«مَن سألَ الناسَ وله ما يُغْنِيه، جاء يومَ القيامةِ ومسألتُهُ في وجهِهِ خُمُوشٌ، أو خُدُوشٌ، أو كُدُوحٌ، قيل: يا رسول الله، وما يغنيه؟ قال: خمسونَ درهمًا، أو قيمتُهَا من الذهبِ».
رواه أحمد برقم: (4440)، وأبو داود برقم: (1626)، والترمذي برقم: (650) واللفظ له. والنسائي برقم: (2592)، وابن ماجه برقم: (1840)، من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (6279)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (499).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«خُمُوشٌ»:
الخَمْش: الخَدْش في الوجه، وقد يستعمل في سائر الجسد. لسان العرب، لابن منظور (6/299).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
«خُمُوشًا»: أي: خُدُوشًا، يقال: خَمَشَتْ المرأة وجهها تخْمِشه خمشًا وخموشًا. النهاية (2/ 79-80).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
والخَمْش: قَشْرٌ بالأظفار. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/482).
«خُدُوشٌ»:
الخدوش: الآثار. لسان العرب، لابن منظور (6/ 292).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
الخَدْش: قَشْرُ الجلد بِعُود ونحوه. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/482).
«كُدُوحٌ»:
الكَدْحُ: قَشْرُ الجلد، يكون بالحجر والحافر. لسان العرب، لابن منظور (6/291).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
الكُدُوح: الخُدُوش، وكل أثر مِن خَدْشٍ أو عضٍّ فهو كَدْحٌ. النهاية (4/155).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
والكَدْح: العَضُّ. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/482).
شرح الحديث
قوله: «مَن سأل الناس وله ما يُغْنِيه»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«مَن سأل» أي: مِن الناس أموالهم. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (23/187).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «وله ما يُغنيه» الواو فيه للحال، وكلمة «ما» بمعنى: شيء، أي: والحال أن له شيئًا يُغنيه عن السؤال. شرح سنن أبي داود (6/360).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«وله ما يغنيه» جملة في محل نصب على الحال من الفاعل، أي: والحال أن عنده ما يُغنيه عن مسألة الناس. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (23/187).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وله ما يُغنيه» أي: عن السؤال، ويكفيه بقدر الحال. مرقاة المفاتيح (4/1313).
قوله: «جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خُمُوشٌ، أو خُدُوشٌ، أو كُدُوحٌ»:
قال عبد الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
«ومسألته» أي: أَثَرُها. تحفة الأحوذي (3/252).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «خُمُوشٌ» مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: وهي خُمُوشٌ، أي: المسألة خُمُوشٌ في وجهه، وتكون الجملة حالًا. شرح سنن أبي داود (6/360).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
وفي رواية النسائي: «مَن سأل وله ما يُغنيه جاءت خموشًا أو كُدُوحًا في وجهه يوم القيامة» بنصب خُمُوش وكُدُوح على أنهما حالان من الضمير في «جاءت» العائد على المسألة. المنهل العذب المورود شرح سنن الإمام أبي داود (9/249).
وقال عبد الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
«في وجهه خُمُوش أو خُدُوش أو كُدوح» بضم أوائلها. تحفة الأحوذي (3/252).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
قيل: الخَمْشُ جراحة في اللحم، والخَدْشُ في الجلد، والكَدْحُ فوق الجلد.
قيل: «أو» هذه للشك من الراوي، ويجوز أن يكون الكل من النبي -عليه الصلاة والسلام- على سبيل الترتيب بين منازل السائلين في الذلِّ والهوان لما كانوا متفاوتين في السؤال على ثلاثة مراتب: مستقل، ومتوسط، ومستكثر. شرح مصابيح السنة (2/448).
وقال المظهري -رحمه الله-:
هذه الألفاظ كلها متقاربة المعنى، وشكَّ الراوي في أن رسول الله -عليه السلام- تلفَّظ بأي هذه الألفاظ. المفاتيح في شرح المصابيح (2/519).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
قلتُ: هذه الألفاظ متقاربة المعاني، وكلها يُعرِب عن أثر ما يظهر على الجلد واللحم من ملاقاة الجسد ما يقشر أو يجرح.
