كانَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في سَفَرٍ، فرأى زِحَامًا ورَجُلًا قد ظُلِّلَ عليه، فقال: «ما هذا؟» فقالوا: صائمٌ، فقال: «ليسَ مِن الْبِرِّ الصَّومُ في السَّفرِ».
رواه البخاري برقم: (1946) واللفظ له، ومسلم برقم: (1115)، من حديث جابر -رضي الله عنه-.
ورواه النسائي برقم: (2258)، وزاد: «وعليكم برخصة الله التي رخَّص لكم فاقبلوها».
صحيح الجامع برقم: (5429)، صحيح الترغيب والترهيب برقم: (1054).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«الْبِرّ»:
أي: الطاعة والعبادة. النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير(1/ 116).
«برخصة»:
الرُّخصة: في اللغة عبارة عن الإطلاق والسُّهولة والسَّعة، ومنه رَخص السِّعر إذا تراجع وخَفَّ على الناس، واتسعت السلع وكثرت وسهل وجودها.
وفي الشريعة تنبئ عن معناها اللغوي، إذ هي الأحكام الثابتة بناء على أعذار العباد تيسيرًا. نخب الأفكار للعيني (8/ 326).
قال السفاريني -رحمه الله-:
الرُّخصة: ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح. كشف اللثام (3/ 549).
شرح الحديث
قوله: «كانَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في سَفَرٍ»:
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفرٍ» ظهَرَ من رواية الترمذي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر: أنها غزوة الفتح؛ لأنه صرَّح فيه بقوله: «خرج إلى مكة عام الفتح».. الحديث. عمدة القاري(11/ 48-49).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفرٍ» تَبيَّن من رواية جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أنها غزوة الفتح، ولابن خزيمة من طريق حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن جابر: «سافَرْنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في رمضان»، فذكر نحوه. فتح الباري (4/ 185).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قال في التَّتِمَّة: إنه كان في غزوة تبوك في ظل شجرة، هكذا هو في مسند الشافعي، قال الشيخ ابن حجر: هو في غزوة الفتح، كما بُيِّن في رواية أخرى، والله أعلم. مرقاة المفاتيح (4/ 1402).
وقال السفاريني -رحمه الله-:
«كان رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في سفرٍ» من أسفاره، وهو غزوة الفتح، كما في الترمذي، وكانت في رمضان في الثامنة، أو غزوة تبوك، كما رواه الشافعي. كشف اللثام شرح عمدة الأحكام (3/ 544).
قوله: «فَرَأَى زِحَامًا»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فرأى زِحامًا» بكسر الزاي، أي: مزاحمة في الاجتماع على غَرَض الاطلاع. مرقاة المفاتيح (4/ 1402).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«زحامًا» بكسر الزاي، اسمٌ للزَّحْمَة، والمراد هنا: الوصْف بمحذوف، أي: قومًا مُزْدَحِمِين. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (4/ 387).
قوله: «ورَجُلًا»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «ورَجُلًا» هو أبو إسرائيل، واسمه قيس، وقيل: قُشَير، وقيل: قيصر، وهو أصح، ذكَرَهُ مِيرَك. مرقاة المفاتيح (4/ 1402).
وقال الخطيب البغدادي -رحمه الله-:
هذا الرَّجُلُ هو: أبو إسرائيل العامِرِيُّ، وقيل: اسْمُهُ قَيْسٌ. الأسماء المبهمة في الأنباء المحكمة (4/ 274).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
هذا الرَّجُل هو أبو إسرائيل العامريُّ، كذا قاله مُغلطاي، نقلًا عن الخطيب، وفيه نظر. مصابيح الجامع (4/ 368).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
ولم أقِفْ على اسم هذا الرَّجُل، ولولا ما قدَّمْتُه من أنَّ عبد الله بن رواحة استُشهد قبل غزوة الفتح لأمكن أنْ يُفسَّر به؛ لقول أبي الدرداء: إنه لم يكن من الصحابة في تلك السفرة صائمًا غيره، وزعم مغلطاي أنه أبو إسرائيل، وعزا ذلك لمبهمات الخطيب، ولم يقل الخطيب ذلك في هذه القصة، وإنما أورد حديث مالك عن حميد بن قيس وغيره، أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى رَجُلًا قائمًا في الشمس، فقالوا: نَذَرَ أن لا يَستَظِلَّ ولا يتكلم ولا يجلس، ويصوم.. الحديث، ثم قال: هذا الرجل هو أبو إسرائيل القرشي العامري، ثم ساق بإسناده إلى أيوب عن عكرمة عن ابن عباس: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَخطب يوم الجمعة، فنظر إلى رجل من قريش يقال له: أبو إسرائيل، فقالوا: نَذَرَ أنْ يصوم ويقوم في الشمس.. الحديث، فلم يزد الخطيب على هذا، وبَيْن القصتين مُغايرات ظاهرة، أظهرها أنه كان في الحضر في المسجد، وصاحب القصة في حديث جابر كان في السفر، تحت ظلال الشجر، والله أعلم. فتح الباري (4/ 185-186).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
حديث جابر «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر، فرأى زحامًا ورَجُلًا قد ظُلِّل عليه»، هو أبو إسرائيل. فتح الباري(1/ 278)
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «ورَجُلًا قد ظُلِّل عليه» وقال صاحب (التلويح): والرَّجُل المجْهُود في الصوم هنا، قيل: هو أبو إسرائيل، ذكر الخطيب في كتاب (المبهمات): «أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- رآه يُهادَى بين ابْنَيه، وقد ظُلَّ عليه، فسأل عنه، فقالوا: نَذَرَ أنْ يمشي إلى بيت الله الحرام، فقال: إنَّ الله لَغَني عن تعذيب هذا نفسَه، مُرُوهُ فلْيَمْشِ ولْيركب».
