الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

«أيُّما امْرِئٍ قال لأخيهِ: يا كافرُ، فقدْ بَاءَ بها أحدُهُما، إنْ كان كما قال، وإلَّا رَجَعَتْ عليه».


رواه البخاري برقم: (6104)، ومسلم برقم: (60) واللفظ له، من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.


شرح مختصر الحديث


التَّكْفِيْرُ والتَّفسِيقُ مِن مَسائلِ الأَسْمَاءِ والأحكَامِ التي يَتعلَّق بها الوعدُ والوعيدُ في الدَّارِ الآخِرةِ، وتتعلَّق بها الموالاةُ والمعَادَاةُ، والقتلُ والعِصمةُ، وغيرُ ذلكَ في الدَّارِ الدُّنيا كما ذَكَرَ ذَلكَ ابنُ تيميةَ -رحمَهُ اللهُ-، فإطلاقُ الكُفرِ أو الفِسْقِ على مُسلمٍ أو الحُكْمُ عليهِ بالرِّدةِ لا يكونُ إلا بموجِبٍ قطعِي، وحُكْمٍ شَرعي يَسْتَنِدُ على الأدلةِ الشرعيَّةِ مِن الكتابِ والسُّنَّةِ، وهو لأهلِ العلمِ الراسخين فيه، فلا مجالَ فيه للأهواءِ ونزعاتِ النفوسِ؛ ولهذا قالَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في هَذَا الحَدِيثِ مُحذِّرًا: «أيُّما رجلٍ قالَ لأخيهِ: يا كافِرُ» أي: رَمَاهُ بالكُفرِ، وحكَمَ عليهِ به بلا دليلٍ وبيِّنةٍ واضحةٍ، وبِلَا إقامةِ الحُجَّة عليه، وانتفاءِ الموانعِ «فقدْ باءَ بها أحدُهما» أي: إنْ كانَ مَن قيل له ذَلكَ كافرًا، فقدْ صَحَّ وَصْفُهُ بذلكَ، واستحقَّ هذا الوَصْف، وإنْ لم يكنْ كَذلكَ رَجَعَ إلى القَائلِ إثمُ هذه الكلمة، أو رَجَعَت إليهِ هذه الكلمة، وكَأنَّه كَفَّرَ نَفْسَهُ لتَكفيرهِ أخاهُ المسلِمَ، وقيل: إنَّ هَذا يُحملُ عَلَى مَن استَحلَّ تكفيرَ المسلمِ، وقيلَ غير ذلكَ من المحَامِل.
وهَذا الحديثُ يُحملُ عَلَى مَن رَمَى أخَاهُ المسلِم بالكُفْرِ مُعْتَدِيًا، فَكَفَّرَ مُسلِمًا بَرِيْئًا، وأمَّا مَن كانَ مُتأوِّلًا في التَّكفيرِ، كما قالَ عمرُ -رضي الله عنه- عن حَاطَبٍ: دَعْنِي أَضْرِبُ عُنقَ هذا المنافقِ، فلا إثمَ عَليه ولا عُقوبة في الدُّنيا، ولا في الآخِرةِ.


غريب الحديث


«بَاءَ بها»:
أي: التَزَمَهَا ورَجَع بها. غريب الحديث، لابن الجوزي (1/ 88).
قال الحميدي -رحمه الله-:
يُقال: باءَ يبوءُ: رَجَعَ، وباء بالإثم أي: رَجَعَ باستحقاق الإثم. تفسير غريب ما في الصحيحين (ص: 235).


شرح الحديث


قوله: «أيُّما امْرِئٍ قال لأخيهِ: يا كافرُ»:
قال المناوي -رحمه الله-:
قوله: «أيما امرئٍ» بجر «امرئٍ» بإضافة (أي) إليه، وبرفعه بدل من (أي)، و(ما) زائدة، «قال لأخيه» أي: في الإسلام. فيض القدير (3/ 136).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«يا كافرُ» ولأبي ذر: «قال الرَّجُل لأخيه: كافرٌ» بإسقاط حرف النداء وبالتنوين. إرشاد الساري (9/ 65).
