قال أبو وائِلٍ: خَطَبَنَا عَمَّارٌ فَأَوْجَزَ وَأَبْلَغَ، فلمَّا نَزَلَ قلنا: يا أبا اليَقْظَانِ، لقد أَبْلَغْتَ وأَوْجَزْتَ، فلو كنت تَنَفَّسْتَ، فقال: إنِّي سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقولُ: «إنَّ طُولَ صلاةِ الرَّجلِ، وقِصَرَ خُطْبَتِهِ، مَئِنَّةٌ مِن فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصلاة، واقْصُرُوا الخُطبة، وإنَّ مِن البيانِ سِحْرًا».
رواه مسلم برقم: (869)، من حديث عمار بن ياسر -رضي الله عنهما-.
وبنحوه عند البخاري برقم: (5767)، من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«فَأَوْجَزَ»:
أي: اخْتَصَر، والإيجاز: خلاف الإطناب، والمراد به تقليل الألفاظ مع كمال المراد. التحبير، للصنعاني (5/ 688) والكوكب الوهاج، للهرري (10/ 346).
«وَأَبْلَغَ»:
أي: أبلغ المراد، فلم يجوِّز إيجازًا يُخِلُّ. التحبير، للصنعاني (5/ 688).
«تَنَفَّسْتَ»:
أي: مَدَدْتَ الكلام قليلًا، وهو مُشَبَّه بمَدِّ النَّفَس. كشف المشكل، لابن الجوزي (1/ 347).
«مَئِنَّةٌ»:
بفتح الميم، ثم همزة مكسورة، ثم نون مشددة، أي: علامة. شرح صحيح مسلم للنووي (6/ 158).
قال ابن الجوزي -رحمه الله-:
أي: علامة يعرف بها فقهه وفهمه. غريب الحديث (1/ 46).
«البيانِ»:
إظهار المقصود بأبلغ لفظ، وهو من الفهم، وذكاء القلب، وأصله الكشف والظهور. النهاية، لابن الأثير (1/ 174).
«سِحْرًا»:
أي: بعضُ البيان يَعْمَلُ عمل السِّحر. شرح المصابيح، لابن الملك (2/ 238).
شرح الحديث
قوله: «خطبنا عمارٌ فأَوْجَزَ وأَبْلغ»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «فأَوجز» أي: اخْتَصَر عمارٌ في خطبته من حيث اللفظ، والإيجاز: تقليل الألفاظ مع كثرة المعاني، «وأَبْلَغَ» فيها من حيث المعنى، أي: خَطَبَ خطبة بليغة في المعنى، مع إيجاز لفظها، والبلاغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (10/ 346).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «فأوجز» الإيجاز: خلاف الإطناب، والمراد به: تقليل الألفاظ مع كمال المراد؛ ولذا قال: «وأبْلَغَ» أي: أبلغ المراد، فلم يجوِّز إيجازًا يُخِلُّ. التحبير لإيضاح معاني التيسير (5/ 688).
وقال محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فأَوْجَزَ وأَبلغ» أي: أبْلَغَ في المعنى، وأوْجَزَ في اللفظ، وهذه هي المسماة بالبلاغة والفصاحة عند علماء البلاغة. البحر المحيط الثجاج (17/ 308).
قوله: «فلمَّا نزلَ قلنا: يا أبا اليَقْظَانِ، لقد أَبْلَغْتَ وأَوْجَزْتَ»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فلما» فرغ منها، و«نزل» من المنبر «قلنا» له معاشر الحاضرين: «يا أبا اليقظان» كُنية عمار: والله «لقد أبْلَغْتَ وأَوْجَزْتَ» في خطبتك، أي: خطبتَ لنا خطبة بليغة من حيث المعنى، مُوجَزة من حيث اللفظ. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (10/346- 347).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فلمّا نزل» أي: عن خطبته، أو عن منبره «قلنا: يا أبا اليقظان» هي كناية عمَّار. التحبير لإيضاح معاني التيسير (5/ 688).
