«لا عَدْوَى ولا طِيَرَةَ، ولا هامَةَ ولا صَفَرَ، وفِرَّ من المجذومِ كما تَفِرُّ من الأَسَدِ».
رواه البخاري برقم: (5707) واللفظ له، ومسلم برقم: (2220)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«عَدْوَى»:
اسم من الإعداء، كالرَّعْوَى والبَقْوَى، من الإرعاء والإبقاء، يقال: أعداه الداءُ يعْدِيه إعداءً، وهو أن يصيبه مثل ما بصاحب الداء. النهاية، لابن الأثير (3/192).
وقال المناوي -رحمه الله-:
العدوى تَجَاوُزُ العلة صاحبها إلى غيره. التعاريف (ص: 508).
«طِيَرَةَ»:
الطِّيَرَةُ بكسر الطاء وفتح الياء، وقد تُسَكَّن: هي التشاؤم بالشيء. النهاية، لابن الأثير (3/35).
«هَامَةَ»:
بتخفيف الميم على الأصح، وحكى أبو زيد (الأنصاري) تشديدها. التنوير شرح الجامع الصغير، للصنعاني (11/158).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
الهامَة: الرأس، واسم طائر، وهو المراد في الحديث؛ وذلك أنهم كانوا يتشاءمون بها، وهي من طَيْرِ الليل، وقيل: هي البُوْمَة، وقيل: كانت العرب تزعم أن روح القتيل الذي لا يُدْرَكُ بثأره تصير هامة، فتقول: اسقوني، فإذا أُدْرِكَ بثأره طارت.
وقيل: كانوا يزعمون أن عظام الميت، وقيل: روحه، تصير هامة فتطير، ويسمونه الصَّدى، فنفاه الإسلام ونهاهم عنه. النهاية (5/283).
«ولا صَفَر»:
الصَّفَر: بالتحريك: داء في البطن يُصَفِّرُ الوجه، وتأخير المحرَّم إلى صَفَر، ومنه: «لا صَفَر». القاموس المحيط، للفيروز آبادي(ص:425).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
كانت العرب تزعم أنَّ في البطن حيَّة يقال لها: الصَّفَر، تُصيب الإنسان إذا جاع وتُؤْذِيه، وأنها تُعْدِي، فأبطَل الإسلام ذلك.
وقيل: أراد به النَّسِيء الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، وهو تأخير المحرَّم إلى صفر، ويجعلون صفر هو الشهر الحرام فأَبْطَله. النهاية في غريب الحديث (3/35).
«المجْذُوم»:
الذي أصابه الجُذَام، وهو الداء المعروف. النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير (1/ 252).
شرح الحديث
قوله: «لا عَدْوَى»:
قال المنذري -رحمه الله-:
وأخرج البخاري تعليقًا من حديث سعيد بن ميناء، قال: سمعتُ أبا هريرة يقول: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: «لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر، وفِرَّ من المجذوم كما تَفِرُّ من الأسد». مختصر سنن أبي داود (2/ 618).
وقال العظيم أبادي -رحمه الله- مُعلقًا:
قلتُ: قوله (أي: المنذري): «تعليقًا» يُنظر في كونه تعليقًا، فلفظ البخاري في كتاب الطب باب الجذام: وقال عفان: حدثنا سليم بن حيان، حدثنا سعيد بن ميناء، فذكره، وعفان هو ابن مسلم بن عبد الله الباهلي الصفار البصري من مشايخ البخاري، روى عنه في صحيحه بغير واسطة في مواضع، وروى عنه بواسطة أيضًا كثيرًا، فقوله: «قال عفان» يُحكم عليه بالاتصال كما ذكره أهل اصطلاح الحديث عن الجمهور، وذكره السيد محمد بن إبراهيم الوزير في كتابه تنقيح الأنظار، ورد على ابن حزم قوله: «إنه منقطع».
ثم لو فُرض أنه تعليق، فقد ذكر أهل الاصطلاح أن ما جزم به البخاري، فحُكمه أنه صحيح، وهنا قد جزم به البخاري كما ترى.
وروى أبو نُعيم من طريق أبي داود الطيالسي وأبي قتيبة مسلم بن قتيبة كلاهما عن سليم بن حيان شيخ عفان عن سعيد بن ميناء، فذكره، والله أعلم. عون المعبود (10/ 302).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
هذا تعليق صحيح، وعفان شيخه، وأخرجه أبو نعيم من حديث عمرو بن مرزوق وأبي داود وَقَفَه عن سليم، ثم قال أبو نعيم: وقَفَهُ يوسف القاضي عن عمر.
وله طريق ثانٍ أخرجه ابن حبان من حديث الدَّرَاورْدِي، عن العلاء، عن أبيه عن أبي هريرة بزيادة: «ولا نَوْءَ»، وقال البخاري في باب لا صَفَرَ: ورواه الزهري، أي: من رواية مَعْمَر عنه عن أبي سلمة عن أبي هريرة: «لا عَدْوَى، ولا صَفَر، ولا هَامَة...» الحديث، قال: وعن الزهري عن سنان بن أبي سنان عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
وهذا أخرجه مسلم من حديث الدارمي عبد الله بن عبد الرحمن عن أبي اليمان عن شعيب عن الزهري به. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (27/ 419-420).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«لا عَدْوَى» «لا» نافية للجنس، تعمل عمل (إنَّ)، واسمها يُبنى على ما يُنصب به، فعَدْوَى اسم «لا» مبني على فتْحٍ مقدَّر على الألف في محل نَصْبٍ، وخبرها محذوف، تقديره: تُؤَثِّرُ، أو تنتقل بنفسها. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (8/616).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
«لا» في هذا الحديث وإن كانت نفيًا لما ذكر بعدها فمعناها النهي عن الالتفات لتلك الأمور والاعتناء بها؛ لأنها في أنفسها ليست بصحيحة، وإنما هي من أوهام جُهَّال العرب. المفهم (5/620).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
«لا عَدْوَى» أي: لا سراية للمرض عن صاحبه إلى غيره. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (21/3).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
«لا عَدْوَى» العَدْوَى ها هنا: مجاوزة العلة من صاحبها إلى غيره.
يقال: أعْدَى فلان فلانًا مِن خُلُقه أي: من عِلَّةٍ به.