وقال النووي -رحمه الله-:
«قال لأخيه: كافرٌ» فإنَّا ضبطناه (كافرٌ) بالرفع والتنوين، على أنَّه خبر مبتدأ محذوف، والله أعلم. شرح صحيح مسلم(2/ 51).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله -عليه الصلاة والسلام-: «أيُّما امرئٍ قال لأخيه: كافرٌ» صوابُ تقييده: «كافرٌ» بالتنوين على أنْ يكون خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ، أي: أنتَ كافرٌ، أو هو كافرٌ.
وربَّما قيَّده بعضهم: «كَافِرُ» بغير تنوين؛ فجعله منادًى مفردًا محذوف حرف النداء، وهذا خطأٌ؛ إذ لا يحذفُ حرفُ النداء مع النكرات، ولا مع المُبهَمات، إلا فيما جرى مجرى المَثَل، في نحو قولهم: أَطرِق كَرَا (ترخيم الكروان طائر صغير؛ شُبِّه به الذليل، ويضرب للحقير إذا تكلم في الموضع الجليل)، وافتَدِ مخنوقُ (أي: يا مخنوق، يُضرب لكل مشفوق عليه مضطر، ويُروى: افتدى مخنوق)، وفي حديث موسى: «ثَوبِي حَجَرُ، ثَوبِي حَجَرُ» وهو قليلٌ. المفهم (1/ 252).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
أي: أَطْلَقَ عليه لفظ الكُفر بهذه الصيغة أو بغيرها، كأنْ يقول: كَفَرْتَ. التنوير شرح الجامع الصغير (4/ 418).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«قال: كافرُ» بضم الراء على البناء، فإنَّه منادى حُذِفَ حرفُ ندائه، كما ذكره مِيْرَكُ، ويؤيده ما جاء في روايةٍ بالنداء، وفي بعض النُّسخ بتنوينِهِ على أنَّه خبرٌ محذوف، تقديره: أنت أو هو. مرقاة المفاتيح (7/ 3027).

قوله: «فقدْ بَاءَ بها أحدُهُما»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«فقد بَاءَ بها» أي: رَجَعَ بالصفة المذكورة، وصِيْغَتُها «أحدهما» لأنه لا يضيع اللفظ عن الحُكْم. التنوير شرح الجامع الصغير (4/418- 419).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
«فقد باء» مهموز، أي: رجع «بها» أي: بهذه الكلمة القبيحة، «أحدهما» المقولة فيه إنْ كان كما قال، أو رجعت عليه إنْ لم يكن كما قال؛ عقوبةً له على ما رمى به أخاه. التنوير شرح الجامع الصغير (2/ 159).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «فقد باءَ بها أحدُهُما» أي: رجَعَ بإثمها، ولازَمَ ذلك...، والهاءُ في «بها» راجعٌ إلى التكفيرةِ الواحدة التي هي أقلُّ ما يدلُّ عليها لفظ كافر، ويحتملُ أنْ يعودَ إلى الكلمة، ونعني بهذا: أنَّ المقولَ له: كافر إنْ كان كافرًا كُفْرًا شرعيًّا فقد صدقَ القائلُ له ذلك، وذهبَ بها المقولُ له، وإنْ لم يكن كذلك رَجَعَت للقائلِ معرَّةُ ذلك القولِ وإثمُهُ.
و«أحدهما» هنا يعني به: المقول له على كلِّ وجه؛ لقوله: «إنْ كان كما قال»، وأمَّا القائُل فهو المَعنِيُّ بقوله: «وإلا رجَعَت عليه»، وبيانُهُ بما في حديث أبي ذرٍّ الذي قال فيه: «مَن دعا رجلًا بالكفرِ، أو قال: عدو اللهِ، وليس كذلك، إلا حَارَ عليه» أي: على القائل، وحَارَ: رَجَعَ، ويعني بذلك: وِزرَ ذلك وإثمَهُ. المفهم (1/253- 254).
