الإثنين 24 رمضان 1446 هـ | 24-03-2025 م

A a

«‌إنَّ ‌اللَّهَ ‌وضَعَ ‌عن ‌أُمَّتِي ‌الخطَأَ، والنِّسيانَ، وما اسْتُكْرِهُوا عليه».


رواه ابن ماجه برقم: (2045)، وابن حبان برقم: (7219)، والحاكم برقم: (2801) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.
صحيح الجامع برقم: (3515)، إرواء الغليل برقم: (2566).


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«الخطأ»:
هو الذنب الذي ليس للإنسان فيه قصدٌ، وضدُّه الصوابُ. التعريفات الفقهية، البركتي (ص: 87).
والخطأ: نقيض الصواب. الصحاح، للجوهري (1/ 47).

«والنسيان»:
بكسر النون: خلاف الذِّكر والحفظ. الصحاح، للجوهري (6/ 2508).
قال الفيومي-رحمه الله-:
يُقال: نسيت الشيء أنساه نسيانًا، مشترك بين معنيين: أحدهما: ترك الشيء على ذهول وغفلة؛ وذلك خلاف الذِّكر له، والثاني: الترك على تعمد، وعليه {‌وَلَا ‌تَنْسَوُا ‌الْفَضْلَ ‌بَيْنَكُمْ} البقرة: 237، أي: لا تقصدوا الترك والإهمال. المصباح المنير، للفيومي (2/ 604).

«اسْتُكْرِهُوا عليه»:
أي: حُمِلُوا على فعله قهرًا. التيسير، للمناوي (1/ 248).
قال ابن الهمام -رحمه الله-:
عبارة عن حمل الإنسان على شيء يكرهه، يُقَال: أكرهت فلَانًا إكراهًا: أي: حملته على أمر يكرهه. فتح القدير (9/ 232).


شرح الحديث


قوله: «إن الله وضع عن أمتي»:
قال الشيخ عبد القادر شيبة الحمد -رحمه الله-:
«إن الله وضع عن أُمتي» أي: أسقط عن أمتي. فقه الإسلام شرح بلوغ المرام (7/ 214).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
و«وضع» لا يكون إلا من تمام قبله. الاستذكار (1/ 18).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله- أيضًا:
وظاهر قوله: «وضع» أنَّ ذلك فيما قد كان وجب، فوضع منه أو فيه. الأجوبة عن المسائل المستغربة من كتاب البخاري (ص: 144).
وقال النووي -رحمه الله-:
قوله: «إنّ الله وضع عن أُمتي» محمول على رفع الإثم؛ فإنه عام خُصَّ منه غرامات المتلفات وانتفاض الوضوء بخروج الحدث سهوًا والصلاة بالحدث ناسيًا وأشباه ذلك فيخص هنا بما ذَكرناهُ، والله تعالى أعلمالمجموع، شرح المهذب(6/٣١١).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
اعلم أنَّ قاعدة الفقه: أنَّ النسيان والجهل مسقط للإثم مطلقًا، وأما الحكم: فإن وقعا في ترك مأمور لم يسقط، بل يجب تداركه، ولا يحصل الثواب المترتب عليه؛ لعدم الائتمار، أو فعل منهي ليس من باب الإتلاف فلا شيء فيه، أو فيه إتلاف لم يسقط الضمان، فإن كان يوجب عقوبة كان شُبهة في إسقاطها، وخرج عن ذلك صور نادرة. الأشباه والنظائر (ص: 188).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
«رُفع عن أُمتي: الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه» أي: إثم ذلك، وهذا لم يختلف فيه: أن الإثم مرفوع، وإنما اختلف فيما يتعلق على ذلك من الأحكام؛ هل ذلك مرفوع لا يلزم منه شيء، أو يلزم أحكام ذلك كله؟
اختلف فيه، والصحيح: أن ذلك يختلف بحسب الوقائع، فقسم لا يسقط بالخطأ والنسيان باتفاق، كالغرامات والديات والصلوات، وقسم يسقط باتفاق، كالقصاص والنطق بكلمة الكفر، ونحو ذلك، وقسم ثالث يختلف فيه، وصوره لا تنحصر، ويُعرف تفصيل ذلك في الفروع. المفهم (7/ 322-323).