والظاهر أنه قد اشتبه على الراوي ما تلفظ به النبي -صلى الله عليه وسلم- من هذه الثلاث، فذكَر سائرَها احتياطًا في مراعاة ألفاظه.
ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكَرها على ما في الحديث؛ وذلك أظهر لفقدان البيان في الوجه الأول.
وعلى هذا فيكون دخول «أو» للتقسيم لا على سبيل الارتياب، وفي هذا الوجه يفتقر أن نُفَرِّق من الألفاظ الثلاثة في المعنى؛ ليصح التقسيم، فنقول: الكَدْحُ دون الخَدش، والخَدْشُ دون الخَمْش، يقال: خَمَشَت المرأة وجهها: إذا خَدَشَتْهُ بظفر أو حديدة أو نحوها.
والخَمْشُ يستعمل على معنى القطع، يقال: خَمَشَنِي فلان، أي: قطع مني عضوًا.
ومنه حديث قيس بن عاصم المنقري: «كانت بيننا وبينهم خُمَاشَاتٍ في الجاهلية»، قال النضر بن شُمَيل: ما دون الدِّية فهي خماشات، مثل: قطع يد أو رِجْلٍ أو أُذْنٍ.
قلتُ: ولا يُستعمل الخَدْشُ مكان الخَمْشِ في هذا الموضع، فتبين لنا أن الخَمْشَ أبلغ في معناه من الخَدْشِ، والخَدْشُ أبلغ من الكَدْحِ؛ لأن الكُدوح يقال للآثار التي تظهر من الخدش والعضِّ ونحوه، وإنما يقال للحمار: مُكَدَّحٌ، إذا كان به آثار العضاض.
ولما كان الناس في المسألة على ثلاث مراتب: مُقِلّ، ومستكثر، ومفرِّط فيها، ذكر هذه الأقسام الثلاثة؛ ليبين بها منازل هؤلاء الثلاثة، فيما ينالهم من الهوان وسقوط الجاه والمنزلة. الميسر في شرح مصابيح السنة (2/435).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
هي في أصلها مصادر، لكنها لما جعلت أسماء للآثار جُوِّزَ جمعها؛ ولَمَّا كان السؤال على ثلاثة أصناف: مُقِلّ، ومفرط، ومتوسط، ذكر هذه الآثار الثلاثة المتفاوتة بالشدة والضعف وردَّد بينها. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/482).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
ولعل المراد بها آثار مُستنكَرة في وجهه حقيقة، أو أمارات ليُعرَف ويشهر بذلك بين أهل الموقف. مرقاة المفاتيح (4/1313).
قوله: «قيل: يا رسول الله، وما يغنيه؟»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«قيل» أي: قال بعض الحاضرين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم أرَ مَن ذكر هذا القائل. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (10/561).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «وما يغنيه» أي: كم هو؟ أو أي مقدار من المال يغنيه؟ مرقاة المفاتيح (4/1313).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
«وما يغنيه؟» أي: ما الغنى المانع عن السؤال؟ وليس المراد بيان الغنى الموجب للزكاة أو المحرم لأخذها من غير سؤال. مرعاة المفاتيح (6/267).
قوله: «قال: خمسون درهمًا، أو قيمتها من الذهب»:
قال المظهري -رحمه الله-:
«خمسون درهمًا» هذا ليس بعامٍّ، بل في حق مَن كان يكفيه خمسون درهمًا، أما مَن كان له عيال كثيرة ولا يكفيه خمسون درهمًا ولا يقدر على كسبٍ فيجوز له السؤال حتى يحصِّل قوته وقوت عياله. المفاتيح في شرح المصابيح (2/519).