قوله: «فلو كنت تَنَفَّسْتَ»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «فلو كنتَ تنفَّسْتَ» أي: إطالة الخطبة. التحبير لإيضاح معاني التيسير (5/ 688).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فلو كنتَ» يا أبا اليقظان «تنفَّستَ» فيها، أي: أطْلَتَ قليلًا، «فلو» إما شرطية حُذف جوابها؛ لعلمه من السياق، أي: لو تأخَّرتَ فيها، وأَطَلْتَها لنا قليلًا؛ لكان خيرًا لنا، أو للتمني، لا جواب لها، أي: نتمنى تنفُّسَك وتأخُّرك فيها؛ لكونها بليغة مفيدة لنا. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (10/ 347).
قوله: «فقال: إنِّي سمعتُ رسولَ اللهِ -صلَّى الله عليه وسلَّم يقولُ»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فقال» عمار: لا ينبغي لي، ولا يليق بي، أنْ أتنفَّس فيها، فـ«إني سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم يقول-». الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (10/ 347).
قوله: «إنَّ طُولَ صلاةِ الرَّجلِ»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«إنَّ طول صلاة الرجل» بالنسبة إلى الخطبة، لا تطويلها بحيث يشق على الناس، فيكون المراد: القصد في التطويل. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (10/ 347).
وقال المغربي -رحمه الله-:
والمراد بطول الصلاة هنا: هو الطول غير المنهي عنه، وهو ما اقتُفي فيه بالسُّنة النبوية، وقد ثبت عنه قراءة سورة الجمعة والمنافقين في صلاة الجمعة. البدر التمام شرح بلوغ المرام (3/ 420).
قوله: «وقِصَرَ خُطْبَتِهِ»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «وقِصَرَ» بكسر القاف، وفتح الصاد المهملة «خطبته» التي يخطبها عند حاجته، أو خطبة جمعته. التنوير شرح الجامع الصغير (4/ 8).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«وقِصَرَ خطبته» الذي هو وضْعها بالنسبة إلى الصلاة، فلا يعارِض حديث الأمر بتخفيف الصلاة، كما مرَّ آنفًا. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (10/ 347).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
هل يُستفاد منه (هذا الحديث): أنَّ الخُطَب خاصة بالرجال (أي: لقوله «الرَّجلِ») أو يقال: إنَّ الجمعة فقط هي الخاصة بهم؟
الظاهر أنَّ المراد: الجمعة، وإلا قد تَقُوم المرأة خطيبة للنساء في مصلحة من المصالح، ولا حرج في هذا. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (2/ 337).
قوله: «مَئِنَّةٌ مِن فِقْهِهِ»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله:«مَئِنَّة مِن فِقْهِهِ» الرواية في هذا اللفظ: «مَئِنَّة» بالهمز والقصر، وتشديد النون، ووقع لبعضهم: «مَائنَّة» بالمدِّ، وهو غلط. المفهم (2/ 503).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «مَئِنَّةٌ مِن فقه الرَّجُل» كذا رويناه عن أكثَرهم ومتقنيهم فِي الصَّحيح وغيره من كتب الحديث والشروح، بقصر الألف ونون مُشَدَّدَة وآخره تاء منوَّنة، وقد خلط فيها كثير من الرواة بألفاظ كلهَا تصحيف ووهم، وكان في كتاب القاضي أبي عليٍّ، والفقيه أبي محمَّد بن أبي جعفر «مائنة» بالمد، وبعضهم يقوله بهاء الكناية، كأنَّه يجْعَل (ما) بمعنى الذي، وأنه للتَّأكيد، وكله خطأ ووهم، والحرف معلوم محفوظ على الصَّواب، كما قدمناه. مشارق الأنوار على صحاح الآثار (1/ 45).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«مَئِنَّةٌ» بفتح الميم، وكسر الهمزة، وحُكي فتحها، وتشديد النون. فتح الإله في شرح المشكاة (3/269).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- مُعلِّقًا:
وأما قول ابن حجر (الهيتمي): وحُكي فتح الهمزة، فغير ثابت في الأصول. مرقاة المفاتيح (3/ 1043).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «مِن فِقْهِهِ» محل تحقق لكونه فقيهًا؛ وذلك لأنَّ الخطاب خطاب للعباد، والصلاة مناجاة للرب تعالى، فإطالته المناجاة لمولاه على خطاب عبيده دليل محبته له، ودليل فقهه. التنوير شرح الجامع الصغير (4/ 8-9).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
«مِن فِقْهِهِ» أي: مما يُعرَف به فقه الرَّجُل، وكل شيء دل على شيء فهو مَئِنَّة له...، وإنَّما كان قِصَرُ الخطبة علامة على فقه الرَّجُل؛ لأنَّ الفقيه هو المطَّلع على حقائق المعاني، وجوامع الألفاظ، فيتمكَّن من التعبير بالعبارة الجزلة المفيدة. سبل السلام (1/ 403).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «من فِقْهِهِ» أي: علامةً يتحقَّق بها فقهه...؛ لأن الصلاة مقصودة بالذات، والخطبة توطئة لها، فتُصْرَف العناية إلى الأهم، كذا قيل، أو لأنَّ حال الخطبة توجّهُه إلى الخَلْق، وحال الصلاة مقصَدُه الخَالِق، فمِن فَقاهة قلبه إطالة معراج ربه...؛ ولأن الصلاة هي الأصل، والخطبة هي الفرع، ومن القضايا الفقهية أنْ يُؤْثَر الأصل على الفرع بزيادة. مرقاة المفاتيح (3/ 1043).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
وإنَّما صار علامةً للفقه؛ لأنَّ الفقيه يَعلم أنَّ الصلاة مقصودةٌ بالذات، والخطبةَ توطِئةٌ لها، فيصرِفُ العناية إلى ما هو الأهمُّ. شرح المصابيح (2/ 238).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «من فقهه» أي: على فقهه في الدِّين، فـ«من» بمعنى (على). الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (10/ 347).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«مَئِنَّةٌ من فقه» أي: مِن فَهْمِهِ في دين الله، بل ومِن فَهْمِهِ لأحوال الناس أيضًا، فكلمة (فِقه) هنا ينبغي أنْ نجعلها شاملة لفقه الشرع ولفقه أحوال الناس؛ وذلك لأنَّ الإنسان في فرائضه يُناجي ربه، فكلما طالت هذه المناجاة فلا شك أنَّه أفضل، وأمَّا في الخطبة فهو يعِظُ الناس ويرشدهم، وكلما قصَّر كان أكمل وأنفع. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (2/ 337).
وقال السنوسي -رحمه الله-:
قوله: «مِن فقهه» صفة لـ«مَئنَّة» أي: مَئنَّة ناشئة من فقهه، ويحتمل: أنْ تكون «من» بمعنى (على). مكمل إكمال الإكمال (3/25).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «مَئِنَّةٌ» أي: علامة، يعني: السُّنَّةُ قِصَرُ الخطبة، وطولُ الصلاة، فمَن فعلَ هذا ففِعْلُه يدلُّ على أنَّه عالمٌ فقيهٌ بالحديث. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 328).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
ووجه دلالة ذلك على فقهه: أنَّ الصلاة أصل مقصود بالذات، والخطبة تقدمة وتوطئة لها، وما هو بالذات مقصود أحق بالاهتمام والتطويل مما هو سببه، ومقصود من يتبعه، فلما آثر الخطيب ذلك دلَّ على علمه بهذه القضايا، فإنَّ الفعل المتْقَن يدلُّ على علم فاعله، وأنَّ الصلاة تعبُّد ليس للإمام فيها مزيد تصرف، فاقتصارها غالبًا لا يخلو عن ترك أو استعجال، ولا كذلك الخطبة، فإنَّها منوطة ببلاغة الخطيب، فكم من قائل طوَّل ولم يُعْرِب عما هو المقصود، وكم من بليغ يجمع في كلمات معدودة معاني جمة، فيستغني بها عن الإطالة، فإذا أطال الصلاة، وخفَّف الخطبة مع الإتمام والتكميل، دلَّ ذلك على علمه بأحوال الصلاة، وحُسن تعهده لها، وكمال فصاحته. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/ 392-393).