وقال الطوفي -رحمه الله-:
هذا الحديث عام النّفع، عظيم الوقع، وهو يصلح أن يُسمّى نصف الشريعة؛ لأن فعل الإنسان إِما أن يصدر عن قصدٍ واختيارٍ، وهو العَمد مع الذِّكر اختيارًا، أو لا عن قصدٍ واختيارٍ، وهو الخطأ والنسيان، أو الإكراه، وهذا القسم معفوٌ عنه، والأول مؤاخذ به، فإِذن هذا الحديث نصف
الشريعة بهذا الاعتبار.
والعفو عن هذه الأفعال هو مُقتضى الحِكمة والنَّظر مع أن الله -عزّ وجلّ- لو وَاخَذَ بها لكان عادلًا.التعيين في شرح الأربعين(1/٣٢٣).
وقال المناوي -رحمه الله-:
حديث جليل ينبغي أن يُعدَّ نصف الإسلام؛ لأن الفعل إما عن قصد واختيار أو لا، الثاني: ما يقع عن خطأ أو إكراه أو نسيان، وهذا القسم معفو عنه اتفاقًا. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 263).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
اختلف العلماء في هذا الحديث: هل المقدر فيه حكم الخطأ أو إثمه، أو كل منهما جميعًا؟
فأبو حنيفة -رحمه الله- قدَّر المضمر الإثم فقط؛ لما ذهب إلى أن الكلام ناسيًا في الصلاة يبطلها.
والشافعي -رحمه الله- قدَّر المجموع من الإثم والحكم، ورأى أن الكلام ناسيًا لا يبطل الصلاة، وكذلك سلام التحلل، ونية الخروج منها، وكذلك الأكل في الصوم ناسيًا.
فيؤخذ من أحاديث ذي اليدين هذه صحة ما ذهب إليه الشافعي -رحمه الله- من تقدير الجميع؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- بنى على صلاته غير مرة بعد ما سلم منها، وتكلم، وفعل أفعالًا ناسيًا في ذلك كله، فدل على أن المقدَّر حكم الخطأ والنسيان، وإثمهما أيضًا؛ إذ لا خلاف في رفع الإثم؛ لأن فائدة التكليف، وغايته تميز المطيع عن العاصي؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيَّ عن بينة.
والطاعة والمعصية تستدعيان قصدًا وإرادة لإيقاعهما، وعليه يترتب الثواب والعقاب، والمخطئ والناسي لا قصد لهما، وكذلك المكره أيضًا؛ لأنه كالآلة لمن أكرهه. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (14/ 366).

قوله: «الخطأ»:
قال العيني -رحمه الله-:
الخطأ في اللغة هو: ضد العمد... وفي الاصطلاح: الخطأ هو: الفعل من غير قصد تام... ويستفاد منه أحكام:
الأول: حكم الخطأ مرفوع، لكن في حق الله تعالى لا في حقوق العباد؛ لأن في حقه عذرًا صالحًا لسقوطه، حتى قيل: إن الخاطئ لا يأثم، ولا يؤاخذ بحدٍّ ولا قصاص، وأما في حقوق العباد فلم يجعل عذرًا، حتى وجب ضمان العدوان على الخاطئ؛ لأنه ضمان مال لا جزاء فعل، ووجبت به الدية، وصح طلاقه عندنا يعني: يصح طلاق المخطئ عند الحنفية، وقال الشافعي: لا يصح؛ لعدم الاختيار منه فصار كالنائم والمغمى عليه.
