«خَصْلَتانِ لا تجتمعانِ في مؤمنٍ: البُخلُ، وسُوءُ الخُلُقِ».
رواه الترمذي برقم: (1962)، والبخاري في الأدب المفرد برقم: (282)، وأبو داود الطيالسي برقم: (2322)، من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.
صحيح الترغيب والترهيب برقم: (2608)، والتراجعات برقم: (26).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«خَصْلَتان»:
تثنية خَصْلَة بالفَتْح، وهي الخَلَّة. التيسير بشرح الجامع الصغير(1/ 48).
وقال ابن منظور -رحمه الله-:
الخَصْلَةُ: الفضيلة والرذيلة تكون في الإنسان، وقد غَلَبَ على الفضيلة، وجمعُها خِصَال، والخصلة: الخَلَّة. لسان العرب(11/206).
«البُخل»:
ضد الكرم. القاموس المحيط للفيروز أبادي (ص: 965).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
البخلُ في الشَّرع: منْعُ الواجبِ، وعند العربِ منعُ السَّائِلِ مما يَفْضُلُ عنده، وأَبْخَلْته بالأَلِفِ وجَدْته بَخِيلًا. المصباح المنير للفيومي (1/ 38)
وقال الجرجاني -رحمه الله-:
البُخل: هو المنع من مال نفسه، والشح هو بخل الرجل من مال غيره. التعريفات (ص: 42).
«الخُلُق»:
بضم اللام وسكونها: الدِّيْنُ والطبع والسَّجِية. النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير (2/ 7).
شرح الحديث
قوله: «خَصلتان»:
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «خصلتان» أي: خُلُقَان. فتح ذي الجلال والإكرام (6/393).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
قوله: «خصلتان» مبتدأ سوَّغه ما يأتي، والخبر «لا يجتمعان». فتح الإله في شرح المشكاة (6/330).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- مُتعقِّبًا الهيتمي:
وإِغَلاقُه لا يخفى، والظاهر: أنَّ «لا يجتمعان» صفة مخصصة مسوِّغة لكون المبتدأ نكرة، والخبر قوله: «البُخلُ، وسُوءُ الخُلُقِ». مرقاة المفاتيح (4/1324).
قوله: «لا تجتمعان في مؤمن»:
قال ابن الملك -رحمه الله-:
قوله: «لا تجتمعان» أي: لا ينبغي أن يجتمعا فيه، أو المراد بلوغ النِّهَاية فيهما، بحيث لا يَنْفَك عنهما، ولا يَنْفَكان عنه. شرح مصابيح السنة (2/459).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«لا تجتمعان في مؤمن» أي: كامل الإيمان، فلا يَرِدُ أنَّ كثيرًا من الموحدين موجودتان فيه. فيض القدير (3/ 441).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
قوله: «لا يجتمعان في مؤمن» كامل؛ لأن اجتماعهما يدل على غاية قبيحة من النقص، وإعراب هذا مبتدأ، وصفته والخبر محذوف، أي: فيما أحدثكم به خصلتان... إلخ، كما في: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} النور: 1، أي: حتمًا أوحينا إليك، وفيه تكلُّف، والفرق بين هذا والآية واضح مما قررته؛ لأن {أَنْزَلْنَاهَا} لو كان هو الخبر، وقع الابتداء بنكرة بلا مسوغ، وهنا مسوغ، وهو إبدال المعرفة منه في قوله: «البخل وسوء الخلق». فتح الإله في شرح المشكاة (6/330).
وقال عبد الحق الدَّهلوي -رحمه الله-:
وهذا كله على محافظة ما اشتهر من النحويين من عدم جواز كون المبتدأ نكرة، ولو جُوِّز ذلك، وجُعل المدار على الإفادة، كما قال الرضي في "كوكب انْقَضَّ الساعة" لم يحتج إلى هذه التمَحُّلات، ويكون «خصلتان» مبتدأ، و«لا تجتمعان» خبره، وهو المتبادَر إلى الفهم، وقد ذكرنا هذا الكلام مرارًا، فتدبر. لمعات التنقيح (4/328).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
تأويل هذا الحديث أن يقال: أراد به اجتماع الخصلتين فيه مع بلوغ النهاية منهما، بحيث لا ينفك عنهما، ولا ينفكان عنه، ويُوجد منه الرضا بهما، فأما الذي يؤنَس عنه شيء من ذلك، بحيث يبخل حينًا، ويقلع عنه حينًا، أو يسوء خُلُقه وقتًا دون وقت، أو في أمر دون أمر، أو يبدر منه، فيندم عليه، أو يلوم نفسه، أو تدعوه النفس إلى ذلك فينازعها؛ فإنه بمعزل عن ذلك.
