أَقْبَلَ رسولُ اللَّهِ -صلَّى الله عليه وسلَّم- على النَّاسِ بوجهِهِ، فقالَ: «أَقِيمُوا صفوفَكُم -ثلاثًا- واللَّهِ لَتُقِيمُنَّ صفوفَكُم أو لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بينَ قلوبِكُم».
قال: فرأيتُ الرَّجلَ يُلْزِقُ مَنْكِبَهُ بمَنْكِبِ صاحبِهِ، وركبتَهُ بركبةِ صاحبِهِ، وكعبَهُ بكعبِهِ.
رواه أبو داود برقم: (662)، والبيهقي في الكبرى برقم: (5183)، من حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنهما-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«يُلْزِق»:
بضم الياء مِن أَلْزَقَ أي: يُلصق، يقال: لزقَ به لزوقًا، أي: لَصَقَ به، وأَلْزَقَهُ به غيره. شرح سنن أبي داود، للعيني (3/211).
«مَنْكِبَهُ»:
مُجْتَمَعُ رأْسِ الكَتِفِ والعَضُدِ. لسان العرب، لابن منظور (1/ 771).
«وكَعْبَهُ»:
الكَعْبُ: هو عظْمُ طرف الساق عند ملتقى القدم والساق. تفسير غريب ما في الصحيحين، للحميدي (ص: 30).
وقال ابن منظور -رحمه الله-:
الكَعْبُ: كُل مِفْصَل للعظام، وكعب الإنسان: ما أشرف فوق رُسْغِهِ عند قدمه. لسان العرب (1/718).
شرح الحديث
قوله: «أقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الناس بوجهه»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«بوجهه» تأكيدًا؛ إذ الإقبال لا يكون إلا به. دليل الفالحين (6/570).
قوله: «فقال: أقيموا صفوفكم -ثلاثًا-»:
قال السهارنفوري -رحمه الله-:
«فقال» أي: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (3/608).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«أقيموا صفوفكم» أي: سَوُّوْهَا وعدِّلُوها، يقال: أقام العود إذا عدَّله وسوَّاه. شرح سنن أبي داود (4/145).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«ثلاثًا» رواية النسائي عن أنس بلفظ: «استووا، استووا، استووا»، وبوَّب عليه: باب كم مرة يقول: استووا. شرح سنن أبي داود (4/145).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«أقيموا صفوفكم ثلاثًا» أي: قال هذه الكلمة ثلاثًا. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (3/608).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«أقيموا صفوفكم» أي: داوموا على إقامتها، واعْتَنُوا بها؛ لِعِظَمِ جدواها وشرف غايتها، هذا إن كان صَدَرَ منه بعد تمام الإقامة، وإن كان قبلها فمعناه: اجعلوها كذلك. دليل الفالحين (6/570).
قوله: «والله لَتُقِيْمُنَّ صفوفكم»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«والله» تأكيد للإخبار. التنوير شرح الجامع الصغير (3/26).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «لتُقيمُنَّ» بضم الميم؛ لأن أصله: تُقيمون، دخل على نون التأكيد الثقيلة، وحُذفت الواو لالتقاء الساكنين. شرح سنن أبي داود (3/211).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«والله لتُقِيمُنَّ» أي: لتُسوُّنَّ. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (3/608).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «لَتُقيمُنَّ صفوفكم» من الإقامة بنون التأكيد والخطاب للجمع. فتح الودود في شرح سنن أبي داود (1/415).
وقال السندي -رحمه الله- أيضًا:
المراد بالإقامة: تسويتها وإخراجها عن الاعوجاج. فتح الودود في شرح سنن أبي داود (1/415).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
المراد بذلك: المبالغة في تعديل الصف وسدِّ خَلَلِهِ، وقد ورد الأمر بسدِّ خَلَل الصف والترغيب فيه في أحاديث كثيرة، أجْمَعُها حديث ابن عمر عند أبي داود وصححه ابن خزيمة والحاكم، ولفظه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسُدُّوا الخَلَل، ولا تذروا فُرُجاتٍ للشيطان، ومَن وَصَلَ صفًّا وصَلَهُ الله، ومن قطع صفًّا قطعه الله». فتح الباري (2/211).