وقال ابن حجر -رحمه الله- مُعلِّقًا:
كذا اقتصر (أي: القرطبي) على هذا التأويل في «رجع»، وهو من أعدل الأجوبة. فتح الباري (10/ 467).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
عندي أرْجَحُ الأقوال هو ما قاله القرطبي، كما أشار إليه الحافظ، وخلاصته: أنَّ رجوع الكفر إلى القائل إذا لم يكن المقول له أهلًا لتلك الكلمة إنَّما هو رجوع مَعَرَّتِها وإثمها، لا رجوع نفس الكفر إليه، بمعنى: كونه يخرج بقوله من الإسلام، وقد سبق أنَّ كثيرًا من النصوص التي وردت بلفظ الكفر محمولة على كفر دون كفر. البحر المحيط الثجاج (2/ 395-396).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
قوله: «بها» أي: رجع بتلك الكلمة «أحدهما» وفي بعض النُّسَخِ: «به» أي: بالكفر، وهو أولى. شرح المصابيح (5/ 235).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- مُعلِّقًا:
وفيه بحث، بل الأَوْلَى أنَّ معناه: رجع بإثم ذلك القول المفهوم مِن «قال أحدهما»، أما القائل إنْ اعتقد كُفْر المسلم بذنب صدر منه، أو الآخر إنْ صدَّق القائل، كذا ذكره بعض الشُّراح من علمائنا. مرقاة المفاتيح (7/ 3027).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قد يكون مراده -صلَّى الله عليه وسلَّم- بهذا الخوارج؛ لتكفيرهم المؤمنين، وهذا تأويل مالك بن أنس. إكمال المعلم (1/ 318).
وقال ابن حجر -رحمه الله- مُعلِّقًا:
قلتُ: ولِمَا قاله مالكٌ وجهٌ، وهو أنَّ منهم مَن يُكفِّر كثيرًا من الصحابة ممن شَهِدَ له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالجنة وبالإيمان، فيكون تكفيرهم من حيث تكذيبهم للشهادة المذكورة، لا مِن مجرَّد صدور التكفير منهم بتأويلٍ، كما سيأتي إيضاحه في باب مَن أكفر أخاه بغير تأويل.
والتحقيق: أنَّ الحديث سِيْقَ لِزَجْرِ المسلم عن أنْ يقول ذلك لأخيه المسلم؛ وذلك قبل وجود فِرْقَة الخوارج، وغيرهم. فتح الباري (10/ 466).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله- مُعلِّقًا:
والمحقِّق في دفاع الحافظ ابن حجر يجد هذا الوجه لا وجه له؛ لأنَّ رَدّ حديث الشهادة بالجنة لا يُكفِّر؛ لأنه غير متواتر، ولا يلزمه تكذيب النبي -صلى الله عليه وسلم-. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/ 226).
وقال النووي -رحمه الله-:
هذا الحديث مما عدَّه بعض العلماء من المشكلات؛ من حيث إنَّ ظاهره غير مراد؛ وذلك أنَّ مذهب أهل الحق: أنَّه لا يُكفَّر المسلم بالمعاصي كالقتل والزنا، وكذا قوله لأخيه :كافر من غير اعتقاد بطلان دين الإسلام، وإذا عُرف ما ذكرناه فقيل في تأويل الحديث أوجه:
أحدها: أنَّه محمول على المستحِلِّ لذلك، وهذا يُكفَّر، فعلى هذا، معنى «باء بها» أي: بكلمة الكفر، وكذا «حَارَ عليه»، وهو معنى «رَجَعَت عليه» أي: رجع عليه الكفر، فباء وحار ورجع بمعنى واحد.