ويُحمل حديثه الآخر: «لا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ والإيمان في قلب عبد أبدًا» على نحو ما ذكرناه من المعنى في هذا الحديث.
وأرى له وجهًا آخر: وهو أن نقول: الشُّح خصلة غَرِيْزِيَّة جُبِلَ عليها الإنسان، وهو كالوصف اللَّازم، ومركزها النفس، قال الله تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} النساء:128، فإذا انتهى سلطانُه إلى القلب، واستولى عليه عُرِّي القلب عن الإيمان؛ لأنه يشِحُّ بالطَّاعة فلا يسمح بها، ولا يَبْذُل الانقياد لأمر الله، والشُّح بالمال بُخْل مع حِرْص، فهو أبلغ في المنع من البُخْل، فالبُخْل يُستعمل في الضِّنَة بالمال، والشُّح في سائر ما تمتنع النفس عن الاسترسال فيه من بذل مال، أو معروف أو طاعة، ووجود الشُّح في نَفْس الإنسان ليس بمذموم؛ لأنه طبيعة خلقها الله تعالى في النُّفوس، كالشهوة والحرص للابتلاء أو لمصلحة عِمَارة العالَم، وإنما المذموم أن يَسْتَولى سُلْطَانه على القلب فيطاع. الميسر في شرح مصابيح السنة (2/440).
قوله: «البُخلُ، وسُوءُ الخُلُقِ»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
قد عُلم قُبح البخل عُرفًا وشرعًا، وقد ذمه الله في كتابه بقوله: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} النساء:37، وبقوله في الكانِزِين: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} التوبة34، بل ذم من لم يأمر الناس ويحثهم على خلافه، فقال تعالى: {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} الحاقة:34، جعله من صفات الذين يُكَذّبون بيوم الدين، وقال في الحكاية عن الكفار: إنهم قالوا وهم في طبقات النار: {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} المدثر:44، الآية. سبل السلام (4/197).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
أقول: ويمكن أن يُحمل «سُوء الخُلُق» على ما يخالف الإيمان؛ فإنَّ الخُلُق الحَسَن هو ما يمتثل به العبد أوامر الشرع، ويجتنب عن نواهيه، لا ما يتعارف بين الناس؛ لما ورد عن عائشة -رضي الله عنها- «وكان خُلُقُه القرآن»، فإفراد البخل من سُوء الخُلُق وهو بعضه، وجعله معطوفًا عليه يدل على أنه أسوؤها وأشنعها؛ لأن «البخيل بعيدٌ من الله، بعيدٌ من الجنة، بعيدٌ من الناس» الحديث، ويؤيد هذا التأويل: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: «لا يجتمع الشُّح والإيمان في قلب عبد أبدًا» رواه النسائي. الكاشف عن حقائق السنن (5/1529).
وقال عبد الحق الدَّهلوي -رحمه الله-:
ثم المراد من سوء الخلق فيما يُخالف أحكام الإيمان، وإلا فالغضب للَّه محمود، فافهم. لمعات التنقيح (4/328).
وقال المناوي -رحمه الله-:
أي: كامل الإيمان، فلا يَرِدْ أن كثيرًا من الموحدين موجودتان فيه «البخل وسُوء الخُلُق». فيض القدير (3/441).
وقال الكنكوهي -رحمه الله-:
فإنَّ الذي اقتضاه الإيمان أن ينتفع به العباد والبلاد، ومن ليس فيه شيء من هاتين ليس ينتفع به عباد الله لا بماله لِبُخْلِه، ولا بنفسه لسُوء خُلُقه، فلا ينبغي للمسلم أن يكون كذلك، والبخيل في الأحاديث الواردة ها هنا من لا يُؤدي حقوقه تعالى المالية. الكوكب الدري على جامع الترمذي (3/56).