قلنا: الاختيار أمر باطن لا يوقف عليه إلا بحرج، فلا يصح تعليق الحكم عليه. نخب الأفكار (11/ 263).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«رُفع عن أمتي الخطأ» (في رواية الحديث الأخرى) أي: إثمه لا حكمه؛ فإنه يجب الضمان، كما عرف في الفروع، ولا ذاته؛ فإنه واقع من الأمة اتفاقًا. التنوير شرح الجامع الصغير (6/ 261).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«الخطأ» مجانبة الصواب عن غير قصد...، الخطأ والنسيان معفو عنهما بنص القرآن، قال الله تعالى: {‌رَبَّنَا ‌لَا ‌تُؤَاخِذْنَا ‌إِنْ ‌نَسِينَا ‌أَوْ ‌أَخْطَأْنَا} البقرة: 286، فقال الله: قد فعلت، وقال تعالى: {‌وَلَيْسَ ‌عَلَيْكُمْ ‌جُنَاحٌ ‌فِيمَا ‌أَخْطَأْتُمْ ‌بِهِ ‌وَلَكِنْ ‌مَا ‌تَعَمَّدَتْ ‌قُلُوبُكُمْ} الأحزاب: 5...، الخطأ قلنا: إنه مجانبة الصواب من غير قصد ينقسم إلى قسمين: خطأ في الحكم، وخطأ في الحال، وكلاهما سواء، والخطأ في الحكم قد يكون عن اجتهاد، وقد يكون عن تفريط، فإن كان عن اجتهاد فلا إثم عليه، ولو أخطأ فعمله صحيح، بمعنى أنه لا يأثم به، ولا يلزم بإعادته؛ لأنه فعل ما أمر به، وأما إذا لم يكن عن اجتهاد فإنه لا يأثم، ولكن يأتي ببدله إن كان له بدل، ولنضرب لهذا أمثالًا: رجل احتجم وهو صائم، يظن أن الحجامة لا تفطر، هذا خطأ في الحكم، مثال آخر: رجل أكل وشرب بعد طلوع الفجر، لكنه لم يعلم بالفجر، هذا خطأ في الحال؛ لأنه يعلم أن الأكل بعد طلوع الفجر مفطر للصائم، لكنه لم يعلم أن الفجر قد طلع، فيكون جاهلًا بالحال، رجل ثالث صلى في ثوب نجس وهو لا يعلم بالنجاسة، هذا خطأ في الحال، رجل رابع صلى في ثوب وهو يعلم أن فيه نجاسة، ولكن لم يظن أن هذه نجاسة، هذا خطأ في الحال، خامسًا: رجل صلَّى وفي ثوبه نجاسة، لكنه لا يظن أن النجاسة تبطل الصلاة، هذا خطأ في الحكم، ولا فرق بين الخطأ في الحكم والخطأ في الحال. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (5/ 48- 49).

قوله: «والنسيان»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«والنسيان» كذلك ما لم يتعاط سببه حتى فوَّت الواجب فإنه يأثم. التنوير شرح الجامع الصغير (6/ 261).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
«‌والنسيان» ترك الشيء عن ذهول وغفلة. التنوير شرح الجامع الصغير (11/ 35).
وقال العيني -رحمه الله-:
والنسيان: ضد الذِّكر والحفظ...، والنسيان: معنى يزول به العلم في الشيء مع كونه ذاكرًا لأمور كثيرة، وإنما قيل ذلك احترازًا عن النوم والجنون والإغماء.
وقيل: النسيان عبارة عن معنىً يعتري الإنسان بدون اختياره، فيوجب الغفلة عن الحفظ.
وقيل: النسيان عبارة عن الجهل الطارئ، ويقال: المأتي به إن كان على جهة ما ينبغي فهو الصواب، وإن كان لا على ما ينبغي نُظر، فإن كان مع قصد من الآتي به يسمى الغلط، وإن كان من غير قصد منه؛ فإن كان يَتَنَبَّه بأيسر تنبيه يسمى السهو، وإلا يسمى الخطأ...