والوجه الثاني: معناه: رَجَعَت عليه نقيصَتُه لأخيه، ومعصية تكفيره.
والثالث: أنَّه محمول على الخوارج المكفِّرين للمؤمنين، وهذا الوجه نقله القاضي عياض -رحمه الله- عن الإمام مالك بن أنس وهو ضعيف؛ لأن المذهب الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون والمحققون: أنَّ الخوارج لا يُكفَّرون كسائر أهل البدع.
والوجه الرابع: معناه: أنَّ ذلك يَؤُوْلُ به إلى الكفر؛ وذلك أنَّ المعاصي كما قالوا: بريد الكفر، ويُخاف على المكثِر منها أنْ يكون عاقبة شُؤْمها المصير إلى الكفر، ويؤيِّد هذا الوجه ما جاء في رواية لأبي عوانة الإسفرايني في كتابه المخرَّج على صحيح مسلم: «فإنْ كان كما قال، وإلا فقد باء بالكفر»، وفي رواية: «إذا قال لأخيه: يا كافر وجب الكفر على أحدهما».
والوجه الخامس: معناه: فقد رجع عليه تكفيره، فليس الراجع حقيقة الكفر، بل التكفير؛ لكونه جعل أخاه المؤمن كافرًا، فكأنَّه كفَّر نفسه، إما لأنَّه كفَّر مَن هو مثله، وإما لأنَّه كفَّر مَن لا يُكفِّره إلا كافرٌ، يعتقد بطلان دين الإسلام، والله أعلم. شرح النووي على مسلم (2/ 49-50).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وليس المراد أنَّه يصير كافرًا بقوله له ذلك، خارجًا عن ملة الإِسلام كالمرتد، وإنَّما المراد: أنَّه يأثم بتلك الكلمة، ويرجع عليه وبالُها. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 590).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قال المهلب: قوله: «فقد باءَ بها أحدهما» هو على مذهب العرب في استعمالها الكناية في كلامها، وترْك التصريح بالشر، وهذا كقول الرَّجُل لمن أراد أنْ يكذِّبه: والله إنَّ أحدنا لكاذب، وهذا كقوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} سبأ: 24. شرح صحيح البخاري (9/ 288).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
وإنَّما رجع بالكفر أحدُهما؛ لأنه إما أنْ يَصْدُقَ عليه أو يَكْذِب، فإنْ صَدَقَ فهو كافرٌ، وإنْ كَذَبَ عاد الكفر إليه؛ لتكفيره أخاه المسلم بسبب ذنبٍ صدر عنه، واعتقد فيه كونه كافرًا بذلك، قيل: هذا فيمن كفَّر مسلمًا بلا تأويل، وأما المتأوِّل فخارجٌ عنه. شرح المصابيح (5/ 235).
وقال الباجي -رحمه الله-:
وقد قيل: إنَّ معنى قوله: «فقد باء بها أحدهما» يريد بِوِزْرِ هذا القول عليه، وإنْ لم يكن كافرًا، فوِزْرُ هذا القول على قائله أن أحدهما يكون كافرًا بهذا القول، والله أعلم وأحكم. المنتقى شرح الموطأ (7/ 308).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
وقد يجيب الفقهاء عن هذا بأنْ يقولوا: فقد كَفَرَ بحق أخيه المسلم، وليس ذلك مما يُسمَّى به الجاحد حق أخيه كافرًا؛ لأنه لا يستحق اسم الكُفر مَن جحد حق أخيه في بر أو مال. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (28/ 474).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
«باءَ بها» أي: احْتَمَلَ وِزْرَهَا، ومعناه: أنَّ الكافرَ إذا قيل له: يا كافر، فهو حامِلٌ وِزْرَ كُفْرِهِ، ولا حرج على قائل ذلك له، وكذلك القول للفاسق: يا فاسق، وإذا قيل للمؤمن: يا كافر، فقد باء قائل ذلك بِوِزْرِ الكلمة، واحتمَل إثمًا مبينًا، وبهتانًا عظيمًا، إلا أنه لا يَكْفُر بذلك؛ لأن الكفر لا يكون إلا بترك ما يكون به الإيمان.
