الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

«لَئِنْ عِشْتُ لَأُخْرِجَنَّ اليهودَ والنَّصارَى مِن جزيرةِ العربِ، حتَّى لا أَتْرُكَ فيها إلَّا مُسْلِمًا».


رواه مسلم برقم: (1767)، وأحمد برقم: (219) واللفظ له، وأبو داود برقم: (3030)، والترمذي برقم: (1606)، والنسائي في الكبرى برقم: (8633)، من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.  


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«جزيرة العربِ»:
الجزيرة: أرض في البحر يَنْفَرِجُ عنها ماء البحر فتبدو، وكذلك الأرض لا يعلوها السيل فيُحْدِقُ بها فهي الجزيرة...، وجزيرة العرب محلَّتُها؛ لأن البحرين -بحر فارس الحَبَش ودجلة والفرات- قد أحاطت بجزيرة العرب، وهي أرضها ومعدنها. العين، للخليل (6/ 62).
وقال أبو عُبيدٍ القاسم بن سلام -رحمه الله-:
قال أبو عبيدة (معمر بن المثنى): جزيرة العرب: هي ما بين حفر أبي موسى الأشعري إلى أقصى اليمن في الطول، وفي العرض ما بين رَمْلِ يبرين إلى منقطَع السَّمَاوة.
وقال الأصمعي: جزيرة العرب من أقصَى عدن أَبْيَن إلى ريف العراق في الطول، وأما العرض فمن جدَّة وما والاها من ساحل البحر إلى أطوار الشَّام.غريب الحديث (2/ 67).


شرح الحديث


قوله: «لئن عشتُ لأُخْرِجَنَّ اليهود والنصارى»:
قال محمد بن عبد الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
قوله: «لئن عشت» أي: بقيت. تحفة الأحوذي (5/192).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «لأُخْرِجَنَّ» هذه الجملة مؤكَّدة بثلاث مؤكدات، وهي: القَسَم المقدَّر، واللام، ونون التوكيد. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (5/501).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«لأُخْرِجَنَّ» اللام هي الموطِّئة للقسم، «أُخْرِجَنَّ» جواب للقسم المقدَّر، أي: والله «لأُخْرِجَنَّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب». البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (30/658).
وقال الشيخ عبد القادر شيبة الحمد -رحمه الله-:
«لأُخْرِجَنَّ» أي: لأُجْلِيَنَّ وَلأُبْعِدَنَّ. فقه الإسلام شرح بلوغ المرام (9/186).
وقال موسى شاهين -رحمه الله-:
«لأُخْرِجَنَّ اليهود والنصارى» أي: إن عشتُ، وكانت هذه الجملة بمثابة وصية، كما صرح بها وصيَّةً عند موته -صلى الله عليه وسلم- بلفظ: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب». فتح المنعم شرح صحيح مسلم (7/183).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «اليهود» هم الَّذين ينتسبون إلى موسى، والنصارى الَّذين ينتسبون إلى عيسى، فلماذا سمي اليهود يهودًا؟ قيل: إن ذلك نسبة إلى جَدِّهم يَهُوْذَا، وقيل: إنه من قوله تعالى: {إِنَّا هُدْنَـا إِلَيْكَ} الأعراف: 156، أي: من الهَوْدِ وهو الرجوع، ولا يبعد أن يكون من هذا ومن هذا...
والنصارى سُمُّوا بهذا الاسم إما لأنهم من بلدة تسمى الناصرة في فلسطين، وإما من قوله تعالى: {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ} آل عمران: 52، وإمَّا من الأمرين جميعًا. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (5/501-502).
وقال الشيخ عبد القادر شيبة الحمد -رحمه الله-:
اليهود: أي: بني إسرائيل الذين يزعمون أنهم أهل التوراة مع كفرهم بعيسى ومحمد -عليهما الصلاة والسلام-.
والنصارى: أي: الذين يزعمون أنهم أهل الإِنجيل مع كفرهم بمحمد -صلى اللَّه تعالى عليه وسلم-. فقه الإسلام شرح بلوغ المرام (9/186).