وقال المظهري -رحمه الله- أيضًا:
مَن كان له قُوتُ غدائه وعَشائه لا يجوز له أن يسألَ في ذلك اليوم صدقةَ التطوع، وإنما يسأل إذا لم يكن له قُوتٌ، وهو مضطرٌّ، فيجوز له السؤالُ بقَدْر ما يأكل، ولا يَدَّخر.
وأما الزكاةُ المفروضةُ فيجوز لمَن هو مستحقٌّ للزكاة أن يسألَها بقَدْر ما يتمُّ له نفقةُ سَنةٍ لنفسه وعياله وكسوتهم؛ لأن تفريقَ الزكاة لا يكون في السَّنة إلا مرةً. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 520).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
وقوله: «خمسون درهمًا» في جواب: «ما يغنيه؟» بظاهره يدل على أن مَن مَلَك خمسين درهمًا أو عِدْلَها -أي: مثلها- من جنس آخر فهو غني لا يحل له السؤال وأخذ الصدقة، وبه قال ابن المبارك وأحمد وإسحاق. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/483).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله- معقبًا:
وتُعقِّب (قول أحمد وابن المبارك وإسحاق) بأنه ليس في الحديث أن مَن مَلَكَ خمسين درهمًا لم تحل له الصدقة، إنما فيه أنه كَرِهَ المسألة فقط، فلا يحل له أخذ الزكاة بالسؤال، وأما الأخذ من غير سؤال فلا دليل فيه على منعه. مرعاة المفاتيح (6/267).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
والظاهر: أن مَن وجد قدْرَ ما يُغَدِّيه ويُعَشِّيه على دائم الأوقات وفي أغلب الأحوال فهو غني، كما ذكر في الحديث الذي بعده، سواء حصل له ذلك بكسبِ يدٍ أو تجارة، لكن لَمَّا كان الغالب عليهم التصرف والتجارة، وكان يكفي هذا القدر أن يكون رأس مال يحصل بالتصرف فيه ما يسدُّ الحاجة في غالب الأمر قدَّرَه تخمينًا في هذا الحديث، وقدَّر في الحديث الثالث ما يقرب منه، وقال: «مَن سأل منكم وله أوقية أو عدلها» والأوقية يومئذٍ: أربعون درهمًا، وعلى هذا لا تنافي بينها ولا نسخ.
وقيل: حديث «ما يعَشِّيه» منسوخ بحديث الأوقية، وهو بهذا الحديث، ثم هو منسوخ بما روي مرسلًا أنه قال: «ومَن سأل الناس وله عِدْلُ خمس أَوَاقٍ فقد سأل إِلْحَافًا» وعليه أصحاب الرأي. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/483).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
مذهبه (يعني: أبا حنيفة) مَن مَلَكَ مائتي درهم يحرم عليه أخذ الصدقة، ومَن مَلَكَ قوت يومه يحرم عليه السؤال. ففرَّق بين الأخذ والسؤال، فما نُسب إليه غير صحيح، والأنسب بمسألة تحريم السؤال أن يكون أَمْرُ النسخ بالعكس؛ بأن نسخ الأكثر فالأكثر إلى أن تقرَّر أن مَن عنده ما يُغَدِّيه ويُعَشِّيه يحرم عليه السؤال، فيكون الحُكم تدريجيًّا بمقتضى الحكم كما وقع في تحريم الخمر، وأما في العبادات فوقع التدريج في الزيادات لما تقتضيه الحِكَم الإلهيات على وفق الطِّباع والمألوفات. مرقاة المفاتيح (4/1313).
وقال العيني -رحمه الله-:
مذهب أبي حنيفة: أنَّ دفع الزكاة لا يجوز على مَن يملك قدر نصاب فاضِل عن مَسْكنه، وخادمه، وفرَسه، وسلاحه، وثياب بدنه، وما يتأثث به، وكُتُب العلم إن كان من أهله. شرح سنن أبي داود (6/361).