قوله: «فَأَطِيلُوا الصلاة»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فـ» إذا عرفتم ذلك أيها الناس «أطيلوا» بهمزة قطع من الإطالة، أي: أطيلوا أيها الأئمة «الصلاة» بالنسبة إلى قِصَرِ الخطبة، لا تطويلها في نفسها، بحيث يشق على المأمومين، فلا ينافي حديث الأمر بتخفيف الصلاة. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (10/ 347).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«فأطيلوا» أيها الأئمة الخطباء «الصلاة» أي: صلاة الجمعة، «واقصروا الخطبة» لأنَّ الصلاة أفضل مقصود بالذات، والخطبة فرع عليها. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 322).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فأطيلوا الصلاة» بحيث لا تكونوا فتَّانين، كما قال لمعاذ: «أفَتَّانٌ أنت يا معاذ؟». التنوير شرح الجامع الصغير (4/ 9).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
والمراد مِن طول الصلاة: الطُّول الذي لا يدخل فاعله تحت النهي، وقد كان يصلي -صلى الله عليه وسلم- الجمعة بالجمعة والمنافقين؛ وذلك طُوْلٌ بالنسبة إلى خطبته، وليس بالتطويل المنهي عنه. سبل السلام (1/ 404).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
المراد بهذا الطول: ما يكون على وفاق السُّنة، لا قاصرًا عنها، ولا فاضلًا عليها؛ ليكون توفيقًا بين هذا وبين الحديث الأول (أي: «فكانت صلاتُه قَصْدًا، وخُطْبَتُه قَصْدًا»). شرح المصابيح (2/ 238).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- مُعلِّقًا:
لا تنافي بينهما، فإنَّ الأول دل على الاقتصاد فيهما، والثاني على اختيار المزية في الثانية منهما، ولا ينافي هذا ما ورد في مسلم «أنَّه -صلى الله عليه وسلم- صلى الفجر، وصعد المنبر، فخطب إلى الظهر، فنزل وصلى، ثم صعد وخطب إلى العصر، ثم نزل وصلى، ثم صعد وخطب إلى المغرب، فأخبر بما كان، وما هو كائن» اهـ؛ لوروده نادرًا (لأمر) اقتضاه؛ ولكونه بيانًا للجواز، وكأنَّه كان واعظًا، والكلام في الخطب المتعارفة. مرقاة المفاتيح (3/ 1043).
قال النووي -رحمه الله-:
وليس هذا الحديث مخالِفًا للأحاديث المشهورة في الأمر بتخفيف الصلاة، لقوله في الرواية الأخرى: «وكانت صلاته قصدًا، وخطبته قصدًا»؛ لأن المراد بالحديث الذي نحن فيه أنَّ الصلاة تكون طويلة بالنسبة إلى الخطبة، لا تطويلًا يشقُّ على المأمومين، وهي حينئذٍ قصد، أي: معتدلة، والخطبة قصد بالنسبة إلى وضعها. شرح مسلم (6/158- 159).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
أما طول الصلاة فالمراد أنْ تكون كصلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- ليست طويلة؛ لأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أنكر على مُعاذ إطالته في صلاة العشاء، وأنكر على الرَّجُل الآخر إطالته في صلاة الفجر، وقال: «أيها الناس، إنَّ منكم مُنَفِّرين» فالمراد بطول الصلاة هنا الطول الموافِق لصلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، هذا إذا كان الإنسان إمامًا، وأما إذا صلى لنفسه فليُطَوِّل ما شاء. شرح رياض الصالحين (4/ 79).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
فجعل طول الصلاة علامة على فقه الرجل، وأمر بإطالتها، وهذا الأمر إما أن يكون عامًّا في جميع الصلوات، وإمَّا أنْ يكون المراد به صلاة الجمعة، فإنْ كان عامًّا فظاهر، وإنْ كان خاصًّا بالجمعة مع كون الجَمْع فيها يكون عظيمًا، وفيه الضعيف والكبير وذو الحاجة، وتُفعل في شدة الحر، ويتقدمها خطبتان، ومع هذا فقد أمر بإطالتها، فما الظن بالفجر ونحوها التي تُفعل وقت البرد والراحة مع قلة الجَمْع؟! تهذيب سنن أبي داود (1/ 166).