قوله: «من جزيرة العرب»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«الجزيرة» مشتقة من الجَزْر، وهو الانحسار؛ سميت بذلك لانحسار الماء عنها، يقال: جَزَرَ الماء جَزْرًا، من باب ضَرَبَ وقَتَلَ: إذا انحسر، وهو رجوعه إلى خلف. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (30/658).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
سميت جزيرة: من باب التغليب على خلاف المعروف عند الجغرافيين؛ لأن الجزيرة عند الجغرافيين هي ما جَزَرَ عنه الماء في وسط البحر، فيكون البحر محيطًا بها من كل جانب، أما الجزيرة العربية فإنه لا يحيط بها البحر من كل جانب، ولهذا يعبِّر بعضهم بشِبْهِ الجزيرة؛ لأنها ليست جزيرة كاملة. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (5/503).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
ونقل البكري أن جزيرة العرب مكة والمدينة واليمن واليمامة.
وقال بعضهم: جزيرة العرب خمسة أقسام: تهامة ونَجْدٍ وحجاز وعَرُوضٍ ويَمَنٍ، فأما تهامة فهي الناحية الجنوبية من الحجاز، وأما نجد فهي الناحية التي بين الحجاز والعراق، وأما الحجاز فهو جبل يقبل من اليمن حتى يتصل بالشام، وفيه المدينة وعُمان، وسمي حجازًا لأنه حَجَزَ بين نجد وتهامة، وأما العَرُوضُ فهو اليمامة إلى البحرين، وأما اليمن فهو أعلى من تهامة. المصباح المنير (1/98).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
الجزيرة حدودها: من الشمال: الشام، الشامل لسوريا وفلسطين وما والاها، وحدودها من الغرب: البحر الأحمر، وحدودها من الشرق: العراق، وحدودها من الجنوب: اليمن، هذه جزيرة العرب. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (5/503).
وقال النووي -رحمه الله-:
وأضيفت إلى العرب؛ لأنها الأرض التي كانت بأيديهم قبل الإسلام، وديارهم التي هي أوطانهم وأوطان أسلافهم. شرح صحيح مسلم (11/93).
وقال الشيخ عبد القادر شيبة الحمد -رحمه الله-:
العرب هم الذين يسكنون هذه الجزيرة من أبناء يعرب وإسماعيل -عليه الصلاة والسلام-، فهي موطنهم وموطن أسلافهم؛ ولذلك نسبت إليهم. فقه الإسلام شرح بلوغ المرام (9/186).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
وإنما خَصَّ جزيرة العرب دون ما في الأرض؛ لأن بيت الله -عزَّ وجلَّ- يُقصد من سائر الأرض فيها، وفيها المسجدان: المسجد الحرام، ومسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفيها قبره -صلى الله عليه وسلم-، وفيها الحُجَّاج والمعتمرون، وقد لا يُؤْمَن على فرطهم وشذَّاذِهم قلَّة أمانة أهل الكتاب، وعلى هذا وضع الغِيار (يعني: علامة أهل الذمة)؛ لئلا يغتر المسلم بواحد منهم فيظنّه مسلمًا، فيصحب اثنين منهم في طريق فلا يأمن أن يحدث به حدث سوء. الإفصاح عن معاني الصحاح (1/213).
قال أبو عُبيدٍ (القاسم بن سلام) -رحمه الله-:
فأمر النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بإخراجهم من هذا كله (عموم الجزيرة)، فيرَوْنَ أنَّ عُمَر إنَّما استجاز إخراج أهل نجران من اليمن -وكانوا نصارى- إلى سَواد العراق؛ لهذا الحديث، وكذلك إجلاؤه أهل خيبَر إلى الشَّام، وكانوا يهودًا. غريب الحديث (2/ 67).