وقال العيني -رحمه الله- أيضًا:
قلتُ: قال أصحابنا (الأحناف): الغنى الذي يحرُم به أخذ الصدقة وقبولها هو الذي تجب به صدقة الفطر والأضحية، وهو أنْ يملك من الأموال التي لا تجب فيها الزكاة ما يفضل عن حوائجه، وتبلغ قيمة الفاضل مائتي درهم من الثياب والفُرش والدور والحوانيت والدواب والخَدَم، زيادة على ما يحتاج إليه كل ذلك للابتذال والاستعمال لا للنماء والإسامة(من السوم وهو البيع)، فإذا فَضَلَ من ذلك ما تبلُغ قيمته مائتي درهم، وجب عليه صدقة الفطر والأضحية، وحرم عليه أخذ الصدقة.
ثم قَدْر الحاجة ما ذكره الكرخي في مختصره، فقال: لا بأس أن يُعطى من الزكاة مَن له مَسكن وما يتأثث به في منزله وخادم وفرس وسلاح وثياب البَدَن، وكُتُب العلم إن كان من أهله، فإن كان له فَضْلٌ عن ذلك تبلغ قيمته مائتي درهم حرُم عليه أخذ الصدقة؛ لما روي عن الحسن البصري أنه قال: كانوا يعطُون من الزكاة لمن يملك عشرة آلاف درهم من السلاح والفرس والدار والخادم.
وقوله: "كانوا" كناية عن أصحاب رسول الله -عليه السلام-.
وذكر في الفتاوى فيمَن له حوانيت ودور الغلَّة، لكن غلَّتَها لا تكفيه لعياله، أنه فقير، ويحل له أخذ الصدقة عند محمد، وعند أبي يوسف لا يحل، وعلى هذا إذا كان له كَرْمٌ لكن غلَّته لا تكفيه لعياله، وإن كان عنده طعام للقُوت يساوي مائتي درهم، فإن كان كفاية شهر يحل له أخذ الصدقة، وإن كان كفاية سَنة قال بعضهم: لا يحل، وقال بعضهم: يحل.
ثم جواب أصحابنا عن الحديث المذكور: أنه محمول على حرمة السؤال، معناه: لا يحل سؤال الصدقة لمن له خمسون درهمًا، أو عوضها من الذهب، أو يُحمل ذلك على كراهة الأخذ؛ لأن مَن له سداد من العيش فالتعفف أولى. نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار (8/47- 48).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
وأما تحديده الغنى الذي يحرم معه الصدقة بخمسين درهمًا، فقد ذهب إليه قوم من أهل العلم، ورأوه حدًّا في غِنى مَن تَحْرُم عليه الصدقة، منهم سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه.
وأبى القول به آخرون، وضعَّفوا الحديث للعلَّة التي ذكرها يحيى بن آدم، قالوا: وأما ما رواه سفيان فليس فيه بيان أنه أسْنَدَه، وإنما قال: فقد حدثنا زبيد عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد حسب، قالوا: وليس في الحديث أنَّ مَن ملك خمسين درهمًا لم تحل له الصدقة، إنما فيه أنه كَرِهَ له المسألة فقط؛ وذلك أنَّ المسألة إنما تكون مع الضرورة، ولا ضرورة بمن يجد ما يكفيه في وقته إلى المسألة.
وقال مالك والشافعي: لا حدَّ للغِنى معلوم، وإنما يُعتبر حال الإنسان بوسعه وطاقته، فإذا اكتفى بما عنده حرمت عليه الصدقة، وإذا احتاج حلَّت له.
قال الشافعي: قد يكون الرَّجُل بالدرهم غنيًّا مع كسب، ولا يغنيه الأَلْفُ مع ضعفه في نفسه وكثرة عياله.
