«صَعِدَ النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- المِنْبَرَ، فقال: آمِينَ آمِينَ آمِينَ، قال: أتاني جبريلُ -عليه السَّلام-، فقال: يا محمدُ مَنْ أَدْرَكَ أَحَدَ والديْهِ فماتَ فدخلَ النَّارَ، فَأَبْعَدَهُ اللهُ، قُلْ: آمينَ، فقلتُ: آمينَ، قال: يا محمدُ مَنْ أَدْرَكَ شهرَ رمضانَ فماتَ، فلم يُغْفَرْ له فَأُدْخِلَ النَّارَ، فَأَبْعَدَهُ اللهُ. قُلْ: آمينَ، فقلتُ: آمينَ، قال: ومَنْ ذُكِرْتَ عندَهُ فلم يُصَلِّ عليك فماتَ فَدَخَلَ النَّارَ، فَأَبْعَدَهُ اللهُ، قُلْ: آمينَ، فقلتُ: آمينَ».
رواه ابن حبان برقم: (455)، والطبراني في المعجم الكبير برقم: (2022)، والبيهقي في شعب الإيمان برقم: (3350)، من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (75)، صحيح الترغيب والترغيب برقم: (2491).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«آمين»:
أي: اللهمَّ استجب، ويقال: أَمين بالقصر، وآمين بالمدّ. الأضداد، لابن الأنباري (ص: 63).
قال ابن الأثير -رحمه الله-:
ومعناه: اللهمَّ استجب لي، وقيل: معناه: كذلك فليكن، يعني: الدعاء. النهاية (1/ 72).
«جبريل»:
معناه: عبد الله، فالجَبْر العبد، والإِيل والإِلّ الربوبية، وكان ابن يعمَر يقرأ: جَبْرَئلّ، بتشديد الَّلام.
وقال بعض المفسرين: الإِلّ هو الله جلَّ اسمه...، ويُحكى عن أَبي بكر الصديق -رضي الله عنه الله- أَنَّ المسلمين لمَّا قدموا عليه من قِتال مُسَيْلمة استقرأَهم بعض قرآنه، فلمَّا قرؤوا عليه عَجِب، وقال: إِنَّ هذا كلام لم يخرج من إِلّ، أَي: من ربوبية...، وقالَ بعض المفسِّرين: جِبْرائيل معناه: عبد الله، وإِسرافيل معناه: عبد الرحمن، وكلّ اسم فيه إِيل، فهو معبّد لله -عزَ وجلّ-. الأضداد، لابن الأنباري (ص: 395).
«أدرك»:
والإدراك: اللحوق...، يُقالُ: مَشَى حتَّى أدركه، وعاش حتَّى أدرك زمانه. مختار الصحاح، الرازي (ص: 104).
شرح الحديث
قوله: «صعد النبي -صلى الله عليه وسلم- المنبر»:
قال الفيومي -رحمه الله-:
الصعود هو الرقي على المنبر أو غير. والمنبر معروف. فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب (10/ 459).
قوله: «آمين آمين آمين»:
قال الفيومي -رحمه الله-:
«آمين» تمد وتقصر، وتشديد الممدود لغية، وقيل: هو اسم من أسماء الله تعالى. وقيل: معناها: اللهم استجب، أو كذا فافعل، أو كذلك فليكن. فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب (3/ 598).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«آمين» بالمد والقصر، أي: استجب. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح(9/ 313).
قوله: «قال: «أتاني جبريل -عليه السلام- فقال: يا محمد»:
قال ابن العربي -رحمه الله-:
قوله: «أتاني جبريل» هو إخبار منه أن هذا مما أتاه به جبريل، ولم يقتصر فيه على اجتهاد. المسالك في شرح موطأ مالك (4/ 311).
وقال الشيخ عطية سالم -رحمه الله-:
«أتاني جبريل» فهو يأتيه بكل ما أراد الله -سبحانه وتعالى- أن يوحيه إليه، فقد يأتيه بوحي من كتاب الله قرآنًا، وقد يأتيه بخبر آخر سوى ذلك. شرح بلوغ المرام (166/ 5).
وقال الجواليقي -رحمه الله-:
قال ابن الأنباري -رحمه الله-: في جبرئيل سبع لغات: جِبرِيل، وجَبريل، وجَبرَئِلُّ بكسر الهمزة وتشديد اللام، وجبرائيل بهمزة بعدها ياء مع الألف، وجبراييل بياءين بعد الألف، وجَبرَئيل بهمزة بعد الراء وياء، وجَبرَئِلُ بكسر الهمزة وتخفيف اللام، وجَبرِين، وجِبرِين. المعرب (ص: 258).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«جبريل» كفعيل بالكسر، وفيه نحو عشرين وجهًا، وهو سرياني معناه: عبد الرحمن أو عبد العزيز، كما صح عن الحَبر (ابن عباس). و(إيل) اسم الله عند الأكثر. فيض القدير (1/ 94).
