«إذا أتى أحدُكُم أهلَهُ، ثم أرادَ أنْ يعودَ، فليتوضَّأْ».
زادَ أبو بكْرٍ في حديثِهِ: «بينهما وُضُوءًا» وقال: «ثم أرادَ أنْ يُعَاوِدَ».
رواه مسلم برقم: (308) عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.
وزاد أحمد برقم: (11227): «وُضُوءَهُ للصلاةِ».
وزاد ابن حبان برقم: (1211) والحاكم برقم: (542): «فإنَّه أنشطُ للعودِ».
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«أَتَى»:
أتَى أحدُكم أهله: كناية عن الجماع. شرح سنن أبي داود، للعيني (1/495).
«أهَلَهُ»:
أي: امرأته أو جاريته. مرقاة المفاتيح، للقاري (2/435).
«يَعُودُ»:
أي: إلى الجماع. مرقاة المفاتيح، للقاري (2/ 435).
شرح الحديث
قوله: «إذا أتى أحدُكم أهله»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«إذا أتى أحدكم أهلَه» أي: إذا جامَعَ حَلِيْلَتَه أو أَمَتَه، فإتيان الأهل عبارة وكناية عن ذلك. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 489).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «إذا أتى أحدكم أهله» أي: جامَعَها، فكنَّى بالإتيان عن الجماع من باب البُعد عن التلفظ بما يُسْتَحيا منه، وقد عبَّر القرآن عن الجماع باللمس وبالدخول، فقال: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء} المائدة: 6، وقال: {اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ} النساء: 23، أي: جامعتموهن، وقال: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ} البقرة: 236. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (1/336).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«إذا أتى أحدكم أهله» المراد من الأهل هنا: الزوجة. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (2/ 295).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
وقوله: «أهله» زوجتَه أو زوجَه، زوجته لغة الفرضيين، وهي ضعيفة من حيث الكلام العربي، أما الكلام الفصيح فهو بالتذكير سواء كان وصفًا للذكر أو للأنثى. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (1/336).
قوله: «ثم أراد أن يعود»:
قال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«ثم أراد أن يعود» أي: إلى إتيان أهله، أي: يعود إلى الجماع مرة أخرى في نفس الوقت. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (2/ 295).
وقال المظهري -رحمه الله-:
يعني: إذا جامع مرّة ثم أراد أن يجامع ثانية، فليغسل الرجل والمرأة فرْجَيهما ويتوضآ؛ لأن هذا أطيب وأكثر للنشاط والتّلذذ. المفاتيح في شرح المصابيح (1/ 419).
قوله: «فليتوضأ»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فليتوضأ» بلام الأمر، والفعل مجزوم بها، والجملة جواب «إذا». البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (7/ 471).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«فليتوضأ بينهما» أي: الجِمَاعَيْنِ «وضوءًا» تامًّا كوضوء الصلاة، بدليل رواية البيهقي وابن عدي: «إذا أتيت أهلك فإن أردت أن تعود فتوضأ وضوءك للصلاة». فيض القدير (1/ 238).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
«فلْيَتوضَّأ» وضوءًا شرعيًّا؛ لأنه المراد عند الإطلاق في كلام الشارع، ولتأكيده بالمصدر؛ لأن التأكيد به يرفع احتمال التجوّز، وهو نظير قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} النساء:164، فقد استدلّ أهل السنة بالتأكيد بالمصدر في الآية على أن التَّكليم فيها باقٍ على حقيقته وليس مُتَجَوَّزًا به، وفي رواية ابن خزيمة: «فليتوضأ وضوءه للصلاة». المنهل العذب المورود شرح سنن الإمام أبي داود (2/285).