قوله: «أو ليخالفن الله بين قلوبكم»:
قال العيني -رحمه الله-:
اعلم أن «أو» في الأصل موضوع لأحد الشيئين أو الأشياء، وقد تَخْرُج إلى معنى: (بل)، و(إلى) معنى: (الواو)، وهي حرف عطف ذكر المتأخرون لها معاني كثيرة، وها هنا لأحد الأمرين؛ لأن الواقع أحد الأمرين: إما إقامة الصفوف وإما المخالفة.
والمعنى: لَيُخَالِفَنَّ الله إن لم تقيموا الصفوف؛ لأنه قابَل بين الإقامة وبينه، فيكون الواقع أحد الأمرين.
ومعنى المخالفة بَيْن القلوب: أن يَتغيرَ بعضُهم على بَعْضٍ، فإنَّ تَقَدُّم الإنسان على الشخص أو على الجماعة وتخْلِيْفَه إياهم من غير أن يكون مقامًا للإمامة، قد يُوغِر صدورهم؛ وذلك موجِب لاختلاف قلوبهم. شرح سنن أبي داود (3/211).
وقال العيني -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «أو لَيخالِفن اللهُ» بفتح اللام الأولى؛ لأنها لام التأكيد، وكسر اللام الثانية وفتح الفاء، ولفظ «الله» مرفوع بالفاعلية. شرح سنن أبي داود (3/211).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
واختُلف في الوعيد المذكور، فقيل: هو على حقيقته، والمراد تشويه الوجه بتحويل خَلْقِه عن وضْعِهِ، بجعله موضع القَفَا ونحو ذلك، فهو نظير الوعيد فيمن رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار، وفيه من اللطائف: وقوع الوعيد من جنس الجناية، وهي المخالفة، وعلى هذا فهو واجب، والتفريط فيه حرام. فتح الباري (2/207).
وقال السندي -رحمه الله-:
والمعنى: لا بد من أحد الأمرين، إما إقامة الصفوف منكم، أو إيقاع الخلاف من الله في قلوبكم، فتقِلُّ المودة ويكثر التباغض، وقد تَرَكوا الأولى فتحقق الثاني بالمشاهدة، فإنا لله وإنا إليه راجعون. فتح الودود في شرح سنن أبي داود (1/415).
قوله: «قال: فرأيت الرجل يُلْزِقُ مَنْكَبَهُ بمنكب صاحبه»:
قال السهارنفوري -رحمه الله-:
«قال» أي: نعمان بن بشير، «فرأيت الرَّجُل» أي: من الصحابة المصلين بالجماعة بعد صدور ذلك القول من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (3/609).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «يُلْزِقُ» مضارع لَزِقَهُ لُزُوقًا كسَمِعَ، أي: لَصِقَ به، فمنكبه مرفوع على الفاعلية، أو مضارع أَلْزَقَهُ به غيره ففاعله ضمير الرَّجُل، و«مَنْكِبَه» منصوب على المفعولية، والوجهان جائزان، وقيل: الصواب أنه مضارع أَلْزَقَ ولا وجه له. فتح الودود في شرح سنن أبي داود (1/416).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«يُلْزِقُ» أي: يُلْصِقُ. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (3/609).
قوله: «ورُكْبَتَهُ بِرُكْبَةِ صاحبه»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«ورُكْبَتَهُ بِرُكْبَةِ صاحبه» والقدم بالقدم في الصف للمبالغة في تعديل الصف وسدِّ خَلَلِه، وقد ورد الأمر بسد خَلَل الصف، والترغيب فيه في أحاديث كثيرة. شرح سنن أبي داود (4/146).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«ورُكْبَتَهُ بِرُكْبَةِ صاحبه، وكَعْبَهُ بِكَعْبِهِ» ولعل المراد بالإلزاق المحاذاة، فإن إلزاق الركبة بالركبة، والكعب بالكعب في الصلاة مُشكل، وأما إلزاق المنكب بالمنكب فمحمول على الحقيقة. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (3/609).