وقال ابن أبي حاتم -رحمه الله-:
حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، ثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن عمير مولى ابن عباس (عنه) قال: إنما قوله: جبريل كقوله: عبد الله وعبد الرحمن. (و) حدثنا أحمد بن سنان، ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن الأعمش، وقال: (جبر) عبد، و(إيل): الله. تفسير ابن أبي حاتم (1/ 182).
قوله: «من أدرك أحد والديه فمات فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، فقلتُ: آمين»:
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
وظاهره أن بِرَّهما مكفر لكثير من السيئات، وراجح بها، وأنه لا يمنعه دخول الجنة إلا التقصير في حقهما، أو التكثير من الكبائر التي ترجح برهما في ميزانه، لا سيما إذا أدركهما عند الكبر، وضعفا عن الكسب والتصرف، واحتاجا إلى خدمتهما والقيام عليهما. إكمال المعلم (8/ 14).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
يعني ذلك: خاب وخسر من أدرك تلك الفرصة التي هي موجبة للفلاح والفوز بالجنة، ثم لم ينتهزها، وانتهازها هو ما اشتمل عليه قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا} الإسراء: 23 إلى قوله: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} الإسراء: 24؛ فإنه دل على الاجتناب عن جميع الأقوال المحرمة، والإتيان بجميع كرائم الأقوال والأفعال، من التواضع والخدمة والإنفاق عليهما، ثم الدعاء لهما في العاقبة. الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3155).
وقال الشيخ عطية سالم -رحمه الله-:
ففي بر الوالدين عظيم الأجر، فالإنسان إذا أتاح الله له وجود والديه أو أحدهما، ولم يعمل على برهما وحسن عشرتهما حتى يدخلاه الجنة، فهذا ليس فيه خير؛ ولذا فضَّل النبي -صلى الله عليه وسلم- بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله، كما في الحديث: «لما أتاه شاب من اليمن وقال: جئت أبايعك على الهجرة، وتركت أبوي يبكيان على خروجي، قال: ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما». فالجهاد في سبيل الله لا شيء أعلى منه، ومع هذا الرسول -صلى الله عليه وسلم- قدَّم بر الوالدين عليه، وكذلك إذا كان الأبوان إنما عظم حقهما؛ لأنهما السبب في وجود الإنسان من العدم إلى هذا العالم، وهو وجود مادي كما توجد أفراد الحيوانات، فالحيوانات تلقح وتنتج، وابن آدم أيضًا يلقح وينتج، فالطريقة واحدة، فكان لهما بهذا التسبب في إيجاده هذا الحق؛ لأن الموجد الحقيقي هو الله، وهما متسببان في إيجاده من الله، فكانا في الدرجة الثانية، كما في قوله سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} الإسراء:23، فحق الله أولًا ثم حق الوالدين. شرح بلوغ المرام (159/ 4).
قوله: «فأبعده الله»:
قال ابن الأثير -رحمه الله-:
«أبعده الله» أي: أذهبه وأهلكه، وهي وإن كان لفظها لفظ الخبر فإنها بمعنى الدعاء. الشافي في شرح مسند الشافعي (5/ 343).
قوله: «يا محمد من أدرك شهر رمضان فمات فلم يغفر له، فأدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، فقلتُ: آمين»:
قال الفيومي -رحمه الله-:
يعني: فإن لم يتب فيه من الذنوب، ولم يبالغ في طاعة الله حتى يجد الغفران. فتح القريب المجيب (7/ 708).
وقال ابن رجب -حمه الله- :
شهر رمضان تكثر فيه أسباب الغُفران، فمن أسباب المغفرة فيه صيامه وقيامه وقيام ليلة القَدْرِ.
ومنها: تفطير الصُّوام.
ومنها: الذّكر وفي حديث مرفوع: «ذاكر الله في رمضان مغفورٌ له».
ومنها: الاستغفار، والاستغفار: طلب المغفرة.
ودعاء الصائم مُستجاب في صيامه وعند فِطْرِهِ.
ومنها: استغفار الملائكة للصائمين حتى يفطروا.
