الخميس 27 رمضان 1446 هـ | 27-03-2025 م

A a

«أنَّ رسولَ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلَّمَ- كانَ إذا أَكَلَ طعامًا لَعِقَ أصابِعَهُ الثلاثَ، قال: وقال: «إذا سَقَطَتْ لُقْمَةُ أحدِكم فلْيُمِطْ عنها الأذى ولْيأكُلْها، ولا يَدَعْها للشيطانِ». وأَمَرَنا أن نَسْلُتَ القَصْعَةَ، قالَ: «فإنَّكم لا تدرونَ في أيِّ طعامِكُم البرَكَة».


رواه مسلم برقم: (2034)، من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«لَعِقَ»:
بكسر عينه، أي: لَحِسَ. جمع الوسائل في شرح الشمائل، القاري(1/ 190).
وقال الجوهري -رحمه الله-:
يُقال: لَعِقْتُ الشيء بالكسر ألعَقُهُ لَعْقًا، أي: لَحِسته.الصحاح (4/ 1550).

«لقمة»:
اللُّقْمةُ، وتُفْتَحُ: ما يُهَيَّأُ للَّقْمِ.القاموس المحيط، للفيروز آبادي(ص:1158).

«فلْيُمِطْ»:
يزيل وينحِّي، حكى أبو عبيد: ماطه وأماطه، قال الأصمعي: أماطه لا غير. شرح سنن أبي داود، لابن رسلان (15/ 515).

«نَسْلُت»:
هو بفتح النون، وضم اللام، ومعناه: نمسحها، ونتتبع ما بقي فيها من الطعام. شرح صحيح مسلم للنووي(13/ 207).
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
نمسحها بالإصبع مثل اللعق. مشارق الأنوار (2/ 217).

«القَصْعَة»:
بفتح القاف، وسكون الصاد: إناء من عود...، (قال ابن الملقن): وكان بعض شيوخنا يقول: لا تُكسر القصعة، ولا تُفتح الجراب. التوضيح، لابن الملقن (16/ 41).
وقال ابن سيده -رحمه الله-:
القَصْعَة: الصَّحفة تشبع العشْرَة، وَالجمع: قِصَاع، وقِصَع. المحكم (1/ 149).

«البركة»:
النَّماءُ والزيادةُ والسَّعادَةُ. القاموس المحيط، للفيروز آبادي (ص: 932).