وقال المناوي -رحمه الله-:
ولا ينافيه قوله في آخر: «فلْيَغْسِل فَرْجَهُ» بدل «فليتوضأ»؛ لأن كمال السنة إنما يحصل بكمال الوضوء الشرعي، وأصلها يحصل بالوضوء اللغوي، وهو تنظيف الفَرْجِ بالغسل. فيض القدير (1/ 238).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
الظاهر من التنكير (أي: في رواية «بينهما وُضُوءًا») إفادة وضوءٍ ما، فيشمل الوضوء العرفي؛ لأن الأصل في التنوين التنكير لا التعظيم، غايته أنَّ تقييده في بعض الروايات «بوضوئه للصلاة» إيماء إلى الأكمل، ولا شك أنه الأفضل، ثم الحكمة في ذلك: تخفيف الحدث والتنظيف. مرقاة المفاتيح (2/435).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
الوضوء ها هنا محمول عندنا على غَسْلِ الفَرْجِ مما به من أذى، وأنه ليس عليه وضوء الصلاة، وهو قول جماعة من الفقهاء، وإنما يغسل فَرْجَهُ لأنه إذا عاد وفَرْجُه نجس فهي إدخال نجاسة في فَرْجِ المرأة غير مضطر إليها، بخلاف خَضْخَضَتِهِ حين الجماع وترداده فيه، مع ما في غَسْلِهِ من الفائدة الطبية لتقوية العضو، ولتتميم اللذة بإزالة ما تعلق به قبلُ من ماء الفَرْجِ، وانتشر عليه من المني الخارج منه، وكل ذلك مُفْسِد للذة الجماع المستأنَف؛ ولما في ذلك من التنظيف وإزالة القَذَر الذي بنيت عليه الشريعة. إكمال المعلم (2/ 145).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
ذهب بعض أهل الظاهر إلى أن هذا الوضوء -هنا- هو الوضوء العُرفي، وأنه واجب، واستحبَّه أحمد وغيره، وذهب الفقهاء وأكثر أهل العلم إلى أنه غسل الفَرْجِ فقط، مبالغة في النظافة، واجتنابًا لاستدخال النجاسة، ويُستدل على ذلك بأمرين:
أحدهما: أنه قد روى هذا الحديث ليث بن أبي سليم من حديث عمر، وقال فيه: «فليغسل فَرْجَهُ» مكان: «فليتوضأ بينهما وضوءًا».
وثانيهما: أن الوَطْءَ ليس من قَبِيْلِ ما شُرع له الوضوء، فإن أصل مشروعيته للقُرَب والعبادات، والوَطْءُ ينافيه، فإنه للملاذِّ والشهوات، وهو من جنس المباحات، ولو كان ذلك مشروعًا لأجل الوَطْءِ لشُرع في الوَطْءِ المبتدَأ، فإنه من نوع الْمُعَاد، وإنما ذلك لما يتلطخ به الذَّكَرُ من نجاسة ماء الفَرْجِ والمني، فإنه مما يُكره ويُستَثْقَل عادةً وشرعًا. المفهم (1/567).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- معلقًا:
هكذا قرر المسألة القرطبي على وجه يُتعجب ويُستغرب من مثله، فإن هذا التقرير اشتمل على عجائب:
الأول: أن الحديث الذي أورده «فليغسل فرْجَه» رواه ليث بن أبي سليم كما قال، وهو متروك الحديث؛ فكيف ساغ له معارضة ما صح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال فيما رواه مسلم: «فليتوضأ وضوءًا» مؤكدًا بالمصدر؛ ليفيد كونه وضوءًا شرعيًّا، بل جاء التصريح به فيما صححه ابن خزيمة، بلفظ: «فليتوضأ وضوءه للصلاة»، فهل معارضة هذا الصحيح برواية ليث بن أبي سليم من مناهج المحققين، أو من بضائع أهل الجَدَل الذين انقطعت بهم سُبُل الأدلة الصحيحة، فاحتاجوا للمغالطة بالواهيات؟ إن هذا لهو العجب العجاب.
الثاني: أن قوله: إن الوطء ليس من قبيل ما شُرع له الوضوء إلخ.
من العجائب أيضًا، فممن يريد التشريع؟ أليس الذي قال: «فليتوضأ وضوءه للصلاة» هو الذي شرع العبادة؟! فهل هناك للتشريع معنى غير هذا؟!
الثالث: قوله: إن الوطء ينافي العبادة.
من أين أخذه؟ أما قال الصحابة -رضي الله عنهم- لما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «وفي بُضْع (أي: الفرج أو الجماع) أحدكم أجر»: «أيأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر؟» الحديث أخرجه مسلم.
فهلَّا يكون هذا من قسم العبادة التي يحبها الله، ويثيب عليها؟
الرابع: قوله: لِمَا يتلطخ به الذَّكَرُ من نجاسة ماء الفَرْجِ والمني.
هذا مما اختلف فيه العلماء، والراجح طهارتهما، فكيف يستدل بما اختُلف فيه على معارضة مقتضى الصحيح؟ هذا شيء غريب.
فتبين بهذا أن الصواب في معنى الوضوء هنا هو الوضوء الشرعي الذي هو وضوء الصلاة، لا مطلق النظافة مِن غسل الفَرْجِ ونحوه، فتبصَّر بالإنصاف. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (7/474-478).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
ولا يمكن أن يُحمل قوله: «فليتوضأ» على غسل الذَّكَرِ فحسب؛ لأن في بعض ألفاظ الحديث «وضوءه للصلاة». كشف المشكل (3/ 171).