وفي مسند أحمد ما يُشْعِر بأنه غير المظلَّل عليه، وهو «أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل المسجد وأبو إسرائيل يصلي، فقيل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: هو ذا يا رسول الله، لا يَقعد، ولا يُكلم الناس، ولا يَستظل، ولا يفطر، فقال: لِيَقْعُدْ ولْيَتكلم ولْيَستظل ولْيُفطر».
وقال بعضهم: زعم مغلطاي أنه أبو إسرائيل، وعزا ذلك إلى مبهمات الخطيب، ولم يقل الخطيب ذلك في هذه القصة، ثم أطال الكلام بما لا يفيده، فكيف يقول: زعم مغلطاي، وهو لم يزعم ذلك؟ وإنما قال: قيل: هو أبو إسرائيل، ثم قال أيضًا: وفي مسند أحمد ما يُشْعِر أنه غيره، وبيَّن ذلك، فهذا مجرد تشنيع عليه مع ترك محاسن الأدب في ذكره بصريح اسمه، وليس هذا من دأب العلماء، وقال صاحب (التوضيح) عندما ينقل عنه شيئًا: قال شيخنا علاء الدين (أي: مغلطاي). عمدة القاري (11/ 49).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «ورَجُلًا» قيل: اسم هذا الرجل أبو إسرائيل، ذكره الخطيب في كتاب المبهمات. نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار (8/ 326).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
أما الرَّجُل المبهم الَّذي ظُلِّل عليه، فلا أعلمه بعد الكشف عليه. العدة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام (2/ 870).
وقال السفاريني -رحمه الله-:
وبالجملة: فظنَّ مَنْ فَسَّرَ مَنْ ظُلِّلَ عليه في السفر بأبي إسرائيل أنَّ الواقعتين واحدة، والظاهر أنهما قضيتان، لا تعلُّق لإحداهما بالأخرى؛ لأنَّ مدار الحديث على جابر، وساقه في الصوم في السفر، وقد رُوي أنَّ قضية جابر كانت في الفتح على ما في الترمذي، أو في تبوك كما رواه الشافعي، وكانت بعدما أضحى النهار.
والحديث الثاني رواه مرفوعًا على ابن عباس، ومرسَلًا على حُميدِ بن قيس المكي الأعرج، وثورِ بن زيدٍ الديليِّ المدنيِّ.
فأما حديث ابن عباس ففي البخاري وأبي داود: بينما رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يخطب، إذا هو برجل قائم، فسأل عنه، فقالوا: أَبو إسرائيل نذرَ أنْ يقوم في الشمس، ولا يقعد، ويصومَ ولا يفطر، ولا يستظل ولا يتكلم، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: «مُروهُ فَلْيَسْتَظِلَّ، ولْيَقْعُدْ، ولْيَتَكَلَّمْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ».
وأما حديثُ حُميد وثورٍ، فأخرجه مالك في الموطأ: «رأى رَجُلًا قائمًا في الشمس..»، الحديث.
فالظاهر من سياق ذلك: أنه كان في الحضَر؛ بدليل قوله: «وهو يخطب»، وأيضًا ساقه في نذر ما لا يجوز، ومع تمام التَّأمُّل تعرف المغايرة بين الحديثين من عدة أوجه، واللَّه تعالى أعلم. كشف اللثام شرح عمدة الأحكام (3/ 545-546).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
وفيه: وقوع النكرة مبتدأ، والمسوِّغ هنا: كونُها بعد واو الحال. مصابيح الجامع (4/ 368).
