«إنَّ رسولَ اللهِ -صلَّى الله عليه وسلَّم- ذَكَرَ يومَ الجمعة، فقال: فيه ساعةٌ لا يُوَافِقُهَا عبدٌ مُسْلِمٌ، وهو قائمٌ يُصَلِّي، يسألُ الله شيئًا، إلَّا أعطَاهُ إيَّاهُ» زاد قُتَيْبَةُ في روايته: وأشارَ بيدِهِ يُقَلِّلُهَا، يُزَهِّدُهَا.
رواه البخاري برقم: (935 ـ 5294)، ومسلم برقم: (852) واللفظ له، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«لا يُوَافِقُهَا»:
أي: يُصادِفُها، وهو أعمّ من أنْ يقصد لها، أو يتفق له وقوع الدعاء فيها. فتح الباري (2/ 416).
«يُقَلِّلُهَا»:
أي: يُصَغِّر مُدَّتها، وإنْ كانت في ذاتها عظيمة المقدار. الاقتضاب في غريب الموطأ، لليفرني (1/134- 135).
شرح الحديث
قوله: «إنَّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَكَرَ يوم الجمعة»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
قوله: «ذَكَرَ يوم الجمعة» أي: بالثناء عليه، وبيان فضله. دليل الفالحين (6/ 625).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«ذكر يوم الجمعة» يعني: أنَّه -صلى الله عليه وسلم- بيَّن لأصحابه ما في يوم الجمعة مِن الفَضل؛ ليَحُثَّهم على العناية بتعظيمه، والاشتغال بالطاعة، والدعاء فيه. البحر المحيط الثجاج (17/ 124).
قوله: «فقالَ: «فيه ساعةٌ»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فيه ساعة» لطيفة، وفي رواية «إنَّ في الجمعة لساعة» أي: إنَّ في يومها لساعة شريفة عظيمة. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (10/ 289).
وقال الباجي -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «فيه ساعةٌ» يقتضي جزءًا من اليوم، غير مُقدَّر، ولا مُعيَّن، وبيان ذلك: ما أشار إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن تَقْلِيْلِهَا، ولو كانت مقدَّرة أو مُعيَّنة لَمَا كان للتقليل معنى. المنتقى شرح الموطأ (1/ 200).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «وفيه ساعةٌ» أي: في يوم الجمعة ساعةٌ، والساعة: اسمٌ لجزء مخصوص من الزمان، ويَرِدُ على أنحاء:
أحدها: يُطلق على جزءٍ من أربعة وعشرين جزءًا؛ وهي مجموع اليوم والليلة، وتارة تُطلق مجازًا على جزء ما، غير مُقدَّر في الزمان فلا يتحقق، وتارة تُطلق على الوقت الحاضر، ولأرباب النجوم والهندسة وضع آخر؛ وذلك أنهم يُقسِّمون كل نهار وكل ليلة باثني عشر قِسْمًا، سواء كان النهار طويلًا أو قصيرًا، وكذلك الليل، ويُسمُّون كل ساعة من هذه الأقسام ساعةً؛ فعلى هذا تكون الساعة تارةً طويلة، وتارة قصيرة على قدر النهار في طُوله وقِصَرِه، ويسمُّون هذه الساعات: المُعوَجة، وتلك الأولى مُستقيمة. شرح أبي داود (4/ 363-364).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «فيه ساعةٌ» كذا فيه مبهمة، وعُينت في أحاديث أُخر. فتح الباري (2/ 416).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«فيه ساعةٌ» أَبْهَمَهَا هنا كليلة القدر، والاسم الأعظم، والرَّجُل الصالح، حتى تتوفَّر الدواعي على مراقبة ذلك اليوم. إرشاد الساري (2/ 190).
وقال ابن قدامة -رحمه الله-:
وقيل: أخفى الله تعالى هذه الساعة؛ ليجتهد عبادُه في دعائه في جميع اليوم طلبًا لها، كما أخفى ليلة القدر في ليالي رمضان، وأولياءَه في الخَلْق؛ ليُحْسَنَ الظنُّ بالصالحين كلهم. المغني (2/ 206).
وقال المظهري -رحمه الله-:
والحِكْمَةُ في إخفائِها ليشتغِلَ الناسُ بالعبادِة والدعاءِ في جميعها رجاءَ أن يوافِقَ دعاؤُهم تلك الساعةَ.المفاتيح في شرح المصابيح(2/٣١٥).
وقال المناوي -رحمه الله-:
وفائدة إِبهامها بَعث الدَّواعي على الإكثار فيها من الصلاة والدعاء ولو بُيِّنت لاتكل الناس عليها وتركوا ما عداها؛ فالعجب مع ذلك ممن يجتهد في طلب تحديدها.فيض القدير(4/٤٤٧).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قد اختلف أهل العلم من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم في هذه الساعة، هل هي باقية أو رُفعت؟ وعلى البقاء هل هي في كل جمعة أو في جمعة واحدة من كل سَنة؟ وعلى الأول هل هي وقت من اليوم مُعيَّن أو مُبهم؟ وعلى التعيين هل تُستوعب الوقت أو تُبهم فيه؟ وعلى الإبهام ما ابتداؤه وما انتهاؤه؟ وعلى كُلِّ ذلك هل تستمر أو تنتقل؟ وعلى الانتقال هل تستغرق اليوم أو بعضه؟ وها أنا أذكر تلخيص ما اتصل إليَّ من الأقوال مع أدلتها، ثم أعود إلى الجمع بينها والترجيح (وذَكَرَ فيها اثنين وأربعين قولًا). فتح الباري (2/ 416).