وذلك على ما يذهب إليه المتطببة (أهل الطب) في عِلَلٍ سبع: الجُذام، والجَرَبُ، والجُدَرِي، والحَصْبَة، والبَخَر (ريح كريه من الفم)، والرَّمَد (وجع العين)، والأمراض الوبائية. الميسر في شرح مصابيح السنة (3/1010).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
قوله: «لا عَدْوَى» يريد أن شيئًا لا يعْدِي شيئًا حتى يكون الضرر مِن قِبَله، وإنما هو تقدير الله -جلَّ وعزَّ- وسابِق قضائه فيه؛ ولذلك قال: «فمَن أَعْدَى الأوَّل؟»، يقول: إن أوَّل بعير جرب من الإبل لم يكن قبله بعيرٌ أَجْرَب فيعْدِيه وإنما كان أول ما ظهر الجرب في أول بعير منها بقضاء الله وقدَره، فكذلك ما ظهر منه في سائر الإبل بعد. معالم السنن (4/233).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
«لا عَدْوَى» وهي عبارة عن اعتقاد المرء أنَّ مكروهًا جَلَبَ إليه مكروهًا، وأصلهم في ذلك السَّانِحُ والبَارِحُ (السانح: هو ما طار من الشمال إلى جهة اليمين، والبارح: ما طار من جهة اليمين إلى جهة الشمال)، فعَبَّروا بكل مكروه يجلب في اعتقادهم مكروهًا عنه، فقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا عَدْوَى» نفيًا لأنْ تكونَ الأدواء تجلب الأدواء، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «جَرَبُ بعير جرَابُ مائة» يعني: مَن أعدى الأوَّل؟ وهذه من الأدلة القواطع. القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (1133).
وقال ابن قرقول -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا عَدْوَى» يحتمل: النهي عن قول ذلك واعتقاده، ويحتمل: النفي لحقيقته. مطالع الأنوار (4/390).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
زعم عيسى بن دينار أن قوله: «لا عَدْوَى» ناسخ لقوله: «لا يُوْرِدُ مُمْرِضٌ على مُصِح» كما ذكره بعد من حديث أبي هريرة، وأنكر أبو هريرة حديثه الأول، قلنا: ألم تُحَدِّث أنه لا عدوى؟ فَرَطَنَ (أي: تكلم) بالحبشية، قال أبو سلمة: فما رأيته نسي حديثًا غيره.
وقيل: إنما نهى الْمُصِحَّ أن يجعل ماشيتَه مع المريضة؛ لئلا يصيبها داء فيُكَذِّب الحديث فيأثم، قاله سحنون وأبو عبيد، ودليله قوله: «فمَن أعدى الأول؟». التوضيح لشرح الجامع الصحيح (27/427).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
قول أبي سلمة: "فما رأيتُه نسيَ حديثًا غيرَه" لعل هذا من الأحاديث التي سمعها قبل بسطِ ردائه، ثم ضَمِّه إليه عندَ فراغ النبي -صلى الله عليه وسلم- من مقالته في الحديث المشهور. مصابيح الجامع (9/ 248).
وقال الدماميني -رحمه الله- أيضًا:
«لا عدوى» هذا وإن كان عامًّا فهو مخصوص ببعض الأدواء دون بعض، فلا يعارض قوله: «وفِرَّ من المجذوم».
وقيل: بل هو باقٍ على عمومه، والمراد: نفي اعتقاد ما كانت الجاهلية تعتقده في بعض الأدواء أنها تعدي بطبعها، وهو خبر أُرِيْدَ به النهي. مصابيح الجامع (9/223).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وقد اختلفت الآثار عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قصة المجذوم وحُكمه، فرُوي عنه ما تقدم... وعن عائشة وقد سألَتها امرأة عن الحديث المتقدِّم في الفرار منه فقالت: كلا والله، ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا عدوى، فمَن أعْدَى الأول؟»، وقد كان لنا مولى أصابه ذلك، فكان يأكل في صِحَافي ويشرب في أقداحي، وينام على فراشي، وهذا يدل من فحوى كلام عائشة أنها لم تنكر الحديث الأول، ولكنها ذهبت إلى نسخه بقوله: «لا عدوى»، وبفعله -عليه السلام- وقد رُوي أيضًا ذلك عن أئمة السلف عمر وغيره.
وقد ذهب بعضهم أيضًا إلى الجمع بين الحُكمين بغير طريق النَّسْخِ وتَرْكِ أحد الخبرين: بأنَّ أَمْرَهُ -عليه السلام- بتجَنُّب ذلك على سبيل الاحتياط، ومخافة ما يقع في النفس من أمر العدوى، ثم فعله بخلاف ذلك ليرى أن أمره ليس على الوجوب والتحريم، وإلى هذا نحا الطبري.
وذهب الباجي إلى أنه بمعنى الإباحة، أي: إذا لم يصبر على أذاه وكرهت مجاورته، فمباح لك أن تفر منه. إكمال المعلم (7/ 163).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وحكى غيره (أي: غير القاضي عياض) قولًا ثالثًا وهو الترجيح، وقد سلكه فريقان: أحدهما: سلك ترجيح الأخبار الدالة على نفي العدوى، وتزييف الأخبار الدالة على عكس ذلك، مثل حديث الباب فأَعَلُّوه بالشذوذ، وبأن عائشة أنكرت ذلك، فأخرج الطبري عنها أن امرأة سألتها عنه فقالت: ما قال ذلك، ولكنه قال: «لا عدوى»، وقال: «فمَن أعدى الأول؟»، قالت: وكان لي مولى به هذا الداء فكان يأكل في صِحَافي، ويشرب في أقداحي، وينام على فراشي، وبأن أبا هريرة تَرَدَّدَ في هذا الحكم كما سيأتي بيانه، فيؤخذ الحكم من رواية غيره، وبأن الأخبار الواردة من رواية غيره في نفي العدوى كثيرة شهيرة، بخلاف الأخبار المرخِّصة في ذلك، ومثل حديث: «لا تديموا النظر إلى المجذومين» وقد أخرجه ابن ماجه وسنده ضعيف، ومثل حديث: عبد الله بن أبي أوفى رَفَعَهُ: «كَلِّم المجذومَ وبينك وبينه قَيْد رمحين» أخرجه أبو نعيم في الطب بسند واهٍ، ومثل ما أخرجه الطبري من طريق معمر عن الزهري أن عمر قال لمعيقيب: اجلس مني قيد رمح، ومن طريق خارجة بن زيد كان عمر يقول نحوه، وهما أثران منقطعان، وأما حديث الشريد الذي أخرجه مسلم فليس صريحًا في أن ذلك بسبب الجذام.