قوله: «قد ظُلِّلَ عليه»:
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «قد ظُلِّل عليه» على صيغة المجهول. عمدة القاري (11/ 49).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «قد ظُلِّل عليه» أي: جُعِلَ عليه ظلٌّ؛ اتقاءً عن الشمس، أو إبقاءً عليه للإفاقة؛ لأنه سقط من شدة الحرارة، أو من ضعف الصوم، أو من الإغماء، وقيل: ضُرِبَ على رأسه مِظَلَّةٌ كالخيمة وشِبْهها، وقيل: ظُلِّل عليه بالقيام على رأسه من جوانبه...، وهو يدل على بلوغ العطش النهاية، وحرارة الصوم الغاية. مرقاة المفاتيح (4/ 1402).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- أيضًا:
«قد ظُلِّل عليه» بتشديد اللام الأُوْلى على بناء المفعول، أي: جُعل عليه شيء يُظِلُّه من الشمس؛ لغلبة العطش عليه، وحَرِّ الصوم، وفي رواية للنسائي: «رأى ناسًا مجتمعين على رَجُلٍ، فسأل، فقالوا: رجل أجْهَدَهُ الصوم»، وفي أخرى: «مرَّ برجل في ظل شجرة يُرَشُّ عليه الماء». مرعاة المفاتيح (7/ 6).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «قد ظُلِّل عليه» في رواية حماد المذكورة: «فَشَقَّ على رجلٍ الصوم، فجَعَلتْ راحلتُهُ تهيم به تحت الشجرة، فأُخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، فأمره أن يفطر» الحديث. فتح الباري (4/ 185).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «قد ظُلِّل عليه» كناية عن بلوغ الجهد، والطاقة في تأثير العطش، وحرارة الصوم. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1597).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«قد ظُلِّلَ عليه» أي: ضُرِبَ عليه مِظَلَّة؛ يعني: سقط مِن ضعف الصوم، أو أُغمي عليه، وجُعِلَ على رأسه ظِلٌّ. شرح المصابيح (2/ 530).
وقال السفاريني -رحمه الله-:
«قد ظُلِّلَ عليه» أي: فجُعل عليه شيءٌ يُظِلُّه من الشمس؛ لما حصل له، يعني: جُعل عليه شيء من شدة العطش، وحرارة الصوم، وقوله: «ظُلِّلَ» بضم الظاء مبنيًا للمفعول، والجملة حالية. كشف اللثام شرح عمدة الأحكام (3/ 546).
قوله: «فقال: ما هذا؟»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
فقال: «ما هذا؟» أي: ما هذا الزحام أو التظليل؟... ويحتمل: أنْ يكون (ما) بمعنى (من) أي: مَن هذا الساقط؟ مرقاة المفاتيح (4/ 1402).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «فقال» أي: فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما لِلرَّجُل؟» يعني: ما شأنه؟ وفي رواية النسائي: «ما بَالُ صاحِبِكم هذا؟» عمدة القاري (11/ 49).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
«فقال ما هذا؟» أي: ما حال صاحبكم هذا؟ وقيل: أي: ما هذا الزحام أو التظليل؟ مرعاة المفاتيح (7/ 6).
قوله: «فقالوا: صائمٌ»:
قال السفاريني -رحمه الله-:
ولابن عساكر: «قالوا» بإسقاط الفاء، «صائمٌ» خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هذا، أو هو صائم. كشف اللثام شرح عمدة الأحكام (3/ 547).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
«قالوا» أي: مَن حضر من الصحابة، «صائم» أي: وقد أجْهَدَه الصوم، وشقَّ عليه. مرعاة المفاتيح (7/ 6).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «قالوا: صائم» أي: ثمَّةَ صائم سقَطَ للضَّعْف. مرقاة المفاتيح (4/ 1402).
وقال العيني -رحمه الله-:
فقالوا: «صائمٌ» مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هو صائم. نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار (8/ 326).
قوله: «ليسَ مِن البِرِّ الصومُ في السفر»:
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «ليس من البِرِّ» أي: ليس من الطاعة والعبادة أن تصوموا في حالة السفر. نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار (8/ 326).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
«ليس من البِرِّ» بكسر الباء، أي: ليس من الطاعة والعبادة «الصوم في السفر». مرعاة المفاتيح (7/ 6).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
والبِرُّ: ضد الإثم، وهو اسم لكل طاعة وفعْلٍ صالح من الخير، وهذا الكلام نفي يتضمن نهيًا أو زجرًا، مع ذِكْر العِلة التي من أجلها نُفي ونُهي؛ وذلك أنَّ الصائم إنما يصوم اعتقادًا منه أنه يفعل فعلًا من أفعال الخير والبِرِّ، فيعرض في النهي إلى ذِكْر نفي البِرِّ الذي ظنَّه الصائم برًّا؛ حتى يكون ذلك أدعى إلى قبول القول، وأسرع به إلى الإفطار، وترك الصوم.