وقال النووي -رحمه الله-:
أَخَذَ بهذا الحديث مالك والشافعي وغيرهما من العلماء فأوجبوا إخراج الكفار من جزيرة العرب، وقالوا: لا يجوز تمكينهم من سُكناها، ولكن الشافعي خصَّ هذا الحكم ببعض جزيرة العرب، وهو الحجاز، وهو عنده مكة والمدينة واليمامة وأعمالها دون اليمن وغيره مما هو من جزيرة العرب؛ بدليل آخر مشهور في كتبه وكتب أصحابه. شرح مسلم (11/ 93-94).
وقال الشافعي -رحمه الله-:
ولم أعلم أحدًا أجلى أحدًا من أهل الذِّمة من اليمن، وقد كانت بها ذِمّة وليست بحجاز، فلا يجليهم أحدٌ من اليمن، ولا بأس أن يصالحهم على مقامهم باليمن. الأم (4/188).
وقال الصنعاني -رحمه الله- معلقًا:
أما قول الشافعي: إنه لا يعلم أحدًا أجلاهم من اليمن.
فليس ترك إجلائهم بدليل، فإن أعذار مَن تَرَكَ ذلك كثيرة، وقد ترك أبو بكر -رضي الله عنه- إجلاء أهل الحجاز مع الاتفاق على وجوب إجلائهم؛ لشغله بجهاد أهل الرِّدة، ولم يكن ذلك دليلًا على أنهم لا يُجلون، بل أجلاهم عمر -رضي الله عنه-.سبل السلام (2/ 490).
وقال البيهقي -رحمه الله-:
قد جعلوا اليمن من أرض العرب والجلاء وقع على أهل نجران، وذمة أهل الحجاز دون ذمة أهل اليمن؛ لأنها ليست بحجاز؛ لا لأنهم لم يروها من أرض العرب، والجلاء في الحديث تخصيص، وفي حديث سمرة عن أبي عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه- دليل أو شبه دليل على موضع الخصوص. السنن الكبرى (9/352).
وقال المغربي -رحمه الله- معلقًا:
وقول البيهقي: دليل أو شبه دليل.
يعني: أن حديث أبي عبيدة أخرجه أحمد والبيهقي أنه قال: «آخر ما تكلم به النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: أخرجوا يهود الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب».
فيه ذِكْرُ بعض أفراد العام، وهو يهود الحجاز محكومًا عليه بما حكم به على العام، وهو إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، لا يقتضي التخصيص عند الأكثر، وإن كان يقتضيه عند أبي ثور من أصحاب الشافعي، فهو دليل عند أبي ثور، وشِبْهُ دليل عند غيره. البدر التمام (9/277).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
ليست جزيرة العرب من ألفاظ العموم كما وَهِمَ فيه جماعة من العلماء، وغاية ما أفاده حديث أبي عبيدة زيادة التأكيد في إخراجهم من الحجاز؛ لأنه دخل إخراجهم من الحجاز تحت الأمر بإخراجهم من جزيرة العرب، ثم أفرد بالأمر زيادة تأكيد، لا أنه تخصيص أو نسخ، وكيف وقد كان آخر كلامه -صلى الله عليه وسلم-: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» كما قال ابن عباس: أوصى عند موته. سبل السلام (2/ 490).
وقال المغربي -رحمه الله-:
التخصيص مُتَأَيِّدٌ بحديث معاذ لَمَّا بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن، وأمَرَه بتقرير الجزية على كل حالِمٍ دينارًا أو عِدْلَهُ مَعَافِريًّا (نوع من الملابس يُنسب إلى مَعَافِر قرية باليمن)، وهذا خاص باليمن، وورد بعده حديث الوصية، فعلى مقتضى ما ذهب إليه الشافعي، ورجحه كثير من المتأخرين أن الخاص المتقدِّم مخصِّص للعام المتأخِّر، فهو مخصِّص لليمن، وهو دليل واضح، ويترجح أيضًا بعمل الخلفاء الراشدين على تقريرهم في اليمن. البدر التمام (9/277).
