سمعَتْ أُذُنَايَ، وأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ، حينَ تكلَّمَ النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- فقال: «مَن كان يُؤْمِنُ باللَّهِ واليومِ الآخِرِ فلْيُكرِمْ جارَهُ، ومَن كان يُؤْمِنُ باللَّهِ واليومِ الآخِرِ فليكرِمْ ضيفَهُ جائِزَتَهُ»، قال: وما جَائِزَتُهُ يا رسولَ اللَّهِ؟ قال: «يومٌ وليلةٌ، والضِّيافةُ ثلاثةُ أيَّامٍ، فما كان وراءَ ذلك فهو صدقَةٌ عليه، ومَن كان يُؤْمِنُ باللَّهِ واليومِ الآخِرِ فليقلْ خيرًا أو ليصمُتْ».
رواه البخاري برقم: (6019)، ومسلم برقم: (48)، من حديث أبي شريح العدوي -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«جائزته»:
أي: بِرُّه وإلطافه يومٌ وليلة. مرقاة المفاتيح (7/ 2732).
والجائزة: العطاء، والمراد بها: ما يتكلف له من الصلات ونفائس الأطعمة. تحفة الأبرار، للبيضاوي (3/119).
شرح الحديث
قوله: «سمعَتْ أُذُناي، وأَبْصَرت عيناي حين تكلم النبي -صلى الله عليه وسلم-»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«سمعت أذناي» بالرفع على الفاعلية لـ«سمعت» مرفوع بالألف؛ لأنه من المثنى الذي رَفْعُه بالألف، وجرُّه ونصبُه بالياء، وهو مضاف إلى ياء المتكلم المفتوحة لالتقاء الساكنين، وكذا قوله: «وأَبْصَرَت عيناي حين تكلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-». البحر المحيط الثجاج (30/ 262).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«أذناي» ذكر ذلك مع أنه معلوم للتوكيد. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (15/58).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
وفائدة قوله: «سمعَتْ» و«أبْصَرَت» التوكيد. إرشاد الساري (9/ 26).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«قال: سَمِعَتْ أذناي» صوت النبي -صلى الله عليه وسلم-، «وأَبْصَرَت عيناي» ذات النبي -صلى الله عليه وسلم-، ذكر هذا تأكيدًا لسماعه من النبي -صلى الله عليه وسلم- «حين تكلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-» الحديث الآتي. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (19/ 75).
وقال الجياني -رحمه الله-:
في هذا الحديث تنازعُ الفعلين مفعولًا واحد، إيثار الثاني بالعمل، أعني «أَبْصَرَت»؛ لأنه لو كان العمل لـ«سمعتْ» لكان التقدير: سمعت أذناي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان يلزم على مراعاة الفصاحة أن يقال: "وأبصرته"، فإذا أُخر المنصوب وهو مقدَّم في النية بقيت الهاء متصلة بـ«أبصرتْ» ولم يجز حذفها؛ لأن حذفها يُوهِم غير المقصود، فإنْ سُمعَ الحذفُ مع العلم بأنَّ العمل للأول، حُكِمَ بقبحه، وعُدَّ من الضرورات. شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح (ص: 181).
قوله: «فقال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
«من كان يؤمن بالله» الذي خلقه إيمانًا كاملًا، «واليوم الآخر» الذي إليه معادَه وفيه مجازاته. إرشاد الساري (9/ 82).
