بحجر فإن كان في الدبر مسح بيساره، وإن كان في القبل، وأمكنه وضع الحجر على الأرض، أو بين قدميه بحيث يتأتى مسحه أمسك الذكر بيساره، ومسحه على الحجر، فإن لم يمكنه ذلك واضطر إلى حمل الحجر حمله بيمينه، وأمسك الذكر بيساره ومسح بها، ولا يحرك اليمنى، هذا هو الصواب، وقال بعض أصحابنا: يأخذ الذكر بيمينه والحجر بيساره، ويمسح بها، ويحرك اليسرى، وهذا ليس بصحيح؛ لأنه يمس الذكر بيمينه بغير ضرورة، وقد نهي عنه، والله أعلم. ثم إن في النهي عن الاستنجاء باليمين تنبيهًا على إكرامها وصيانتها عن الأقذار ونحوها. شرح مسلم (3/ 156).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله (أي: البخاري): باب النهي عن الاستنجاء باليمين، أي: باليد اليمنى، وعبَّر بالنهي إشارةً إلى أنه لم يظهر له هل هو للتحريم أو للتنزيه، أو أن القرينة الصارفة للنهي عن التحريم لم تظهر له، وهي أن ذلك أدب من الآداب. فتح الباري (1/ 253).
وقال الشوكاني -رحمه الله- مُعلِّقًا:
قلتُ: وهو الحق (يعني قول أهل الظاهر)؛ لأن النهي يقتضي التحريم، ولا صارف له، فلا وجه للحكم بالكراهة فقط. نيل الأوطار (1/ 106).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- مُعلِّقًا:
ما قاله الشوكانيّ هو الصواب، وأما ما قاله في الفتح من أن القرينة الصارفة للنهي عن التحريم هي أن ذلك من الآداب، فقد تعقّبه الصنعانيّ-رحمه الله- فقال: ولا يخفى بُعد هذه القرينة. انتهى.
والحاصل أنَّ كون النهي هنا للتحريم هو الأظهر؛ لعدم وجود صارف معتبر، وقولهم: "يصرفه كونه للأدب" عجيب، كيف يكون كونه أدبًا صارفًا عن التحريم؟ أليست كلّ الأحكام الشرعية أوامرها ونواهيها آدابًا وإرشادات؟ فهل كلّها للندب والكراهة التنزيهيّة؟ إن هذا لهو العجب العجاب!
وخلاصة القول: إن كون الشيء أدبًا من الآداب الشرعيّة لا ينافي وجوبه، أو تحريمه، فتبصّر بالإنصاف. البحر المحيط الثجاج (6/ 559).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
وقد ذكرنا كيفية التمسح في القبل، وأما الدُّبر، فاختلف أصحاب الشافعي في كيفية مسحه على وجهين:
أحدهما: أن يضع الحجر على موضع من جانب الصفحة اليمنى خارج عما أصابه الخارج من حلقة الدبر، ويمسحها، ثم يضع الحجر الثاني على الصفحة اليسرى كذلك، ثم يمسح بالثالث الصفحتين والمسربة، وهذا أسهل، وأحب إلينا.
والثاني: أن يمر الأول من مقدم الصفحة اليمنى، ويضعه على عين الخارج، ويديره على حلقة الدبر إلى أن يرجع إلى الموضع الذي بدأ منه، ثم يضع الثاني على مقدم الصفحة اليسرى، ويديره عليها من جهتها إلى أن يرجع إلى الموضع الذي بدأ منه، ويفعل بالحجر الثالث كفعله به في الوجه الأول، وهذا الوجه العمل به عسر، وهو الراجح في المذهب، وإنما قلنا: لا يضع الحجر إلا على موضع لم يصبه الخارج؛ لأنه إذا وضعه على الخارج، نجس، فمنع الاستجمار به؛ لأن شرطه أن يكون طاهرًا ليزيل النجو، -والله أعلم-. ثم المرأة كالرجل في منع مس القبل والدُّبر باليمنى؛ لأن سبب النهي إكرام اليمين، ويستحب ألا يستعين باليد اليمنى في شيء من أمور الاستنجاء إلا لعذر.