وقال الصنعاني -رحمه الله- معلقًا:
أما القول بأنه -صلى الله عليه وسلم- أقرَّهم في اليمن بقوله لمعاذ: «خُذْ من كل حالِمٍ دينارًا أو عِدْلَهُ مَعَافِريًّا» فهذا كان قبل أمره -صلى الله عليه وسلم- بإخراجهم؛ فإنه كان عند وفاته كما عرفت.
فالحق وجوب إجلائهم من اليمن؛ لوضوح دليله، وكذا القول بأن تقريرهم في اليمن قد صار إجماعًا سكوتيًّا لا ينهض على دفع الأحاديث؛ فإن السكوت من العلماء على أمر وقع من الآحاد أو من خليفةٍ أو غيره مِن فِعْلِ محظورٍ أو تَرْكِ واجب لا يدل على جواز ما وقع، ولا على جواز ما تُرِكَ، فإنه إن كان الواقع فعلًا أو تركًا لمنكر وسكتوا ولم يدل سكوتهم على أنه ليس بمنكر لما عُلِمَ من أن مراتب الإنكار ثلاث، باليد أو اللسان أو القلب، وانتفاء الإنكار باليد واللسان لا يدل على انتفائه بالقلب، وحينئذٍ فلا يدل سكوته على تقريره لما وقع حتى يقال: قد أجمع عليه إجماعًا سكوتيًّا؛ إذ لا يثبت أنه قد أجمع الساكت إذا علم رضاه حتى يقال: رضاه بالواقع، ولا يَعْلَمُ ذلك إلا علام الغيوب، وبهذا يُعرف بطلان القول بأن الإجماع السكوتي حُجَّة. سبل السلام (2/ 490-491).
وقال المغربي -رحمه الله-:
حديث الأمر بالإخراج يحتمل أن يكون في حال سكونهم بغير جزية، كما كان عليه أهل خيبر الذين أجلاهم عمر؛ ولذلك قال عمر لليهود: «من كان منكم عنده عهد من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فليأتِ به، وإلا فإني مُجْلِيْكُم» أخرجه عبد الرزاق، وأما حالَ إعطاء الجزية فمخالف ذلك كما كان عليه مَن في اليمن. البدر التمام (9/277).
وقال الصنعاني -رحمه الله- معلقًا:
قول من قال: إنه يحتمل أن حديث الأمر بالإخراج كان عند سكونهم بغير جزية باطل؛ لأن الأمر بإخراجهم عند وفاته -صلى الله عليه وسلم-، والجزية فرضت في التاسعة من الهجرة عند نزول براءة، فكيف يتم هذا؟
ثم إن عمر أجلى أهل نجران وقد كان صالحهم -صلى الله عليه وسلم- على مال واسع كما هو معروف وهو جزية، والتكلُّف لتقويم ما عليه الناس وَرَدُّ ما ورد من النصوص بمثل هذه التأويلات مما يطيل تعجب الناظر المنْصِف. سبل السلام (2/ 491).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
فإن قال قائل: يَرِدُ على هذا أن النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- عامَلَ أهل خيبر بشطْرِ ما يخرج منها من ثمر أو زرع وأَقَرَّهم ولم يجْلِهِم إلا عمر بن الخطاب لسبب من الأسباب؟
فالجواب أن نقول: إن إقامة اليهود والنصارى في الجزيرة على نوعين:
النوع الأول: على وجه الإذلال وأنهم عمَّال من جملة العاملين، فهذا لا بأس به، لكن بشرط أن نَأْمَنَ شَرَّهُم فإنه لا يجوز أن يبقوا.
والثاني: إقامة استيطان فهذا هو الذي منع منه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأمر بإخراجهم، وبقاء اليهود في خيبر من النوع الأول، فلهذا قال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في العَقْدِ الذي جرى بينهم: «نُقِرُّكم على ذلك ما شئنا»، ولما استغنى المسلمون عنهم في عهد عمر -رضي الله عنه-، ولما حصل منهم من الغدر أجلاهم إلى أَذْرُعَات (اسم بلدة في بلاد الشام) في الشام، وإلى مواطن أخرى. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (5/503).

قوله: «حتى لا أترك فيها إلا مسلمًا»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«أترك» مقيمًا «فيها إلا مسلمًا». شرح سنن أبي داود (13/110).