حكم النسيان مرفوع، ولكنه لا ينافي الوجوب، ولا يصلح عذرًا في سقوط شيء من الواجبات؛ لأنه لا يزول به العقل فلا يخل بالأهلية، لكنه لما كان من جهة صاحب الشرع يكون عذرًا في حقه فيما يقع فيه غالبًا، لا في حق العباد، وهو إما أن يقع فيه المرء بتقصيره كالأكل في الصلاة والجماع في الإحرام والاعتكاف، فإن حاله يذكره.
وإما لا يقع بتقصيره؛ إما بأن يدعو إليه الطبع كالأكل في الصوم، فإن الغالب فيه ميل الطبع؛ لأنه وقت أكل وشرب في عامة الأوقات، فيغلبه النسيان، أو بمجرد أنه مركوز في الإنسان كما في الذبيحة، فإن الذبح حالة خوف وإزهاق روح، فتكثر الغفلة والنسيان عن التسمية في تلك الحالة، والأول ليس بعذر بخلاف الأخيرين. نخب الأفكار(11/ 263- 264).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
ولأن النسيان يجعل الموجود كالمعدوم، ويبقى المعدوم على حاله؛ لأن الله سبحانه قد استجاب دعاء نبيه والمؤمنين؛ حيث قالوا: {لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} البقرة: 286، فإنه قال: «قد فعلتُ» رواه مسلم.
وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «عُفِيَ لأمتي عن الخطأ والنسيان»، فإن ترك المأموَر به ناسيًا لم يؤاخَذ بالترك، ولم تبرأ ذمته من عهدة الإيجاب؛ لأنه لم يفعله، وإن فعل المنهيَّ عنه ناسيًا كان كأنه لم يفعله، فلا يضرُّه وجودُه. شرح عمدة الفقه (2/ 431).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
و«النسيان» هو: الذهول عن شيء معلوم...
الخطأ والنسيان معفو عنهما بنص القرآن، قال الله تعالى: {‌رَبَّنَا ‌لَا ‌تُؤَاخِذْنَا ‌إِنْ ‌نَسِينَا ‌أَوْ ‌أَخْطَأْنَا} البقرة: 286، فقال الله: «قد فعلت»، وقال تعالى: {‌وَلَيْسَ ‌عَلَيْكُمْ ‌جُنَاحٌ ‌فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} الأحزاب: 5...
ولكن هل يلزم هذا المخطئ أو الناسي أو المكره شيء؟
الجواب: ننظر إِن كان المكره عليه أو المنسي أو المُخطأ فيه؛ إن كان من قسم المنهيات لم يلزمه شيء، وإن كان من قسم المأمورات فإن أمكن إتمامه، وإن لم يمكن وله بدل أخذ ببدله وإلا سقط.
مثال ذلك: نسي إنسان فصلى ثلاثًا في الرباعية، وسلم، هل تسقط الرابعة بالنسيان؟ لا؛ لأنه من باب المأمور، كمل المأمور، يعني: أتم الصلاة أربعًا، واسجد للسهو. لو نسي فطاف ستًّا فهل يسقط السابع؟ لا؛ لأنه مأمور فيأتيه. لو نسي فلم يرمِ الجمرات هل تسقط؟ لا، لكن إن كان في وقت الرمي رمى، وإن كان قد انتهى وقته وجب عليه البدل، وهو عند أهل العلم دم يذبحه في مكة، ويوزعه على الفقراء.
أما المحذورات فإنها لا أثر لها، لا أثر لفعلها إذا كان صادرًا عن خطأ أو نسيان أو إكراه. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (5/ 48- 49).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
ثم هنا تفصيل حسن لأقسام المنسي؛ ينبغي ذكره لما فيه من الفائدة، وهو أن الشيء المنسي على أقسام:
الأول: نسيان العبادات المأمور بها رأسًا، وذلك على ضربين:
أحدهما: أن تفوت المصلحة التي شرعت لها العبادة، ولا تقبل التدارك، كالجهاد، والجمعات، وصلاة الكسوف، وصلاة الجنازة في بعض الصور، فهذه وأمثالها تسقط بالفوات، ولا يشرع تداركها.
