الخميس 27 رمضان 1446 هـ | 27-03-2025 م

A a

«أُخِّرَ الكلامُ في القَدَرِ لشرارِ أُمَّتِي في آخِرِ الزَّمانِ، ومِرَاءٌ في القرآنِ كُفْرٌ».


رواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم: (5909)، والبزار في البحر الزخار برقم: (7796)، واللفظ لهما، والحاكم في المستدرك برقم: (3765)، وابن أبي عاصم في السنة برقم: (350)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (1124)، صحيح الترغيب والترهيب برقم: (143).


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«القَدَر»:
هو عبارة عمَّا قضاه الله وحَكَمَ به من الأمور، وهو مصدر: قَدَر يَقْدِر قَدَرًا، وقد تسكن دَالُه. النهاية، لابن الأثير (4/22).

«مِرَاءٌ»:
المراء: الجِدال والتَّماري، والـمُماراة: المجادلة على مذهب الشك والريبة، ويقال للمناظرة: مُمَاراة؛ لأن كل واحد منهما يَسْتَخْرِج ما عند صاحبه ويمتريه، كما يمتري الحالِب اللبن من الضرع. النهاية، لابن الأثير (4/322).


شرح الحديث


قوله: «أُخِّرَ الكلام في القَدر لشرار أُمَّتِي في آخر الزمان»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«أُخِّرَ» بضمٍّ فكَسْرٍ مشددًا. التيسير شرح الجامع الصغير (1/50).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
«أُخِّرَ» بالبناء للمفعول. فيض القدير (1/213).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«الكلام في القدر لشرار أُمَّتِي» كأنه جعل الخَوْضَ فيه عقوبة للأشرار، وفيه أنها عقوبة في الدِّين، وكأنَّ هذا التَّهاوش عند طائفتَي المعتزلة والأشعرية من ذلك. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 451).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«الكلام في القَدَرِ» محرَّكًا أي: في نفيه، أي: في نفي كون الأشياء كلها بتقدير الله -سبحانه وتعالى-. فيض القدير (1/213).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
ووجه كراهية الكلام في القَدَرِ: أن الخوض لا يَؤُولُ فيه إلى بيان؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا تعرَّض لبيانه فَسَدَ وخرج عن حده؛ إذ المفعول لا يُفْعَل والموجود لا يوجد، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- بيَّن لأصحابه حين سألوه أول دفعة عنه، فقالوا له: «هذا الذي نحن فيه أمرٌ مُسْتَأنَفٌ أم أمر مفروغ منه؟ فقال: اعملوا، فكلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له» الحديث، فبعد أن استقر القول فيه والبيان لا يبقى إلا اعتراض المشكِّك. القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (1092).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«لشرار أُمَّتِي» وفي رواية: «لشرار هذه الأُمَّة»، وأول مَن تكلَّم فيه مَعْبَد الجهني وأبو الأسود الدؤلي أو سيبويه أو رجل آخر عند احتراق الكعبة، فقال قائل: هذا من قضاء الله تعالى، فقال آخر: ما هو من قضائه. فيض القدير (1/213).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«في آخر الزمان»...، لم يكن الخوض فيه إلا مِن بعد القرن الأول، فالحديث مِن أعلام النبوة. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 451).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«في آخر الزمان» أي: زمن الصحابة -رضي الله تعالى عنهم-، فزمنهم هو الزمان؛ لكونه خير الأزمان، وهذه من مُعجزاته -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه إخبار عن غيب وقع...والزمان مدة قابلة للقسمة تطلق على قليل الوقت وكثيره. فيض القدير (1/213).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
مذهب أهل الجَبْرِ إثبات التقدير لله تعالى، ونفي القدرة عن العبد أصلًا، والمعتزلة بخلافه، وكل الفريقين من الإفراط والتفريط على شفا جرفٍ هارٍ، والمنهج القويم والصراط المستقيم: القصد بين الأمرين، كما هو مذهب أهل السنة؛ إذ لا يَقْدِرُ أحد أن يُسْقِطَ الأصل الذي هو القَدَر، ولا أن يُبْطِل الكسب الذي هو السبب. الكاشف عن حقائق السنن (2/ 532).
وقال ابن الوزير -رحمه الله-:
ومعنى هذه الأحاديث -إن شاء الله تعالى-: التحذيرُ من مجاراة المبتدعة في القَدَرِ، والجدل بغير علم، وبغير حقٍّ، المؤدي إلى الباطل، وإثارة الشر...، فهذا الذي أُخِّر هو الخوض فيه على أحد هذه الوجوه الفاسدة.
فأمَّا الخوض فيه على جهة التعرُّف والتعلُّم لما جاءت به الشريعة، ثم الإيمان به على الوجه المشروع، فإنه لم يُؤَخَّر هذا لشرار الأُمَّة، بل قد تواتر أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سألوا عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وخاضوا في معرفته، وفي وجوب الإيمان به...، فلم يزجُرْهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك القَدْرِ من الخوض فيه؛ لما كان وسيلة إلى الإيمان به، ولم يكن فيه شيء من شعار المبتدعة، وكذلك لم يَتْرُك الجواب عليهم بالقَدْرِ الواجب بيانُه في ذلك. العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم (6/176).
وقال الشيخ محمد العلي -حفظه الله-:
والمراد بالكلام في القَدَرِ...: الكلام فيه بالباطل، والخوض في الجانب الخفي منه، والمنازعة فيه ونحو ذلك؛ لأنه ما أُخِّر لشرار الأُمَّة. ضرورة تعلم مسائل القدر (ص: 42).