وإذا استنجى بماء، صبه باليمنى، ومسح باليسرى، وإذا كان بحجر، فإن كان في الدُّبر، مسح بيساره. العدة في شرح العمدة (1/ 134- 135).
وقال الفاكهاني -رحمه الله-:
«ولا يتمسح من الخلاء بيمينه» معنى التمسح هنا: الاستنجاء، فيدخل فيه القبل والدُّبر، وقد تقدم أن الخلاء ممدود، وهو الغائط.
وقد اختلف أصحاب الشافعي -رحمه الله- في كيفية التمسح في القبل إذا كان الحجر صغيرًا، لا بد من إمساكه بإحدى اليدين، فمنهم من قال: يمسك الحجر باليمنى، وتكون الحركة باليسرى واليمنى قارة، ومنهم من قال: يأخذ الذكر باليمنى، والحجر باليسرى، ويحرك اليسرى، والأول أشبه بظاهر الحديث، ولم أرَ لأصحابنا (المالكية) في ذلك نصًّا صريحًا. رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام (1/ 222).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
يؤخذ من الحديث أنه إذا كان في يده خاتم فيه اسم الله تعالى، لا يستنجي وهو في يده؛ لأنه إذا نزهت اليمنى عن ذلك فذكر الله أولى وأعظم، وقد كره مالك أن يدفع الدراهم التي فيها اسم الله تعالى لكافر، فهذا أولى. الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (1/ 496).
قوله: «ولا يَتَنَفَّسْ في الإناءِ»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«ولا يتنفس» أي: لا يُخرِج نَفَسَه «في» داخل «الإناء» عند الشرب، وأما التنفس خارج الإناء ثلاثًا فسنة معروفة. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (5/ 335).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«ولا يتنفس» أي: لا يخرج نَفَسه من الفم «في الإناء» لئلا يتقذر الماء أو نحوه بذلك؛ وليأمن خروج شيء تعافه النفس من الفم. فتح العلام بشرح الإعلام بأحاديث الأحكام (ص:111).
وقال السفاريني -رحمه الله-:
«ولا يتنفس في الإناء» أي: الوعاء، وهذه جملة جزئية مستقلة إن كانت «لا» نافية، وإن كانت «لا» ناهية، فمعطوفة، لكن لا يلزم من كون المعطوف عليه مقيدًا بقيد أن يكون المعطوف مقيدًا به؛ لأن التنفس لا يتعلق بحالة البول، وإنما هو حكم مستقل، ويحتمل أن تكون الحكمة في ذكره هنا: أن الغالب من أخلاق المؤمنين التأسي بأفعال النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد كان إذا بال يتوضأ، وثبت أنه شرب فضل وضوئه، فالمؤمن بصدد أن يفعل ذلك، فعلمه أدب الشرب مطلقًا لاستحضاره.
والنهي عن التنفس في الإناء مختص بحالة الشرب كما دل عليه سياق الرواية؛ ففي الصحيحين عن أبي قتادة: «نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يتنفس في الإناء»، وفي حديث أنس عندهما: «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يتنفس في الإناء ثلاثًا»، فظاهر هذه الأحاديث: المدافعة، وليس كذلك، وإنما المقصود في أحاديث النهي: ألا يتنفس داخل الإناء؛ إذ قد يخرج مع النَّفَس بصاق أو مخاط، أو بخار رديء، فيكسبه رائحة كريهة، فيستقذر منه هو أو غيره، فيترك شربه.
وعند الحاكم من حديث أبي هريرة: «لا يتنفس أحدكم في الإناء إذا كان يشرب منه»، والمقصود في أحاديث الأمر: أن يشرب، ثم يبين الإناء عن فيه، فيتنفس خارج الإناء ثلاثًا.