وثانيهما: ما يقبل التدارك؛ لأن غرض الشرع تحصيل مصلحته، كمن نسي صلاة أو صومًا، أو حجًّا أو عمرة، أو نذرًا أو كفارة، فيجب عليه تداركها، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من نام عن صلاة، أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها»، وهذا لا خلاف فيه بين الأمة.
القسم الثاني: نسيان المنهيات عنها لذواتها إذا فعلت على وجه النسيان، وهو على ضربين أيضًا:
أحدها: ما لا يتضمن إتلاف حق للغير، كمن نسي نجاسة الطعام فأكله، أو كون هذا الشراب خمرًا فشربه، ونحو ذلك، فلا شك أنه لا يتعلق هنا إثم ولا حد، ولا تعزير لنسيانه، ولا تدارك هنا؛ لأن المنهي إذا وقع، وتحققت مفسدته لم يمكن رفعها، وما شرع في معاملته من الحد أو التعزير إنما شرع زاجرًا عن المعاودة؛ وذلك إنما يكون في حالة الذكر دون النسيان.
والضرب الثاني: ما يتضمن إتلافًا لملك الغير، كمن باع طعامًا، ثم نسي أنه باعه، فأكله، فلا إثم عليه في ذلك، ولكنه يلزمه ضمانه، إما بالمثل، أو بالقيمة لمالكه؛ لأن الضمان من الجوابر، والجوابر لا تسقط بالنسيان.
وينشأ من هذين الضربين ما كان من المنهيات له جهتان، ويتعلق به حق لله، وحق للعباد، كالقتل والزنا، فإذا قتل خطأ فهو كالنسيان، فلا إثم، والقصاص الذي هو زاجر سقط لنسيانه، والضمان بالدية لا يسقط، فإنها كبدل المتلف الذي فوته، وهو حق للآدمي، وكذلك الكفارة لا تسقط؛ لأنها شرعت جابرة لعدم التحفظ، لا مكفرة للإثم، إذ لا إثم هنا.
ومثل هذا الزنا، فإذا أبان زوجته، ثم نسي طلاقها، فوطئها، أو باع جاريته، أو أعتقها، ثم نسي ذلك فوطئها، فلا إثم لنسيانه، ولا حد أيضًا؛ لما تقدم أن الزجر إنما يصلح للذكر، ولكن يلزمه ضمان ما أتلف من البضع كناية عن الفرج بمهر المثل؛ لأنه حق للآدمي جابر لما أتلفه، ولا يسقط بالنسيان.
القسم الثالث: نسيان الشروط المصححة للعبادة بالترك، أو المفسدة لها بالفعل، وهذا أيضًا على ضربين:
أحدهما: نسيان المأمورات التي وجودها شرط في صحة العبادة، كالوضوء مثلًا، فالذي يسقطه النسيان هنا الإثم، والعقوبة في الإقدام على العبادة من غير شرطها، ويجب عليه إعادة الصلاة تداركًا للمأمور؛ لأن الغرض من تحصيل مصلحته لم يوجد.
وثانيهما: نسيان المنهيات المنافية، كالكلام في الصلاة، والأكل والأفعال فيها، والأكل في الصوم، وغير ذلك من منافيات العبادات، فلا يبطلها الإتيان بهذه الأشياء على وجه النسيان؛ لأنه لم يقصد إفسادها، وبالأدلة الدالة على مفردات ذلك...