وفائدة هذا الحديث: النهي عن تكفير المؤمن وتفسيقه، قال الله -عز وجل-: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ} الحجرات: 11. الاستذكار (8/ 548-549).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وأرْجَحُ من الجميع: أنَّ مَن قال ذلك لمن يُعرف منه الإسلام، ولم يَقُمْ له شبهة في زعمه: إنه كافر، فإنَّه يَكْفُر بذلك...، فمعنى الحديث: فقد رجع عليه تكفيره، فالراجع التكفير لا الكُفر، فكأنه كفَّر نفسَه؛ لكونه كفَّر مَن هو مثله، ومَن لا يكفِّره إلا كافر، يعتقد بطلان دِين الإسلام، ويؤيده أنَّ في بعض طرقه: «وجب الكفر على أحدهما». فتح الباري (10/ 466).
وقال ابن عاشور -رحمه الله-:
المعنى: أنَّ أصل الكلام الصدق، فمن قال لأخيه المسلم: يا كافر فهو لا يخلو من إحدى حالتين:
إمَّا أن يكون صادقًا؛ بأنْ يكون تحقَّق كُفْر المشتوم، فيكون المشتوم قد باء بذلك السَّبِّ، ومِن لوازمه أنَّه قد باء بإثم الكُفْر بشهادة مُسلم.
وإمَّا أنْ يكون الشاتم كاذبًا، بأنْ يكون قد قال ذلك بهتانًا، فيكون قد سبَّ نفسَه، وهو لا يدري؛ إذ قد عدَّ حالة الإيمان كُفْرًا، ولا يعدُّ الإيمان كُفْرًا إلا كافرٌ؛ إذ إيمان المؤمن يقتضي الكفر بضدِّ الإيمان، فيكون قد كفى المسبُوب أمر الرد عليه؛ فقد رجع الساب سابًّا لنفسه من حيث لا يشعر؛ إذ قد عدَّ حالَ الإيمان حالَ كُفْرٍ فهو يرضى لنفسه الحال المتَّصِف بها المسبوب، فيلزم منه أنه يرضى لنفسه خِلافها، وخلاف الإيمان كفر، فكان جديرًا بأنْ يُسب بأنَّه كافر بوجه أحق من الوجه الذي سبَّ به صاحبه؛ لأنَّ حاله هو أَشْبَهَت حال الكافر، فكان عَوْدُ السَّبِّ إليه أحرى وأجدر.
وليس المعنى: فقد باء بصدقِ السب أحدهما، أي: باء كافرًا؛ لأنَّ اللفظ لا يقتضيه، والقواعد الشرعية تنافيه؛ ولأنَّ السب إنشاء والإنشاء لا نسبة له في الخارج مطابقة أو لا مطابقة، وبهذا اندفع عن الحديث الإشكال. كشف المغطى (ص: 388-389).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وهذا يقتضي أنَّ مَن قال لآخر: أنت فاسق، أو قال له: أنت كافر، فإنْ كان ليس كما قال، كان هو المستحِق للوصف المذكور، وأنه إذا كان كما قال لم يرجع عليه شيء؛ لكونه صَدَقَ فيما قال، ولكن لا يلزم من كونه لا يصير بذلك فاسقًا ولا كافرًا أنْ لا يكون آثمًا في صورة قوله له: أنت فاسق، بل في هذه الصورة تفصيل: إنْ قصد نصحه أو نصح غيره، ببيان حاله جاز، وإنْ قصد تعييره وشهرته بذلك، ومَحْض أذاه لم يجز؛ لأنه مأمور بالستر عليه وتعليمه وعِظَتِه بالحسنى، فمهما أمكنه ذلك بالرفق لا يجوز له أنْ يفعله بالعنف؛ لأنه قد يكون سببًا لإغرائه وإصراره على ذلك الفعل، كما في طَبْعِ كثير من الناس من الأنَفَةِ، لا سيما إنْ كان الآمر دون المأمور في المنزلة. فتح الباري (10/ 466).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