وقال ابن حجر -رحمه الله- في موضع آخر:
استوعبتُ الخلاف الوارد في الساعة المذكورة، فزاد على الأربعين قولًا، واتفق لي نظير ذلك في ليلة القَدر، وقد ظفرتُ بحديثٍ يَظْهَرُ منه وجه المناسبة بينهما في العدد المذكور، وهو ما أخرجه أحمد، وصحَّحه ابن خزيمة من طريق سعيد بن الحارث عن أبي سلمة قال: قلتُ: يا أبا سعيد، إنَّ أبا هريرة حدثنا عن الساعة التي في الجمعة، فقال: سألتُ عنها النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: «إنَّي كنتُ أُعْلِمْتُها، ثم أُنْسِيْتُها، كما أُنسيتُ ليلة القدر»، وفي هذا الحديث إشارة إلى أنَّ كُل رواية جاء فيها تعيين وقت الساعة المذكورة مرفوعًا وهمٌ، والله أعلم. فتح الباري (11/ 199).
وقال المناوي رحمه الله:
وفيها أكثر من أربعين قولًا، أرجحها ثلاثة:
الأول: أنها تنتقل كليلة القَدر، ورجحه المحب الطبري تبعًا للحجة.
الثاني: أنها آخر ساعة من النهار واختاره أحمد ونقله العلائي عن الشافعي.
الثالث: ما بين قعود الإمام على المنبر إلى انقضاء الصلاة وصححه النووي، قال ابن حجر: وما عدا الثلاثة ضعيف أو موقوف، استند قائله إلى اجتهاد دون توقيف.فيض القدير (4/447).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
قد رُوي عن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- في تعيينها أحاديث متعددةٌ: ومِن أغربها: أنَّ ساعة الإجابة هي نهار الجمعة كُله، وهو من روايةٍ هانئ بن خالدٍ عن أبي جعفر الرازي عن ليث عن مجاهد عن أبي هريرة عن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: «الساعة التي في يوم الجمعة ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس». فتح الباري (8/ 293).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
هذه الساعة اختلف فيها أهل العلم، يقول ابن حجر -رحمه الله- على أكثر من أربعين قولًا، وهي ساعة واحدة، وكم عدد الساعات؟ أربع وعشرون ساعة، ومع ذلك وصل اختلافهم إلى أكثر من أربعين قولًا هذه الأقوال قيل فيها من جُملة ما قيل فيها: إِنها - أي: الساعة - قد رُفعت مثل ما قيل في ليلة القَدر، ولكن الصواب: أنها موجودة، وأن أَرجى ساعتها ساعتان بعد العصر، وإذا خرج الإمام حتى تنقضي الصلاة، ويدل لذلك حديث أبي موسى قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة» رواه مسلم، ...
هذا الحديث بعض العلماء أَعلّه بالوقف، وبعضهم أَعله بأنه أخذ من صحيفة وما أشبه ذلك، ولكن هذا ليس بعِلة؛ لأنه إذا تعارض رفع ووقف فمع الرافع زيادة عِلم إذا كان الرافع ثقة فإنه يُؤخذ بقوله، وأيضًا أحيانًا يحدث الراوي عن النبي -عليه الصلاة والسلام - بالحديث مَعزوًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وذلك فيما إذا أراد إسناده، وأحيانًا يقوله هو عن نفسه بناء على أن ذلك هو الثابت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيحدث به أحيانًا يرفعه وأحيانًا بقوله من عند نفسه، مثال ذلك أن أقول -وأنا الآن معكم- لو صلّى الإنسان بلا نية فإنه لا صلاة له، إنَّما الأعمال بالنيات، وإنَّما لِكل امرئ ما نوى. أقول هذا فيظن الظَّان أنَّ هذا من عندي، ولكنه في مرة أخرى أسوق الحديث، أقول: حدثني فلان عن فلان، عن عمر، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فالآن رفعته، فإذا صح الرفع فإنه لا يُعارض بكونه قد روي موقوفًا على شخص؛ وذلك لأن الرافع رُبَّما يحدث به قائلًا به لا راويًا له، قائلًا به؛ لأنه صح عنه وهذا الوقت لا شك أَنَّه مِن أَرجى ما يكون من أوقات الإجابة لعدة أسباب:
أولًا: أنه وقت اجتماع الناس على صلاة مفروضة، والاجتماع له أثر في إجابة الدعاء؛ ولذلك كان يوم عرفة يومًا يُجاب فيه الدعاء، ولذلك أيضًا أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- الحُيَّض وذواتِ الخُدورِ أنْ يخرجن إلى العيد؛ قالت أم عطية: ليَشهدن الخير ودعوى المسلمين، فاجتماع الناس على هذه الفريضة لا شك أَنه من أسباب إجابة الدعاء.
ثانيًا: أن الحديث فيه: «وهو قائم يُصلي»، ومن صعود الإمام إلى أن تُقضى الصلاة، إما أن يكون الإنسان في صلاة فعلًا كصلاة الجمعة مثلًا، وإما أن يكون منتظرًا للصلاة ومنتظر الصلاة إذا صلّى ثم جلس ينتظر فهو في صلاة كما ثبت به الحديث.
ثالثًا: أنّ هذا الوقت الذي هو وقت صلاة الجمعة لا شك أنه أفضل الأوقات بالنسبة ليوم الجمعة؛ لأنه تؤدي فيه فريضة نص الله تعالى فيها على أن لها نداء وأن لها حضور، أما الساعة الثانية فهي ما بين صلاة العصر وغروب الشمس؛ يعني: أن الساعة في هذا الوقت ما بين صلاة العصر وغروب الشمس.