والجواب عن ذلك: أن طريق الترجيح لا يصار إليها إلا مع تعذُّر الجمع، وهو ممكن فهو أولى.
الفريق الثاني: سلكوا في الترجيح عكس هذا المسلك، فردُّوا حديث: «لا عدوى» بأن أبا هريرة رجع عنه إما لِشَكِّه فيه، وإما لثبوت عكسه عنده كما سيأتي إيضاحه في باب لا عدوى، قالوا: والأخبار الدالة على الاجتناب أكثر مخارِج وأكثر طرقًا فالمصير إليها أولى، قالوا: وأما حديث جابر: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذ بيد مجذوم فوضعها في القصعة، وقال: كُلْ ثقةً بالله وتوكلًا عليه» ففيه نظر، وقد أخرجه الترمذي وبيَّن الاختلاف فيه على راويه، ورجح وقْفَهُ على عمر، وعلى تقدير ثبوته فليس فيه أنه -صلى الله عليه وسلم- أكَلَ معه، وإنما فيه أنه وضع يده في القصعة قاله الكلاباذي في معاني الأخبار، والجواب: أن طريق الجمع أولى كما تقدم، وأيضًا فحديث «لا عدوى» ثبت من غير طريق أبي هريرة، فصحَّ عن عائشة وابن عمر وسعد بن أبي وقاص وجابر وغيرهم فلا معنى لدعوى كونه معلولًا والله أعلم.
وفي طريق الجمع مسالك أخرى:
أحدها: نفي العدوى جملة، وحمل الأمر بالفرار من المجذوم على رعاية خاطِر المجذوم؛ لأنه إذا رأى الصحيح البدن السليم من الآفة تَعْظُم مصيبته وتزداد حسرته، ونحوه حديث: «لا تُدِيْمُوا النظر إلى المجذومين» فإنه محمول على هذا المعنى.
ثانيها: حَمْل الخطاب بالنفي والإثبات على حالتين مختلفتين، فحيث جاء «لا عدوى» كان المخاطَب بذلك مَن قوي يقينه وصحَّ توكُّله بحيث يستطيع أن يدفع عن نفسه اعتقاد العدوى كما يستطيع أن يدفع التطير الذي يقع في نفس كل أحد، لكن القوي اليقين لا يتأثر به، وهذا مثل ما تدفع قوةُ الطبيعة العلةَ فتبطلها، وعلى هذا يُحمل حديث جابر في أكل المجذوم من القصعة وسائر ما ورد من جنسه.
وحيث جاء «فِرّ من المجذوم» كان المخاطَب بذلك مَن ضعف يقينه ولم يتمكن من تمام التوكل، فلا يكون له قوة على دفع اعتقاد العدوى، فأُرِيد بذلك سدُّ باب اعتقاد العدوى عنه؛ بأنْ لا يُباشِر ما يكون سببًا لإثباتها، وقريب من هذا كراهيته -صلى الله عليه وسلم- الكَيّ مع إذنه فيه، وقد فعل هو -صلى الله عليه وسلم- كلًّا من الأمرين؛ ليتأسى به كلٌّ من الطائفتين.
ثالث المسالك: قال القاضي أبو بكر الباقلاني: إثبات العدوى في الجذام ونحوه مخصوص من عموم نفي العدوى، قال: فيكون معنى قوله: «لا عدوى» أي: إلا من الجذام والبَرَصِ والجَرَبِ مثلًا، قال: فكأنه قال: لا يعدي شيء شيئًا إلا ما تقدم تبييني له أن فيه العدوى، وقد حكى ذلك ابن بطال أيضًا.
رابعها: أن الأمر بالفرار من المجذوم ليس من باب العدوى في شيء، بل هو لأمر طبيعي وهو انتقال الداء من جسد لجسد بواسطة الملامسة والمخالطة وشم الرائحة؛ ولذلك يقع في كثير من الأمراض في العادة انتقال الداء من المريض إلى الصحيح بكثرة المخالطة، وهذه طريقة ابن قتيبة، فقال: المجذوم تشتَدُّ رائحته حتى يُسْقِمَ مَن أَطَالَ مجالسَتَه ومحادثته ومضاجعته، وكذا يقع كثيرًا بالمرأة من الرَّجُل وعكسه، وينزع الولد إليه؛ ولهذا يأمر الأطباء بترك مخالطة المجذوم لا على طريق العدوى، بل على طريق التأثر بالرائحة؛ لأنها تُسْقِمُ مَن واظب اشتمامها، قال: ومِن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يُوْرِدُ مُمْرِضٌ على مُصِح»؛ لأن الجَرَبَ الرَّطِب قد يكون بالبعير فإذا خالط الإبل أو حكَّكَها وأوى إلى مَبَارِكِهَا وصل إليها بالماء الذي يسيل منه، وكذا بالنظر نحو ما به، قال: وأما قوله: «لا عدوى» فله معنى آخر، وهو أن يقع المرض بمكانٍ كالطاعون فيَفِرّ منه مخافة أن يصيبه؛ لأن فيه نوعًا من الفرار مِن قَدَرِ الله.