وهذا إذا قاله من غير تأويل، فإن كان المقول له مستحِقًّا لهذه الصفة وإلا فقد باء بها القائل، وهذا على مذهب قوله -عز وجل-: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} سبأ: 24، ولم يرد به القائل نفسه؛ لكن خصمه المقول له، ولكن العرب تُلَطِّفُ القول، وتُكنِّي؛ ليكون أَعَفّ في اللفظ، وأحسن في الأدب. أعلام الحديث (3/ 2192).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
توجيهه (أي: هذا الحديث): أنَّه لما قال للمسلم: كافر، فقد جعل الإسلام كُفْرًا، واعتقد بطلان دين الإسلام، فافْهَم، وأما إذا قال بقصد الكذب والسب من غير اعتقاد بطلان دين الإسلام، فقد يوجَّه بأنَّه محمول على المسْتَحِلّ لذلك، واستحلال المعصية كفر. لمعات التنقيح (8/ 142).
وقال صفي الرحمن المباكفوري -رحمه الله-:
وقد حُمِلَ هذا على الزجر والتوبيخ، وهو يدل على شِدَّة شناعة هذا القول، وعِظَم معصيته، وخطورة نتيجته، ولزوم التوبة منه. منة المنعم في شرح صحيح مسلم (1/ 91).

قوله: «إنْ كانَ كما قالَ، وإلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«إنْ كان كما قال» أي: كافر، فقد صح إطلاقه، ولم يكن كاذبًا عليه، «وإلا» يكن كافرًا «رَجَعَت عليه» فيكفر لتكفيره أخاه، وهذا زَجْرٌ عن إطلاق الكفر على المسلم، ومنه يُعلم خطر التكفير باللازم، وتكفير التأويل. التنوير شرح الجامع الصغير (4/ 419).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
لا بد من الرجوع والعَوْدِ من الشيء، فإذا قال القائل لصاحبه: يا كافر، فإنْ صَدَقَ رجَع إليه كلمة الكفر الصادر من مقتضاها، وإنْ كَذَبَ واعتقد بطلان الإسلام، رجَعَت هذه الكلمة الصادرة إلى القائل. الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3113).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
فصَّله بقوله: «فإنْ كان» أي: المقول له «كما قال» أي: كافرًا؛ بأن ارتكب مُكَفِّرًا، وجواب الشرط محذوف، أي: فهو من أهلها، «وإلا» أي: وإن لم يكن المقول له كذلك، بأنْ كان على الإِسلام، ولم يأتِ بمُضادِّهِ «رَجَعَتْ عليه» أي: القائل، أي: إنْ كان أَطْلَقَ على الإِيمان أنه كُفر، وأراد أنَّ ذلك لاتصافه به، كافر. دليل الفالحين (8/ 549).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
وهذا وعيد عظيم لمن أكفر أحدًا من المسلمين، وليس كذلك، وهي ورطة عظيمة وقع فيها خلق كثير من المتكلمين ومن المنسوبين إلى السنة وأهل الحديث؛ لَمَّا اختلفوا في العقائد، فغلظوا على مخالفيهم، وحَكَمُوا بكفرهم، وخَرَقَ حجاب الهيبة في ذلك جماعة من الحشوية، وهذا الوعيد لاحِقٌ بهم إذا لم يكن خصومهم كذلك...، والحق أنه لا يَكْفُر أحدٌ من أهل القبلة، إلا بإنكارٍ متواترٍ من الشريعة عن صاحبها، فإنه حينئذٍ يكون مكذِّبًا للشرع، وليس مخالفة القواطع مأخذًا للتكفير، وإنما مأخذه مخالفة القواعد السمعية القطعية طريقًا ودلالة. إحكام الأحكام (2/ 210).