قوله: «ومِراءٌ في القرآن كفر»:
قال ابن العربي -رحمه الله-:
قال العلماء: الـمِرَاء هو المنازعة في القول أو العمل والاعتقاد بقصد الباطل، فإن كان بقصد الحق فهو جدال، وقد تُذْكَرُ الشبهة في معرض الدليل ويكون مِرَاءً أيضًا، حتى يَقْصُد الحق، ويُبدي طلب الدليل لظهور ما هو صدق. عارضة الأحوذي (8/ 159).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«مِراءٌ في القرآن» في معانيه وما أراد الله به. التنوير شرح الجامع الصغير (8/ 108).
وقال المناوي -رحمه الله-:
أي: الجدال المؤدِّي إلى مِراءٍ ووقوع في شك، أما التنازع في الأحكام فجائز إجماعًا، إنما المحذور جِدَالٌ لا يرجع إلى علم، ولا يُقْضَى فيه بضرس قاطع (غير متقَن ولا محكَم)، وليس فيه اتباع للبرهان، ولا تأوُّل على النَّصَفَة، بل يَخْبِط خبط عَشْوَاء، غير فارق بين حق وباطل. فيض القدير (3/354).
وقال المناوي -رحمه الله- ايضًا:
«مِراءٌ في القرآن كفر» أي: كفر للنعمة. التيسير شرح الجامع الصغير (2/ 202).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«مِراءٌ في القرآن كفر»؛ إذ الواجب الإيمان به، والوقوف عند مُتَشابهه. التنوير شرح الجامع الصغير (8/ 108).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
روى سعيد بن المسيب وأبو سلمة عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «المراء في القرآن كفر»، ولا يصح فيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- غير هذا بوجه من الوجوه، والمعنى: إنما يتمارى اثنان في آية يجحدها أحدهما، ويدفعها، ويصير فيها إلى الشك، فذلك هو المراء الذي هو الكفر.
وأما التنازع في أحكام القرآن ومعانيه، فقد تنازع أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كثير من ذلك، وهذا يُبيِّن لك أن المراء الذي هو الكفر هو الجحود والشك، كما قال -عز وجل-: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} الحج: 55. جامع بيان العلم وفضله (2/ 928).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
قوله: «مِراءٌ في القرآن كفر» فإن المعنى فيه: أن القرآن قد ظهر صدقه، وثبتت معجزته، واستقر علمه، فإنْ نازَعَ فيه مُنَازِع كان كافرًا، وإن راجَعَهُ مُراجِع بالرد عليه لم يكن مراء، إنما هو جدال فهو يُماري وأنت تجادل، والجدال بالتي هي أحسن محمود، وإن لم يكن ذلك معه فأَعْرِضْ عنه؛ فإن الله تعالى يقول: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} الأنعام:68، فإنَّ الخِصام قد انقطع في الدِّين مُذْ تـمَّت الدعوة عشر سنين.
وقيل: معناه: الاختلاف في القرآن، كقوله: يقرأ كذا، ويقول: فيه حرف كذا، والآخر يقول: ليس فيه، أو يقول قائل: فيه آية كذا، ويقول الآخر: ليس فيه، وقد تنازع الناس في ذلك، فإن كان النزاع في ذلك للاستذكار أو لطلب الأصح أو الأكثر في القراءة أو المتفق عليه أو المعلوم من الشاذ بذلك جائز، وإن كان لغير ذلك فقد يكون كفرًا بتأويل، وقد يكون كفرًا بغير تأويل على حسب قصده.
وأصل المماراة في العربية بيَّنها لك لَفْظُها؛ فإنها من الـمِرْيَة، وهو الشك، فمَن جادل لدفع الشك فهو سُني، ومن جادل ليُثبت الشك فهو بدعي أو كافر بحسب قصده، وما تنازع فيه. عارضة الأحوذي (8/160-161).
وقال أبو عبيد -رحمه الله-:
وجه الحديث عندنا ليس على الاختلاف في التأويل، ولكنه عندنا على الاختلاف في اللفظ، على أن يقرأ الرجل القراءة على حرف، فيقول له الآخر: ليس هكذا، ولكنه كذا على خلافه، وقد أنزلهما الله جميعًا، يُعْلَم ذلك في حديث النبي -عليه السلام- أنه قال: «إن القرآن نزل على سبعة أحرف، كل حرف منها كَافٍ شَافٍ». غريب الحديث (2/11).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
فإذا جَحَدَ كل واحد منهما قراءة صاحبه لم يُؤمَن أن يكون ذلك يخرجه إلى الكفر؛ لأنه نفى حرفًا أنزله الله على نبيِّه.
والتَّنْكِير في المراء إيذانًا بأن شيئًا منه كفر، فضلًا عما زاد عليه.
وقيل: إنما جاء هذا في الجدال والمراء في الآيات التي فيها ذكر القَدَر ونحوه من المعاني على مذهب أهل الكلام، وأصحاب الأهواء والآراء، دون ما تضمنته من الأحكام، وأبواب الحلال والحرام؛ فإن ذلك قد جرى بين الصحابة فمَن بعدهم من العلماء؛ وذلك فيما يكون الغرض منه والباعث عليه ظهور الحق ليُتَّبع، دون الغلبة والتعجيز. النهاية (4/322).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
عَن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «المراء في القرآن كفر»، اختلف الناس في تأويله، فقال بعضهم: معنى المراء هنا الشك فيه، كقوله: {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} هود: 17، أي: في شك، ويقال: بل المراء هو الجدال المشكَّك فيه.
وتأوَّله بعضهم على المراء في قرآنه دون تأويله ومعانيه، مثل أن يقول قائل: هذا قرآن قد أنزله الله -تبارك وتعالى-، ويقول الآخر: لم ينزل الله هكذا، فيكفر به مَن أنكره، وقد أنزل سبحانه كتابه على سبعة أحرف كلها شافٍ كافٍ، فنهاهم -صلى الله عليه وسلم- عن إنكار القراءة التي يَسْمَع بعضهم بعضًا يقرؤها، وتَوَعَّدَهم بالكفر عليها؛ لينتهوا عن المراء فيه، والتكذيب به؛ إذ كان القرآن مُنَزَّلًا على سبعة أحرف، وكلها قرآن مُنَزَّل يجوز قراءته، ويجب علينا الإيمان به.
وقال بعضهم: إنما جاء هذا في الجدال بالقرآن في الآي التي فيها ذكر القَدَرِ والوعيد، وما كان في معناهما على مذهب أهل الكلام والجدل، وعلى معنى ما يجري من الخوض بينهم فيها دون ما كان منها في الأحكام وأبواب التحليل والتحريم، والحظر والإباحة؛ فإنَّ أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد تنازعوها فيما بينهم، وتحاجُّوا بها عند اختلافهم في الأحكام، ولم يتحرجوا عن التناظر بها وفيها، وقد قال سبحانه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُم فِي شَيْءٍ فَرُدُوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} النساء: 59، فَعُلِمَ أنَّ النهي مُنصرف إلى غير هذا الوجه، والله أعلم. معالم السنن (4/ 297).
وقال النووي -رحمه الله-:
يحرم المراء في القرآن، والجدال فيه بغير حق، فمِن ذلك: أن يُظْهِرَ فيه دلالة الآية على شيء يخالف مذهبه، ويحتمل احتمالًا ضعيفًا موافقة مذهبه، فيحملها على مذهبه، ويُناظِر على ذلك، مع ظهورها في خلاف ما يقول، وأما من لا يَظْهَرُ له ذلك فهو معذور، وقد صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «المراء في القرآن كفر»، قال الخطابي: المراد بالمراء الشك.
وقيل: الجدال المشكَّك فيه، وقيل: وهو الجدال الذي يفعله أهل الأهواء في آيات القَدَرِ، ونحوها. التبيان في آداب حملة القرآن (ص: 168).


ابلاغ عن خطا