المسلك الخامس: أن المراد بنفي العدوى أن شيئًا لا يعدي بطبعه نفيًا لما كانت الجاهلية تعتقده أن الأمراض تعدي بطبعها من غير إضافة إلى الله، فأبْطَل النبي -صلى الله عليه وسلم- اعتقادهم ذلك، وأَكَلَ مع المجذوم؛ ليُبَيِّن لهم أنّ الله هو الذي يمرض ويشفي، ونهاهم عن الدنو منه؛ ليبين لهم أن هذا من الأسباب التي أجرى الله العادة بأنها تفضي إلى مسبِّباتها، ففي نهيه إثبات الأسباب، وفي فعله إشارة إلى أنها لا تَسْتَقِل بل الله هو الذي إن شاء سَلَبَها قُواها فلا تؤثر شيئًا، وإن شاء أبقاها فأثَّرت، ويحتمل أيضًا: أن يكون أكله -صلى الله عليه وسلم- مع المجذوم أنه كان به أمر يسير لا يعدي مثله في العادة؛ إذ ليس الجَذْمَى كلهم سواء، ولا تحصل العدوى من جميعهم، بل لا يحصل منه في العادة عدوى أصلًا كالذي أصابه شيء من ذلك ووقف فلم يعد بقية جسمه فلا يُعْدِي، وعلى الاحتمال الأول جرى أكثر الشافعية، قال البيهقي بعد أن أورد قول الشافعي ما نصه: الجذام والبرص يزعم أهل العلم بالطب والتجارب أنه يُعْدِي الزوج كثيرًا، وهو داء مانع للجماع لا تكاد نفس أحد تطيب بمجامعة مَن هو به، ولا نفس امرأة أن يجامعها مَن هو به، وأما الولد فبيِّن أنه إذا كان مَن ولده أجذم أو أبرص أنه قلَّما يسلم، وإن سلم أدرك نَسْلَهُ، قال البيهقي: وأما ما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لا عدوى» فهو على الوجه الذي كانوا يعتقدونه في الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى، وقد يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح مَن به شيء من هذه العيوب سببًا لحدوث ذلك؛ ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم-: «فِرَّ من المجذوم فرارك من الأسد»، وقال: «لا يُوْرِدُ مُمْرِضٌ على مُصِح»، وقال في الطاعون: «مَن سمع به بأرض فلا يُقْدِم عليه»، وكل ذلك بتقدير الله تعالى، وتبعه على ذلك ابن الصلاح في الجمع بين الحديثين ومن بعده وطائفة ممن قبله.
المسلك السادس: العمل بنفي العدوى أصلًا ورأسًا، وحَمْلُ الأمر بالمجانبة على حَسْمِ المادة وسد الذريعة؛ لئلا يحدث للمخالِط شيء من ذلك فيظن أنه بسبب المخالطة فيُثْبِتُ العدوى التي نفاها الشارع، وإلى هذا القول ذهب أبو عبيد وتبعه جماعة، فقال أبو عبيد: ليس في قوله: «لا يُوْرِدُ مُمْرِضٌ على مُصِح» إثبات العدوى، بل لأن الصحاح لو مرضت بتقدير الله تعالى ربما وقع في نفس صاحبها أن ذلك من العدوى فيُفْتَتَنُ ويَتَشَكَّك في ذلك، فأَمَرَ باجتنابه، قال: وكان بعض الناس يذهب إلى أن الأمر بالاجتناب إنما هو للمخافة على الصحيح من ذوات العاهة، قال: وهذا شر ما حُمِلَ عليه الحديث؛ لأن فيه إثبات العدوى التي نفاها الشارع، ولكن وجه الحديث عندي ما ذكرته.
وأطنب ابن خزيمة في هذا في كتاب التوكل، فإنه أورد حديث: «لا عدوى» عن عدة من الصحابة، وحديث: «لا يُوْرِدُ مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ» من حديث أبي هريرة، وترجم للأول: "التوكل على الله في نفي العدوى"، وللثاني: "ذِكْرُ خبرٍ غَلِطَ في معناه بعض العلماء"، وأثبت العدوى التي نفاها النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم ترجم الدليل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يرد إثبات العدوى بهذا القول، فساق حديث أبي هريرة: «لا عدوى، فقال أعرابي: فما بال الإبل يخالطها الأجْرَبُ فتَجْرَبُ؟! قال: فمَن أعْدَى الأول؟»، ثم ذكر طُرقه عن أبي هريرة، ثم أخرجه من حديث ابن مسعود، ثم ترجم: "ذِكْرُ خبرٍ رُوي في الأمر بالفرار من المجذوم قد يخطر لبعض الناس أن فيه إثبات العدوى وليس كذلك" وساق حديث: «فِرّ من المجذوم فرارك من الأسد» من حديث أبي هريرة، ومن حديث عائشة، وحديث عمرو بن الشَّرِيد عن أبيه في أمر المجذوم بالرجوع، وحديث ابن عباس: «لا تُدِيْمُوا النظر إلى المجذومين»، ثم قال: إنما أمرهم -صلى الله عليه وسلم- بالفرار من المجذوم كما نهاهم أن يُوْرِدَ الممرضُ على الْمُصِحِّ؛ شفقةً عليهم، وخشيةً أن يصيب بعض مَن يخالطه المجذوم الجذام، والصحيح من الماشية الجرب فيسبق إلى بعض المسلمين أن ذلك من العدوى، فيُثبت العدوى التي نفاها -صلى الله عليه وسلم-، فأمرهم بتجنُّب ذلك شفقة منه ورحمة؛ ليَسْلَمُوا من التصديق بإثبات العدوى، وبيَّن لهم أنه لا يُعْدِي شيء شيئًا.
قال: ويؤيِّد هذا أَكْلَه -صلى الله عليه وسلم- مع المجذوم؛ ثقة بالله وتوكلًا عليه، وساق حديث جابر في ذلك ثم قال: وأما نهيه عن إدامة النظر إلى المجذوم فيحتمل أن يكون لأن المجذوم يَغْتَمُّ ويَكْرَهُ إدمانَ الصحيح نَظَرَهُ إليه؛ لأنه قلَّ مَن يكون به داء إلا وهو يَكْرَهُ أن يُطَّلَع عليه. اهـ.
وهذا الذي ذكره احتمالًا سبقه إليه مالك؛ فإنه سُئل عن هذا الحديث فقال: ما سمعتُ فيه بكراهية، وما أدري ما جاء من ذلك إلا مخافة أن يقع في نفس المؤمن شيء، وقال الطبري: الصواب عندنا: القول بما صح به الخبر، وأنْ لا عدوى، وأنه لا يصيب نفسًا إلا ما كُتب عليها، وأما دُنُو عليل من صحيح فغير موجِبٍ انتقال العلة للصحيح، إلا أنه لا ينبغي لذي صحة الدنو مِن صاحب العاهة التي يكرهها الناس، لا لتحريم ذلك، بل لخشية أن يظنَّ الصحيحُ أنه لو نزل به ذلك الداء أنه من جهة دُنُوِّه من العليل فيقع فيما أبطله النبي -صلى الله عليه وسلم- من العدوى، قال: وليس في أمره بالفرار من المجذوم معارضة لأكله معه؛ لأنه كان يأمر بالأمر على سبيل الإرشاد أحيانًا، وعلى سبيل الإباحة أخرى، وإن كان أكثر الأوامر على الإلزام وإنما كان يفعل ما نهى عنه أحيانًا لبيان أن ذلك ليس حرامًا.