أما إذا كان ذلك من قبيل الإتلاف، كقتل الصيد في الإحرام، وحلق الشعر، وتقليم الأظفار، فلا تسقط كفارته؛ لما تقدمت الإشارة إليه أنها جابرة، والجوابر لا تسقط مع النسيان، ولو صلى ناسيًا لنجاسة لا يعفى عن مثلها في حال الاختيار، ففي بطلان صلاته قولان للعلماء، مأخذهما أن الطهارة عن النجس: هل هي من قبيل المأمورات كالطهارة عن الحدث، أو أن استصحاب النجاسة في الصلاة من قبيل المنهيات؟ ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (14/ 366- 368).

قوله: «وما استكرهوا عليه»:
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «وما استكرهوا عليه» عطف على ما قبله في محل النصب، وهو على صيغة المجهول من الاستكراه، والإكراه: حمل الغير على أمرٍ لا يريد مباشرته...
فيه أن الله تجاوز عما استكرهوا عليه، والإكراه لا ينافي الوجوب، ولا أهلية الأداء؛ لأن الأهلية ثابتة بالذمة والبلوغ والعقل، وهي قائمة سواء كان إكراهًا كاملًا أو إكراهًا قاصرًا، ولكن المكرَه متردد في الإتيان بما أكره عليه: بين فرض عليه: كما لو أكره على شرب الخمر بالقتل، فإنه يفرض عليه الإقدام، وحرام عليه: كما لو أكره على قتل مسلم ظلمًا فإنه يحرم عليه الإقدام، وإباحة: كما لو أكره على الإفطار في رمضان فإنه يباح له ذلك، ورخصة: كما لو أكره على إجراء كلمة الكفر، فإنه يرخص له ذلك. وتارة يأثم المكرَه في الإكراه بالإقدام على الفعل، كما في قتل النفس ظلمًا، وتارة يؤجر؛ كما في شرب الخمر. وتحقيق هذه الأشياء -من الفرضية والحرمة والإباحة والإثم والأجر- دليل ثبوت الخطاب في حقه، فإذا كان كذلك فلا يصلح الإكراه لإبطال شيء من الأقوال كالطلاق والعتاق والبيع، والأفعال كالقتل والزنا وإتلاف مال الغير. نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار (11/ 263- 264).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
فنقول: معلوم أن المكره ‌قد ‌أتى ‌باللفظ ‌المقتضي ‌للحكم. ولم يثبت حكم اللفظ؛ لأنه لم يقصد الحكم، وإنما قصد دفع الأذى عن نفسه فصار عدم الحكم لعدم قصده، وإرادته بذلك اللفظ، وكونه إنما قصد به شيئًا آخر غير حكمه. فعلم أن نفس اللفظ ليس مقتضيًا للحكم اقتضاء الفعل أثره. فإنه لو قتل، أو غصب، أو أتلف أو بخس البائع مكرهًا لم نقل: إن ذلك القتل أو الغصب، أو الإتلاف، أو البخس فاسد بخلاف ما لو عقد. الفتاوى الكبرى (6/ 62).