وقال ابن حزم -رحمه الله-:
إلا مُعَاوَدَة الجُنُبِ للجماع فالوضوء عليه فرض بينهما؛ للخبر الذي رويناه من طريق حفص بن غياث وابن عيينة كلاهما عن عاصم الأحول عن أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدري عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعاود فليتوضأ بينهما وضوءًا» هذا لفظ حفص بن غياث، ولفظ ابن عيينة: «إذا أراد أن يعود فلا يعود حتى يتوضأ»، ولم نجد لهذا الخبر ما يخصصه، ولا ما يخرجه إلى الندب إلا خبرًا ضعيفًا من رواية يحيى بن أيوب.
وبإيجاب الوضوء في ذلك يقول عمر بن الخطاب وعطاء وعكرمة وإبراهيم والحسن وابن سيرين. المحلى بالآثار (1/ 102).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
الجمهور على استحباب الوضوء الشرعي للجُنُبِ قبل النوم أو الأكل أو الشرب أو معاودة الجماع، وروايات الباب تؤيدهم؛ لأن الوضوء إذا ذُكِرَ انصرف إلى الحقيقة الشرعية حيث لا قرينة تمنع منها، وما استدلوا به من روايات أحمد والنسائي وابن خزيمة لا تُنَاهِض ما في الصحيحين، وما احتجوا به من أن ابن عمر -وهو راوي الرواية الخامسة- «كان يتوضأ وهو جنب ولا يغسل رجليه» كما رواه مالك في الموطأ عن نافع مُجَابٌ عنه بأنَّ مُخَالَفَةَ الراوي لما روى لا تقدح في الـمَرْوِي، ولا تصلح لمعارضته، أو يُحمل ترك ابن عمر غسل رجليه على أن ذلك كان لعذر. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (2/ 296).
وقال الشيخ عبد العزيز الراجحي -حفظه الله-:
الأصل أن الشارع تُحْمَل ألفاظُه على الاصطلاحات الشرعية والحقائق الشرعية. شرح سنن أبي داود (14/10).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
المراد بالوضوء هنا الشرعي، والحكمة فيه: أنه يخفِّف الحدث ولا سيما على القول بجواز تفريق الغسل، فَيَنْوِيْهِ فيرتفع الحدث عن تلك الأعضاء المخصوصة على الصحيح، ويؤيده ما رواه ابن أبي شيبة بسند رجاله ثقات عن شداد بن أوس الصحابي قال: «إذا أَجْنَبَ أحدكم من الليل ثم أراد أن ينام فليتوضأ؛ فإنه نِصْفُ غسل الجنابة».
وقيل: الحكمة فيه أنه إحدى الطهارتين، فعلى هذا يقوم التيمم مقامه، وقد روى البيهقي بإسناد حسن عن عائشة «أنه -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أَجْنَبَ فأراد أن ينام توضأ أو تيمم»، ويحتمل: أن يكون التيمم هنا عند عُسْرِ وجود الماء.
وقيل: الحكمة فيه أنه ينشط إلى العود أو إلى الغسل. فتح الباري (1/395).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فليتوضأ» هو حيث أُطْلِقَ وضوء الصلاة المعروف، وأنه الأصل في عرف الشارع؛ ولأنه صرح به في حديث البيهقي: «فتوضأ وضوءك للصلاة»، ولا ينافيه ما في رواية أخرى: «فليغسل فَرْجَهُ»؛ لأنه بكمال الوضوء يحصل كمال السُّنة، وبغسل الفَرْجِ يحصل أصلها؛ لأنه وضوءٌ لُغوي كذا قِيْلَ، وعلّله كما يأتي بأنه أَنْشَطُ للعَوْد، وإرشاد إلى كمال اللَّذة. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 489).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«فليتوضأ بينهما وضوءًا» الوضوء معروف لكن الغسل أفضل. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (1/336).
وقال الشيخ عبد الله الفوزان -حفظه الله-:
وعموم الحديث يفيد أنه سواء أكانت التي يريد العَوْدَ إليها هي الموْطُوءَة أو الزوجة الأخرى ممن عنده أكثر من واحدة. منحة العلام شرح بلوغ المرام (31).