وقد سلك الطحاوي في معاني الآثار مسلك ابن خزيمة فيما ذكره فأورد حديث: «لا يُوْرِدُ مُمْرِضٌ على مُصِح» ثم قال: معناه: أن الْمُصِحَّ قد يصيبه ذلك المرض فيقول الذي أورده: لو أني ما أوردته عليه لم يصبه من هذا المرض شيء، والواقع أنه لو لم يورده لأصابه؛ لكون الله تعالى قدَّره، فنهى عن إيراده لهذه العلة التي لا يُؤْمَن غالبًا مِن وقوعها في قلب المرء، ثم ساق الأحاديث في ذلك فأَطْنَبَ وجمع بينها بنحو ما جمع به ابن خزيمة؛ ولذلك قال القرطبي في المفْهِم: إنما نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن إيراد الممرض على المصح مخافة الوقوع فيما وقع فيه أهل الجاهلية من اعتقاد العدوى، أو مخافة تشويش النفوس وتأثير الأوهام، وهو نحو قوله: «فِرّ من المجذوم فرارك من الأسد»، وإن كنا نعتقد أن الجُذام لا يُعْدِي لكنَّا نجد في أنفسنا نُفْرَةً وكراهيةً لمخالطته حتى لو أَكْرَهَ إنسان نفسه على القُرْبِ منه، وعلى مجالسته لتَأَذَّت نفسه بذلك، فحينئذٍ فالأَوْلَى للمؤمن ألا يتعرض إلى ما يحتاج فيه إلى مجاهدة، فيجتنب طُرُق الأوهام، ويباعد أسباب الآلام مع أنه يعتقد أن لا يُنْجِّي حَذَرٌ مِن قَدَرٍ، والله أعلم.
قال الشيخ أبو محمد ابن أبي جمرة: الأمر بالفرار من الأسد ليس للوجوب بل للشفقة؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- كان ينهى أُمَّته عن كل ما فيه ضرر بأي وجه كان، ويدلهم على كل ما فيه خير، وقد ذكر بعض أهل الطبِّ أن الروائح تُحْدِثُ في الأبدان خللًا، فكان هذا وجه الأمر بالمجانبة، وقد أكل هو مع المجذوم، فلو كان الأمر بمجانبته على الوجوب لما فعله، قال: ويمكن الجمع بين فعله وقوله بأن القول هو المشروع من أجل ضعف المخاطبين، وفِعْلَهُ حقيقة الإيمان، فمَن فعل الأول أصاب السنة وهي أثر الحكمة، ومَن فعل الثاني كان أقوى يقينًا؛ لأن الأشياء كلها لا تأثير لها إلا بمقتضى إرادة الله تعالى وتقديره، كما قال تعالى: {وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ} البقرة: 102، فمَن كان قوي اليقين فله أن يتابعه -صلى الله عليه وسلم- في فعله ولا يضره شيء، ومَن وجد في نفسه ضعفًا فليتبع أمره في الفرار؛ لئلا يدخل بفعله في إلقاء نفسه إلى التهلكة.
فالحاصل: أن الأمور التي يتوقع منها الضرر وقد أباحت الحكمة الربانية الحذر منها فلا ينبغي للضعفاء أن يقربوها، وأما أصحاب الصدق واليقين فهم في ذلك بالخيار، قال: وفي الحديث أن الحكم للأكثر؛ لأن الغالب من الناس هو الضعف فجاء الأمر بالفرار بحسب ذلك. فتح الباري (10/159-163).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- معلقًا:
عندي أقرب المسالك هو المسلك الخامس، وهو أن المراد بنفي العدوى نفي ما كانت عليه الجاهلية مِن زعمهم أن المرض يعدي بطبعه، لا بتقدير الله تعالى، فردَّ عليهم ذلك، فقال: «لا عدوى»، وأمرهم بالفرار من المجذوم، ونهاهم عن إيراد الممرض على المصح؛ لئلا يحصل لهم بتقدير الله تعالى؛ إذ جرت سنة الله تعالى بأن الأسباب تُفْضِي إلى مسبباتها، ففيه إثبات الأسباب، وفي أكله -صلى الله عليه وسلم- مع المجذوم بيان أن الأسباب لا تستقل بنفسها، بل الله تعالى إن شاء سَلَبَها قُوَاها، فلا تُؤَثِّر، وإن شاء أبقاها فتؤثر، فهذا هو أقرب الوجوه المذكورة في الجمع بين أحاديث الباب المختلفة في نظري، فتأمله بالإمعان. البحر المحيط الثجاج (36/362-363).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
«لا عدوى» أهل العلم يختلفون في هذا النفي هل هو نفي عام أو خاص؟ يعني تُنْفَى العدوى في عموم الأمراض أو في بعضها دون بعض؟ أو أن المرض لا يُعدي ألبتة؟ فجَمْعٌ من أهل العلم يرون أن النفي على حقيقته، وأن المرض لا يُعْدِي، وأن مخالطة المريض مثل مخالطة السليم.
قوله: «ولا يَحُلُّ الْمُمْرِضُ على الْمُصِحِّ»، وقوله في الحديث الصحيح: «فِرّ من المجذوم فرارك من الأسد» ليس إثباتًا للعدوى، وإنما هو خشية أن يصاب بالمرض نفسه فيقع في نفسه الحرج في الظن بتكذيب الحديث، كيف لا عدوى وأنا مرضتُ لَمَّا جلستُ عند هذا المريض؟! فمِن أجل هذا الحرج الذي يقع فيه المخالِط للمريض قيل: «فِرّ من المجذوم»، وإلا الأصل أن ما في عدوى.
منهم مَن يقول: المنفي انتقال المرض، وسراية المرض بنفسه إلى شخص آخر، وإلا فكون المخالطة سبب للانتقال هذا ما فيه إشكال، وعلى هذا جُل الأطباء يرون أن العدوى موجودة، وأن مخالطة المريض سبب لانتقال المرض منه إلى المخالط، يُحذِّرون، وبعض الأمراض لها مَحَاجِرُ صحية؛ لأن انتقالها سريع.