ودخول (مِن) في الجملة أحسن من إسقاطها؛ لأن الصوم ليس البر، إنما هو نوع من أنواعه...، ومع حذف (مِن) يجوز نصب الصوم والبِرِّ ورفعهما على جَرِّ (ليس) واسمها، إلا أنَّ رفْعَ الصوم ونَصْبَ البِرِّ أحسن لأمرين:
أحدهما: أنَّ الصوم في هذا المقام هو المخبَر عنه بالبِرَّ.
والثاني: دخول (مِنْ) في الرواية الأخرى، وهي مع ما دخلت عليه الخبر. الشافي في شرح مسند الشافعي (3/ 214).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
قلتُ: هذا كلام خرج على سبب، فهو مقصور على مَن كان في مثل حاله، كأنه قال: ليس من البِرِّ أنْ يصوم المسافر إذا كان الصوم يُؤَدِّيه إلى مثل هذه الحال، بدليل صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفره عام الفتح، وبدليل خبر حمزة الأسلمي، وتخييره بين الصوم والإفطار، ولو لم يكن الصوم بِرًّا لم يُخيِّره فيه، والله أعلم. معالم السنن (2/ 124).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«ليس من البِرِّ» أي: من العبادة «الصوم في السفر» أي: إذا بلغ بالصائم هذا المبلغ، ولا حجة فيه لبعض الظاهرية القائلين بعدم انعقاد الصوم في السَّفْرَةِ؛ لأنه عام ورد على سبب، فإن قيل: بخصوصية به، فلا حُجَّة فيه، وإلا حُمل حاله على مَن حاله مثل حال الرجل، مع أنَّ ما قالوه مردود بأخبار، كخبر: صومه -صلى الله عليه وسلم- حتى بلغ الكَدِيد موضع شمال مكة، وخبر: «فَمِنَّا الصائم، ومِنَّا المفطر». منحة الباري بشرح صحيح البخاري (4/ 387).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
«ليس من البِرِّ» هو ضد الإثم، فحَمَلَه الشافعي على مَن أبى قبول الرخصة، وقيل: المنفي البِرُّ الكامل. التوشيح شرح الجامع الصحيح (4/ 1447).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وروي هذا الحديث هنا: «ليس البر» بغير (مِنْ)، وقد رُوي من طريق أخرى: «ليس من البر»، وهي (مِنْ) الزائدة التي تُزاد لتأكيد النفي، وقد ذهب بعض الناس إلى أنها مُبعِّضَة هنا، وليس بشيء، وقد روى أهل الأدب: «ليس من امْبِرِّ امْصِيَامُ في امْسَفَرِ» فأبدلوا من اللام ميمًا، وهي لغة قوم من العرب، وهي قليلة، والله تعالى أعلم. المفهم (3/ 181).
وقال السفاريني -رحمه الله-:
أما رواية: «ليسَ من امْبِرِّ امْصِيامُ في امْسَفَرِ» بإبدال اللام ميمًا في لغة أهل اليمن، فهي في مسند الإمام أحمد. كشف اللثام شرح عمدة الأحكام (3/ 548).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
قال العلقمي: يجوز أنْ يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- تكلَّم بذلك لمن هذه لُغَته، أو تكون هذه لغة الراوي التي لا ينطق بغيرها، لا أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أبدل اللام ميمًا. السراج المنير شرح الجامع الصغير (4/ 173).
وقال الأزهري -رحمه الله-:
وَالْألف فِيهَا (أي: في «ليسَ من امْبِرِّ امْصيام في امسفر») ألفُ وصْلٍ، تُكتب وَلَا تُظهر إِذا وُصِلَت، وَلَا تُقطع كَمَا تُقطع ألف (أم). تهذيب اللغة (15/ 448).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
وقوله: «ليس من البِرِّ» (مِنْ) هنا يراد بها تأكيد النفي، وأبْعَدَ مَن ذهب أنها للتبعيض.
إذا تقرر ذَلِكَ، فإنْ احتجَّ ظاهريٌّ نخعي به، فقال: ما لم يكن من البِرِّ فهو من الإثم فدل أنَّ صيامه لا يجزئ في السفر.
فجوابه: أنَّ لفظه خرج على شيء مُعيَّن كما سبق في الحديث، ومعناه: ليس البِرُّ أن يبلغ الإنسان بنفسه هذا المبلغ كما أسلفناه، والله قد رخَّص في الفِطر، ويُصحِّحه صوم الشارع في شدة الحر وحاشاه من الإثم، فالمعنى: ليس هذا أثر البِرِّ؛ لأنه قد يكون الإفطار أبرَّ منه، إذا كان في حج، أو جهاد؛ ليقوى عليه. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (13/341- 342).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «ليس من البِرِّ الصيام في السفر» فإنه خَرَج على قوم سقطوا من جَهْد الصوم، حتى ظُلِّل عليهم، فيتناول مَن كان على مثل حالهم، وأما من لم يكن كذلك فحُكمه ما تقدَّم من التخيير بين الصوم والإفطار في السفر، وبهذا يرتفع التعارض بين الأحاديث، وتجتمع الأدلة كلها، ولا يحتاج إلى فرض النسخ؛ إذ لا تعارض، والله تعالى أعلم.