وقال المغربي -رحمه الله-:
الحديث فيه دلالة على قُبْحِ هاتين الخصلتين، وأنهما مُنَافِيَتان للإيمان، وقد ذم الله -سبحانه وتعالى- البخيل في كتابه، والأحاديث الـمُتَضافِرة على ذمِّه، الـمُتَوعدة للبخيل بالعذاب والنكال. البدر التمام شرح بلوغ المرام (10/316).
وقال المغربي -رحمه الله- أيضًا:
واختلف العلماء في حدِّ البُخل المذْمُوم، فحدَّه بعضهم: بأنه في الشرع منع الزكاة، وأُلحق بها كل واجب، فمن منع ذلك كان بخيلًا يناله العقاب الوارد في الكتاب والسنة. البدر التمام شرح بلوغ المرام (10/ 316).
وقال الغزالي -رحمه الله-:
وإذا كان الإمساك مطلقًا لا يُوجِب البخل، ولا معنى للبخل إلا الإمساك، فما البخل الذي يُوجِب الهلاك؟ وما حد السخاء الذي يستحق به العبد صفة السخاوة وثوابها؟ فنقول: قد قال قائلون: حد البخل منع الواجب، فكل من أدى ما يجب عليه فليس ببخيل، وهذا غير كافٍ، فإن من يَرُدُّ اللحم مثلًا إلى القصَّاب، والخبز للخباز بنقصان حبة أو نصف حبة، فإنه يُعَدُّ بخيلًا بالاتفاق، وكذلك من يسلِّم إلى عياله القدر الذي يفرضه القاضي، ثم يضايقهم في لقمة ازدادوها عليه، أو تمرة أكلوها من ماله يعد بخيلًا. إحياء علوم الدين (3/ 259).
وقال المغربي -رحمه الله- مُعلِّقًا:
وهذا الكلام في البَخِيل عرفًا لا من يستحق العقاب، فلا يرد نقضًا، وقال آخرون: البَخِيل الذي يَسْتَصعب العطية، وهذا الحدُّ قَاصِر، فإنه إن أُريد أنه الذي يَسْتَصْعِب كل عطية، وَرَد عليه أن كثيرًا من البُخلاء لا يَسْتَصْعِب إعطاء الحبَّة، وإن أُرِيْد الكثير من العطية، فهذا لا يُوجِب الحكم بالبخل، وبعضهم بأنه: مَنْع ما يُطْلَب مما يقتنى. البدر التمام شرح بلوغ المرام (10/ 316-317)
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
البُخل: مَنْعُ ما يجب بذْلُه من مال أو جاه أو عمل، وهو في الأصل مَنْعُ ما يجب بذله من المال، لكن يتعدَّى إلى ما يجب بذله من العمل، ومنه «البَخِيل مَن إذا ذُكِرت عنده فلم يُصلِّ عليَّ»، أو من: «مَن إذا ذُكرت عنده لم يصلِّ عليَّ» فهنا ليس بُخلًا بالمال، ولكن في العمل، والبَخيل أيضًا: من يبخل بجاهه عند حاجته إليه، هذا بخيل.
وقوله: «سُوء الخُلُق» الخُلُق -كما ذكرنا- الجِبِلَة والتَّطبع، سُوء الخُلُق بالنَّهرِ والزَّجر، وما أشبه ذلك؛ ولهذا كان المؤمِن لا يمكن أن يبخل بالمال مع سُوء الخُلُق؛ لأنه إن وَجَدَ بَذَلَ، وإن لم يجد قال قولًا ميسورًا، كما قال تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا} الإسراء: 28.
مثال ذلك: رجل غني جاره إنسان يسأله شيئًا من المال، فقال له: اذهب ما عندنا شيء، هل هذا مؤمن؟ ليس بمؤمن كامل الإيمان.
آخر غني، جاءه سائل قال: الآن ليس بيدي شيء، تأتيني مرة أخرى يحضر الله لك، هذا بخيل لكن خُلُقه حَسَن، قد يكون المؤمن كامل الإيمان ويبخل ولا يُعطي، لكنه يقول قولًا ميسورًا، إلا أنه مع ذلك ناقص عن الكمال...أن الكمال مع الغنى أن يبذل ويُعطي.