ففي حديث لأنس عند مسلم وأصحاب السنن: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتنفس في الشراب ثلاثًا، ويقول: إنه أروى، وأمرأ، وأبرأ»، وفي رواية أبي داود: «أهنأ» بدل «أروى». قال أنس: وأنا أتنفس في الشراب ثلاثًا». كشف اللثام شرح عمدة الأحكام (1/ 213- 214).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
نهيه عن التنفس في الإناء نهي أدب وتعليم؛ وذلك أنه إذا فعل ذلك لم يأمن أن يبدر من فيه الريق، فيخالط الماء فيعافه الشارب منه، وربما تَرُوح بنكهة المتنفس إذا كانت فاسدة، والماء للطفه ورقة طبعه تسرع إليه الروائح، ثم إنه من فعل الدواب إذا كَرَعَتْ (مدّت عنقها وتناولت الماء بفمها) في الأواني جَرَعَتْ (بَلَعَتْ) ثم تنفست فيه، ثم عادت فشربت، وإنما السنة والأدب أن يشرب الماء في ثلاثة أنفاس، كلما شرب نَفَسًا من الإناء نحّاه عن فمه، ثم عاد مصًّا له، غير عَبٍّ إلى أن يأخذ رِيَّه منه. أعلام الحديث (1/ 244- 245).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
هو على طريق الأدب ومخافة التقزّز للغير لأجل ذلك، كما نهى عن النفخ في الشراب لذلك، ومخافة ما لعله يخرج مع النفخ والنفس من البُصاق ورطوبةِ الأنف، ويقع في الشراب والطعام فيُتَقَذَّر لذلك؛ ولأن ترداد النَفَس في الإناء يُبَخِّرُه، وَيُكسبه رائحةً كريهةً، وهو أحد معاني النهي عن اختناث الأسقية، ويأتي تمامُهُ في كتاب الأشربة، وهناك معنى الحديث الآخر: أنه كان يتنفس في الإناء ثلاثًا. إكمال المعلم (2/ 74).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
«ولا يتنفس في الإناء» يراد به إبانة الإناء عند إرادة التنفس؛ لما في التنفس من احتمال خروج شيء مستقذر للغير، وفيه إفساد لما في الإناء بالنسبة إلى الغير؛ لعيافته له، وقد ورد في حديث آخر إبانة الإناء للتنفس ثلاثًا، وهو ها هنا مطلق. إحكام الأحكام (1/ 104).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
أما التنفس فهو هنا خروج النَّفَس من الفم، يقال: تَنَفَّسَ الرجل، وتَنَفَّسَ الصعداء، وكل ذي رئة متنفس، ودواب الماء لا رئات لها.
والحكمة في النهي عنه أنه أبعد عن تقذير الإناء، وعن خروج شيء تعافه النفس من الفم، فإذا أبانه عند إرادة النَّفَس، أمن ذلك.
وقد ثبت إبانة الإناء للتنفس ثلاثًا، وهو في هذا الحديث مطلق؛ ولأن إبانة الإناء أهنأ في الشرب، وأحسن في الأدب، وأبعد عن الشره، وأخف للمعدة.
وإذا تنفس في الإناء، واستوفى ريه، حمله ذلك على فوات ما ذكرنا من حكمة النهي، وتكاثر الماء في حلقه، وأثقل معدته، وربما شَرِقَ به (غصّ به).
وأما النهي عن التنفس في الإناء، فمعناه: لا يتنفس فيه نفسه، بل يتنفس خارجه؛ فإنه سنة ثابتة، وأدب شرعي في الشرب؛ لما يحصل بالتنفس في الإناء من نتنه، وغير ذلك من الحكم المتقدمة.
وقد روى الترمذي من رواية أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن النفخ في الشراب، فقال رجل: القَذَاة (ما يقع في الشراب من أشياء صغيرة) أراها في الإناء، فقال: «أهرقها» قال: فإني لا أروى من نَفَس واحد، قال: «فأبنِ القدح إذًا عن فيكَ». وقال: حديث حسن صحيح.
وأما ما ثبت في الصحيحين من رواية أنس -رضي الله عنه-: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتنفس في الإناء ثلاثًا» فمعناه: خارج الإناء -والله أعلم-. العدة في شرح العمدة (1/ 132- 135).
وقال الفاكهاني -رحمه الله-:
«ولا يتنفس في الإناء» النهي أيضًا على الكراهة؛ وذلك حمل لأمته -صلى الله عليه وسلم- على مكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب؛ لأنه إذا تنفس في الإناء، ربما انفصل من ريقه شيء، فيعافه الغير، ويستقذره، هذا مع ما في ذلك من الضرر، فهو مكروه نزاهة وطبًّا، ولا يختص ذلك بالشراب، بل بالطعام، والكتاب كذلك، أعني: أنه يكره النفخ فيهما كالشراب، أما الشراب: فكما تقدم، وأما الطعام والكتاب فللاحترام والتنزيه.