قوله: «وأقصروا الخطبة»:
قال النووي -رحمه الله-:
قوله: «واقصروا الخطبة» الهمزة في «واقصروا» همزة وصل. شرح صحيح مسلم(6/158- 159).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«واقصروا الخطبة» باختيار جوامع الكلم لها. التنوير شرح الجامع الصغير (4/ 9).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «واقصروا الخطبة»... أي: اجعلوها قصيرة بالنسبة إلى الصلاة؛ لأنها توطئة للصلاة، لا مقصودة بذاتها، والعياذ بالله تعالى مما يفعله أهل عصرنا من خلاف السُّنة. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (10/ 347).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
وأيضًا: فإنَّ الصلاة عبودية العبد، والإطالة فيها مبالغة في العبودية، والخطبة المراد منها التذكير، وما قلَّ وقرَّ، خير مما كثر وفرَّ. دليل الفالحين (5/ 170).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
وهذا وإن كان ظاهرًا في خطبة الجمعة، فهو عام أيضًا حتى في الخطب العارضة، لا ينبغي للإنسان أنْ يطيل على الناس، وكلما قصر كان أحسن لوجهين:
الوجه الأول: ألا يمل الناس.
الوجه الثاني: أنْ يستوعبوا ما قال؛ لأن الكلام إذا طال ضَيَّعَ بعضه بعضًا، فإذا كان قصيرًا مهضومًا مستوعبًا انتُفع به، وكذلك لا يلحقهم الملل. شرح رياض الصالحين (4/ 79).
وقال الشيخ ابن جبرين -رحمه الله-:
المراد بالخطبة القصيرة التي تبلغ مثلًا عشرين دقيقة، أو ثلاثين دقيقة، فهذه تعتبر قصيرة، أما الطويلة فهي التي تستغرق ساعة أو ساعتين، هذه هي الخطبة الطويلة التي نهى عنها، إذًا هو الوسط في اختيار الخطب، وبذلك يعرف أنَّ الحكمة من الخطبة هو التعليم؛ وذلك لأن الكثير من الناس لا يسمعون إلا إلى الخطب، ولا ينصتون إلا للخطبة، إذا قام واعظ يعظهم بعد الصلاة نَفَرَ الكثير منهم، ولم يبق إلا أفراد، وإذا كان هناك محاضرات في أماكن كالمساجد ونحوها لم يحضر إلَّا قلة قليلة، أما الأكثرون فلا يحضرون، وإذا كان هناك مجالس علم لم يحضرها إلَّا أفراد، وإذا كان هناك تعليمات أخرى ببعض الوسائل الحديثة كنشرات أو كتب دينية أو أشرطة دينية لم يستعملها إلا أفراد قلة من الناس، وهم أهل الخير والصلاح، أما هؤلاء العامة الباقون فلا يحضرون إلا خطبة الجمعة، فمن المناسب أنْ يخطبهم الخطيب بخطبة تناسبهم، وأنْ يعلمهم التعليمات البليغة، ولا يُستنكر عليه إذا أطال إلى نصف ساعة أو ثلثي ساعة، أو ما أشبه ذلك على حسب القدرة، لكن قد يؤمر بالتخفيف إذا رأى منهم نفرة أو شدة كراهية لهذا، وسَمَّوْا ذلك إطالة، كما كانوا أيضًا يكرهون إطالة الصلاة. شرح عمدة الأحكام (23/ 12).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
قال بعض أئمتنا: وهذا في خطبة الجمعة، أمَّا خطبة غيرها فيطيل فيها ما شاء؛ لخبر مسلم: «إنَّه صلى الفجر، وصعد المنبر، فخطب إلى الظهر...». فتح الإله في شرح المشكاة (3/269).