وقال العلقمي -رحمه الله-:
وحدُّ الإكراه: أنْ يُهدِّد المكرَه، قادرٌ على الإكراه، بعاجل من أنواع العقوبات، يؤثر العاقل لأجله الإقدام على ما أُكره عليه، وغلب على ظنه أنه يفعل ما هدده به إنْ امتنع مما أكرهه عليه، وعجز عن الهرب والمقاومة والاستغاثة بغيره، ونحوهما من أنواع الدفع، ويختلف الإكراه باختلاف الأشخاص والأسباب المكره عليها. الكوكب المنير شرح الجامع الصغير مخطوط لوح (56).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
أخبر الشارع -صلى الله عليه وسلم- عن ربه عزَّ إفضاله وجلَّ نواله بأنه رفع حكمه عن أمته رخصةً لهم وخصوصيةً من خصائصهم بقوله في الحديث الصحيح: «إن الله ‌وضع ‌عن أمتي: الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»، فجعل فعل المكره الذي وجدت فيه شروط الإكراه المقررة في كتب الفقهاء كلا فعلٍ، فكل ما كان الحكم فيه مترتبًا على فعل المكلف يكون بسبب الإكراه لغوًا بمنزلة المعدوم، بخلاف الحكم المترتب على أمر غير فعل المكلف، وإن كان ناشئًا عن فعله فلا يرتفع ذلك الحكم بسبب الإكراه، بل لا إكراه حينئذٍ؛ لأن موضعه الفعل، ولم يترتب عليه شيء، وموضع الحكم الانفعال، ولم يقع عليه إكراه. فالحاصل أن الشارع قد يرتب الحكم على الفعل، والمراد به هنا ما يشمل الترك والقول، وقد يرتبه على الانفعال، وهو في الأول من خطاب التكليف الذي رفعه شفقة علينا عند الإكراه. الفتاوى الفقهية الكبرى (4/ 171- 172).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
فلا يصح شيء من التصرفات القولية مع الإكراه، لكن لو تكلم في الصلاة مكرهًا بطلت صلاته، أما الفعلية فيثبت أثرها مع الإكراه كالرضاع والحديث، والتحول عن القبلة، وترك القيام للقادر في الصلاة الواجبة والقتل والزنا، والأصح تصور الإكراه على الزنا؛ إذ الانتشار المتعلق بالشهوة ليس شرطًا للزنا، بل يكتفى مجرد الإيلاج، والإكراه لا ينافيه، وقد لا يثبت أثرها معه كالفعل في باب اليمين، وهذا كله في الإكراه بغير حق، فلو أكره المولي على الطلاق، أو أكره الحربي أو المرتد على الإسلام صح، ويبيح الإكراه النطق بكلمة الكفر، والقلب مطمئن بالإيمان. السراج المنير شرح الجامع الصغير (4/ 393).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«وما استكرهوا عليه» أي: ورفع عنهم إثم ما أكرههم الغير على فعله مما لا يحل. التنوير شرح الجامع الصغير (6/ 261).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«‌وما استكرهوا عليه» من قول أو فعل يكرههم عليه القادر. التنوير شرح الجامع الصغير (11/ 35).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
«إن الله تعالى وضع عن أمتي» هو من وضعه يضعه حَطه، أي: حطَّ عنها إثم الثلاثة: «الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه» لا هي نفسها فإنهم يصدرونها (أي: يفعلونها). التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 349).
وقال العلقمي -رحمه الله-
وفيه دليل على أنَّ طلاق المكرَه لا يقع، لكن يُستثنى ما إذا نوى حال التلفظ الطلاق، فإنه يقع، وما إذا ظهر منه قرينة اختيار، بأن أُكره على ثلاث فوحَّد، أو صريح أو تعليق فكنَّى، أو تنجيز، أو على طلقت، فسرَّح، أو بالعكس، فإنه يقع؛ لأن مخالفته تشعر باختياره. الكوكب المنير شرح الجامع الصغير مخطوط لوح (107).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
والاستكراه هو: إجبار الإنسان على الشيء فعلًا أو تركًا أو قولًا...
أما الإكراه فقال الله -عز وجل-: {‌مَنْ ‌كَفَرَ ‌بِاللَّهِ ‌مِنْ ‌بَعْدِ ‌إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} النحل: 106، فإذا كان الإكراه على الكُفر وهو أعظم الخطايا معفو عنه، فما دونه من باب أولى. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (5/ 48- 49).
وقال المغربي -رحمه الله-:
الحديث فيه دلالة على أن الأحكام الأخروية من العقاب معفوة عن الأُمّة المحمدية، إذا صدرت عن خطأ ونسيان وإكراه...، وأما ابتناء الأحكام والآثار الشرعية عنها ففي ذلك تفصيل وخلاف بين العلماء. البدر التمام شرح بلوغ المرام (8/ 53- 54).


ابلاغ عن خطا