قوله: «فإنه أَنْشَطُ للعَوْدِ»:
قال الشيخ عبد الله الفوزان -حفظه الله-:
قوله: «فإنه أَنْشَطُ للعَوْدِ» جملة تعليلية، فيها بيان الحكمة من الأمر بالوضوء، وهي أن الوضوء يعطي الجسم قوةً عِوَضًا عمَّا حصل له من الضعف في الجماع الأول. منحة العلام شرح بلوغ المرام (31).
وقال الزرقاني -رحمه الله-:
زاد ابن حبان: «فإنه أَنْشَطُ للعَوْدِ» على غسل الفَرْجِ؛ لقوله في رواية أخرى: «فليغسل فَرْجَهُ» أي: لأن فيه تقوية العضو، وإتمام اللذة، وغير ذلك، وسواء عاد للمَوْطُوءَة الأولى أو غيرها على ظاهر النص، خلافًا لمن قال: يجب غسل الذَّكَرِ إنْ وَطِئَ غير الأولى؛ لئلا يدخل فيها نجاسة غيرها. شرح الزرقاني على الموطأ (1/ 217).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
في هذا الحديث فوائد:
منها: الكناية عما لا ينبغي ذكره باسمه الخاص بما يدل عليه؛ لقوله: «إذا أتى أحدكم أهله».
فإن قال قائل: أليس النبي -صلى الله عليه وسلم- قد صرح بلفظ الجماع في حديث ماعز لما أقرَّ على نفسه بالزنا، قال له الرسول -عليه الصلاة والسلام-: «أَنِكْتَهَا؟» لا يُكَنِّي.
قلنا: بلى، لكنَّ مقام الحدود يجب فيه التثبت؛ حتى لا يَظُنّ الْمِقُرُّ أن المباشرة والتقبيل زنا، فلذلك صرح النبي -عليه الصلاة والسلام- باسم الجماع الخاص زيادة في التثبت. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (1/336).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
ومن فوائد هذا الحديث: أن الزوجة تُسمى أهلًا، وهذا شيء مستفيض ولا يحتاج إلى إقامة برهان أو استشهاد بشاهد، ويُبنى على ذلك أن قول الله -تبارك وتعالى- لنساء النبي: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} الأحزاب: 33، فممن يدخل في آل البيت أزواجُه بلا شك مثل الشمس؛ لأن السياق في أزواجه، ولو أن أحدًا قال: إنه لا يدخل أقاربه في هذا لكان له حُجة؛ لأن السياق يعيِّن المراد، لكن الرافضة عكسوا القضية وقالوا: المراد بأهل البيت: أقاربه دون أزواجه؛ ليُخْرِجُوا عائشة -رضي الله عنها- التي هي أحب أزواجه إليه، بل إنه سئل: أي أزواجه أحب إليه؟ قال: «عائشة».
فالمهم: أهل البيت يدخل فيهم الأزواج بلا شك، بل إن الإنسان يأوي إلى أهله -أي: زوجته- أكثر مما يأوي إلى أبيه وأمه كما هو مشاهد. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (1/336-337).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
اعلم أن الوضوء يجمع بين تخفيف الحدث والنظافة، وقد عُلم أن الإنسان لا يتوضأ بعد الوطء حتى يغسل ذَكَرَهُ؛ وذلك يقوِّي العضو، ثم إن البدن يَسْكُن من الانزعاج بتلك الساعة فيعود مستريحًا. كشف المشكل (3/ 171).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
فيه: دلالة على شرعية الوضوء لمن أراد معاوَدة أهله، وقد ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- غَشِيَ نساءه ولم يُحْدِثْ وضوءًا بين الفعلين، وثبت أنه اغتسل بعد غِشْيَانِه عند كل واحدة، فالكل جائز. سبل السلام (1/ 130).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده: منها: بيان جواز وطء الزوجة مرة ثانية من (دون) إحداث اغتسال للأول. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (7/ 472).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- أيضًا:
يستفاد من هذا الحديث: استحباب الوضوء عند إرادة العَوْدِ إلى الجماع، وأنه لا يجب على الشخص أن يغتسل بينهما، وأن الاغتسال لا يجب على الفور، بل يجب عند القيام إلى الصلاة، ونحوها مما لا يجوز إلا بالطهارة. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (4/ 547).