وقال الشيخ عبد القادر شيبة الحمد -رحمه الله-:
«حتى لا أدع إلا مسلمًا» أي: حتى لا أترك أحدًا من الناس يعيش فوق أرضها إلا المؤمنين بجميع كتب اللَّه ورسله المتَّبِعين لمحمد -صلى اللَّه عليه وسلم-. فقه الإسلام شرح بلوغ المرام (9/186).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
ذَكَرَ أولًا اليهود والنصارى، ثم أتى بلفظ يشمل غيرهم من أنواع الكفرة بقوله: «حتى لا أترك فيها إلا مسلمًا» يعني: لا يبقى فيها إلا مسلم، فهذا دليل على أن الحكم ليس خاصًا باليهود والنصارى، وإنما هو عام لجميع أصناف الكفرة. شرح سنن أبي داود (356/5).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«حتى لا أدع إلا مسلمًا» أي: حتى لا أدع في جزيرة العرب إلا مسلمًا، وكأنه عمَّمَ الكفار في الحكم بعد تخصيص اليهود والنصارى. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (7/183).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وهو (يعني: الحديث) ظاهر في وجوب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وعليه أئمة الإِسلام إلا الأقل، والشافعي وغيره خَصُّوا ذلك بالحِجاز، وهي: مكة والمدينة واليمامة؛ لحديث: «أخرجوهم من الحجاز»، والحق أنه لا ينفي الأمر بإخراجهم من الجزيرة كلها، غايته أنه أفرد الأمر بالإخراج من الحجاز زيادة في تطهيره عنهم. التنوير شرح الجامع الصغير (8/638).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قال الطبري: فيه من الفقه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بيَّن لأَئِمَّة المؤمنين إخراج كل مَن دان بغير دين الإسلام من كل بلدة للمسلمين، سواء كانت تلك البلدة من البلاد التي أسلم عليها أهلها أو من بلاد العنوة (أي: التي دخلها المسلمون بالقوة)؛ إذ لما لم يكن بالمسلمين ضرورة إليهم ولم يكن الإسلام يومئذٍ ظهر في غير جزيرة العرب ظُهُور قهر، فبان بذلك أن سبيل بلدةٍ قَهَر فيها المسلمون أهلَ الكفر، ولم يكن تقدَّم قبل ذلك من إمام المسلمين لهم عَقْدُ صُلح على إقرارهم فيها أن على الإمام إخراجهم منها، ومنعهم القرار بها، إلا أن يكون بالمسلمين إليهم ضرورة الإقرار. شرح صحيح البخاري (5/ 345).
وقال المغربي -رحمه الله-:
الحديث فيه: دلالة على عزمه -صلى الله عليه وسلم- على إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وأخرجه أحمد والبيهقي بزيادة: «لئن عشتُ إلى قابل»، ومن المتفق عليه عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أوصى عند موته: «أخْرِجُوا المشركين من جزيرة العرب» الحديث.
وأخرج البيهقي من حديث مالك، عن إسماعيل بن أبي حكيم، أنه سمع عمر بن عبد العزيز يقول: بلغني أنه كان مِن آخر ما تكلَّم به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن قال: «قاتل الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، لا يَبْقَيَنَّ دِيْنَان بأرض العرب».
وأخرج من حديث مالك، عن ابن شهاب، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب»، قال مالك: قال ابن شهاب: ففحص عمر عن ذلك حتى أتاه الثلج واليقين عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب» فأجلى يهود خيبر، قال مالك: وقد أجلى يهود نجران وفَدَك.
وأخرج من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تكن قِبْلَتَان في بلد واحد». البدر التمام (9/273-274).
وقال النووي -رحمه الله-:
قال العلماء: ولا يُمْنَعُ الكفار من التردُّدِ مسافرين في الحجاز، ولا يُمَكَّنُون من الإقامة فيه أكثر من ثلاثة أيام.