شرح الحديث


قوله: «أن رسولَ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلَّمَ- كانَ إذا أَكَلَ طعامًا لَعِقَ أصابِعَهُ الثلاثَ»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«‌كان ‌إذا ‌أَكل ‌طعامًا» يلتصق بأصابعه، ويحتمل مطلقًا؛ محافظة على البركة «لعق أصابعه الثلاث»، زاد في رواية الحاكم: «التي أَكل بها» اهـ.
وهذا أَدبٌ حَسَن وسُنة جميلة؛ لإشعاره بعدم الشَّرَه في الطعام، وبالاقتصار على ما يحتاجه؛ وذلك أن الثلاث يستقل بها الظريف الخبير، وهذا فيما يمكن فيه ذلك من الأطعمة، وإلا فيستعان بما يحتاجه من أصابعه... وفيه رد على مَن كره لعق الأصابع استقذارًا. فيض القدير (5/ 108).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«كان ‌إذا ‌أكل ‌طعامًا» أي: ملتوتًا كالمائعات «لعِق» بكسر المهملة وبالقاف «أصابعه الثلاث» الإبهام والمسبحة والوسطى، يبدأ بالوسطى؛ لأنها أكثر تلويثًا؛ إذ هي أطول فيبقى فيها من الطعام أكثر من غيرها؛ ولأنها لطولها أول ما ينزل في الطعام ثم السبابة ثم التي تليها؛ لخبر الطبراني في (الأوسط): «ثم رأيته يلعق أصابعه الثلاث قبل أن يمسحها: الوسطى ثم التي تليها ثم الإبهام». واعترض ذلك بأن نسبة الثلاث للفم سواء غفلة عن الخبر والمعنى المذكورين. دليل الفالحين(5/ 58).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«كان ‌إذا ‌أكل ‌طعامًا» ولمسلم: «كان يأكل بثلاث أصابع، فإذا فرغ لعق» بكسر العين «أصابعه الثلاث». وأصل اللعق الأكل بأصبع واحدة.
والظاهر أن المراد بالأصابع الثلاث التي كان يأكل بها ويلعقها هي: السبابة والوسطى والبنصر، وأما الإبهام فإنه مساعد لمسك اللقمة.
وفائدة اللعق احترام الطعام واغتنام بركته، ألا ترى أنه -عليه السلام- أمر بلعق الأصابع والقصعة، وقال: «إنه لا يدري في أي طعامه البركة»... والأكل بأكثر من ثلاث أصابع إنما هو شَرَهٌ وسوء أدب إلا إن كان يدعم اللقمة بالرابعة، وفي (مصنف ابن أبي شيبة) عن الزهري مرسلًا: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأكل بالخمس». شرح سنن أبي داود (15/ 514- 515).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«‌كان ‌إذا ‌أكل ‌طعامًا» يلصق بالأصابع، قيل: أو مطلقًا؛ محافظة على البركة «لعق أصابعه الثلاثة» التي يباشر بها الأكل. التنوير شرح الجامع الصغير (8/ 347).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«إذا أكل أحدكم طعامًا» وفي الرواية الثانية: «إذا أَكل أحدكم من الطعام». والطعام في الأصل كُل ما يُؤكل، وكُل ما به قوام البدن، والمراد منه هنا ما يبقى أَثرهِ على اليد من الأطعمة، كالدهون والحموضة والملوحة والروائح غير المحبوبة. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (8/ 218).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
وقد عابه (أي: اللعق) قومٌ أفسدت عقولهم الترفه، وغيَّر طباعهم الشبع والتخمة، وزعموا أن لعق الأصابع مستقبح أو مستقذر، كأنهم لم يعلموا أن الذي علق بالإصبع أو الصحفة جزء من أجزاء الطعام الذي أكلوه وازدردوه، فإذا لم يكن سائر أجزائه المأكولة مستقذرة لم يكن هذا الجزء اليسير منه الباقي في الصحفة واللاصق بالأصابع مستقذرًا كذلك. معالم السنن (4/ 260).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله- معلقًا:
ويؤيده أن الاستقذار إنما يتوهم في اللعق أثناء الأكل؛ لأنه يعيدها في الطعام وعليها آثار ريقه، وهذا غير سنة، واعلم أن ‌الكلام ‌فيمَن ‌استقذر ‌ذلك ‌من ‌حيث ‌هو ‌لا ‌مع نسبته للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وإلا خشي عليه الكفر؛ إذ مَن استقذر شيئًا من أحواله -صلى الله عليه وسلم- مع علمه بنسبته إليه -صلى الله عليه وسلم- كفر. أشرف الوسائل إلى فهم الشمائل (ص:205).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في لعق الأصابع معانٍ، منها: زوال الكبر، وحفظ بعض أجزاء الزاد وإن قلّ؛ لأن الكثير يجتمع من القليل، ومتى لم يلعق الأصابع ويمسح القصعة ضاع ما فيها، وقد نهي عن إضاعة المال. الإفصاح (5/ 369).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وهذا كُله يدل على استحباب لعق الأصابع إذا تعلق بها شيء من الطعام، لكنه في آخر الطعام كما نص عليه (بقوله -صلى الله عليه وسلم-: «فإذا فرغ فليلعق أصابعه»)، لا في أثنائه؛ لأَنه يمس بأصابعه بزاقه في فيه إذا لعق أصابعه، ثم يعيدها، فيصير كأنه يبصق في الطعام؛ وذلك مستقذر مستقبح. المفهم (5/ 301).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