والتنفس في معنى النفخ، يدل على ذلك حديث مالك -رضي الله عنه-: أن أبا سعيد الخدري -رضي الله عنه- دخل على مروان بن الحكم، فقال له مروان: أسمعت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن النفخ في الشراب؟ فقال أبو سعيد: نعم، فقال رجل: يا رسول الله، إني لا أروى من نَفَس واحد، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فأبنِ القدح عن فيكَ، ثم تنفس». قال: إني أرى القَذَى (جمع قذاة) فيه، قال: «فأهرقه»... قلتُ: ومن آداب الشرب: أن يمص الماء مصًّا، ولا يَعُبُّه، كما في الحديث.
وظاهر حديث مالك المذكور آنفًا جواز الشرب من نَفَس واحد؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- لم ينكر على الرجل القائل: إني لا أروى من نَفَس واحد، بل أقره عليه، فاقتضى ذلك إباحته، وإن كان الأولى التنفس ثلاثًا؛ أعني أن يبين الإناء عن فيه ثلاث مرات، ويتنفس في كل مرة، فإنه أهنأ وأمرأ؛ كما في الحديث. رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام (1/ 222- 224).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «ولا يتنفس في الإناء» بعض العلماء علَّل بأنه ربما يخرج منه أشياء مؤذية، وبعضهم علَّل بأنه ربما يَشْرَقُ، فعلى الأول يكون النهي خاصًّا بما إذا كان يريد غيره أن يشرب من هذا الإناء، وعلى الثاني يكون عامًّا، والحديث عام، فعلى هذا نقول: لا يتنفس في الإناء؛ حذرًا من أن يتقابل النفس والماء، فيحصل بذلك الشَّرَقُ، ويتأذى الإنسان أو يتضرر.
وظاهر الحديث: أنه لا فرق بين أن يكون هذا الإناء يشرب منه غيره أو لا يشرب؛ لأنه مطلق «ولا يتنفس في الإناء».
فإن قال قائل: وإذا اضطر الإنسان إلى التنفس إما لكونه قصير النَّفَس، أو لكونه يحتاج إلى شرب ماء كثير لا يدركه بنَفَسٍ واحد؟
قلنا: يفصل الإناء ويتنفس، والسُّنة أن يتنفس في الشراب ثلاث مرات، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنَّ هذا أهنأ وأبرأ وأمرأ».فتح ذي الإجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (1/298 ، 299).
وقال الشيخ ابن جبرين -رحمه الله-:
فنهانا أن نتنفس في الإناء حتى لا يفسد هذا الشراب؛ سواء كان هناك من سيشرب منه أو لم يكن، حتى ولو كان سيهريق بقية الماء، ولو كان ذلك الماء قليلًا، وسوف يشربه كله ولا يبقي منه شيئًا، فهو منهي بهذا الحديث عن أن يتنفس في حالة الشرب.
وقد ذكروا أيضًا أن في هذا تشبهًا بالدواب، فالدواب كالبقر ونحوها إذا شربت تتنفس في حالة الشرب، فإذا تنفس الإنسان في الإناء أثناء الشرب فقد تشبه بحيوان بهيم، مستقذر طبعًا التشبه به، فأرشد -عليه الصلاة والسلام- أمته إلى هذه الإرشادات؛ سواء كانت متعلقة بالعبادات أو متعلقة بالعادات.
والشرب أمر عادي معروف قبل الإسلام، ومعروف أنه أمر معتاد وضروري، فأرشد إليه، وبين كيفيته التي يحبها الشرع، والتي توافق الفطرة السليمة، والتي تبعد الإنسان عن أن يكون قذرًا أو مستقذرًا عند غيره، مما يدل على أهمية هذه الشريعة وتطرقها إلى كل ما تمس إليه حاجة البشر. شرح عمدة الأحكام (2/ 17).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
فائدة: اختلف العلماء في هذه الأنفاس الثلاثة أيها أطول؟
على قولين:
أحدهما: الأول، فيمحض الثاني والثالث للسنة، فإنه إذا أطال المرة الأولى حصل الري منها، فيبقى ما عداها اتباعًا للسنة.