وقوله: «ليس من البِرِّ الصيام في السفر» هذا القول وقوله: «أولئك العُصَاة» من حديث جابر، الظاهر: أنَّ القضية واحدة، وأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال القولين في تلك القضية الواحدة، وقد تأوَّل بعض علمائنا قوله: «ليس من البِرِّ» أي: البر الواجب، وهذا التأويل إنما يحتاج إليه مَن قَطَعَ الحديثَ عن سببه، وحمَلَه على عمومه، وأما على ما قرَّرناه؛ فلا حاجة إليه. المفهم (3/ 181).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
أُخذ من هذا: أنّ كراهة الصوم في السَّفر لمن هو في مثل هذه الحالة، ممن يجهدهُ الصوم ويَشقُّ عليه، أو يُؤَدِّي به إلى ترك ما هو أَولى من القُربات، ويكون قوله «ليس مِن البِرِّ الصيام في السَّفر» مُنزلًا على مثل هذه الحالة.
والظاهرية المانعون من الصوم في السفر يقولون: إنّ اللفظ عام، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ويجب أنْ تتنبه للفرق بين دلالة السِّياق والقرائن الدَّالة على تخصيص العام، وعلى مُراد المتكلم، وبين مجرد وُرُودِ العام على سبب، ولا تجريهما مجرى واحدًا، فإن مُجرد وُرُودِ العام على السبب لا يقتضي التخصيص به، كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}المائدة: 38 بسبب سَرقة رداءٍ صفوان. وأنه لا يقتضي التخصيص به بالضرورة والإجماع.
أما السياق والقرائن: فإِنها الدَّالة على مُراد المتكلم من كلامه، وهي المرشدة إلى بيان المجملات، وتعيين المحتملات.
فاضبط هذه القاعدة، فإنها مُفيدة في مواضع لا تُحصى. وانظر في قوله -صلى الله عليه وسلم -: «ليس من البِرِّ الصيام في السفر» مع حكاية هذه الحالة من أي القبيلتين هو؟ فنزله عليه.إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام(2/21).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قال ابن المنير في "الحاشية" هذه القصة تُشعر بأن من اتفق له مثل ما اتفق لذلك الرجل أنه يساويه في الحكم وأما من سلم من ذلك ونحوه فهو في جواز الصوم على أصله والله أعلم.
وحَمَل الشافعي نفي البِرِّ المذكور في الحديث على مَن أَبى قبول الرُّخصة فقال: معنى قوله: «ليس من البر...» أن يبلغ رجل هذا بنفسه في فريضة صوم ولا نافلة، وقد أرخص الله تعالى له أن يَفطر، وهو صحيح، قال: ويحتمل أنْ يكون معناه ليس من البر المفروض الذي مَن خالفه أَثم، وجزم ابن خزيمة وغيره بالمعنى الأول.
وقال الطحاوي: المراد بالبِّر هُنا البرّ الكامل الذي هو أَعلى مراتب البِرِّ، وليس المُراد به إخراج الصوم في السفر عن أن يكون برًا؛ لأن الإفطار قد يكون أَبر من الصوم إذا كان للتقوي على لقاء العدو مثلا قال وهو نظير قوله -صلى الله عليه وسلم- «ليس المسكين بالطواف...» الحديث، فإنه لم يَرد إخراجه من أَسباب المسكنة كُلها وإِنما أَراد أنَّ المسكين الكامل المسكنة الذي لا يَجد غِنى يُغنيه ويَستحي أَن يسأل ولا يُفْطَن له.فتح الباري(/10421).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «ليس من البِرِّ الصوم في السفر» قد مرَّ تفسير البِرِّ آنفًا، وتمسك بعض أهل الظاهر بهذا، وقال: إذا لم يكن من البِرِّ فهو من الإثم، فدل أنَّ صوم رمضان لا يجزئ في السفر.
وقال الطحاوي: هذا الحديث خرَجَ لفظُه على شخصٍ مُعينٍ، وهو المذكور في الحديث، ومعناه: ليس البِرُّ أن يبلغ الإنسان بنفسه هذا المبلغ، والله قد رخص في الفطر.
والدليل على صحة هذا التأويل: صومه -صلى الله عليه وسلم- في السفر في شدة الحر، ولو كان إثمًا لكان أبْعَدَ الناس منه، أو يقال: ليس هو أَبَرّ البِرِّ؛ لأنه قد يكون الإفطار أَبَرَّ منه؛ للقوة في الحج والجهاد وشِبههما. عمدة القاري (11/ 49).