وعلى كل حال هما قولان معتَبَران عند أهل العلم، منهم مَن يقول: أبدًا لا عدوى مطلقًا، فمخالَطة المريض مثل مخالطة الصحيح، يعني: تزور شخصًا في بيته ليس به أدنى مرض، وتزور المريض في المستشفى لا فرق، لا عدوى أصلًا، والأمر بالفرار منه وعدم إيراد الممرض على المصح إنما هو من أجل رفع الحرج الذي يلحق الزائر؛ بحيث لو أصيب وقع في نفسه تكذيب الخبر، فتحسم هذه المادة عنه.
والقول الثاني: أن العدوى موجودة، ويقولون: إن الواقع يشهد بها، والآلات الحديثة تثبت ذلك، والأطباء كأنهم يتفقون على مثل هذا، لكن المنفي انتقال المرض وسراية المرض بنفسه لا بتقدير الله -جلَّ وعلا-، كما يقوله العرب في الجاهلية.
أما مَن اعتقد أن هذا المرض يسري من هذا المريض إلى الصحيح بتقدير الله -جلَّ وعلا- وبسراية الله -جلَّ وعلا- له فلا إشكال في هذا. شرح الموطأ (173/22-23).
وقال حمزة محمد قاسم -رحمه الله-:
وأحسن ما قيل فيه: قول البيهقي وتَبِعَهُ ابن الصلاح وابن القيم وابن رجب وابن مفلح وغيرهم: أن قوله: «لا عدوى» على الوجه الذي يعتقده أهل الجاهلية مِن إضافة الفعل إلى غير الله تعالى، وأن هذه الأمور تُعْدِي بطبعها وإلّا فقد يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح من به شيء من الأمراض سببًا لحدوث ذلك؛ ولهذا قال: «فِرّ من المجذوم فرارك من الأسد»، وقال: «لا يُوْرِدُ مُمْرِضٌ على مُصِح»، وقال في الطاعون: «مَن سمع في أرض فلا يقدم عليه»، وكل ذلك بتقدير الله. منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري (5/222).
قوله: «ولا طِيَرَةَ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ولا طِيَرَةَ» نفيٌ معناه النهي، كقوله تعالى: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} البقرة: 2. مرقاة المفاتيح (7/2894).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
«ولا طِيَرَةَ» الطِّيَرَةُ: التفاؤل بالطَّيْرِ والتشاؤم بها، كانوا يجعلون العبرة في ذلك تارة بالأسماء، وتارة بالأصوات، وطورًا بالسُّنوح (أي: ذهاب الطير من جهة الشمال إلى اليمين)، وطورًا بالبُروح (أي: ذهاب الطير من جهة اليمين إلى جهة الشمال)، وكانوا يهيجونها من أماكنها لذلك. الميسر في شرح مصابيح السنة (3/1011).
وقال المازري -رحمه الله-:
والطِّيَرَةُ: مأخوذ مما كانوا يعتادونه في الطير، ويعتقدونه في البوارح والسوانح، وكان لهم في التشاؤم والتيامن طريقة معروفة، وقيل: منها أُخِذَ اسم الطِّيَرَة.
وقال بعضهم: فإن الفأل رجوع إلى قول مسموع وأَمْرٍ محسوس يحسن معناه في العقول، فيخيَّل للنفس وقوع مثل ذلك المعنى، ويحسن الظن بالله سبحانه، ورجاء الخير منه بأدنى سبب لا يقبح.
والطِّيرة أخذ المعاني من أمور غير محسوسة ولا معقولة ولا معنى يشعر العقل بما يتوقع من ذلك؛ فلهذا فارَقَت الفأل، وإنها لا تقع إلا على تَوَقُّعِ أمرٍ مكروهٍ، والفأل يقع على ما يحب ويَكْرَه، والمستحْسَن منه ما يحب، وما يُكره يتَّقى وإلا كان، وهو أحد قِسْمَي الفأل أو طيرة هكذا قال بعضهم. المعلم بفوائد مسلم (3/178-179).
قوله: «ولا هَامَةَ»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قال أبو زيد (الأنصاري): هي بالتشديد، وخالفه الجميع فخفَّفُوها، وهو المحفوظ في الرواية، وكأنَّ مَن شددها ذهب إلى واحدة الهوام وهي ذوات السموم، وقيل: دواب الأرض التي تَهُمُّ بأذى الناس، وهذا لا يصح نفيه إلا إن أُريد أنها لا تضر لذواتها، وإنما تضر إذا أراد الله إيقاع الضرر بمن أصابته، وقد ذكر الزبير بن بكار في الموفقيات (وهو كتاب مجموع في الأخبار ونوادر التاريخ): أن العرب كانت في الجاهلية تقول: إذا قُتل الرَّجُل ولم يؤخذ بثأره خرجت من رأسه هامَة، وهي دودة فتدور حول قبره فتقول: اسقوني اسقوني، فإنْ أُدْرِكَ بثأره ذهبت وإلا بقيت، وفي ذلك يقول شاعرهم:
يا عمرو إلَّا تَدَعْ شتمي ومنقصتي*** أضربك حتى تقول الهامَةُ: اسقوني.
قال: وكانت اليهود تزعم أنها تدور حول قبره سبعة أيام ثم تذهب، وذكر ابن فارس وغيره من اللغويين نحو الأول إلا أنهم لم يُعَيِّنوا كونها دودة، بل قال القزاز: الهامَة طائر من طير الليل، كأنه يعني البُومَة.
وقال ابن الأعرابي: كانوا يتشاءمون بها إذا وقعت على بيت أحدهم، يقول: نَعَتْ إليَّ نفسي، أو أحدًا من أهل داري.
وقال أبو عبيد: كانوا يزعمون أن عظام الميت تصير هامة فتطير، ويُسَمُّون ذلك الطائر الصدى، فعلى هذا فالمعنى في الحديث لا حياة لهامَة الميت، وعلى الأول لا شؤم بالبومة ونحوها. فتح الباري (10/241).
وقال المازري -رحمه الله-:
وأما قوله: «ولا هامَة» فاختُلف فيه، فقيل: كانت العرب تتشاءم بالهامة إذا سَقَطَت على دار أحدهم، فيراها ناعِيَةً نفسه أو أحدًا من أهله، وإلى هذا التفسير ذهب مالك.