وجعل أصحاب الرأي الحد فيه مائتي درهم وهو النصاب الذي تجب فيه الزكاة، وإنما أُمِرْنَا أنْ نأخذ الزكاة من الأغنياء، وأن ندفعها إلى الفقراء، وهذا إذا ثبت أنه غني يملك النصاب الذي تجب عليه فيه الزكاة، فقد خرج به من حدِّ الفقر الذي يستحق به أخذ الزكاة. معالم السنن (2/ 56-57).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
شرط السؤال: عدم وجدان الغنى؛ لوصف الله الفقراء بقوله: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ} البقرة:273؛ إذ مَن استطاع ضربًا فيها فهو واجِدٌ لنوع من الغنى. فتح الباري (3/341).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
قد اختلفت المذاهب في المقدار الذي يصير به الرجل غنيًّا، فذهبت الهادوية والحنفية إلى أن الغني مَن ملك النصاب فيَحْرُم عليه أخذ الزكاة، واحتجُّوا بما تقدم في حديث معاذ من قوله -صلى الله عليه وسلم-: «تُؤخَذ من أغنيائهم وتُرَدُّ في فقرائهم»، قالوا: فوصَف مَن تؤخذ منه الزكاة بالغنى، وقد قال: «لا تحل الصدقة لغني».
وقال بعضهم: هو مَن وجد ما يُغدِّيه ويعشِّيه، حكاه الخطابي، واستدل بما أخرجه أبو داود وابن حبان وصححه عن سهل بن الحنظلية قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَن سأل وعندَه ما يُغْنِيه فإنما يستكثر من النار، قالوا: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: قدر ما يُغَدِّيه ويُعَشِّيه»...
قال الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق وجماعة من أهل العلم: هو مَن كان عنده خمسون درهمًا أو قيمتها، واستدلوا بحديث ابن مسعود عند الترمذي وغيره مرفوعًا: «مَن يسأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة مسألتُه في وجهه خُمُوش، قيل: يا رسول الله، وما يُغنيه؟ قال: خمسون درهمًا أو حسابها من الذهب»...
وقال الشافعي وجماعة: إذا كان عنده خمسون درهمًا أو أكثر وهو محتاج فله أن يأخذ من الزكاة.
وروي عن الشافعي أن الرَّجُل قد يكون غنيًّا بالدرهم مع الكسب ولا يٌغنيه الأَلْفُ مع ضعفه في نفسه وكثرة عياله.
وقال أبو عبيد بن سلام: هو مَن وجد أربعين درهمًا، واستدل بحديث أبي سعيد... بلفظ: «وله قيمةُ أوقية»؛ لأن الأربعين الدرهم قيمة الأوقية.
وقيل: هو مَن لا يكفيه غلَّة أرضه للسَّنة، حكاه في البحر عن أبي طالب والمرتضى. نيل الأوطار (4/190).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
«خمسون درهمًا أو قيمتُها من الذهب» يعني: الغني على هذا الخبر مَن يملك خمسين درهمًا، يعني: ربع النصاب.
وإذا قُلنا: إن النصاب ستٌّ وخمسون ريالًا سعوديًا فضة، ربع الستة والخمسين أربعة عشر ريالًا، هذا غني، الذي يملك أربعة عشر ريالًا غني، نعم قد يكون غنيًّا قبل خمسين سنة، الذي يملك أربعة عشر ريالًا عربيًّا فضة في ذلك الوقت غني.
لكن ماذا عمَّن يملك أربعة عشر ريالًا يعني تعادل الآن قُلْ: ثلاثمائة ريالٌ، هذا غني وإلا ليس بغني؟ لأن الخبر فيه حدٌّ للغنى من الفقر، وليس حدًّا لوقت من الأوقات -لو صح الخبر-، فالذي عنده هذا المبلغ لا يجوز له أن يسأل، مع أن هذا المبلغ لا يُعَيِّشه يومًا واحدًا، يعني في أوساط الأُسَر لا يكفيهم يومًا واحدًا. شرح سنن الترمذي (30/9).
وقال عبد الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
«أو قيمتها من الذهب» أي: قيمة الخمسين من الذهب. تحفة الأحوذي (3/252).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
والمحذور هنا هو أن يسأل الإنسان وعنده شيء يُغنيه في يومه وليلته أو أكثر من ذلك...، فالإنسان الذي عنده كفايته لا يسأل في الوقت الذي عنده تلك الكفاية، ولكن إذا نفد ما عنده فله أن يسأل. شرح سنن أبي داود (198/3).