وقال القاضي البيضاوي -رحمه الله-:
ذهب جمهور العلماء إلى أنَّ المسافر سفرًا طويلًا مباحًا مُخيَّر في الصوم والفطر؛ لحديث عائشة وأبي سعيد المذكور قبل هذا الحديث، ورُوي عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا: يجب عليه الفطر، ولا يجوز له الصوم، وإليه ذهب داود؛ لظاهر هذا الحديث؛ ولما رُوي أنه بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّ ناسًا صاموا، فقال: «أولئك العصاة»، وهو ضعيف؛ إذ يصح منه -عليه السلام- وممن كانوا معه في الأسفار أنهم صاموا من غير نكير.
وهذا الحديث لا يدل على حرمة الصوم؛ فإنَّ عدم كونه من البِرِّ لا يدل على عدم جوازه، ثم إنه مخصوص بسببه، مقصور على مَن يَجْهَدُهُ الصوم، ويؤديه إلى مثل حال ذلك الرجل، والحديث الثاني فيمن أبى قلْبُه عن قبول رخصة الله تعالى، فأما مَن اعتقد أنَّ الفطر مباح، ولا يتأذَّى بالصوم فهو أفضل له من الفطر؛ لأنه أخذ بالحزم، واقتناصٌ لفرصة الأداء، وفضْل الوقت، وبه قال أنس وعثمان بن العاص والنَّخَعِي وسعيد بن جُبير، وابن المبارك ومالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/ 501-502).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
فقال: «ليس من البِرِّ الصيام في السفر» فلا يحسُن الصوم فيمن يلحقه ضرر شديد بالصوم. شرح المصابيح (2/ 530).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
فيكون اللام (في الصوم) للعهد؛ أي: هذا الصوم الواقع في هذه الحالة، لا لاستغراق الجنس، وإلى هذا المعنى يشير تبويب البخاري، قال: باب: قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن ظُلِّلَ عليه: «ليس من البِرِّ الصيام في السفر». مصابيح الجامع (4/ 369-370).
وقال الدماميني -رحمه الله- أيضًا:
«ليس من البِرِّ» تعلَّق به بعضُ الظاهرية في أنَّ الصوم لا ينعقد في السفر، ويردُّه حديثُ صومه -صلى الله عليه وسلم- حتى بلَغ الكَدِيد، وحديث: «فمِنَّا الصَّائِم، ومِنَّا المُفْطِر» وغير ذلك.
نعَم اختُلف في الأفضل، قيل: الصَّوم مطلقًا، وقيل: الفِطْر مطلقًا، والأكثر أنَّ الصوم أفضل لمن لا يتضرَّر به، وعليه يُحمَل «ليس من البرِّ» أي: لمن تضرَّر به. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (6/ 419).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
فمَن بلغ به الصوم إلى مثل ذلك الضرر، فليس صومه من البِرِّ؛ لأن الله -سبحانه- قد رخَّص له في الإفطار. السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار (ص: 286).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
يعني: إذا بلغ الصوم من أحدكم هذا المبلغ، والله أعلم، والدليل على صحة هذا التأويل: صوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في السفر، ولو كان الصوم في السفر إثمًا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبْعَدَ الناس منه، ويحتمل: قوله -عليه السلام-: «ليس من البِرِّ الصيام في السفر» هو أَبَرُّ البِرِّ؛ لأنه قد يكون الإفطار أَبَرَّ منه، إذا كان في حج أو جهاد؛ ليقوى عليه، وقد يكون الفطر في السفر المباح برًّا؛ لأن الله تعالى أباحه. الاستذكار (3/ 304).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
أُخذ من هذا (الحديث): أنَّ كراهة الصوم في السفر لمن هو في مثل هذه الحالة، ممن يجهده الصوم، ويشق عليه، أو يؤدِّي به إلى ترك ما هو أولى من القربات، ويكون قوله: «ليس من البِرِّ الصيام في السفر» مُنزَّلًا على مثل هذه الحالة، والظاهرية المانعون من الصوم في السفر يقولون: إنَّ اللفظ عام، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ويجب أنْ تَتَنَبَّه للفرْق بين دلالة السياق والقرائن الدالة على تخصيص العام، وعلى مراد المتكلِّم، وبين مجرد ورود العام على سبب، ولا تجريهما مجرى واحدًا؛ فإن مجرَّد ورود العام على السبب لا يقتضي التخصيص به، كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} المائدة: 38؛ بسبب سرقة رداء صفوان، وأنه لا يقتضي التخصيص به بالضرورة والإجماع.