قال العلماء: استحباب لعق اليد؛ محافظة على بركة الطعام، وتنظيفًا لها، ودفعًا للكبر. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (26/ 238).
وقال ابن حزم -رحمه الله-:
وما سقط من الطعام ففرض أكله، ولعق الأصابع بعد تمام الأكل فرض، ولعق الصحفة إذا تم ما فيها فرض. المحلى بالآثار (6/ 117).
وقال العيني -رحمه الله-:
اللعق مستحب؛ محافظة على تنظيفها، ودفعًا للكبر، والأمر فيه محمول على الندب والإرشاد عند الجمهور، وحمله أهل الظاهر على الوجوب... ينبغي في لعق الأصابع الابتداء بالوسطى ثم السبابة ثم الإبهام، كما جاء في حديث كعب بن عُجْرة رواه الطبراني في الأوسط؛ قال: «رأيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأكل بأصابعه الثلاث قبل أن يمسحها بالإبهام والتي تليها والوسطى، ثم رأيته يلعق أصابعه الثلاث؛ فيلعق الوسطى ثم التي تليها ثم الإبهام». وكأن السبب في ذلك أن الوسطى أكثر الثلاثة تلويثًا بالطعام؛ لأنها أعظم الأصابع وأطولها، فينزل في الطعام منه أكثر مما ينزل من السبابة، وينزل من السبابة في الطعام أَكثر من الإبهام لطول السبابة على الإبهام، ويحتمل أن يكون البدء بالوسطى؛ لكونها أول ما ينزل في الطعام لطولها. عمدة القاري (21/ 76).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
لعقها: يعني لحسها حتى يكون ما بقي من الطعام فيها داخلًا في طعامه الذي أكله من قبل، وفيه فائدة ذكرها بعض الأطباء؛ أن الأنامل تفرز عند الأكل شيئًا يعين على هضم الطعام، فيكون في لعق الأصابع بعد الطعام فائدتان:
فائدة شرعية: وهي الاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم-.
وفائدة صحية طبية: وهي هذا الإفراز الذي يكون بعد الطعام؛ يعين على الهضم، والمؤمن لا يهمه ما يتعلق بالصحة البدنية، أهم شيء عند المؤمن هو اتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- والاقتداء به؛ لأن فيه صحة القلب، وكلما كان الإنسان للرسول -صلى الله عليه وسلم- أتبع؛ كان إيمانه أقوى. شرح رياض الصالحين (3/ 531- 532).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
الأكل بثلاث أصابع: الإبهام والسبابة والوسطى، فيها يحصل أقل درجات التمكن من الأكل، ولا يأكل بأربع أو بخمس أو بالكف؛ لتقل درجة التلوث بالطعام قدر الإمكان.
ثم لعق الأصابع الثلاث بعد الأكل، ولا يمسها بثيابه، ولا يلمس بها نظيفًا بجواره، ولا غضاضة في هذا اللعق، فما عليها من طعام هو نفسه من جنس ما ابتلعه منه، ولم يختلط بقذر، والريق الذي سيختلط به باللعق قد اختلط بما ابتلعه من قبل من الطعام، فماذا في ذلك؟
العرف في هذه الأيام، في بيئة حضارية يستقبح هذا المنظر، وينفر منه في حين يلعق الملعقة التي دخلت فم آخرين، واختلطت بلعاب الآخرين، والعرف كثيرًا ما يستقبح الحسن، ويستحسن القبيح، وإذا تعارض العرف والشرع قُدِّمَ الشرع على العرف، لكنه في مثل هذه المسألة يمكن لعق الأصابع لمن أكل بها، وأصابتها زهومة الطعام، ثم يغسلها الآكل بما شاء، وكيف شاء، فهو خير مَنْ أن يغسلها ملوثة بالدهون، عملًا بالحديث الذي رواه أبو داود بسند صحيح، بلفظ: «مَن بات وفي يده غَمَر» -أي: من بات وعلى يده رائحة طعام- «ولم يغسله، فأصابه شيء، فلا يلومن إلا نفسه». فتح المنعم شرح صحيح مسلم (8/ 218).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
وقد يُعلَّل بأنَّ مسحها قبل ذلك: فيه زيادة تلويث لما مسح به مع الاستغناء عنه بالريق، ولكن إذا صح الحديث بالتعليل لم نعدل عنه. إحكام الأحكام (ص: 476).