وقال العيني -رحمه الله-:
واعلم أن مَدَار الأحاديث في هذا الباب على كراهية المسألة، وهي على ثلاثة أوجه: حرام ومكروه ومباح.
فالحرام: لمن سأل وهو غني من زكاة، أو أظهر من الفقر فوق ما هو به.
والمكروه: لمن سأل وعنده ما يمنعه عن ذلك ولم يُظْهِر من الفقر ما هو به.
والمباح: لمن سأل بالمعروف قريبًا أو صديقًا.
وأما السؤال عند الضرورة فواجب لإحياء النفس، وأدخله الداودي في المباح.
وأما الأخذ من غير مسألة ولا إشراف نفس فلا بأس به. عمدة القاري (9/50).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
وفيه: دليل على أنَّ مَن ملك خمسين درهمًا، أو قيمتها من الذهب يحرم عليه السؤال، وهذا فرْدٌ من أفراد الغنى المانع عن السؤال؛ إذ لا عبرة للمفهوم، فلا دليل فيه على إباحة السؤال لمن كان عنده أقلّ من خمسين درهمًا مما بيّنه النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في أحاديث أُخَر.
وقيل: هذا الحديث منسوخٌ بحديث الأُوقيَّة، وهو منسوخ بـ«ما يُغدّيه، ويُعشّيه».
وقيل: يُجمع بين هذه الأحاديث بأنّ القَدْرَ الذي يَحرُم السؤال عنده هو أكثرها، وهي الخمسون عملًا بالزيادة. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (23/ 188)
وقال الشاه ولي الله الدهلوي -رحمه الله-:
وجاء في تقدير الغُنية المانعة من السؤال أنها أوقية أو خمسون درهمًا، وجاء أيضًا أنها ما يُغَدِّيه أو يُعَشِّيه، وهذه الأحاديث ليست متخالفة عندنا؛ لأن الناس على منازل شتى، ولكل واحد كسب لا يمكن أن يتحول عنه، أعني الإمكان المأخوذ في العلوم الباحثة عن سياسة المدن، لا المأخوذ في علم تهذيب النفس، فمَن كان كاسبًا بالحرفة فهو معذور حتى يجد آلات الحرفة، ومَن كان زارعًا حتى يجد آلات الزرع، ومَن كان تاجرًا حتى يجد البضاعة، ومَن كان على الجهاد مسترزقًا بما يروح ويغدو من الغنائم، كما كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فالضابط فيه أوقية أو خمسون درهمًا، ومَن كان كاسبًا يحمل الأثقال في الأسواق، أو احتطاب الحطب وبيعه، وأمثال ذلك فالضابط هو ما يغدِّيه أو يُعشِّيه. حجة الله البالغة (2/ 71).
وقال الترمذي -رحمه الله- بعد أنْ خرَّج هذا الحديث:
والعمل على هذا عند بعض أصحابنا، وبه يقول الثوري وعبد الله بن المبارك وأحمد وإسحاق قالوا: إذا كان عند الرَّجل خمسون درهمًا لم تحل له الصدقة، ولم يذهب بعض أهل العلم إلى حديث حكيم بن جبير، ووسَّعوا في هذا، وقالوا: إذا كان عنده خمسون درهمًا أو أكثر وهو محتاج فله أنْ يأخذ من الزكاة، وهو قول الشافعي وغيره من أهل الفقه والعلم. سنن الترمذي (3/ 32).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وهذا باب اختَلف العلماء فيه، ونحن نذكره ها هنا وبالله توفيقنا: فأما مالك -رحمه الله- فروى عنه ابن القاسم أنه سُئل هل يُعطى من الزكاة مَن له أربعون درهمًا؟ فقال: نعم، وهو المشهور من مذهب مالك، وروى الواقدي عن مالك أنه قال: لا يُعطى من الزكاة مَن له أربعون درهمًا.