فلمّا كثُرت أَسباب المغفرة في رمضان كان الذي تفوته المغفرة فيه محرومًا غاية الحِرْمَان. وفي صحيح ابن حبان، قال النبي ﷺ: «إنّ جبريل أتاني فقال: مَن أدرك شهر رمضان فلم يُغفر له فدخل النار، فأبعده الله قُلْ: آمين فقلت: آمين». لطائف المعارف (ص: ٣٧١ ـ 372.
وقال الشيخ عطية سالم -رحمه الله-:
ثم نأتي إلى رمضان، ورمضان هو شهر الخير وشهر المغفرة وشهر الرحمة، فإذا كان لله في كل ليلة من رمضان عتقاء من النار، وفي رمضان تتنزل الرحمات من الله تعالى، وفيه ليلة هي خير من ألف شهر، وفيها تغمر الملائكة الأرض، وتسلم على أهلها، من قامها غفر له ما تقدم من ذنبه، فإذا كان هذا الفضل كله في رمضان ولم يغفر له فيه، ولم ينل حظًّا منه فمتى ينال حظًّا؟!. شرح بلوغ المرام (159/ 4).
قوله: «قال: ومَنْ ذكرتَ عنده فلم يصل عليك فمات فدخل النار، فأبعده الله، قل: آمين، فقلتُ: آمين»:
وقال الشيخ محمد آدم الإتيوبي -رحمه الله-:
فهذه الأحاديث المشتملة على الوعيد المذكور، مَنْ تأملها حق التأمل تبيّن له وجوب الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- كُلما ذُكِرَ، فتبصر بالإنصاف، ولا تسلك سبيل الاعتساف. البحر المحيط الثجاج (9/ 452).
قال المغربي -رحمه الله-:
وقد استدل بهذه الأحاديث من أوجب الصلاة عليه كُلَّما ذُكِرَ؛ لأن الدعاء بالرَغِمَ (لصق بالتراب) والإبعاد والشقاء، والوصفَ بالبخل والجفاء يقتضي الوعيد، والوعيد على الترك من علامات الوجوب، ومن حيث المعنى أن فائدة الأمر بالصلاة عليه مكافأته على إحسانه، وإحسانه مستمر، فيتأكد إذا ذكر، وبقوله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} النور: 63، فلو كان إذا ذكر لا يصلى عليه لكان كآحاد الناس.
وأجاب من لم يوجب بأجوبة؛ منها: أنه قول لا يعرف عن أحد من الصحابة ولا التابعين، فهو قول مخترع، وفي ذلك حرج ومشقة جاءت الشريعة السمحة بخلافه، ولكان الثناء على الله كلما ذُكِرَ أحق بالوجوب، ولم يقولوا به. البدر التمام شرح بلوغ المرام (10/ 414- 415).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«ومَنْ ذُكِرْتَ عنده فلم يصل عليك فمات فدخل النار، فأبعده الله، قل: آمين، فقلتُ: آمين» فهذا الوعيد لا يكون إِلَّا لمن ترك الواجب، فدلّ على أن الصلاة عليه كُلما ذكر اسمه واجبة. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (15/ 149).
وقال الشيخ عطية سالم -رحمه الله-:
والنبي -صلى الله عليه وسلم- هو سبب إيجادك المعنوي الروحاني، وهو الإيجاد الأفضل والأبقى؛ لأن إيجاد الدين وإيجاد الإسلام والإيجاد مع الله هو الذي يستمر إلى الحياة الآخرة، أما الإيجاد الأول فينقطع، بل يتمنى صاحبه لو لم يكن، ويأتي يوم القيامة كما قال الله تعالى: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} النبأ:40، أي: ولم أوجد؛ لأنه لم يصحبه الإيجاد المعنوي الروحي وهو الإيمان بالله.
إذًا: إذا كان للأبوين فضل على الإنسان في وجوده من العدم، فللرسول على المسلم فضل إيجاده الإيجاد الأكمل، وهو الإيجاد المعنوي الروحي الذي يربطه بالله، ويسعده في الآخرة. شرح بلوغ المرام (159/ 4).
وقال الشيخ عطية سالم -رحمه الله- أيضًا:
إذًا: هذه الثلاث لها مناسبة، ولها ارتباط بعضها ببعض، ولهذا ذُكرت في حديث واحد.شرح بلوغ المرام (159/ 4).
وقال الشيخ عطية سالم -رحمه الله- أيضًا:
فلما تأملنا وتساءلنا عن علاقة ذكر هذه الثلاثة في سلك واحد .. في حديث واحد .. في وقت واحد؛ وجدنا أن عظيم الأجر في هذه الثلاث ...
إذًا: هذه الثلاث لها مناسبة ولها ارتباط بعضها ببعض ولهذا ذكرت في حديث واحد. شرح بلوغ المرام (159/ 4).