قوله: «إذا سقطتْ لُقْمَةُ أحدِكم»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«قال» أي: أنس «وقال» أي: النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: «إذ سقطت لقمة» بضم اللام «أحدكم». دليل الفالحين (5/ 59).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«وقال» أي: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا سقطت لقمة أحدكم» أي: في الأرض. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (11/ 569).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«إذا سقطت لقمة أحدكم» يعني: على الأرض أو على السُّفرة. شرح رياض الصالحين (3/ 532).
وقال الشيخ موسى شاهين-رحمه الله-:
«إذا وقعت لقمة أحدكم» من يده على الأرض، فأصابها أذى. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (8/ 220).

قوله: «فلْيُمِطْ عنها الأذى ولْيأكُلْها»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
«فليمط عنها الأذى» أي: يزيله، وقوله: «وليأكلها» أمر على جهة الاحترام لتلك اللقمة، فإنها من نعم الله تعالى، لم تصل للإنسان حتى سخر الله فيها أهل السماوات والأرض. المفهم (5/ 301).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«فليمط عنها الأَذى» بضم الياء، معناه: يزيل وينحّي، حكى أبو عبيد: ماطه وأماطه، قال الأصمعي: أماطه لا غير، ومنه: إماطة الأذى، والمراد بالأذى هنا المستقذر من تراب وغبار وقذى ونحو ذلك «وليأكلها» فإنه يقال: التقاط الفتات مهور حور العين، وعنه -عليه السلام-: «مَن أكل ما يلتقط من المائدة عاش في سعة، وعوفي في ولده» ذكره في الإحياء (قال الألباني: حديث موضوع). شرح سنن أبي داود (15/ 515).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«فليمط» بضم التحتية أي: يزل «عنها الأذى» الذي لابسها عند سقوطها «وليأكلها» كسرًا لنفسه في إبائها بحسب الطبع واستنكافها من تناولها بعد ملاقاتها ما سقطت عليه. دليل الفالحين (5/ 59).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
فإذا سقطت اللقمة أو التمرة أو ما أشبه ذلك على السُّفرة؛ فخُذها وأزل ما فيها من الأذى إن كان فيها أذى من تراب أو عيدان، وكُلْها؛ تواضعًا لله -عزّ وجلّ-، وامتثالًا لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وحرمانًا للشيطان من الأكل معك؛ لأنك إذا تركتها أكلها الشيطان. شرح رياض الصالحين (3/ 532).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
وذلك لئلا يكون مضيعًا للمال من جهة أن تلك اللقمة قد تكون سادّة جوع مسلم، أو مثقلة للميزان، ميزان متصدق بها أو ببعضها، فلا معنى في إضاعتها؛ فربما يكون ميزانه في القيامة قد وقف على أن ترجح تلك اللقمة، وإذا رُجِّح بها دخل الجنة، وإن لم تكن اللقمة فرجحت سيئاته دخل النار، فيكون إهماله لتلك اللقمة وتكبره عن أن يزيل عنها الأذى قد أدخله النار؛ ولو فعل لأدخله الجنة، وهذه اللقمة أمر ظاهر وميزانها مكشوف، والوزن فيها بيّن، وكم فيها من ذرة، وقد قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} الزلزلة: 7- 8. الإفصاح (5/ 370).
وقال الشيخ فيصل ابن المبارك -رحمه الله-:
فيه: استحباب أكل لقمته الساقطة؛ كسرًا لنفسه، وتواضعًا لربه، والتماسًا للبركة. تطريز رياض الصالحين (ص:401).

قوله: «ولا يَدَعْها للشيطانِ»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«ولا يدعها» بالجزم عطف طلبي على مثله، أي: لا يتركها «للشيطان». دليل الفالحين (5/ 59).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«ولا يدعها» أي: لا يتركها «للشيطان» أي: لأجله حيث يأكلها، أو لكونه هو السبب في احتقار نعمة الله تعالى البحر المحيط الثجاج (34/ 222).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
يعني: إنه إذا تركها، ولم يرفعها، فقد مكَّن الشيطان منها؛ إذ قد تكبر عن أخذها، ونسي حق الله تعالى فيها، وأطاع الشيطان في ذلك، وصارت تلك اللقمة مناسبة للشيطان؛ إذ قد تكبر عليها، وهو متكبر، فصارت طعامه، وهذا كله ذم لحال التارك، وتنبيه على تحصيل غرض الشيطان من ذلك. المفهم (5/ 301- 302).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«ولا يدعها للشيطان» فيه إثبات الشياطين، وإثبات أكلهم الطعام، وأنه يحضر عند الآدمي في كل شيء من شأنه، فينبغي أن يتأهب ويحترز منه، وإن لم يأكلها آكل الطعام فليطعمها حيوانًا، وإن كانت وقعت على نجاسة وتنجست فلا بد من غسلها قبل أن يأكلها، ولا يتأكد غسلها إن أطعمها للحيوان. شرح سنن أبي داود (15/ 515).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«ولا يدعها للشيطان» وإنما صار تركها للشيطان؛ لأن فيه إضاعة لنعمة الله، والاستحقار بها من غير ما بأس، والمانع عن تناولها في الغالب هو الكبر؛ وذلك من عمل الشيطان. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (11/ 569).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
والشيطان رُبَّما يشارك الإنسان في أَكله في مثل هذه المسألة، وفيما إذا أَكل ولم يسم، فإن الشيطان يشاركه في أكله. شرح رياض الصالحين (3/ 532).