وقيل: كانت العرب تعتقد أن عظام الميت تنقلب هامة تطير، فأنكر -صلى الله عليه وسلم- هذا كله وأبطله، ويسمى الطائر الذي يُعْتَقَد خروجه مِن هامة الميت: صدىً، وجمعه: أصداء.
وقد قيل: إن المراد بالحديث هذا الطائر الذي يخرج من الرأس. إكمال المعلم (7/143).
وقال النووي -رحمه الله- معقبًا:
وهذا (أي: القول الأخير) تفسير أكثر العلماء، وهو المشهور، ويجوز أن يكون المراد النوعين، فإنهما جميعًا باطلان، فبيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- إبطال ذلك، وضلالة الجاهلية فيما تعتقده من ذلك. شرح مسلم (14/215-216).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
وتَطَيُّر العامة اليوم من صوت الهامة ميراثُ ذلك الرأي، وهو من باب الطيرة المنهي عنها. معالم السنن (4/234).
قوله: «ولا صَفَر»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«ولا صَفَر» بفتحتين أي: لا يُؤَخَّر محرم إلى صَفَر كما كانوا يفعلونه في النَّسِيء.
وقيل: إنه حيَّة في البطن تسمى الصَّفَر تؤذي الجائع، كانت تزعمه العرب فنفاه. التنوير شرح الجامع الصغير (11/158).
وقال أبو داود -رحمه الله-:
قُرئ على الحارث بن مسكين -وأنا شاهد- أخبركم أشهب، قال: سُئل مالك عن قوله: «لا صَفَر»؟ قال: إن أهل الجاهلية كانوا يُحِلُّون صَفَر، يحلونه عامًا ويحرمونه عامًا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا صَفَر».
حدثنا محمد بن المصفى، حدثنا بقية، قال: قلتُ لمحمد -يعني ابن راشد- قوله:... «صَفَر»، قال: سمعتُ أن أهل الجاهلية يَسْتَشْئِمُون بصَفَر، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا صَفَر».
قال محمد: وقد سمعنا مَن يقول: هو وَجَعٌ يأخذ في البطن، فكانوا يقولون: هو يُعْدِي، فقال: «لا صَفَر». سنن أبي داود [(6/ 58).
وقال البخاري -رحمه الله-:
باب: لا صَفَر، وهو داء يأخذ البطن. صحيح البخاري (7/128).
وقال ابن حجر -رحمه الله- معلقًا:
كذا جزم (يريد البخاري) بتفسير الصَّفَر، وهو بفتحتين، وقد نَقَل أبو عبيدة معمر بن المثنى في غريب الحديث له عن يونس بن عبيد الجرمي أنه سأل رؤبة بن العجاج فقال: هي حيَّة تكون في البطن تصيب الماشية والناس، وهي أعدى من الجَرَبِ عند العرب، فعلى هذا فالمراد بنفي الصَّفَر ما كانوا يعتقدونه فيه من العدوى، ورجح عند البخاري هذا القول؛ لكونه قُرِنَ في الحديث بالعدوى، وكذا رجح الطبري هذا القول، واستشهد له بقول الأعشى:
...................... *** ولا يَعَضُّ على شُرْسُوفِهِ الصَّفَر.
والشُّرسُوف بضم المعجمة وسكون الراء ثم مهملة ثم فاء: الضِّلْع، والصَّفَر: دودٌ يكون في الجوف، فربما عضَّ الضلع أو الكبد فقَتَل صاحبه.
وقيل: المراد بالصَّفَر الحيَّة لكن المراد بالنفي نفي ما كانوا يعتقدون أن مَن أصابه قتَلَه، فردَّ ذلك الشارع بأن الموت لا يكون إلا إذا فرغ الأجل، وقد جاء هذا التفسير عن جابر وهو أحد رواة حديث «لا صَفَر» قاله الطبري.
وقيل: في الصَّفَر قول آخر، وهو أن المراد به شهر صفر؛ وذلك أن العرب كانت تُحرِّم صفر، وتستحل المحرَّم، فجاء الإسلام بِرَدِّ ما كانوا يفعلونه من ذلك، فلذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: «لا صَفَرَ». فتح الباري (10/ 171).
قوله: «وفِرّ من المجذوم كما تفر من الأسد»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وَفِرَّ» بكسر الفاء وتشديد الراء المفتوحة ويجوز كسرها، أي: اشرُدْ وبالغ في الاجتناب والاحتراز. مرقاة المفاتيح (7/2894).
وقال حمزة محمد قاسم -رحمه الله-:
«وَفِرَّ من المجذوم كما تفرُّ من الأسد» أي: ابتعد عنه؛ احتياطًا واحترازًا من العدوى، وطلبًا للسلامة من الميكروب الذي قد ينتقل إليك مصحوبًا بذلك المرض الخبيث، فإن الله قد ربط الأسباب بمسبباتها وهو خالقها. منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري (5/220).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«من المجذوم» أي: الذي به جُذام بضم أوله، وهو تشقق الجلد، وتقطُّع اللحم وتساقطه، والفعل منه جُذِمَ على بناء المفعول. مرقاة المفاتيح (7/2894).
وقال حمزة محمد قاسم -رحمه الله-:
وقد شبَّه النبي -صلى الله عليه وسلم- تلك الميكروبات المرضية التي تَنْقُل الجذام من المريض إلى السليم بالأسد؛ لأنها تفترس الجسم الصحيح، وتقضي عليه كما يقضي الأسد على فريسته، ولعل هذا هو السر في تسمية هذا المرض الخطير بداء الأسد. منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري (5/220).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
قوله: «وَفِرَّ من المجذوم كما تفرُّ من الأسد» هو مثْل قوله: «لا يُوْرِدَنّ ممرض على مُصِح»، ووجه فراره منه: أنه يؤذي برائحته، وربما نزع الولد إليه؛ ولذلك جُعل به الخيار بالنسبة إلى النكاح.