وقوله: «وهو قائم يُصلي» يتحقق هنا؟ لا، لكن يتحقق فيما لو دخل الإنسان المسجد، لو دخل المسجد وصلّى ركعتين تحية المسجد يستقيم، ثم إذا جلس بعد ذلك ينتظر الصلاة فهو في صلاة، وعلى هذا فآرجاها هذان الوقتان من خروج الإمام إلى أن تفرغ الصلاة، ومن صلاة العصر إلى غروب الشمس، فينبغي لنا أن نحافظ على الدعاء في هذين الوقتين.فتح ذي الجلال والإكرام(/362 ـ 363).
وقال ابن الجزري -رحمه الله-:
والذي أعتقده أنَّها وقتُ قراءة الإمام الفاتحة في صلاة الجمعة إلى أنْ يقول: آمين؛ جمعًا بين الأحاديث التي صحت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كما بيَّنته في غير هذا الموضع. الحصن الحصين (ص:77).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
وروى مسلم: «أنَّها حين يجلس الإمام على المنبر حتَّى تقوم الصلاة» وهو أصحُّه، وبه أَقُولُ؛ لأنَّ ذلك العمل في ذلك الوقت كُله صلاة، فينتظم به الحديث لفظًا ومعنىً. المسالك في شرح موطأ مالك (2/ 465).
وقال النووي -رحمه الله-:
والصحيح بل الصواب: ما رواه مسلم من حديث أبي موسى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أنَّها ما بين أنْ يجلس الإمام إلى أنْ تُقضى الصلاة». شرح صحيح مسلم(6/ 140-141).
قال القسطلاني -رحمه الله-:
فإن قُلت: حديث «يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة، فيه ساعة … إلخ»، ومُقتضاه أَنها غير خفيفة.
أجيب: بأنه ليس المراد أَنها مستغرقة للوقت المذكور، بل المراد أَنها لا تخرج عنه؛ لأنها لحظة خفيفة. وفائدة ذكر الوقت أنها تنتقل فيه، فيكون ابتداء مَظنتها ابتداء الخُطبة مثلًا، وانتهاؤها وانتهاء الصلاة.شرح صحيح البخاري(2/191)
قال المناوي -رحمه الله-:
قال عياض: وليس معنى هذه الأقوال أنّ كُله وقت لها، بل أنها في أثناء ذلك الوقت؛ لقوله في رواية «وأشار بيده يقللها».فيض القدير(4/٤٤٧)
وقال الباجي -رحمه الله-:
قوله: «وفيه ساعة...» إخبار عن فضيلة اليوم، وعظيم درجته؛ لاختصاصه بهذه الساعة. المنتقى شرح الموطأ (1/ 201).
قوله: «لا يُوَافِقُهَا عبدٌ مُسْلِمٌ»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«لا يُصَادِفُهَا» كذا في مسند الشافعي، ورواية في الموطأ، ورواية مسلم: «لا يوافقها» والمصادفة والموافقة سواء. شرح سنن أبي داود (5/ 451).
وقال المناوي -رحمه الله-:
قوله: «لا يوافقها» أي: يصادفها. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 324).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«لا يُوافِقُها» يُوفَّق للدعاء فيها. التنوير شرح الجامع الصغير (4/ 27).
وقال المناوي -رحمه الله-:
قوله: «عبدٌ مسلمٌ» يعني: إنسان مؤمن، عَبْدٌ أو أَمَةٌ، حُرٌّ أو قِنٌّ. فيض القدير (2/ 463).
وقال الباجي -رحمه الله-:
«عبدٌ مسلمٌ» تخصيصًا لدعاء المسلمين بالإجابة في تلك الساعة. المنتقى شرح الموطأ (1/ 200).
قوله: «وهو قائم يُصَلِّي»:
قال ابن عبد البر -رحمه الله-:
هكذا يقول عامة رواة الموطأ في هذا الحديث: «وهو قائمٌ يصلي» إلا قتيبة بن سعيد وأبا مُصعب، فإنهما لم يقولا في روايتهما لهذا الحديث عن مالك: «وهو قائم»، ولا قاله ابن أبي أويس في هذا الحديث عن مالك، ولا قاله التنيسي، وإنما قالوا: «فيه ساعة لا يُوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها شيئًا إلا أعطاه»، وبعضهم يقول: «أعطاه إياه»، والمعروف في حديث أبي الزناد هذا قوله: «وهو قائمٌ» من رواية مالك وغيره، وكذلك رواه ورقاء في نسخته عن أبي الزناد، وكذلك رواه ابن سيرين عن أبي هريرة. التمهيد (19/ 17).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله- أيضًا:
«وهو قائمٌ يُصلِّي» هو محفوظ في حديث أبي الزناد. الاستذكار (2/ 37).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «وهو يصلي» حقيقةً أو حكمًا بالانتظار، أو معناه: يدعو. مرقاة المفاتيح (3/ 1014).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
فأما قوله «وهو قائم يصلي» فإنه يُحتمل القيام المعروف، ويحتمل أَن يكون القيام هنا المواظبة على الشَّيء لا الوقوف، من قوله تعالى:{مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} آل عمران: 75. أي: مُواظبًا.الاستذكار(2/٣٧)
وقال النووي -رحمه الله-:
قالوا: ومعنى «يُصلِّي» يدعو، ومعنى «قائمٌ» مُلازِم ومواظب، كقوله تعالى: {مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} آل عمران: 75. شرح صحيح مسلم (6/ 140).