قال الشافعي وموافقوه: إلا مكة وحَرَمَها فلا يجوز تمكين كافر من دخوله بحال، فإنْ دَخَلَه في خُفْيَة وجب إخراجه، فإن مات ودُفن فيه نُبِشَ وأُخْرِجَ ما لم يتغير، هذا مذهب الشافعي وجماهير الفقهاء، وجوَّز أبو حنيفة دخولهم الحرم، وحجة الجماهير قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا} التوبة:28. شرح النووي على مسلم (11/94).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قال المهلب: وإنما أمر بإخراجهم -والله أعلم- خوفَ التَّدْلِيس منهم، وأنهم متى رأوا عدوًّا قويًا صاروا معه كما فعلوا بالنبي يوم الأحزاب. شرح صحيح البخاري (5/ 345).
وقال الشيخ عبد القادر شيبة الحمد -رحمه الله-:
ما يفيده الحديث: لا يجوز أن يُمَكَّنَ أحد من الكفار من الاستيطان في جزيرة العرب، ووجوب صيانة أرض الجزيرة العربية من كل دِين يخالف دِين الإِسلام. فقه الإسلام شرح بلوغ المرام (9/187).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
فوائده:
منها: بيان شدة عناية النبي -صلى الله عليه وسلم- بإبعاد الكفر وأهله عن أرض العرب التي هي مهد الرسالة، ومهبط الوحي، ومحل تنزُّل الملائكة.
ومنها: بيان شرف الجزيرة العربية، وأنها أشرف البقاع على الإطلاق؛ لاحتوائها على الحرمين الشريفين، مهبط الوحي، ومهد الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
ومنها: أنه لا يجوز سُكنى الجزيرة العربية للكافر. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (30/659).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «حتَّى لا أدع إلا مسلمًا» فيه دليل على أنه يجب أن يُخْلَصَ الدِّين في هذه الجزيرة على دين الإسلام.
ومن فوائد الحديث: احترام هذه الجزيرة؛ لأن منها بدأ الإسلام، وفيها البيت الحرام، وفيها مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلا جَرَمَ أن يكون لها مِن الحُرمة ما يجب أن تُطَهَّرَ مِن النجس من المشركين واليهود والنصارى.
ومن فوائد الحديث: أنه تجب العناية بهذه الجزيرة من حيث الاستقامة والتقوى؛ بحيث تُخْلَص للإسلام؛ لقوله: «حتَّى لا أدع إلا مسلمًا».
هل نستفيد من هذا أنهم إذا لم يَخْرُجوا إلا بقتال فإننا نقاتلهم؟ نعم، إذا لم يَكُفُّوا عن الاستيطان إلا بالقتال قاتلناهم. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (5/504).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
فالحذر الحذر من استجلاب اليهود والنصارى والوثنيين من البوذيين وغيرهم إلى هذه الجزيرة؛ لأنها جزيرة إسلام، منها بدأ وإليها يعود، فكيف نجعل هؤلاء الخَبَث بين أظهرنا وفي أولادنا، وفي أهلنا، وفي مجتمعنا؟! هذا مُؤْذِنٌ بالهلاك ولا بد. شرح رياض الصالحين (2/440).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
ومن أهم الأشياء في مسألة الكفار: أنه لا يجوز إقرارهم في جزيرة العرب للسكنى؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- نهى عن ذلك، بل قال: «أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب»، وقال وهو في مرض موته: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب»، وقال: «لَأُخْرِجَنَّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلمًا»؛ لهذا يجب أن نعلم أنه لا يجوز إقرار اليهود أو النصارى أو المشركين في جزيرة العرب على وجه السُّكْنَى، أما على وجه العمل فلا بأس، بشرط ألا نَخْشَى منهم محظورًا، فإنْ خَشِيْنَا منهم محظورًا مثل بثِّ أفكارهم بيننا، أو شرب الخمر علنًا، أو تصنيع الخمر وبيعه على الناس، فإنه لا يجوز إقرارهم. الشرح الممتع على زاد المستقنع (8/ 82).

وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)


ابلاغ عن خطا