قوله: «وأَمَرَنا أن نَسْلُت القَصْعَةَ»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«أن نسلُت» بضم اللام، أي: نمسحها بالأصبع، يقال: سلت الدم عن وجهه، إذا مسحه بأصبعه. شرح سنن أبي داود (15/ 516).
وقال ابن رسلان -رحمه الله- أيضًا:
روى ابن ماجه عن نُبَيْشة: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَن أكل في قصعة فلحسها؛ استغفرت له القصعة». شرح سنن أبي داود (15/ 514- 515).
وقال النووي -رحمه الله-:
«الصحفة» هي دون ‌القصعة. قال الجوهري: قال الكسائي: أعظم القصاع الجفنة، ثم ‌القصعة تليها تشبع العشرة، ثم الصحفة تشبع الخمسة، ثم المكيلة تشبع الرجلين والثلاثة، ثم الصحيفة تشبع الرجل. شرح مسلم (14/ 37).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
(وفي رواية): «وأمر» عطف على قال، «أن تسلت» بضم الفوقية، أي: تلعق «القصعة» بفتح القاف، وجمعها قِصَع بكسر ففتح، وهي التي يأكل عليها عشرة أنفس كما في (مهذب الأسماء)، والصحفة هي التي يأكل عليها خمسة أنفس على ما في (الصحاح) و(المهذب)، وقيل: هما واحدة، والمراد بالقصعة هنا مطلق الإناء الذي فيه الإدام المائع. دليل الفالحين (5/ 59).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
أمر بِسلت الصحن أو القصعة، وهو الإناء الذي فيه الطعام، فإذا انتهيت فأسلته، بمعنى أن تلحسه، تمر يدك عليه، وتتبع ما علق فيه من طعام بأصابعك وتلعقه.
وهذا أيضًا من السُّنة التي غفل عنها كثيرٌ من الناس؛ مع الأسف كثير من الناس، حتى من طلبة العلم أيضًا، إذا فرغوا من الأكل وجدت الجهة التي تليهم ما زال الأكل باقيًا فيها، لا يلعقون الصحفة، وهذا خلاف ما أُمر به النبي -صلى الله عليه وسلم-. شرح رياض الصالحين (3/ 532).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«وأمرنا أن نَسلت القصعة» أي: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، و«نسلت» بفتح النون وضم اللام، ومعناه: نمسحها ونتتبع ما بقي فيها من الطعام، ومنه سلت الدم عن جبهته، إذا مسحه. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (8/ 220).