وقال الطحاوي -رحمه الله-:
قد يجوز أن يكون أَمَرَ بهذا في حال ما كان الجنب لا يستطيع ذكر الله حتى يتوضأ، فأمر بالوضوء ليُسَمِّي عند جماعه...، ثم رخَّصَ لهم أن يتكلموا بذكر الله وهم جُنُب، فارتفع ذلك، وقد رُوي من حديث عائشة -رضي الله عنها-، قالت: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُجَامع، ثم يَعُود ولا يتوضأ»... فهذا عندنا ناسخ لذلك. شرح معاني الآثار (1/128).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في دعوى النسخ نظر؛ إذ ليس عليه دليل، والحديث الذي استدلَّ به لم يُعرف تأخُّره حتى يكون ناسخًا. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (4/ 548).
وقال العيني -رحمه الله-:
حَمَلَ الجمهور الأمر بالوضوء على الندب والاستحباب لا للوجوب، (لـ)ـما رواه الطحاوي من طريق موسى بن عقبة عن أبي إسحاق عن الأسود عن عائشة، قالت: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يجامع ثم يعود ولا يتوضأ». عمدة القاري (3/ 213).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
وذهب الجمهور إلى أن الأمر فيه للاستحباب وهو الظاهر؛ لما في رواية الحاكم من قوله: «فإنه أَنْشَطُ للعَوْدِ»، وغاية ما يفيده التعليل: أن هذا الوضوء مندوب وليس بواجب؛ إذ العَوْدُ للجماع ثانيًا ليس بواجب؛ ولما رواه الطحاوي عن عائشة قالت: «كان النبي -صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم- يجامِع ثم يعود ولا يتوضأ».
وذهب أبو يوسف من الحنفية إلى أنه ليس بواجب ولا مندوب، وحمل الأمر في الحديث على الإباحة. المنهل العذب المورود شرح سنن الإمام أبي داود (2/285).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- معلقًا:
ورُدَّ عليه (يعني: على أبي يوسف) بحديث الباب وغيره. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (4/ 548-549).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وفيه: أنه (أي الأمر) للندب، وقد ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- مرَّ على نسائه جميعًا بغسل واحد، ولم ينقل عنه أنه توضأ بين كل فعلين، إلا أن يقال: هذا فيما إذا كانت الزوجة واحدة وأراد العود عليها، بخلاف فعله -صلى الله عليه وسلم- فإنه في كل مرة يأتي غير من أتاها أولًا. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 489).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
والذي ذهب إليه الجمهور من أن الأمر فيه للاستحباب هو الراجح؛ لما تقدم عند ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبيهقي من زيادة قوله: «فإنه أَنْشَطُ للعَوْدِ»؛ فإنه يدل هذا التعليل على الندبية والإرشاد، ويؤيده أيضًا ما رواه الطحاوي بسنده عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يجامع ثم يعود ولا يتوضأ»، وحديث: «إنما أُمِرْتُ بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة».
والحاصل أن الأمر فيه أمر ندب وإرشاد لا أمر إيجاب. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (4/ 549).
وقال ابن مفلح -رحمه الله-:
وأما كونه (الوضوء) يستحب لمعاودة الوطء فوفاقًا؛ لما روى أبو سعيد قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعاود فليتوضأ بينهما وضوءًا» رواه مسلم، ورواه ابن خزيمة والحاكم وزاد: «فإنه أَنْشَطُ للعَوْدِ»، ولا يكره تركه في المنصوص فيهما، وغسله عند كل مرة أفضل، وعنه (أحمد): أنَّ ذلك خاص بالرجل؛ لأن عائشة أخبرت عنه بالوضوء، ولم تذكر أنها كانت تفعله، ولا أَمَرَهَا به مع اشتراكهما في الجنابة. المبدع في شرح المقنع (1/ 175).
وقال الحجاوي الصالحي -رحمه الله-:
ويُسن لكل جُنب ولو امرأة وحائضًا ونفساء بعد انقطاع الدم إذا أرادت النوم أو الأكل أو الشرب أو الوطء ثانيًا أنْ يغسل فَرْجَهُ ويتوضأ، لكن الغسل لوطءٍ أفضل. الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل (1/ 49).
وقال المرداوي -رحمه الله-:
وإذا أراد معاودة الوطء استُحب له غسل فرجه ووضوؤه على الصحيح من المذهب مطلقًا، وعليه الأصحاب، وعنه (أحمد) يُستحب للرَّجُل فقط، ذكره ابن تميم. الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف (1/ 261).
وقال الشيخ سامي الصقير -حفظه الله-:
هل المرأة مثل الرّجل في هذا (يعني: في الوضوء عند العَوْدِ)؟
الخطاب للرَّجُل، لكن إذا عَلِمْنَا العلّة نقول: المرأة مثل الرَّجُل، يعني: المرأة لو توضأت فهو أَحسن؛ لأن العِلَّة التي من أَجلها أُمِر بالوضوء في الرَّجُل موجودة في المرأة. تحفة الأيّام في فوائد بلوغ المرام (ص: 42).