وقال الزرقاني -رحمه الله-:
فهو إشارة إلى المبدأ والمعاد، وعبَّر بالمضارع هنا وفيما بعده قصدًا إلى استمرار الإيمان، وتجدُّده بتجدد أمثاله وقتًا فوقتًا؛ لأنه عرض لا يبقى زمانين؛ وذلك لأن المضارع لكونه فعلًا يفيد التجدد والحدوث، وهذا من خطاب التهييج من قبيل: {وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين} المائدة: 23، أي: أن ذلك من صفة المؤمن، وأن خلافه لا يليق بمن يؤمن بذلك، ولو قيل: لا يحل لأحد لم يحصل هذا الغرض. شرح الزرقاني على موطأ مالك (4/476).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
قوله: «من كان يؤمن بالله...» قيل: المراد من كان يؤمن الإيمان الكامل الـمُنْجِي من عذاب الله الموصل إلى رضوانه، ويؤمن بيوم القيامة الآخر، استعد له واجتهد في فعل ما يدفع به أهواله ومكارهه، فيأتمر بما أَمَر به، وينتهي عمَّا نهى عنه. نيل الأوطار (8/179).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
ظاهره (يعني: الحديث) توقُّف الإيمان على هذه الأشياء المذكورة، إكرام الضيف والجار، وقول الخير أو الصمت، وليس كذلك، وإنما هو على المبالغة في الاستجلاب إلى هذه الأفعال، كما يقول القائل لولده: إن كنتَ ابني فأطعني ونحوه؛ تحريضًا وتهييجًا له على الطاعة، لا على أنه بانتفاء طاعته ينتفي أنه ابنه.
أو على أن المعنى: من كان كامل الإيمان بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا، أو ليصمت، وليكرم، فيكون متوقفًا على هذه الأفعال كمال الإيمان لا حقيقته، وكلا التأويلين جيد. التعيين في شرح الأربعين (1/135).
وقال الزرقاني -رحمه الله-:
«فلْيُكْرِم جاره» بالبِشْر، وطلاقة الوجه وبذل الندى وكف الأذى، وتحمل ما فَرَط منه، ونحو ذلك. شرح الزرقاني على موطأ مالك (4/478).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«فلْيُكرم جارَه» هذا أبلغ من قوله: «فلا يؤذِ جاره». الكوثر الجاري (9/422).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
واسم الجار يشمل المسلم والكافر والعابد والفاسق والصديق والعدو والغريب والبلدي والنافع والضار والقريب والأجنبي والأقرب دارًا والأبعد، وله مراتب بعضها أعلى من بعض، فأعلاها: مَن اجتمعت فيه الصفات الأولى كلها، ثم أكثرها، وهلمَّ جرًّا إلى الواحد، وعكسه من اجتمعت فيه الصفات الأخرى كذلك، فيُعطى كلٌّ حقه بحسب حاله، وقد تتعارض صفتان فأكثر فيرجِّح أو يساوي، وقد حمله عبد الله بن عمرو -أحد من روى الحديث- على العموم، فأمر لَمَّا ذُبحت له شاة أن يُهدي منها لجاره اليهودي، أخرجه البخاري في الأدب المفرد والترمذي وحسنه، وقد وردت الإشارة إلى ما ذكرتُه في حديث مرفوع أخرجه الطبراني من حديث جابر رَفَعَهُ: «الجيران ثلاثة: جار له حق، وهو المشرك؛ له حق الجوار، وجار له حقان، وهو المسلم؛ له حق الجوار وحق الإسلام، وجار له ثلاثة حقوق، مسلم له رحم؛ له حق الجوار والإسلام والرحم». فتح الباري (10/441-442).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: حِفْظُ الجار من كمال الإيمان، وكان أهل الجاهلية يحافظون عليه، ويحصل امتثال الوصية به بإيصال ضروب الإحسان إليه بحسب الطاقة، كالهديَّة والسلام، وطلاقة الوجه عند لقائه، وتفقُّد حاله ومعاونته فيما يحتاج إليه إلى غير ذلك، وكفّ أسباب الأذى عنه على اختلاف أنواعه حسيَّة كانت أو معنوية، وقد نفى -صلى الله عليه وسلم- الإيمان عمَّن لم يَأْمَن جارُه بَوائِقَه، كما في الحديث الذي يليه، وهي مبالغة تُنْبِئُ عن تعظيم حق الجار، وأن إضراره من الكبائر.