الثاني: أن الشربة الأولى: أقصر، والثانية: أزيد منها، والثالثة: أزيد منها؛ ليجمع بين السنة والطب؛ لأنه إذا شرب قليلًا وصل إلى جوفه من غير إزعاج. الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (1/502).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
ومن الآداب الشرعية في الشرب: أن يشرب بيمينه، وأن لا يتنفس في الإناء، والأفضل أن يكون بثلاثة أنفاس، يفصل الإناء عن فمه، ويتنفس ثلاثًا إذا شرب الماء، أو اللَّبن، ولا يتنفس في الإناء؛ لأنه قد يُشرب منه، أو يخرج من فمه شيء يقذر الماء، والسنة الفصل؛ يفصل الإناء عن فمه، ويتنفس. الإفهام في شرح عمدة الأحكام (ص:88).
وقال الشيخ عبد الله الفوزان -رحمه الله-:
الحديث دليل على النهي عن التنفس في الإناء، وإنما يتنفس خارجه، فإن ذلك سنة ثابتة، وأدب شرعي في الشرب.
والتنفس في الإناء فيه ثلاثة محاذير:
1- أن التنفس في الإناء يقذر الشراب على من بعده؛ لأنه ربما سقط فيه أثناء النَّفَس شيء من الفم أو الأنف.
2ـ أن النَّفَس ربما حمل أمراضًا يتلوث بها الإناء.
3ـ أنه يخشى عليه من الشّرَقِ؛ لأن الماء نازل، والنَّفَس صاعد، فإذا التقيا فقد يشرق الإنسان، ويتساقط اللعاب في الإناء، وكل ذلك منافٍ للأدب. منحة العلام في شرح بلوغ المرام (1/ 381).
وقال الشيخ البسام -رحمه الله-:
ما يؤخذ من الحديث:
1- النهي عن مس الذكر باليمنى حال البول.
2- النهي عن الاستنجاء باليمين.
3- النهي عن التنفس في الإناء.
4- اجتناب الأشياء القذرة، فإذا اضطر إلى مباشرتها، فليكن باليسار.
5- بيان شرف اليمين وفضلها على اليسار.
6- الاعتناء بالنظافة عامة، لا سيما المأكولات والمشروبات التي يحصل من تلويثها ضرر في الصحة.
7- سُمُوُّ الشرع، حيث أمر بكل نافع، وحذَّر من كل ضار. تيسير العلام شرح عمدة الأحكام (ص:42).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده (أي الحديث):
منها: أن فيه إشارةً إلى جواز الشرب في نَفَس واحد؛ لأنه إنما نهي عن التنفّس في الإناء، والذي يشرب في نفس واحد، ولم يتنفّس في الإناء، فلا يكون مخالفًا للنهي. البحر المحيط الثجاج (6/ 557).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
هذا الحديث فيه فوائد:
أولًا: نهي الإنسان عن مَسِّ ذكرهُ بيمينه وهو يبول، والنهي هنا صريح، وهذا النهي أيضًا مؤكد بنون التوكيد، فهل هذا النهي للتحريم أو للكراهة؟ جمهور العلماء على أنه للكراهة، وليس للتحريم؛ لأنه من باب الأدب؛ إذ النهي لا يعدو أحد أمرين: إما أن يكون تكريمًا لليمين، وإما أن يكون لخوف أن تتلوث اليمين بالبول، فتكون منتنة، وأيًا كان فإن هذا لا يقتضي أن يكون النهي للتحريم، لكن حقيقة الأمر أن القول بأنه للتحريم قول قوي؛ لأنه مؤكد حيث قال: «لا يمسن»، وهذا قول أهل الظاهر؛ أن النهي للتحريم.