قوله: «وكَعْبَهُ بِكَعْبِهِ»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«وكَعْبَهُ بِكَعْبِهِ» استُدل به على أن المراد بالكعب في قول تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ} المائدة:6 العظم النَّاتِئُ في جانبي الرِّجْل عند مفصل الساق والقدم، وهو الذي يمكن أن يَلْزَق بالذي إلى جانبه، خلافًا لمن ذهب إلى أن المراد بالكعب هو مؤخَّر القدم، وهو قول شاذ يُنسب إلى بعض الحنفية، ولم يثبته محققوهم، وكذا أنكر الأصمعي قول من زعم أنه في ظهر القدم. شرح سنن أبي داود (4/147).
وقال الشيخ عبد الله الفوزان -حفظه الله-:
تتحقق تسوية الصفوف بأمور ثلاثة مستفادة من عموم الأدلة في هذا الباب، وهي كما يلي:
1- إتمام الصف الأول فالأول، وسد الفُرَج بالتَّراص.
2- استقامة الصف وتعديله بالمحاذاة والمساواة بين الأعناق والمناكب والأكعب، بحيث لا يتقدم عُنق على عُنق، ولا كعب على كعب، والكعب هو العظم الناتئ في مؤخَّر القدم.
وأما التسوية بالنظر إلى رؤوس أصابع القدمين فهذا لا أصل له؛ لأن الإنسان إنما يستقيم مع من بجانبه إذا ساوى منكبه منكبه، وكعبه كعبه، فتستوي بقية أجزاء البدن، أما المساواة بأطراف الأصابع فلا تمكن؛ لاختلاف الأقدام طولًا وقِصَرًا.
3- التقارب بين الصفوف، وبين الصف الأول والإمام، ولم يرد في السُّنة تحديد لذلك، ولعل المراد -والله أعلم- أن يجعل بين كل صف وما يليه مقدار ما يمكن فيه السجود براحة وطمأنينة.
وأما إلزاق القدم بالقدم -كما يفعله بعض الناس- فهذا فيه أذية للآخرين، وفيه اشتغال وإشغال، اشتغال بما لم يُشرع، وإكثار من الحركة، واهتمام بعد القيام من السجود لملء الفراغ، وفيه إشغال للجار بملاحقة قدمه، كما أن فيه توسيعًا للفُرَج، ويظهر ذلك إذا هوى المأموم للسجود، كما أن فيه اقتطاعًا لمحلِّ قدم غيره بغير حق. منحة العلام شرح بلوغ المرام (323-324).
وقال ابن حزم -رحمه الله-:
تسوية الصف إذا كان من إقامة الصلاة فهو فرض؛ لأن إقامة الصلاة فرض؛ وما كان من الفرض فهو فرض. المحلى بالآثار (2/ 375).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وهذه الأحاديث والوعيد الذي فيها دالة على وجوب ذلك، وهو مما تساهل فيه الناس كما تساهلوا فيما يفيده حديث أنس عنه -صلى الله عليه وسلم-: «أتِمُّوا الصف المقدَّم ثم الذي يليه، فما كان من نقص فليكن في الصف المؤخَّر» أخرجه أبو داود، فإنك ترى الناس في المسجد يقومون للجماعة وهم لا يملؤون الصف الأول لو قاموا فيه، فإذا أقيمت الصلاة يتفرقون صفوفًا على اثنين وعلى ثلاثة ونحوه. سبل السلام (1/374).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
ويحتمل أن يكون البخاري أخذ الوجوب من صيغة الأمر في قوله: «سَوُّوا صفوفكم»، ومن عموم قوله: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، ومِن وُرُود الوعيد على تركه، فرَجَحَ عنده بهذه القرائن أن إنكار أنس إنما وقع على ترك الواجب، وإن كان الإنكار قد يقع على ترك السنن، ومع القول بأن التسوية واجبة فصلاة مَن خالَف ولم يسوِّ صحيحة لاختلاف الجهتين، ويؤيد ذلك أن أنسًا مع إنكاره عليهم لم يأمرهم بإعادة الصلاة. فتح الباري (2/ 210).