وقال الباجي -رحمه الله-:
وقوله: «يصلي» اختلف الناس في تأويل هذه اللفظة؛ لاختلافهم في تعيين الساعة، ورُويت في ذلك أخبار. المنتقى شرح الموطأ (1/ 200).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قد فسَّره عبد الله بن سلام لأبى هريرة فقال: أَلم يَقل رسول الله: «مَن جلس ينتظر الصلاة فهو في صلاة»، فقال أبو هريرة: بلى، فقال: هو ذاك. وروى ابن أَبي أَويس عن أخيه، عن سليمان بن بلال، عن الثقة، عن صفوان بن سليم، عن أَبي سلمة، عن أبي سعيد الخدري قال: قال النبي -عليه السلام -: «الساعة التي يُستجاب فيها الدُّعاء يوم الجمعة بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس أَغفل ما يكون الناس».شرح صحيح البخاري(2/٥٢٢).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «قائمٌ يصلي» يحتمل الحقيقة، أعني: حقيقة القيام، ويحتمل: الدعاء، ويحتمل الانتظار، ويحتمل المواظبة على الشيء، لا الوقوف، مِن قوله تعالى: {مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} آل عمران: 75، يعني: مواظِبًا، وقال النووي: قال بعضهم: معنى «يصلي» يدعو، ومعنى: «قائم» مُلازِم ومواظِب.
وإنَّما ذَكَرَ هذه الاحتمالات؛ لئلا يرد الإشكال بأصح الأحاديث الواردة في تعيين الساعة المذكورة، وهما حديثان:
أحدهما: مِن جلوس الخطيب على المنبر إلى انصرافه من الصلاة.
والآخر: مِن بعد العصر إلى غروب الشمس، ففي الأول حال الخطبة كله وليست صلاة حقيقة، وفي الثاني: ليست ساعة صلاة ألا ترى أنَّ أبا هريرة -رضي الله تعالى عنه- لما روى حديثه المذكور، قال: «فلقيتُ عبد الله بن سلام، فذكرتُ له هذا الحديث، فقال: أنا أعلم تلك الساعة، فقلتُ: أخْبِرْني بها، ولا تَضْننْ بها عليَّ، قال: هي بعد العصر إلى أنْ تغرب الشمس، قلتُ: وكيف تكون بعد العصر وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي» وتلك الساعة لا يصلي فيها؟ قال عبد الله بن سلام: أليس قد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَن جلس مجلسًا ينتظر الصلاة فهو في صلاة؟ قلتُ: بلى، قال: فهو ذاك» انتهى.
فهذا دلَّ على أنَّ المراد من الصلاة الدعاء، ومن القيام: الملازمة والمواظبة، لا حقيقة القيام؛ ولهذا سقط قوله: «قائمٌ» من رواية أبي مصعب وابن أبي أويس ومطرف والتنيسي وقتيبة، وأثبتها الباقون. عمدة القاري (6/ 241-242) وينظرالتمهيد لابن عبد البر(11/٦١٨).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
مَن قال: إنَّ منتظِر الصلاة في صلاةٍ صحيحٌ، لكن لا يقال فيه: قائمٌ، وقول: «يصلي»؛ فإنَّ ظاهر هذا اللفظ حَمْلُه على القيام الحقيقي في الصلاة الحقيقية، وقد روى عبد الرزاق في كتابه: نا يحيى بن زمعة: سمعتُ عطاءً يقول: سمعتُ أبا هريرة يقول: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «في يوم الجمعة ساعةٌ لا يوافقها عبدٌ وهو يصلي، أو ينتظر الصلاة، يدعو الله فيها بشيء إلا استجاب له» وهذا غريبٌ، ويحيى بن زمعة هذا غير مشهورٌ، ولم يعرفه ابن أبي حاتم بأكثر من روايته عن عطاءٍ، ورواية عبد الرزاق عنه، وهذه الرواية تدل على أنَّ المراد بالصلاة حقيقة الصلاة؛ لأنه فرَّق بين المصلي ومنتظر الصلاة، وجعلهما قسمين، وتدل على أنَّ ساعة الجمعة يمكن فيها وقوع الصلاة وانتظارها، وهذا بما بعد الزوال أشبه؛ لأنَّ أول تلك الساعة يُنْتَظَر فيها الصَّلاة، ويُتَنَفَّل فيها بالصلاة، وآخرها يُصلَّى فيهِ الجمعة. فتح الباري (8/ 307).
قال الكوراني -رحمه الله-:
فإن قلت: قوله: «وهو قائمٌ يُصلي» ينافي كون الإمام على المنبر؛ إذ لا يُشرع هناك صلاة؟ قلت: قيام الإمام مِن لوازمه الدّعاءُ للمؤمنين، فدلَّ على أنه يُستجاب منه؛ وأمّا الصلاة فإنّ كُلّ واحد يدعو فيها ما اختاره؛ لأن قوله: «قائم يصلي» لم يَرد به نفس القيام؛ لأن السجود بالدعاء أولى من القيام؛ بل أراد القيام بالطاعة على أيِّ كيفية كانت.الكوثري الجاري(3/٥٢).
قال ابن حجر-رحمه الله-:
فإن قيل ظاهر الحديث حصول الإجابة لِكلِ داعٍ مع أنّ الزمان يختلف باختلاف البلاد، والمصلي فيتقدم بعض على بعض، وساعة الإجابة متعلقة بالوقت، فكيف تتفق مع الاختلاف؟
أجيب باحتمال أنْ تكون ساعة الإجابة متعلقة بفعل كُلِّ مُصلٍّ كما قيل نظيره في ساعة الكراهة ولعل هذا فائدة جعل الوقت الممتد مَظِّنة لها، وإن كانت هي خفيفة، ويحتمل أن يكون عبَّر عن الوقت بالفعل فيكون التقدير وقت جواز الخُطبة أو الصلاة ونحو ذلك والله أعلم.فتح الباري(2/٤٢٢).