وقيل: إنما أمره به لأنه إذا رآه صحيح البدن عَظُمَت حسرته ونسي نعمة ربه، فأمر أن يفر منه؛ لئلا يكون سببًا للزيادة في محنة أخيه وبلائه. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (27/429).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
ومقصود هذا الحديث: إبطال ما كانت العرب تقوله وتعتقده في هذه الأمور، وألَّا يُلْتَفت لشيء من ذلك لا بالقلب ولا باللسان، والله أعلم. المفهم (5/623).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
واستُدِلَّ بالأمر بالفرار من المجذوم لإثبات الخيار للزوجين في فسخ النكاح إذا وجده أحدهما بالآخر، وهو قول جمهور العلماء، وأَجَابَ فيه مَن لم يقل بالفسخ بأنه لو أُخِذَ بعمومه لثبت الفسخ إذا حدث الجذام، ولا قائل به، ورُدَّ بأن الخلاف ثابت بل هو الراجح عند الشافعية، واختُلف في أَمَةِ الأجذم هل يجوز لها أن تمنع نفسها من استمتاعه إذا أرادها؟ واختَلف العلماء في المجذومين إذا كثروا هل يمنعون من المساجد والمجامع؟ وهل يُتَّخَذ لهم مكانٌ منفرد عن الأصحاء؟ ولم يختلفوا في النادر أنه لا يُمْنَع ولا في شهود الجمعة. فتح الباري (10/162-163).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
وقد اختلف علماء الأُمَّة في تأويل هذا الحديث، فمنهم مَن يقول: إن المراد منه نفي ذلك وإبطاله؛ على ما يدل عليه ظاهر الحديث، والقرائن المسوقة على العدوى، وهم الأكثرون.
ومنهم مَن يرى أنه لم يرد إبطالها، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «وَفِرَّ من المجذوم فرارك من الأسد»، وقال: «لا يُوْرِدن ذو عاهة على مصحّ»، وإنما أراد بذلك نفي ما كان يعتمده أصحاب الطبيعة، فإنهم كانوا يرون العِلَل المعدية مؤثِّرة لا محالة، فأعْلَمَهم بقوله هنا أن الأمر ليس على ما يتوهمون، بل هو متعلق بالمشيئة، إن شاء كان وإن لم يشأ لم يكن، ويشير إلى هذا المعنى قوله: «فمَن أعدى الأول؟» أي: إن كنتم ترون أن السبب في ذلك العدوى لا غير، فمن أعدى الأول؟ وبيَّن بقوله: «وَفِرَّ من المجذوم» وبقوله: «لا يوردن ذو عاهة على مصح» أن مُدَانَاة ذلك من أسباب العلة، فلْيَتَّقِهِ كما اتقاه من الجدار المائل، والسفينة المعيوبة.
وقد رَدَّ الفرقة الأولى على الثانية في استدلالهم بالحديثين: أن النهي فيهما إنما جاء شفقًا على مَن باشر الأمرين، فيصيبه علة في نفسه، أو عاهة في إبله، فيعتقد أن العدوى حق.
قلتُ: وأرى القول الثاني أَوْلَى التأويلين؛ لما فيه من التوفيق بين الأحاديث الواردة فيه؛ لأن القول الأول يُفْضِي إلى تعطيل الأصول الطبِّية، ولم يرد الشرع بتعطيلها، بل بإثباتها، والعبرة بها على وجه لا يناقض أصول التوحيد، ولا يناقضه في القول بها على الوجه الذي ذكرناه.
وأما استدلالهم بالقرائن المسوقة عليها، فإنا قد وجدنا الشارع يجمَع في النهي بين ما هو حرام، وبين ما هو مكروه، وبين ما يُنهى عنه لمعنى، وبين ما ينهى عنه لمعانٍ كثيرة، فيدل على صحة ما ذكرنا قوله -صلى الله عليه وسلم- للمجذوم المبايِع: «قد بايعناك فارجع» في حديث الشَّرِيد بن سويد الثقفي، وهو مذكور فيما بعد هذا الباب.
وقوله -صلى الله عليه وسلم- للمجذوم الذي أخذ بيده فوضعها معه في القصعة «كُلْ؛ ثقةً بالله وتوكلًا عليه» ولا سبيل إلى التوفيق بين هذين الحديثين إلا من هذا الوجه، تبيَّن بالأول التعرض للأسباب وهو سُنته، وبالتالي ترك الأسباب وهو حاله. الميسر في شرح مصابيح السنة (3/1010-1011).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
هذا الحديث أصل عظيم في تكذيب القَدَرِيَّة، وأصل حدوث العالم، ووجوب دخول الأولية له، ودليل على صحة القياس في الأصل، وأما خبر: «لا يورد ممرض على مُصِح»، فهو نهي عن إدخال التوهم والمحظور على العامة باعتقاد وقوع العدوى عليهم بدخول البعير الأجرب فيهم. عارضة الأحوذي (8/ 310).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
ومنها (أي: فوائد الحديث): إبطال ما كان عليه الجاهليّة من اعتقاد إعداء المرض، فكانوا يعتقدون أن المريض إذا دخل في الأصحّاء أمرضهم، فنفى الشارع ذلك، وأبطله أتم بطلان.
ومنها: أن هذا الحديث وإن كان ظاهره نفيًا لهذه الأشياء، لكن المراد منه النهي عن الالتفات إليها، والاعتناء بها؛ لأنها في أنفسها ليست بصحيحة، وإنما هي من أوهام جهّال العرب. مشارق الأنوار الوهاجة ومطالع الأسرار البهاجة (2/546).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- أيضًا:
ومنها (أي: فوائد الحديث): إثبات القَدَرِ، ووجوب الإيمان به. البحر المحيط الثجاج (36/354).
وقال حمزة محمد قاسم -رحمه الله-:
(وفيه) مشروعية الطب الوقائي، واتخاذ أسباب السلامة من الجراثيم والميكروبات، والمحافظة على الصحة العامة...
دلّ هذا الحديث على تحريم التشاؤم بجميع أنواعه وصوره، سواء كان تشاؤمًا من المرئيات والمسموعات، كأن يَرى الطير متوجهًا شمالًا فيتشاءم من العمل الذي أقْدَمَ عليه، أو يسمع كلمة كريهة فيترك الشيء الذي كان يريده، وهو التطير أو التشاؤم من مشاهدة بعض الطيور، ونزولِها على بيته، فيعتقد أنها نذير موته، أو موت أحد أقاربه، أو يتشاءم من بعض الشهور والليالي والأيام، وهو معنى قوله: «ولا صَفَرَ»، فإن التشاؤم بأي نوع من هذا أو غيره محرم شرعًا؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عنه. منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري (5/222 - 223).