وقال الشيخ عبد الله الفوزان -حفظه الله-:
وقد اختلف العلماء في حكم تسوية الصفوف على قولين:
الأول: أنها سنة مؤكدة تُقارِب الواجب، وهذا قول الجمهور من السلف والخَلَف، واستدلوا بما تقدم من قوله: «فإن تسوية الصف من تمام الصلاة» أي: كمالها، وفوات الكمال لا يستلزم البطلان.
القول الثاني: أن تسوية الصفوف واجبة، وهو قول ابن حزم الظاهري، وظاهر كلام ابن تيمية، وهو اختيار الصنعاني.
واستدلوا بما تقدم من قوله: «فإن تسوية الصف من إقامة الصلاة»...
والقول بالوجوب هو الذي فهمه الحافظ ابن حجر من تبويب البخاري: باب إثم من لا يتم الصفوف، حيث قال: يحتمل أن يكون أخَذَ الوجوب من صيغة الأمر في قوله: «سَوُّوا صفوفكم»، ومن عموم قوله -صلى الله عليه وسلم-: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، ومن وُرُودِ الوعيد على تركه...
ثم إن الوعيد في حديث النعمان المتقدم يدل على الوجوب؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- توعّد على ترك التسوية بأن يخالف الله بين قلوبهم، فتختلف وجهات نظرهم، ويحصل التفرق والاختلاف؛ لأن الجزاء من جنس العمل، ومعلوم أن مثل هذا الوعيد لا يكون إلا على ترك واجب. منحة العلام شرح بلوغ المرام (323).
وقال الشيخ الألباني -رحمه الله-:
ومن المؤسف أن هذه السُّنة من التسوية قد تهاوَن بها المسلمون بل أضاعوها إلا القليل منهم، فإني لم أرها عند طائفة منهم إلا أهل الحديث، فإني رأيتهم في مكة سنة (1368هـ) حريصين على التمسك بها كغيرها من سنن المصطفى -عليه الصلاة والسلام-، بخلاف غيرهم من أتباع المذاهب الأربعة -لا أستثني منهم حتى الحنابلة- فقد صارت هذه السنة عندهم نَسْيًا مَنْسِيَّا، بل إنهم تتابعوا على هجرها والإعراض عنها؛ ذلك لأن أكثر مذاهبهم نصَّت على أن السنة في القيام التفريج بين القدمين بقدر أربع أصابع، فإن زاد كُرِهَ، كما جاء مفصلًا في الفقه على المذاهب الأربعة (1/ 207)، والتقدير المذكور لا أصل له في السُّنة، وإنما هو مجرد رأي، ولو صح لوجب تقييده بالإمام والمنفرد؛ حتى لا يُعَارَض به هذه السنة الصحيحة، كما تقتضيه القواعد الأصولية.
وخلاصة القول: إنني أهيب بالمسلمين -وبخاصة أئمة المساجد- الحريصين على اتباعه -صلى الله عليه وسلم-، واكتساب فضيلة إحياء سنته -صلى الله عليه وسلم- أن يعملوا بهذه السنَّة، ويحرصوا عليها، ويدعوا الناس إليها، حتى يجتمعوا عليها جميعًا؛ وبذلك ينجون من تهديد: «أو لَيُخَالِفَنَّ الله بين قلوبكم». سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/73).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
وفيه: جواز الكلام بين الإقامة والدخول في الصلاة. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (10/252).