قوله: «يسألُ الله شيئًا، إلا أعطَاهُ إيَّاهُ»:
قال ابن حجر رحمه الله-:
«يَسْأَلُ الله شيئًا» أي: مما يليق أَن يدعو به المسلم ويسأل ربّه تعالى. وفي رواية سَلمة بن عَلقمة ، ، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة عند المصنف(البخاري) «يسأل الله خيرًا» ولمسلم من رواية محمد بن زياد، عن أبي هريرة مثله. وفي حديث أَبي لُبابة عند ابن ماجه «ما لم يَسأل حرامًا» وفي حديث سعد بن عبادة، عند أحمد «ما لم يسأل إثمًا أو قطيعة رحمٍ» وهو نحو الأول، وقطيعة الرَّحم من جُملة الإثم فهو من عَطْفِ الخاص على العام للاهتمام به.فتح الباري(2/٤١٦).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «يَسْأَلُ الله» حال أو بدل «شيئًا»، من أمر الدنيا والآخرة «إلا أعطاه إياه» بالشروط المعتبرة في آداب الدعاء. مرقاة المفاتيح (3/ 1014).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- أيضًا:
«يَسْأَلُ الله فيها» أي: بلسان الحال، أو بلسان المقال «خيرًا» أي: يليق السؤال فيه «إلا أعطاه» أي: ذلك المسلم «إياه» أي: ذلك الخير، يعني: إما أنْ يُعَجِّله له، وإما أنْ يدَّخِره له، كما ورد في الحديث. مرقاة المفاتيح (3/ 1012).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «يَسْأَلُ الله فيها» نكِرة في سياق الإثبات فتكون مُطلقة أيُّ شيءٍ يكون، ولكنها مُقيدة بما إذا لم يَعتدِ في دعائه، فإن اعتدى فإن الله لا يجيبه؛ لقوله تعالى: { {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } الأعراف: 55. فالمُعتدي في الدُّعاء لا يجاب له حتى في وقت الإجابة؛ لأن الله تعالى لا يحب المعتدين؛ فكيف يجيبهم؟!
والاعتداء في الدعاء: أن يدعو الإنسان بما لا يحل له، إما أن يدعو بما لا يمكن شرعًا، أو بما لا يمكن قدرًا، أو بما هو محرم شرعًا، فهذا كُله اعتداء في الدُّعاء، فلو دعا على شخص غير مُستحِقٍّ للدعاء عليه هل يستجاب له؟ لا؛ لأنه ظالم، والله لا يجيب دعوة الظالم، كذلك لو دَعا بما لا يمكن شرعًا مثل أن يقول: (اللهم اجعلني نبيا) فلا يجوز، أو دعا بما لا يمكن قدرًا، يعني مثلًا: بأن دعا أن يجعل الله له ملك السموات والأرض، فلا يصلح، لماذا؟ لا يمكن قدرًا وإن كان الله على كُلِّ شيء قديرٍ، لكن نعلم أن الذي له ملك السموات والأرض هو الله - سبحانه وتعالى -، فالمهم أن الاعتداء في الدعاء لا يقبل حتى في ساعة الإجابة.فتح ذي الجلال والإكرام(2/٣٦١)
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «إلا أَعطاهُ إِياه» (أعطاه) فعل مطلق؛ لأنه يدل على الفورية، فقد يُعطيه الله تعالى إياه فورًا وقد يتأخر، لكن لا يستبطئ الإجابة إذا استبطأ الإجابة حَرمها، إذا دعا ثم قال: دعوت فلم يستجب لي فإنه يُحرم، بل الواجب أن يُحسن الإنسان ظَنُّه بربِّه، والله تعالى له الحِكمة البالغة في إجابته وعدم إجابته.
وقوله: «إلا أعطاه إياه» قد يقول قائل: هذا مُطلق أفلا نقيده بالأحاديث الأخرى الدَّالة على أن مَن دعا الله -عزَّ وجلَّ- فإن الله - سبحانه وتعالى - يُجيبه، أو يَدَّخر ذلك له إلى يوم القيامة، أو يدفع عنه من البلاء ما هو أعظم مما يدعو به، أو يترك، هل يصلح أن يقيد هذا الحديث بذلك؟ نقول: لا يصح؛ لماذا؟ لأننا لو قيَّدناه بذلك لم يكن لذكرهِ في هذا الوصف فائدة؛ إذ إن هذا الحُكم آنفًا: "أو يستجيب، أو يدخر، أو يدفع عنه" هذا الحكم عام في كُل الدعوات.