قوله: «فإنَّكم لا تدرونَ في أيِّ طعامِكُم البرَكَة»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«قال: فإنكم لا تدرون» أي: لا تعلمون «في أيّ طعامكم البركة» أي: هي في المأكول أم في الباقي بالأصابع والقصعة أو في الساقط. دليل الفالحين (5/ 59).
وقال النووي -رحمه الله-:
«لا تدرون في أيه البركة» معناه -والله أعلم-: أن الطعام الذي يحضره ‌الانسان ‌فيه ‌بركة، ولا يدري أن تلك البركة فيما أكله أو فيما بقي على أصابعه، أو فيما بقي في أسفل القصعة أو في اللقمة الساقطة، فينبغي أن يحافظ على هذا كله؛ لتحصل البركة. وأصل البركة الزيادة وثبوت الخير والإمتاع به، والمراد هنا -والله أعلم-: ما يحصل به التغذية، وتسلم عاقبته من أذى، ويقوي على طاعة الله تعالى وغير ذلك. شرح مسلم (13/ 206).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«قال» رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيان حكمة الأمر بسلت القصعة «فإنكم» أيها الآكلون «لا تدرون» أي: لا تعلمون «في أي» أجزاء «طعامكم البركة». الكوكب الوهاج (21/ 184).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«قال» -صلى الله عليه وسلم- سبب أمره بسلت القصعة «فإنكم» الفاء للتعليل، أي: لأنكم «لا تدرون» أي: لا تعلمون «في أي طعامكم البركة» يعني: فيما أكل، أو فيما بقي في الإناء، فيلعق يده ويمسح الإناء؛ رجاء حصول البركة، والمراد بالبركة -والله أعلم- ما يحصل به التغذية، وتسلم عاقبته من أذى، ويقوي على طاعة الله تعالى وغير ذلك. البحر المحيط الثجاج (34/ 222).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
وهذا لأن البركة ربما تكون في الجزء الملقى. الإفصاح (5/ 370).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
أي: لا يعرف في أي جزء من أجزاء طعامه تكون البركة التي أخفاها الله تعالى، كما أخفى ليلة القدر وغيرها، وإن اجتهد واحترص على معرفة ذلك. شرح سنن أبي داود (15/ 516).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
كتب مولانا محمد يحيى المرحوم: قوله: «في أي طعامه يبارك له» يعني بذلك أَنّه لا يدري في أي أجزاء الطعام المعين له بركة، وحاصله أنّ مَن أَكل مقدارًا معلومًا، وسقط منه مقدار، وتعلق بأصابعه وصحفته مقدار، فإن البركة المتعلقة بذلك القدر الخارج من الطبق لا يدري في أي هذه الحصص الثلاث هي، فإن لم يلعق الصحفة والأصابع، ولم يرفع السقط منه، فإنه لا يدري هل البركة فيما أَكل، أو هي في أحد الجزئين الضائعين هدرًا، وأما البركة المتعلقة بالطعام الباقي في الطبق فإنها موجودة فيه على هذا التفصيل فيه عند أكل من أكلها، وعلى هذا فلا يتوهم أنه ينبغي له أن يكثر من الأكل تحصيلًا للبركة، وليس في رفع السَّقطة والكسرة، ولعق الأصابع مزية على زيادة الأكل من الطعام الباقي، فكما تحصل البركة من هذين تحصل من إكثار الأكل أيضًا؛ وذلك لأنه لا تعود هذه البركة التي أضاعها كلها، انتهى. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (11/ 570).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
وفي هذا الحديث حسن تعليم الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وأنه إذا ذكر الحُكم ذكر الحكمة منه؛ لأن ذكر الحكمة مقرونًا بالحُكم يفيد فائدتين عظيمتين:
الفائدة الأولى: بيانه سمو الشريعة، وأنها شريعة مبنية على المصالح، فما من شيء أمر الله به ورسوله -صلى الله عليه وسلم- إلا والمصلحة في وجوده، وما من شيء نهى الله عنه ورسوله -صلى الله عليه وسلم- إلا والمصلحة في عدمه.
الفائدة الثانية: زيادة اطمئنان النفس؛ لأن الإنسان بشر قد يكون عنده إيمان وتسليم بما حكم الله به ورسوله، لكن إذا ذكرت الحكمة ازداد إيمانًا، وازداد يقينًا، ونشط على فعل المأمور أو ترك المحظور. شرح رياض الصالحين (3/ 532).
وقال النووي -رحمه الله-:
في هذه الأحاديث أنواع من سُنن الأكل:
1- منها استحباب لعق اليد محافظة على بركة الطعام وتنظيفًا لها.
2-استحباب الأكل بثلاث أصابع، ولا يضم إليها الرابعة والخامسة إلا لعذر بأن يكون مرقًا وغيره مما لا يمكن بثلاث وغير ذلك من الأعذار.
3-استحباب لعق القصعة وغيرها.
4-استحباب أكل اللقمة الساقطة بعد مسح أذى يصيبها، هذا إذا لم تقع على موضع نجس، فإن وقعت على موضع نجس تنجست، ولا بد من غسلها إن أمكن، فإن تعذر أطعمها حيوانًا، ولا يتركها للشيطان.
5-ومنها إثبات الشياطين، وأنهم يأكلون. شرح مسلم (13/ 203).
وقال الشيخ عبد القادر شيبة الحمد -رحمه الله-:
ما يفيده الحديث:
1-استحباب لعق الأصابع مما علق بها من طعام قبل مسحها أو غسلها.
2-الحض على التواضع.
3-التحذير من الإِسراف والكبر. شرح بلوغ المرام (10/ 164).


ابلاغ عن خطا