أما السياق والقرائن: فإنها الدالة على مراد المتكلِّم من كلامه، وهي المرشِدة إلى بيان المجْمَلات، وتعيين المحْتَملات، فاضْبُط هذه القاعدة، فإنها مفيدة في مواضع لا تحصى. وانظر في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ليس من البِرِّ الصيام في السفر» مع حكاية هذه الحالة من أي القَبِيلَين هو؟ فنزِّلْه عليه، وقوله: «عليكم بِرُخْصَةِ الله التي رَخَّص لكم» دليل على أنه يُستحب التَّمَسُّك بالرخصة إذا دعت الحاجة إليها، ولا تُترَك على وجه التشديد على النفس، والتنطُّع والتعمق. إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (2/ 21).
وقال الكشميري -رحمه الله-:
ذهب داود الظاهريُّ إلى أنَّ الصومَ في السفر باطلٌ؛ لأجل هذا الحديث، وذهب الفقهاءُ الأربعةُ إلى أنه أفضلُ لمن استطاع، ولم يَشُقَّ عليه.
وأجاب الجمهورُ عن الحديث المذكور بأنه محمولٌ على المَشَقَّة، كما أشار إليه البخاريُّ في الترجمة، ودَلَّ عليه مَوْرِدُ نُطْقِه.
قلتُ: وقد أَصَابُوا في ذلك، إلَّا أنهم لم يَذْكُرُوا وِجْهَةَ التعميم في الحديث أيَّ عمومٍ؟ فإنه يَدُلُّ على أنَّ الصومَ في السفر ليس من البِرِّ في شيءٍ، وقد عضَّ به الظَاهريُّ بالنواجذ، وقضى بمقتضاه.
قلتُ: وانْكَشَفَ عندنا مِن غير واقعةٍ واحدةٍ أنَّ الصومَ في السفر جائزٌ، وإِذَنْ فليس مَدَار المسألة على التعبير، نعم نَطْلُب له وجهًا، فإنْ انكشف فيها وإلا فالمسألةُ بحالها، فإنَّ التعاملَ أبينُ حُجَّةً، ولم أَرَ أحدًا منهم توجَّه إلى بيان وجه هذا التعبير، وها أنا ذا أُلْقي عليك ما سَنَحَ لي فيه، وقد وَعَدْنَاك في الإِيمان: أنَّا نَذْكُرُ لك في الصيام سرَّ نفي البِرِّ عمَّا يكون من أبرِّ البرِّ.
فاعلم أنَّ الحديثَ مُقْتَبَسٌ من قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} البقرة: 177.. إلخ، وفي مثله ينبغي النظر في المُقْتَبَس عنه؛ لأن المُقْتَبَس يكون تابعًا له في التعبير، وإذَنْ التعميمُ في قوله -صلى الله عليه وسلّم- ليس قَصْدِيًّا وابتدائيًّا، بل جاء لحال الاقتباس، نعم، يكون مقصودًا في المُقْتَبَس عنه.
فأقولُ: إنَّ النصَّ وَرَدَ لإِصلاح الطبائع السافلة التي تكون لهم بالأمور الصغار عنايةٌ، ولا تكون لهم بالأمور المهمَّة عباية، كما ترى اليهودَ، فإنَّ جُلَّ بحثهم كان مقصورًا على أمر التحويل، وأنَّ القِبْلَةَ هي بيت الله أو بيت المقدس، ولا يَدْرُونَ أنَّ التوجُّهَ ليس لكون الله -سبحانه- في تلك الجهة {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} البقرة: 115، فليس هذا بأمرٍ أهمٍّ، ولم يكن لهم بحثٌ عما هو مِلاك الأمر ومَدَارُ النجاة، وهو الإِيمان بالله، والإِيمان بالرسول، فينبغي لهم أن يَهْتَمُّوا بهذا البرِّ الذي لا برَّ فوقه، لا أن يَشْغَفُوا بما لا يُغْنِيهم، ويَلْهُوا عما يعنيهم.
وهكذا فيما نحن فيه، شقَّ على بعضهم الفِطْرُ، وهم في شهر رمضان، فلم يُفْطِرُوا حتى غُشِيَ عليهم، ولم يَنْظُرُوا إلى أنَّ الصومَ بهذه المشقَّة يوجبُ النقصانَ في كثيرٍ من الفرائض، فالذي ينبغي أن يُرَاعَى الأهمُّ فالأهمُّ، ويُعْمَلَ بالرُّخَصِ عند تعسُّر العمل بالعزيمة.