لكن لو قال قائل: نحن نجد كثيرًا من الناس يدعون في ساعة هي أرجى ما تكون من الساعات ومع ذلك لا يُستجاب لهم؟
فنقول: صدق الله، ورسوله وكذبت، كما قال الرسول في قصة العسل: «كذب بَطن أَخيك». نقول: كلام النبي - عليه الصلاة والسلام - حقٌّ وصدقٌّ، ولكن تخلُّف الإجابة قد يكون لوجود مانعٍ، إما أن يدعو وهو شَاكٌّ في الإجابة غير موقن فهذا سبب مانع من الإجابة، وإِما أن يكون ممن يأكل الحرام، وأَكل الحرام مانع من إجابة الدعاء، فقد ذكر النبي - عليه الصلاة والسلام -: «رجلًا أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يقول: يا رب يا رب ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، قال: فأنى يستجاب لذلك». والعياذ بالله مع أن الأوصاف الموجود كلها من أسباب إجابة الدعاء، كونه أَشْعث أَغبر سبب من أسباب إجابة الدعاء...، ومع ذلك منع من إجابة الدعاء، أو استبعد النبي صلى الله عليه وسلم إجابته؛ لأنه كان يتغذى بالحرام والعياذ بالله.فتح ذي الجلال والإكرام(2/361 ـ ٣٦٢).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
والإشكال في هذا الحديث أنْ يُقال: كيف يسأل وهو يصلي؟
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنْ يكون السؤال في الصلاة؛ وذلك على ثلاثة أوجه:
أحدها: أنْ يكون في التلاوة، فإنَّه إذا قرأ: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأنَا} البقرة: 286، فقد سأل.
والثاني: أنْ يسأل بعد القراءة، كما سبق في مسند حذيفة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: أنَّه كان إذا مر بآية رحمة سأل، وإذا مر بآية عذاب استعاذ.
والثالث: أنْ يسأل عند انقضاء التشهد؛ فإنه يسن عندنا أنْ يدعو عقب الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، إما بآيات من القرآن، أو بما صح في الحديث، وعند الشافعي: يدعو بما شاء.
والوجه الثاني: أنْ يُسَلِّم ويسأل، والساعة لم تنقض، فيكون معنى سؤاله في الصلاة: عند فراغها. كشف المشكل (3/ 426).
وقال العراقي -رحمه الله-:
أطلق في هذه الرواية المسؤول، وظاهره أنَّ جميع الأشياء في ذلك سواء، وفي رواية أخرى: «يسأل الله خيرًا» وهي في الصحيحين من رواية محمد بن سيرين عن أبي هريرة، وفي صحيح مسلم من رواية محمد بن زياد عن أبي هريرة، وهي أخص من الأولى إنْ فُسِّر الخير بخير الآخرة، وإنْ فُسِّر بأعم من ذلك؛ ليشمل خير الدنيا، فيحتمل مساواتها للرواية الأولى، ويحتمل أنْ يُقال: إنَّها أخص أيضًا؛ لأنه قد يدعو بشيء ليس خيرًا في الدنيا، ولا في الآخرة، بل هو شرٌّ محضٌ يحمله على الدعاء به سوء الخُلق والحرج، فيُحمل المطلق على المقيد.
وقد ورد التقييد أيضًا في حديث سعد بن عبادة: «أنَّ رجلًا من الأنصار أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: أخبرنا عن يوم الجمعة ماذا فيه من الخير؟ قال: فيه خمس خلال... -الحديث-، وفيه ساعة لا يَسأل عبدٌ فيها شيئًا إلا أتاه الله، ما لم يسأل مأثمًا أو قطيعة رحم» رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير، وإسناده جيد، وعَطَف قطيعة الرحم على المأثم، وإن دخل في عمومه؛ لعظم ارتكابه، وفي سنن ابن ماجه من حديث أبي لبابة: «ما لم يَسأل حرامًا»، وروى الطبراني في معجمه الأوسط من حديث أنس قال: «عُرِضَت الجمعة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ...» الحديث، وفيه: «وفيها ساعة لا يدعو عبد ربَّه بخير هو له قَسْمٌ إلا أعطاه، أو يتعوذ من شرٍّ إلا دَفَعَ عنه ما هو أعظم منه»، ففي هذا الحديث: أنه لا يُجاب إلا فيما قُسِمَ له، وهو كذلك، ولعله لا يُلهَم الدعاء إلا فيما قُسِمَ له؛ جمعًا بينه وبين الحديث الذي أُطْلِقَ فيه أنه يُعطى ما سأله، ولكن جاء في حديث أنس في رواية ذكرها البيهقي في المعرفة: «وإن لم يكن قِسَمَ له دَخَرَ له ما هو خير منه»، وقوله: «أو يتعوذ من شر إلا دَفَعَ عنه ما هو أعظم منه»، لم يذكر فيه دَفْعَ المستعاذ منه، فكأن المعنى: دفَعَ عنه ما هو أعظم إن لم يُقَدَّر له دَفْع ما تعوذ منه، ويحتمل أنه سقط منه لفظة (أو)، وأنه كان: إلا دُفِعَ عنه، أو ما هو أعظم منه، فإنَّ نُسَخَ المعجم الأوسط يقع فيها الغلط كثيرًا؛ لعدم تداولها بالسماع.
وقد ورد في حديث: «إنَّ الداعي لا يُخْطِئُه إحدى ثلاث: إما أنْ يُستجاب له، أو يُدَّخَر له في الآخرة، أو يُدفَع عنه من سوء مثلها»، ولكن ذلك الحديث في مطلق الدعاء، فلا بد وأن يكون للدعاء في ساعة الإجابة مزيد مزية، وقد يقال: ذُكِرَ في مطلق الدعاء أن يدفع عنه من السوء مثلها، وذكر في ساعة الإجابة دفع ما هو أعظم منه، فهذه هي المزية، والله أعلم. طرح التثريب (3/ 214-215).