قال أبو عمر: هذا يحتمل أن يكون قويًّا مكْتَسِبًا، حَسَنَ التصرف في هذه المسألة، وفي الأولى ضعيفًا عن الاكتساب، أو مَن له عيال، والله أعلم. التمهيد (4/ 97-98).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله- أيضًا:
ليس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أصحابه في هذا الباب شيء يرفع الإشكال، ولا ذَكَرَ أحد عنه ولا عنهم في ذلك نصًّا غير ما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من كراهية السؤال وتحريمه لمن ملك مقدارًا ما في آثار كثيرة مختلفة الألفاظ والمعاني، فجعلها قوم من أهل العلم حدًّا بين الغني والفقير، وأبى ذلك آخرون، وقالوا: إنما فيها تحريم السؤال أو كراهيته، فأما مَن جاءه شيء من الصدقات من غير مسألة فجائز له أخذه وأكْلُه ما لم يكن غنيًّا الغنى المعروف عند الناس، فتحرم عليه حينئذٍ الزكاة دون التطوع، ولا خلاف بين علماء المسلمين أن الصدقة المفروضة لا تحل لغني، إلا ما ذُكر في حديث أبي سعيد الخدري على ما يأتي ذكره -إن شاء الله- في موضعه من كتابنا هذا، واختلفوا في الصدقة التطوع هل تحل للغني؟ فمنهم مَن يرى التنزه عنها، ومنهم مَن لم يرَ بها بأسًا إذا جاءت من غير مسألة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- لعمر: «ما جاءك من غير مسألة فكُلْهُ وتَمَوَّلْهُ؛ فإنما هو رزق ساقه الله إليك»، مع إجماعهم على أن السؤال لا يحل لغني معروف الغنى، وأكثر مَن كَرِهَ صدقة التطوع إنما كَرِهَها من أجل الامتنان، ورأوا التنزه عن التطوع من الصدقات لما يلحق قابِضَها مِن ذُلِّ النفس والخضوع لمعطيها، ونزعوا أو بعضهم بالحديث «إنَّ الصدقة أوْسَاخُ الناس يغسلونها عنهم»، فرأوا التنزه عنها، ولم يجيزوا أخذها لمن استغنى عنها بالكفاف ما لم يضطروا إليها، حتى لقد قال سفيان (الثوري) -رحمه الله-: "جوائز السلطان أحب إليَّ من صلات الإخوان؛ لأنهم يَمُنُّون".
ويحتمل مع هذا أنه رأى أن له في بيت المال حقًّا. التمهيد (4/105- 106).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
والحاصل: أنَّ الغنى المانع من أخذ الزكاة هو الكفاية، فإذا لم يكن محتاجًا حَرُمت عليه الزكاة، وإن لم يملك شيئًا، وإن كان محتاجًا حلَّت له، وإن مَلَك نصابًا أو أكثر من أي نوع كان فتُقدَّر الكفاية بسدِّ الحاجة، لا بخمسين درهمًا، أو نحوها؛ لأن اللَّه تعالى جعلها للفقراء والمساكين، فكلّ مَن له حاجة فهو فقير -وذلك يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأمكنة- فيقدَّر فقر كلِّ أحد على حسب حاله، فيجوز له أخذ الزكاة بقدر ما يسدُّ حاجته، فرُبَّ شخص يكون عنده ألف أو أكثر ولا يكفيه؛ لكثرة عياله، فتحلّ له الزكاة، وآخر عنده عشرة دراهم، ولا يحتاج إلى غيرها، فلا تحلّ له.
وأما النصوص التي اعتمدوا عليها من تقدير الغنى بالخمسين، أو أربعين، أو بما يغدّيه ويعشِّيه، فإنما هي للنهي عن السؤال، لا لأخذ الصدقة من غير سؤال، على أن بعضها لا يصحّ كحديث الخمسين. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (23/ 195).
وللاستفادة من الروايات الأخرى ينظر (هنا) و (هنا)