وقال محمد الأُبي -رحمه الله-:
قصر الخطبة مُستحبٌ، وأوجبه أهل الظاهر. إكمال إكمال المعلم (3/25).
وقال ابن حزم -رحمه الله-:
ولا تجوز إطالة الخطبة...، وشهدتُ ابن مَعْدَان في جامع قرطبة قد أطال الخطبة حتى أخبرني بعض وجوه الناس أنَّه بال في ثيابه، وكان قد نَشَبَ في المقصورة!. المحلى بالآثار (3/ 266-267).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
وأحاديث الباب فيها مشروعية إقصار الخطبة، ولا خلاف في ذلك، واختُلف في أقلِّ ما يُجْزِئ على أقوال مبسوطة في كتب الفقه. نيل الأوطار (3/ 321).
وقال الشافعي -رحمه الله-:
وأقلُّ ما يقع عليه اسم خطبة من الخطبتين: أنْ يحمد الله تعالى، ويصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويقرأ شيئًا من القرآن في الأولى، ويحمد الله عز ذكره، ويصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويوصي بتقوى الله، ويدعو في الآخرة. الأم (1/ 230).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
وقد عدَّ بعضُ الفقهاء من أركان الخطبة الواجبة: الأمر بتقوى الله، وبعضهم: جعل الواجب: ما يُسمَّى خُطبة عند العرب، وما يتأدَّى به الواجب في الخطبة الواجبة تتأدَّى به السُّنة في الخطبة المسنونة. إحكام الأحكام (1/ 345).
قوله: «وإنَّ مِن البيانِ سِحْرًا»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «وإنَّ من البيان سحرًا» البيان هنا: الإيضاح البليغ، مع اللفظ المستعذب. المفهم (2/ 504).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «وإنَّ من البيان سحرًا»... فيه تأويلان:
أحدهما: على وجه الذمِّ، قيل: هو إمالة القلوب وتحريكها وصرفها بمقاطع البيان إليه حتى تكتسب به من الإثم ما يكتسب به من السِّحْر، واستدل هؤلاء بإدخال مالك الحديث في موطئه في باب ما يكره من الكلام بغير ذكر الله، وأنَّه مذهبه في تأويل الحديث.
والثاني: المدح، وهو أنَّ الله تعالى قد امتنَّ بتعليم البيان على عباده بقوله: {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} الرحمن: 4، وشَبَّهَهُ بالسِّحْر لميلِ القلوب إليه، وأصل السِّحْر: الصرفُ، والبيان يَصْرِفُ القلوبَ، ويُميْلُها إلى ما يدعو إليه. إكمال المعلم (3/ 274).
وقال النووي -رحمه الله- مُعلِّقًا:
التأويل الثاني هو الصحيح المختار. شرح مسلم (6/ 159).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله- مُعلِّقًا أيضًا:
قلتُ: وهذا التأويل (أي: الثاني) أولى؛ لهذه الآية ({عَلَّمَهُ البَيَانَ} الرحمن: 4) وما في معناها. المفهم (2/ 505).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
وجملة قوله: «وإنَّ من البيان» والبلاغة في الخُطَب «سِحْرًا» أي: ما هو كالسِّحْر؛ لميل القلوب إليه، وإصغائها إليه، كما أنَّ السِّحْر الحقيقي يميل القلب، ويصرفه عن حالته الأصلية، حال مِن فاعل «اقصروا».