قوله: «زاد قُتَيْبَةُ في روايته: وأشارَ بيدِهِ يُقَلِّلُهَا»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قوله: «زاد قتيبة في روايته» وقوله: «وأَشار بيدهِ يُقلِّلها» مفعول «زاد» محكِي لقصد لفظه؛ يعني: أنَّ قتيبة زاد في روايته عن مالكٍ على رواية يحيى عنه هذه الجملة، فقوله: «يُقلِّلها» جملة حالية مِن فاعِل «أشار»، وهو ضمير النبي -صلى الله عليه وسلم-. البحر المحيط الثجاج (17/ 126).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «وأشار بيده» كذا هنا بإبهام الفاعل، وفي رواية أبي مصعب عن مالك: «وأشار رسول الله -صلى الله عليه وسلم-»، وفي رواية سلمة بن علقمة التي أَشَرْتُ إليها: «ووضَع أنملته على بطن الوسطى أو الخنصر، قلنا: يُزَهِّدها»، وبيَّن أبو مسلم الكجي أنَّ الذي وضع هو بِشر بن المفضل، راويه عن سلمة بن علقمة، وكأنه فسَّر الإشارة بذلك، وأنها ساعة لطيفة تتنقل ما بين وسط النهار إلى قُرب آخره، وبهذا يحصل الجمعُ بينه وبين قوله: «يُزَهِّدها أي: يُقلِّلها»، ولمسلم من رواية محمد بن زياد عن أبي هريرة «وهي ساعة خفيفة»، وللطبراني في الأوسط في حديث أنس «وهي قَدْرُ هذا» يعني: قبضة.
قال الزين ابن المنير: الإشارة لِتَقْلِيلها هو للترغيب فيها، والحضِّ عليها؛ ليَسَارَةِ وقتِها، وغَزَارة فضلها. فتح الباري (2/ 416).
وقال العراقي -رحمه الله-:
قوله: «وأشار بيده يُقلِّلها» لم يُبيِّن كيفية هذه الإشارة، وقد تقدَّم في رواية للبخاري: «ووَضَع أنملتَه على بطن الوسطى والخنصر»، والظاهر: أنَّ المراد أنملة الإبهام، وقد يقال: كيف وضعها على بطن الوسطى والخنصر وبين هذين الأصبعين أصبع أخرى وهي البُنْصُر؟ ولعله عَرَّضَ الإبهام على هذه الأصابع، وسكت عن ذِكْرِ البُنْصُر؛ لأنه إذا وَضَعَ الإبهام عرضًا على الوسطى والخُنصر، فلا بد وأن يكون موضوعًا على البُنْصُر أيضًا، فسكتَ عنه لفهمه مما ذكر، وأما إذا كان الإبهام موضوعًا على استقامته، فلا يمكن أنْ يكون موضوعًا على الوسطى والخنصر في حالة واحدة، والله أعلم.
(و) فيه: العمل بالإشارة، وأنَّها قائمة مقام النطق إذا فُهِمَ المراد بها، وقد أورده البخاري في باب الإشارة في الطلاق والأمور، وإنما اكتفى أصحابنا بالإشارة في الطلاق والعقود ونحوها من الأخرس الذي لا يقدر على النطق إذا كانت له إشارة مفهومة، أما الناطق فلم يكتفوا بإشارته في العقود والفسوخ ونحوها، وإنما اكتفوا بها في الأمور الخفيفة.
(و) قد ورد التصريح بذلك لفظًا بقوله: «وهي ساعة خفيفة» وهو في صحيح مسلم من حديث محمد بن زياد عن أبي هريرة، وفي معجم الطبراني الأوسط عن أنس أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال «ابْتَغُوا الساعة التي تُرْجَى في الجمعة ما بين العصر إلى غيبوبة الشمس، وهي قدر هذا؛ يعني قبضة»، وفي حديث عبد الله بن سلام عند ابن ماجه: «أو بعض ساعة»؛ وذلك يدل على قِصَرِ زمانها، وأنها ليست مستغرقة لما بين جلوس الإمام على المنبر وآخر الصلاة، ولا لما بين العصر والمغرب، بل المراد على هذين القولين، وعلى جميع الأقوال: أنَّ تلك الساعة لا تخرج عن هذا الوقت، وأنَّها لحظة لطيفة. طرح التثريب في شرح التقريب (3/ 216).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«وأشار بيده يُقللها»، كيف الإشارة بالتقليل؟ المهم: أَنه أَشار بيده بما يدلُّ على أَنها قريبة، وفي رواية لمسلم: «وهي ساعة خفيفة» يعني: يسيرة ليست بطويلة...فتح ذي الجلال والإكرام(/362)
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
الإشارة إلى تقليلها يَدل على أَنها ليست ساعةً زمانيةً، بل هي عبارة عن زَمنٍ يسيرٍ. فتح الباري(8/٢٨8).
وقال ابن رجب -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «يُزهدها» ، معناه: يُقللها -أيضًا-، ومنه الزُّهد في الدّنيا، وهو احتقارها وتقليلها وتحقيرها، هو مِن أَعمال القلوب، لا من أعمال الجوارح.
وقد رُوي حديث يَدل على أنها بعض ساعةٍ، فروى الضحاك بن عثمان، عن سالمٍ أبي النَّضر، عن أبي سلمة، عن عبد الله بن سلامٍ، قال: قلت: ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالسٌ، إنَّا لنَجِد في كتاب الله في يوم الجمعة ساعة، لا يُوافقها عبدٌ مؤمن يُصلي يسأل الله شيئًا، إلا قضى له حاجته. قال عبد الله: فأشار إليّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أو بعض ساعة». قلت: صَدقت أو بعض ساعة، قلت: أيُّ ساعة هي؟ قال: «آخر ساعة من ساعات النهار»، قلت: إنها ليست ساعة صلاةٍ؟ قال: «بلى، أن العبد المؤمن إِذا صلى ثم جلس، لا يجلسه إلا الصلاة، فهو في صلاة»، خرّجه الإمام أحمد وابن ماجه، وهذا لفظه.فتح الباري(8/٢٨٩).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
وفي رواية له(مسلم): «وهي ساعة خفيفة». وذَكر الرافعي عَقب روايته لهذا الحديث ما نصه، قال كعب الأحبار: هي الساعة بعد العصر. اعترض عليه بأنه -عليه السلام- قال: «يصلي» والصلاة بعد العصر مكروهة، فأجاب بأن العبد في الصلاة ما دام ينتظر الصلاة.