إنسان فقير جاءه سائل قال: اذهب ليس عندي، ما أشبَعْتُ عيالي حتى أعطيك، هذا فقير لكنه أساء الخُلُق؛ لأن منعه الإعطاء بحق؛ لأنه لا يجد لكنه سيئ الخُلُق.
آخر فقير سُئل، فقال للسائل: يا أخي:...ما عندي شيء، عيالي أحيانًا يبيتون جياعًا ليس عندي شيء، لعل الله يرزقك من غيري، هذا لا يُذَم، بل يُحمد أنه ردَّ ردًّا ميسورًا. فتح ذي الجلال والإكرام (6/393).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
قد تقرر شرعًا عظيم قُبح كُل من هذين، وحينئذٍ فالقياس أنْ يُقال: لا يُوجد أحدهما في مؤمن...، فلا يُفهم من ذلك أنَّ أحديهما لا ينافي ذلك، بل هو ينافيه، لكن لا يحصل اليأس غالبًا إلا باجتماعهما.
فإن قلتَ: البخل من جزئيات سوء الخلق، فَلِمَ أَفْرَدَه، وعطف عليه؟ قلتُ: لنظير ما مر في الشح والظلم، من أنَّ البخل لما كان أقبح أنواع سوء الخُلق وأفظعها صار كأنه أصل مستقل بنفسه، فعطفه عليه عطف المغاير.
ثم رأيتُ شارحًا قال: المراد من ذلك اجتماع الخصلتين فيه، مع بلوغ النهاية فيهما، بحيث لا ينفك عنهما، ولا ينفكان عنه، فأما من فيه بعض هذا، أو بعض ذاك، أو ينفك عنه في بعض الأحوال، فإنه بمعزل عن ذلك، انتهى.
وبما قرَّرْتُه يُعلم أنه لا يحتاج لكلامه هذا على أن فيه من مُبَايَنَتِهِ للظاهر ما هو جلي، وكذلك قول غيره: يمكن أن يُحمل سوء الخُلق على ما يخالف الإيمان، فإنَّ الخلق الحسن هو ما به امتثال الأوامر، واجتناب النواهي. فتح الإله في شرح المشكاة (6/330-331).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
هذا الحديث وإنْ كان غريبًا، فإنه تعضده أحاديث، وتعارضه أُخر، ويجتذب أصولًا كثيرة، نظام نشرها بيان حسن الخُلق، واعلموا -وفقكم الله- أنَّ الله خلق الآدمي لخلقتين:
أحدهما: حسيًّا مشاهدًا تشاركه فيه الجمادات، وتشاركه أيضًا من وجه البهائم.
والثاني: معقولًا معنويًّا يختص به، لا يشاركه فيه شيء من الجمادات والبهائم؛ إذ خَلَقَه عالمًا قادرًا، سميعًا بصيرًا، حيًّا متكلمًا، مُدَبرًا مقدرًا، نافعًا ضارًّا، مالكًا مملكًا، موردًا مصدرًا، مقدمًا مؤخرًا، وهذه صفات عظيمة شرَّفه الله بها، وسمى الآدمي بأسمائه الحسنى فيها، وجعلها أنموذجًا فيه؛ ليدل عليه، وطريقًا يوصل إليه، وعبَّر عنها باسمين، فالخَلْق بفتح الفاء، وإسكان العين، ما يشاهد من ظاهر الآدمي، والخُلق بضمِّهما، ما يفعله من صفاته الباطنة، بأفعاله الظاهرة، الدالة عليها عقلًا، وما ذكرناه أصولها، فلما صار الآدمي بهذه الصفة، واستقر في هذه المنزلة، شرف قدره، فأُمر ونهي، واستحق الخلافة... تعيَّن عليه صلاحه في نفسه أن يصلح غيره، بأن يردَّه إلى هذه الصفات الكريمة، عما يعارضها من الصفات الذميمة، أشدها: سوء الخُلق، وهو فساد الجملة منها، أو فساد بعضها، وأقواها: البخل، وهو منع الواجب في نعمة المال أصلًا، وفي كل نعمة تبعًا لها، ولكنه لا يناقض الإيمان في الوجود؛ لقوله له: «أيكون المؤمن بخيلًا؟ قال: نعم، قيل: أيكون كذابًا؟ قال: لا». عارضة الأحوذي (8/ 108-109).