وسُئل علماء اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء:
قال -عليه السلام-: «إذا أراد أحدكم أن يعود إلى أهله فليتوضأ» هل هذا الحكم مختص بالذَّكَرِ أم للمرأة أيضًا؟
فأجابت: الوضوء مشروع عند إرادة معاودة الجماع في حق الرَّجُل؛ لأنه هو الذي أُمِرَ بذلك دون المرأة، وبالله التوفيق. فتاوى اللجنة الدائمة(19/ 350).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
ومن فوائده: أن الشريعة الإسلامية شاملة فيما يتعلق بالأديان وما يتعلق بالأبدان؛ لأن الوضوء مرة ثانية بين الجِمَاعَيْنِ طاعة لله ورسوله؛ لأمر النبي -عليه الصلاة والسلام- به، وهذا فيه مصلحة في الأديان، وهو أيضًا منشط للإنسان، وهو مصلحة للأبدان. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (1/337).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
(ومن) فوائده: بيان أن الاغتسال من الجنابة ليس على الفور، بل إنما يضيق عند إرادة الصلاة ونحوها مما لا يجوز إلا بالغسل. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (7/ 472).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا بأس بأنْ تُعَلَّل الأحكام الشرعية بما يعُود على البدن بالمصلحة؛ لقوله: «فإنه أَنْشَطُ للعَوْدِ»، وينبني على ذلك أنَّ قَصْدَ الإنسان بهذا الغرض الدنيوي لا يبطل أجره، وهذا نافع للإنسان؛ لأن فيه أشياء كثيرة من الأحكام الشرعية تُعَلَّلُ بمصالح بدنية؛ لماذا تُعَلَّلُ؟ من أجل أن ينظر الإنسان إليها نظرة جِدٍّ، وإلا لكان التعليل بها عديم الفائدة، ومن ذلك -أي: كون الأمور الدنيوية تلاحظ في الاستقامة-: وجوب الحدود على من يستحقونها، فإن كثيرًا من الناس قد لا يترك هذا الذنب إلا خوفًا من العقوبة، ثم إن الرسل أيضًا يأمرون أقوامهم بالطاعة، ثم يذكرون المصالح الدنيوية كقول نوح -عليه الصلاة والسلام-: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} نوح: 10، هذه المصلحة الدينية، {يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} نوح: 11 - 12، هذه مصلحة دنيوية، ولولا أن الإنسان لا يضره إذا لاحظها ما ذكرها الرسل -عليهم الصلاة السلام-؛ لأن ملاحظتها تكون ضررًا على الإنسان.
ومن ذلك: قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: «مَن أحبَّ أن يُبْسَطَ له في رزقه، ويُنْسَأَ له في أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ»، مع أن صلة الرَّحِمِ من أجلِّ الطاعات، ومع ذلك رغَّب فيها الرسول -عليه الصلاة والسلام- بشيء يعود إلى الأمور الدنيوية، ووجه ذلك من الحكمة: أن البدن مركَّب من شهوة وفطرة، فلا بد من أن يُعطى ما يقيم الفطرة، وهو ما يتعلق بالدِّين، وما ينال به الشهوة وهو ما يتعلق بالدنيا، والله -سبحانه وتعالى- حكيم.
إذًا: نأخذ من هذا الحديث في قوله: «أَنْشَطُ للعَوْدِ» أنه لا بأس أن تُعَلَّلَ الأحكام الشرعية بِعِلَلٍ تعود إلى مصلحة البدن، وأن ملاحظتها بفعل الطاعة لا يُؤَثِّر؛ لأنها لا يمكن أن تُذْكَرَ لنا بمجرد أن نطَّلِع عليها فقط، لكن من أجل أن تدعم العزيمة والنشاط على الفعل. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (1/337-338).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- في سياق ذِكر فوائد الحديث:
بيان جواز كثرة الجماع، بل هو مستحب؛ لأنه سبب لكثرة النّسل، وقد رغَّب النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، فقد أخرج أحمد بسند صحيح عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمر بالبَاءَةِ، وينهى عن التَّبَتُّل نهيًا شديدًا، ويقول: «تزوَّجُوا الوَدُود الوَلُود؛ إني مُكَاثِر الأنبياء يوم القيامة». البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (7/ 472).