قلت: الموجود في كتب الحديث أنّ ذلك مِن قول عبد الله بن سلام لا من قول كعب، والمعترض هو أبو هريرة.
وكذا أخرجه مالك في الموطأ، وأصحاب السُّنن الأربعة، وابن حبان والحاكم في صحيحيهما، قال الترمذي: حديث صحيح. وقال الحاكم: (صحيح) على شرط الشيخين. ولعل سبب ما وقع فيه الرافعي أنه وقع في الحديث أنَّ أبا هريرة سأل أولًا كعب الأحبار، ثم سأل عبد الله بن سلام فأجابه، ثم اعترض عليه وأجابه بما تقدم، فتنبه لذلك.البدر المنير في تخريج الأحاديث الواقعة في الشرح الكبير(8/١٩٤).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
فإنْ قيل: ظاهر الحديث حصول الإجابة لكل داعٍ بالشرط المتقدِّم، مع أنَّ الزمان يختلف باختلاف البلاد والمصلي، فيتقدَّم بعض على بعض، وساعة الإجابة متعلقة بالوقت، فكيف تتفق مع الاختلاف؟
أُجيبَ: باحتمال أنْ تكون ساعة الإجابة متعلِّقة بفعل كل مصلٍّ، كما قيل نظيره في ساعة الكراهة، ولعل هذا فائدة جَعْلِ الوقت الممتد مَظِنَّة لها، وإن كانت هي خفيفة، ويحتمل أنْ يكون عبَّر عن الوقت بالفعل، فيكون التقدير: وقتُ جواز الخطبة أو الصلاة، ونحو ذلك، والله أعلم. فتح الباري (2/ 422).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
في هذا الحديث: دليل على فضل يوم الجمعة، ودليل على أنَّ بعضه أفضل من بعض؛ لأن تلك الساعة أفضل من غيرها، وإذا جاز أنْ يكون يومٌ أفضل من يوم، جاز أنْ تكون ساعةٌ أفضل من ساعة، والفضائل لا تُدرك بقياس، وإنَّما فيها التسليم والتعلُّم والشكر. التمهيد (19/ 18).
قال المناوي-رحمه الله-:
قال الشافعية: ويُسن الإِكثار من الدعاء يَومها رجاء مُصادفتها وفي تعيينها بضعة وأربعون قولًا كما في ليلة القدر. قال البيهقي: فكان النبي يَعلَمُها بعينها ثم أنسيها كما أُنسي ليلة القدر. قال ابن حجر: وهذا رواه ابن خزيمة عن أبي سعيد صريحًا.فيض القدير(3/٤٩٤).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده:
1. منها: بيان فضل يوم الجمعة؛ لاختصاصه بهذه الساعة التي لا توجد في غيره، وقد ورد التصريح بأنه خير يوم طلعت فيه الشمس...
2. ومنها: بيان فضل الدعاء يوم الجمعة، واستحباب الإكثار منه فيه؛ رجاء مصادفة تلك الساعة، ولا سيما في الوقتين المذكورين في الحديث، وهما من جلوس الإمام على المنبر إلى فراغه من الصلاة، وبعد صلاة العصر إلى المغرب...
3. ومنها: ما قيل: إنه استُدل به على بقاء الإجمال بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتُعقِّب بأنه لا خلاف في بقاء الإجمال في الأحكام الشرعية لا في الأمور الوجودية، كوقت الساعة، فهذا لا اختلاف في إجماله، والحكم الشرعي المتعلق بساعة الجمعة، وليلة القدر، وهو تحصيل الأفضلية يمكن الوصول إليه، والعمل بمقتضاه باستيعاب اليوم والليلة، فلم يبق في الحكم الشرعي إجمال، والله تعالى أعلم.
4. ومنها: ما قيل: الحكمة في إخفاء هذه الساعة في هذا اليوم: أن يجتهد الناس فيه، ويستوعبوه بالدعاء، ولو عُرِفَت لخَصُّوها بالدعاء، وأهملوا ما سواها، وهذا كما أنه تعالى أخفى اسمه الأعظم في أسمائه الحسنى؛ ليُسْأَل بجميع أسمائه، وأخفى ليلة القدر في أوتار العشر الأخير، أو في جميع شهر رمضان، أو في جميع السنة على الخلاف في ذلك؛ ليجتهد الناس في هذه الأوقات كلها، وأخفى أولياءه في جملة المؤمنين حتى لا يُخَصّ بالإكرام واحدٌ بعينه.
5. ومنها: أنه قد ورد في ساعة الجمعة هذه ما ورد في ليلة القدر؛ من أنه -صلى الله عليه وسلم- أُعْلِمَ بها، ثم أُنْسِيَهَا...
6. ومنها: أنَّ فيه العمل بالإشارة، وأنها قائمة مقام النطق، إذا فُهِمَ المراد بها. البحر المحيط الثجاج (17/130- 133).
وللاستفادة من الروايات الأخرى ينظر (هنا) و (هنا)