وبعبارةٍ أخرى: إنَّ قلَّة الفِقْه مع حُسْنِ النيَّة قد يُوجبُ الاهتمام في الأمور اليسيرة، والتغافُل عن الأمور العظيمة، وهذا الاهتمامُ والاحتياطُ قد يَعُودُ وَبَالًا في حقِّه، فنبَّه عليه الشرعُ، أنْ يقدِّم الأَقْدَمَ فالأَقْدَمَ، وفي مثله يأتي هذا التعبير...، ولعلَّك عَلِمْتَ منه أنَّ نفيَ البرِّ في النصِّ مَقْصُودٌ ومرادٌ، وفي الحديث اقتباسٌ منه، والكلامُ في مثله إنما يجري في الأصل المُقْتَبَس عنه. فيض الباري على صحيح البخاري (3/ 349-350).
قوله: «وعليكم برخصة الله»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قوله: «عليكم برخصة الله» «عليكم» اسم فعل منقول من الجار والمجرور، بمعنى: (الزموا)، و«برخصة الله» الباء زائدة، و«رخصة الله» مفعول به لـ«عليكم»، وقيل: إن الباء للتعدية، فيكون المعنى استمسكوا برخصة الله.
والرخصة...: التسهيل في الأمر والتيسير فيه.
والمعنى هنا: استمسكوا بتسهيل الله تعالى لكم فيما شرع لكم من الفطر في السفر، كما قال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} البقرة: 185 الآية. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (21/ 148).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«عليكم برخصة الله» وهي الفِطر في السفر. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 144).
قوله: «التي رخَّص لكم فاقبلوها»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قوله: «الذي رَخَّص لكم» ببناء الفعل للفاعل، والموصول صفة و«الله»، وفي نسخة: «التي رخص لكم»، وعليها فالموصول صفة لـ«رخصة»، والفعل.
يحتمل: أن يكون مبنيًا للفاعل، والعائد محذوف، أي: التي رخصها لكم.
ويحتمل: أن يكون مبنيًا للمفعول، أي: التي رُخْصِتَ لكم، فالعائد مستتر، فتنبه. البحر المحيط الثجاج (21/ 107-108).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
وقوله: «عليكم برخصة الله..» دليل على أنه يستحب التمسك بالرخصة إذا دعت الحاجة إليها، ولا تترك على وجه التشديد على النفس والتَّنطع والتَّعمق. إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (2/ 21).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«عليكم برخصة الله..» دليل على أنه يُندب التمسك بالرخصة إذا دعت الحاجة إليها، وترك التَّنطع والتَّعمق، ومَن لم يشق عليه الصوم فهو له أفضل مسارعة لبرأة الذمة، ولفضيلة الوقت. مرقاة المفاتيح (4/ 1401).
وقال العظيم أبادي -رحمه الله-:
وأما قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «عليكم برخصة الله...» فهذا يدل على أن قبول المكلف لرخصة الله واجب وهذا حق، فإنه متى لم يقبل الرخصة ردها ولم يرها رخصة وهذا عدوان منه ومعصية، ولكن إذا قبلها فإن شاء أخذ بها وإن شاء أخذ بالعزيمة. عون المعبود (7/ 35).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
وفيه: دليل على الأخذ بالرُّخصة، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما تؤتى عزائمه».
وقد قال الفقهاء: الرُّخصة إذا وقعت عمَّت، لكن عمومها إنما هو في المحل الذي وقعت من أجله، والله أعلم. العدة في شرح العمدة (2/872).
قال السفاريني -رحمه الله-:
في هذا دليل على استحباب التمسك بالرخصة إذا دعت الحاجة إليها، ولا يمشي مع النفس على وجه التشديد والتنطع والتعمق، فربما كان ذلك من دسائسها الخفية، وآفاتها المخفية، والله الموفق. كشف اللثام شرح عمدة الأحكام (3/ 549).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
وفي الحديث: دليل على شرعيَّةِ السؤال عن أمور الناس وأحوالهم، في اجتماعهم وافتراقهم لولاة الأمور والعلماء؛ ليرشدوهم إلى الصواب والعمل به، وأنَّ ذلك ليس مما لا يعني.
وفيه: دليل على أنَّ البِرَّ ليس مطلقًا، بل مقيَّد بالشَّرع.
وفيه: دليل على الأخذ بالرخصة، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ الله يحبُّ أن تُؤْتى رُخَصُه، كما تُؤْتى عَزائمُه».
وقد قال الفقهاء: الرخصة إذا وقَعَتْ، عمَّتْ، لكن عمومها إنما هو في المحل الَّذي وقعَت من أجله، والله أعلم. العدة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام (2/ 871-872)
وقال الشيخ عبد الله البسام -رحمه الله-:
ما يُؤخذ من الحديث:
1- جواز الصيام في السفر، وجواز الأخذ بالرخصة بالفطر.
2- أنَّ الصيام في السفر ليس بِرًّا، وإنما يُجزئ ويُسقط الواجب.
3- أنَّ الأفضل إتيان رُخَص اللَه تعالى التي خفَّف بها على عباده. تيسير العلام شرح عمدة الأحكام (ص: 327).