وقال محمد بن الحسن -رحمه الله-:
لا ينبغي لأحد من أهل الإسلام أنْ يشهد على رَجُل من أهل الإسلام بذنب أذْنَبَه بكُفر، وإنْ عَظُم جُرْمُه، وهو قول أبي حنيفة، والعامة من فقهائنا. الموطأ (3/ 404).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
فقه الحديث:
مَن نَسَبَ الكفر إلى مسلم لا يخلو حاله من أحد أمور أربعة:
أ. أنْ لا يقصد النسبة الحقيقية؛ بأنْ يقولها عفوًا وجريًا على لسانه، أو هزلًا ومداعبة، فهذا آثم بلا خلاف؛ لأن في طهارة الألفاظ متسعًا للهزل والمداعبة، وبسط الكلام، لكنه ليس بكافر، ولا يبوء بهذه الكلمة أحدهما، وليس مقصودًا بهذا الحديث.
ب. أنْ يقصد النسبة الحقيقية، لكنه يجهل حكم من كفَّر أخاه، فهذا آثم إثمًا أكبر؛ لأنه لا يجوز طعن مسلم -خصوصًا بالكفر- إلا بعد التحقق والتأكد بجميع الوسائل والبراهين، لكنه ليس بكافر، ولا يدخل في الحديث؛ لِجَهْلِه.
ج. أنْ يقصد النسبة الحقيقية، ويَعْلَمَ الحُكم، لكن له وجهة نظر دينية في هذه النسبة، كقولنا: الخوارج كافرون، وإسنادنا بعض الشيعة للكفر، فهذه الحالة لا تدخل معنا في هذا الحديث، والتحرُّز منها أولى من الوقوع فيها.
د. أنْ يقصد النسبة الحقيقية والسب والطعن بغير تأويل، وهو يعلم النهي عن تكفير المسلم، وهذه الحالة هي المقصودة بالحديث، ولا شكَّ أنها كبيرة، وللخوارج أن يتمسكوا بالحديث في تكفيرهم مرتَكِبَ الكبيرة. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/ 225-226).
وقال القنازعي -رحمه الله-:
وإذا خيف على المسلم أنْ يصير كافرًا بسبب أذِيَّتِه لأخيه المسلم بالقول القبيح، أفليس هو أشد حالًا، وأعظم وزرًا فيما يستضر به من قتله في نفسه، وماله، وأهله؟! تفسير الموطأ (2/ 778).
وقال السنوسي -رحمه الله-:
والحديث ظاهر في تحريم تكفير الرَّجل أخاه، فإنْ وقع فهو سِبَابٌ وإِذَايَةٌ، وقال مالك: من آذى مسلمًا أُدِّب. مكمل إكمال الإكمال (1/170).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده:
1. منها: بيان حال المسلم إذا قال لأخيه المسلم: يا كافر، وهو أنْ يتحمل إثم تكفيره إنْ لم يكن كما قال.
2. ومنها: وجوب حفظ اللسان عن قول الخنا والفحش.
3. ومنها: وجوب احترام المسلم لأخيه المسلم، وعدم رَمْيِهِ بكلام بذيء، مثل الكفر والفسق والفجور.
4. ومنها: عناية الشارع بالتنبيه والإرشاد إلى ما هو الأَوْلَى بالمسلم، وإبعاده عما يشين عرضه، ودينه.
5. ومنها: أنَّ رمي المسلم بالكفر من الذنوب الخطيرة، فيَجِبُ التوبة منها، واستحلال أخيه بتكذيب نفسه، وطلب المسامحة له في ذلك. البحر المحيط الثجاج (2/ 391).


ابلاغ عن خطا