وأصل السِّحْر صرف الأشياء عن حالتها الأصلية، فكذلك البيان البليغ يصرف القلوب، ويميلها إلى ما يدعو إليه، فالكلام على التشبيه البليغ. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (10/ 347-348).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
ووجه اتصاله (أي: قوله: «إنَّ من البيان لسحرًا») بما قبله أنَّه -صلى الله عليه وسلم- لما حثَّ على قصر الخطبة، حث على البيان فيها، والإيضاح لمعانيها، وحُسْنِ التأدية لها؛ إذ الكل من البيان. التنوير شرح الجامع الصغير (4/ 9).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
«وإنَّ من البيان لسحرًا» فشبَّه الكلام العامل في القلوب، الجاذب للعقول بالسِّحر؛ لأجل ما اشتمل عليه من الجزالة، وتناسُق الدلالة، وإفادة المعاني الكثيرة، ووقوعه في مجازه من الترغيب والترهيب، ونحو ذلك، ولا يقدر عليه إلا مَن فَقِهَ في المعاني، وتناسُق دلالتها، فإنه يتمكَّن من الإتيان بجوامع الكَلِم، وكان ذلك من خصائصه -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنَّه أُوتي جوامع الكَلِم. سبل السلام (1/ 403-404).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «وإنَّ من البيان لسحرًا» أي: بعض البيان يعمل عمل السِّحْر، فكما يُكْتَسَبُ الإثمُ بالسِّحْر، يُكْتَسَب ببعض البيان، أو منه ما يَصرف قلوب المستمعين إلى قبول ما يستمعون، وإنْ كان غير حق.
ففي هذا إشارة إلى بيان الحكمة في قصر الخطبة، فإنَّه في معرض البليَّة، فيجب عليه الاحتراز من هذه المحنة؛ حتى لا يقع في الرياء والسمعة، وابتغاء الفتنة، فهو ذم لتزيين الكلام وتعبيره بعبارة يتحير فيها السامع، كالتحير في السِّحر، نهي عنه كنهيه عن السِّحْر، وقيل: بل هو مدح للفصاحة والبلاغة، يريد أنَّ البليغ -أي: الذي له ملكة يقتدر بها تأليف كلام بليغ، أي: مطابق لمقتضى الحال- يبعث الناس على حب الآخرة، والزهد في الدنيا، وعلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ببلاغته وفصاحته، فبيانه هو السِّحْر الحلال في اجتذاب القلوب، والاشتمال على الدقائق واللطائف، فهو تشبيه بليغ، والظاهر: أنَّه مِن عَطْفِ الجُمَل، ذكره استطرادًا. مرقاة المفاتيح (3/ 1043).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «وإنَّ من البيان سحرًا» الجملة حال من «اقصروا»، أي: اقصروا الخطبة وأنتم تأتون بها معاني جمة، في ألفاظ يسيرة، وهو من أعلى طبقات البيان؛ ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: «أُوتيتُ جوامع الكَلِم». الكاشف عن حقائق السنن (4/ 1283).
وقال السنوسي -رحمه الله-:
جملة قوله: «وإنَّ من البيان سحرًا» حال من ضمير الفاعل في «اقصروا»، أي: اقصروا الخُطب في حال كونكم تأتون فيها بمعانٍ جَمَّةٍ شريفة، تُطَابِق الفصل في ألفاظ يسيرة، وهو أعلى طبقات البيان؛ ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: «أُوتيت جوامع الكَلِم»، هذا على رواية الواو (لأنها واو الحال)، وأما على رواية الفاء فالمعنى: اقصروا الخطبة مع جَمْعِكُم فيها للمعاني الجَمَّة الشريفة؛ لتكونوا آتين فيها بالسِّحْر الحلال، فإنَّ من البيان لسحرًا (فالفاء تعليلية). مكمل إكمال الإكمال (3/25).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