وقال العراقي -رحمه الله-:
فيه: الأمر بإقامة الصفوف في الصلاة، والمراد بالصف الجنس، ويدخل في إقامة الصف استواء القائمين على سَمْتٍ واحد، والتصاق بعضهم لبعض، بحيث لا يكون بينهم خلل، وتتميم الصفوف المقدَّمة أولًا فأولًا. طرح التثريب (2/ 324).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
وفيه: استحباب تسوية الإمام الصفوف قبل الدخول في الصلاة، ويأمرهم به، ملتفتًا يمينه ويساره. شرح سنن أبي داود (4/147).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
وفي هذا: دليل على أن الإمام يُستحب له أن يُقْبِلَ على المأمومين بعد إقامة الصلاة، ويأمرهم بتسوية صفوفهم. فتح الباري (6/270).
وقال العيني -رحمه الله-:
وبهذا الحديث قالت العلماء: إن إقامة الصف من حسن الصلاة، وينبغي للإمام أن يتعهد تسوية الصفوف، فقد كان لعمر وعثمان رجال وكَّلَاهُم بتسوية الصفوف. شرح سنن أبي داود (3/212).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وأفاد هذا التصريح أن الفعل المذكور كان في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبهذا يتم الاحتجاج به على بيان المراد بإقامة الصف وتسويته. فتح الباري (2/211).
وقال العظيم أبادي -رحمه الله-:
هذه الأحاديث فيها دلالة واضحة على اهتمام تسوية الصفوف، وأنها من إتمام الصلاة، وعلى أنه لا يتأخر بعض على بعض، ولا يتقدم بعضه على بعض، وعلى أنه يُلْزِق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمه بقدمه، وركبته بركبته، لكن اليوم تُرِكَت هذه السُّنة، ولو فُعلت اليوم لنفر الناس كالحُمُر الوحشية. عون المعبود شرح سنن أبي داود (2/256).
وقال الشيخ حمزة محمد قاسم -رحمه الله-:
(وفيه) التحذير من الصلاة في الصف الأعوج، والوعيد الشديد على ذلك بالمسخ وتشويه الوجه، وهذا يؤيد الظاهرية فيما ذهبوا إليه. منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري (2/150).
وقال العراقي -رحمه الله-:
ذكر العلماء في معنى إقامة الصف أمورًا:
أحدها: حصول الاستقامة والاعتدال ظاهرًا كما هو المطلوب باطنًا.
ثانيها: لئلا يتخللهم الشيطان فيفسد صلاتهم بالوسوسة كما جاء في ذلك الحديث.
ثالثها: ما في ذلك من حسن الهيئة.
رابعها: أن في ذلك تمكُّنهم من صلاتهم مع كثرة جَمْعِهِم فإذا تراصُّوا وَسِعَ جميعُهم المسجد، وإذا لم يفعلوا ذلك ضاق عنهم.
خامسها: أن لا يشغل بعضهم بعضًا بالنظر إلى ما يشغله منه إذا كانوا مختلفين، وإذا اصطفوا غابت وجوه بعضهم عن بعض وكثير من حركاتهم، وإنما يلي بعضهم من بعض ظهورهم. طرح التثريب (2/ 326).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
فيه: أن القلب تابع للأعضاء، فإن اختلفَت اختلفَ، وإذا اختلف فسد، ففسدت الأعضاء؛ لأنه رئيسها. الكاشف عن حقائق السنن (4/ 1141).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
القلب ملك مطاع ورئيس متَّبَع، والأعضاء كلها تبع له، فإذا صلح المتبوع صلح التبع، وإذا استقام الملك استقامت الرعية، ويُبيِّن ذلك الحديث المشهور: «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد، وإذا فسدت فسد الجسد، ألا وهي القلب».
فالتحقيق في هذا المقام: أن بين القلب والأعضاء تعلقًا عجيبًا، وتأثيرًا غريبًا؛ بحيث إنه يسري مخالفة كل إلى الآخر، وإن كان القلب مدار الأمر إليه، ألا ترى أن تبريد الظاهر يؤثر في الباطن، وكذا بالعكس وهو أقوى. مرقاة المفاتيح (3/849).
وللاستفادة من الروايات الأخرى ينظر (هنا) و (هنا)