ومن فوائد هذا الحديث: جواز مَسِّ الإنسان ذكرهُ بيده اليُمنى في غير حال البول، من أين تُؤخذ؟ من قوله: «وهو يبول»، وهذا هو الأصل في المفهوم أن يكون مفهوم مخالفة؛ أي: أن المفهوم يخالف المنطوق بالحكم، هذا هو الأصل، وربما يقوِّي هذا الأصل أنه إذا مَسَّ ذكرهُ بيمينه وهو يبول صارت عرضة للتلوث بالنجاسة، بخلاف ما إذا مسه من غير أن يكون على البول. ومن العلماء من قال: إنه لا يمسن ذكرهُ بيمينه لا حال البول ولا غيره، وأنه إذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن مس الذكر باليمين حال البول مع أن الإنسان قد يحتاج إليه، ففي غير ذلك من باب أولى، وعلى هذا فالمسألة محتملة، وإذا كانت محتملة فما هو الورع؟ عدم المس مطلقًا؛ لكننا لا نجزم بأن هذا عام؛ لأن التقييد بكونه يبول لا شك أن له مناسبة وهي الحاجة.
ومن فوائد هذا الحديث: أنَّ اليمين خير من اليسار، وهذا مطرد في الأمور الكونية والأمور الشرعية، أما الأمور الكونية فلا يخفى علينا جميعًا أن الله تعالى جعل في اليمين من القوة ما ليس في اليسار، فهي التي يأخذ بها، ويكتب بها، ويأكل بها، ويحمل بها الثقيل، وهذا من الميزة القدرية، وأما الشرع فكما رأيتم أنه نهى عن مس الذكر باليمين في حال البول، والمس باليسار لا بأس به.
ومن فوائد هذا الحديث: جواز التصريح بلفظ البول، وأنه لا يُعدُّ مخالفًا للحياء؛ لأن الذي عبَّر به أحيا الناس، وهو النبي -عليه الصلاة والسلام-، فقال: «وهو يبول». وأما ما يستعمله الناس الآن إذا أراد أن يبول يقول: أطير الماء، فهذا لا أصل له، بل قال صاحب الفروع -رحمه الله-: الأولى أن يقول: أبول، ولا يقول: أريق الماء؛ لأن البول ليس ماء؛ ولأن التعبير بالبول ومشتقاته وارد في السنة، قال النبي -عليه الصلاة والسلام- في البول: «أَمَّا أحدهما فكان لا يستتر من البول». وهنا المشتق وهو يبول، فالصواب جواز التعبير بهذا.
فإذا قال قائل: إنه يعتبر مخالفًا للمروءة، أعني: التصريح بالبول في عرفنا الآن، فهل نقول: العرف كما يغير المعاني فهو أيضًا يغير الأحوال؟ أليس المرجع في الأيمان إلى ما تقتضيه الكلمة في العرف قبل أن نرجع إلى ما تقتضيه في اللغة، فإذا كان العرف المطرد عند الناس كراهة التصريح بالبول ومشتقاته، وعبَّروا عن ذلك بكناية تدل عليه، وليس فيها محذور شرعي فعندي أنه لا بأس بها؛ ولهذا قال صاحب الفروع: "الأولى"، ولم يقل: يجب، بل قال: الأولى، ولعله في عرفه -صاحب الفروع- لم تصل الحال إلى ما وصلت إليه اليوم، فإن لفظ البول اليوم جدًّا مكروه عند الناس في غير الحديث، الحديث يقبله الناس إذا مر به، لكن في الكلام العادي لو قلت: أبول، أو بلت اليوم، عند العامة ماذا يقول؟ يستقذر جدًّ، ويقول: هذا ما يصلح، فلا أرى مانعًا إذا كان هذا عند الناس من الألفاظ التي يستحيا منها ويُكنى عنها بما يدل عليها من غير محذور شرعي، لا أرى في ذلك بأسًا.
ومن فوائد هذا الحديث: النهي عن التمسح من الخلاء باليمين، لقوله: «ولا يتمسح من الخلاء بيمينه». وهل هو مكروه أو محرم؟ ذكر بعض العلماء أنه حرام؛ لأنه هو الأصل في النهي؛ ولأنه إذا تمسح باليمين تلوثت اليمين بالنجاسة، واليمين لها الكرامة والبعد عن هذا الشيء، ولهذا كان الاستنثار وهو ليس نجسا باليسار، ومن العلماء من قال: إن النهي للكراهة؛ لأن من باب الأدب والورع أن يتجنب الإنسان هذا إلا للحاجة. فتح ذي الإجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (1/298 ، 299).].