قوله: «وإنَّ من البيان سحرًا» يعني: أنَّ البيان يفعل في عطف الألباب ما يفعل السِّحْر، وهذا يدل على أنَّ للسِّحْر حقيقة حتى شبَّه ما له حقيقة به، إلا أنَّه في الحق والصواب من التأييد والنور والإلهام لمن وُفِّق لما تبيَّن له، وقلَّ ما يُوفَّق لذلك مُبْطِل، فإنَّ الله تعالى يقول: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} الحج: 24، وقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} فاطر: 10، وقوله: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى} يونس: 35. الإفصاح عن معاني الصحاح (2/ 138).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
وقوله: «وإنَّ من البيان سحرًا» يتضمَّن هذا مدحًا للبيان، وذمًّا له، فإنَّ له تأثيرًا في القلوب وصَرْفِها وإمالتها إلى جانب، كالسِّحْر يؤثر في النفوس، فإنْ صَرَفَها إلى جانب الحق فيُمدح، وإنْ صَرَفَها إلى جانب الباطل فيُذم، وقد يجيء تفصيل الكلام فيه في باب البيان والشِّعْر، ويمكن أنْ يكون ذِكْرُه ها هنا دليلًا على قِصَرِ الخطبة بأنَّه ينبغي أنْ تكون الخطبة بألفاظ وجيزة قليلة، دالة على معانٍ جزيلة، كما يقال: خير الكلام ما قلَّ ودلَّ. لمعات التنقيح (3/ 521-522).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
ومن ثَمَّ قال أصحابنا: يُسَنُّ في الخطبة أنْ تكون فصيحة بليغة، لا مُبْتَذَلَة ركيكة؛ لأنها لا تُؤثِّر في القلوب، بمفهومة لا غريبة وحشية؛ إذ لا ينتفع بها أكثر الناس، مبينة من غير تمطيط ولا تفريط.
وقال بعض أصحابنا: وتُكره الكلمات المشتركة، والبعيدة عن الأفهام، وما يُنْكِرُه عقول الحاضرين، وأما ما ذهب إليه مالك -رحمه الله- في تأويل الحديث من أنَّه ذمٌّ لإمالة القلوب، وصرفها بمقاطع الكلام، حيث يكسب من الإثم به ما يكسب من السِّحْر، ومن ثمَّ أدخله في باب: ما يُكره من الكلام، فبعيد جدًّا، كما يشهد بذلك السياق، والذوق السليم. فتح الإله في شرح المشكاة (3/270).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث: ما يدل على فصاحة عمار -رضي الله عنه-؛ مِن حيث وُصِفَ أنَّه أبلغ وأوجز، ومن حيث أنَّه تعهَّد ذلك، فلم يقع منه اتفاقًا؛ لاحتجاجه لذلك بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ مِن أَمْرِه بتقصير الخطبة، وتطويل الصلاة.
والذي أراه في ذلك: أنَّ تطويل الصلاة ليدركها الغائب والبعيد عن الجامع، وأما قِصَر الخطبة، فإنَّه يكون أدعى لحفظ ما يَذْكُره فيها؛ ولئلا يقول كلامًا منشورًا لا يتيسر الاحتراز في حدوده، فإذا أقلَّ منه كان قمينًا أنْ يسلم وينفع، وهذا في الأكثر، فإنْ احتاج الخطيب إلى أنْ يطيل لذِكْرِ حادثة جَرَتْ، أو نائبة، أو إبانة عن صورة لا بد من إبانتها لم يكره ذلك -إن شاء الله تعالى-. الإفصاح عن معاني الصحاح (2/137- 138).
وقال الشيخ عبد القادر شيبة الحمد -رحمه الله-:
ما يفيده الحديث:
1. على الخطيب أنْ يحرص على عدم إطالة الخطبة.
2. وأنَّ طول الخطبة ليس دليلًا على علم الخطيب وبلاغته، بل هو دليل عدم فقهه.
3. ينبغي أنْ يكون وقت أداء الصلاة أطول من وقت الخطبة. فقه الإسلام شرح بلوغ المرام (2/ 168).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
وفي هذا الحديث من الفوائد:
أنَّ الناس يختلفون في الفقه.
وفيه أيضًا: أنَّه ينبغي مراعاة أحوال الناس؛ لأن قِصَرَ الخطبة لا شك أنَّه مراعاة لأحوال الناس، فإذا راعيتها كان في هذا خير كثير. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (2/ 337).