قال: ويفترق الحال في ذلك بالنسبة للجار الصالح وغير الصالح، والذي يشمل الجميع إرادة الخير له، وموعظته بالحسنى، والدعاء له بالهداية، وترك الإضرار له إلا في الموضع الذي يجب فيه الإضرار له بالقول والفعل، والذي يخص الصالح هو جميع ما تقدم، وغير الصالح كفُّه عن الذي يرتكبه بالحسنى على حسب مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويعِظ الكافر بعرض الإسلام عليه، ويبين محاسنه والترغيب فيه برفق، ويعظُ الفاسق بما يناسبه بالرفق أيضًا، ويستر عليه زَلَلَهُ عن غيره، وينهاه برِفق، فإن أفاد فبِه وإلا فيهْجُره قاصدًا تأديبه على ذلك مع إعلامه بالسبب؛ ليكف. فتح الباري (10/442).
وقال ابن حجر -رحمه الله- أيضًا:
وقال بن أبي جمرة: إذا أكَّد حق الجار مع الحائل بين الشخص وبينه، وأمر بحفظه، وإيصال الخير إليه، وكف أسباب الضرر عنه، فينبغي له أن يراعي حق الحافظين اللَّذَين ليس بينه وبينهما جدار ولا حائل، فلا يؤذيهما بإيقاع المخالفات في مرور الساعات، فقد جاء أنهما يسران بوقوع الحسنات، ويحزنان بوقوع السيئات، فينبغي مراعاة جانبهما، وحفظ خواطرهما بالتكثير من عمل الطاعات، والمواظبة على اجتناب المعصية فهما أولى برعاية الحق من كثير من الجيران. فتح الباري (10/444).
قوله: «ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته»:
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته» أي: من كان يؤمن بالله فلْيَكُن مِن خُلُقه إكرام الضيف، وأجمع العلماء على أنها من مكارم الأخلاق وسنن الشريعة. إكمال المعلم (6/21).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«فليكرم ضيفه» لفظ (ضيف) يطلق على الواحد والجمع، وجمع القلة: أضياف، وجمع الكثرة: ضيوف وضيفان. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/175).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«ضيفَه جائزتَه» نصب مفعول ثانٍ «ليكرم»؛ لأنه في معنى الإعطاء، أو بنزع الخافض، أي: بجائزته. إرشاد الساري (9/ 26).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
والجائزة: العطاء، مشتقة من الجواز؛ لأنه حقُّ جوازه عليهم، وقدَّره بيوم وليلة؛ لأن عادة المسافرين ذلك. الكواكب الدراري (21/ 175).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
معناه: أنه يتكلَّف له إذا نزل به الضيف يومًا وليلة، فيُتْحِفه ويزيده في البِرِّ على ما يحضره في سائر الأيام، وفي اليومين الآخرين يقدِّم له ما حضر، فإذا مضى الثلاث فقد قضى حقه، فإن زاد عليه استوجب به أجر الصدقة. إعلام الحديث (3/2172).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وقد أفاد هذا الحديث أنَّها (يعني: إكرام الضيف) من أخلاق المؤمنين، ومما لا ينبغي لهم أن يتخلفوا عنها؛ لما يحصل عليها من الثواب في الآخرة؛ ولما يترتب عليها في الدنيا من إظهار العمل بمكارم الأخلاق، وحُسن الأحدوثة الطيبة، وطيب الثناء، وحصول الراحة للضيف المتعوب بمشقات السفر، المحتاج إلى ما يخفف عليه ما هو فيه من المشقة والحاجة.
ولم تزل الضيافة معمولًا بها في العرب من لدن إبراهيم -عليه السلام-؛ لأنه أول من ضيَّف الضيف، وعادةً مستمرةً فيهم، حتى إن مَن تركها يُذمُّ عُرفًا، ويُبخَّلُ ويُقبَّحُ عليه عادة، فنحن وإن لَمْ نقل: إنها واجبةٌ شرعًا فهي متعيِّنة؛ لما يحصل منها من المصالح، ويندفع بها من المضار، عادةً وعرفًا. المفهم (5/196-167).
قوله: «قال: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: يوم وليلة»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «وما جائزته؟» استفهام عن مقدار الجائزة لا عن حقيقتها؛ ولذلك أجابهم بقوله: «يومه وليلته» أي: القيام بكرامته في يومه وليلته، أي: أقل ما يكون هذا القَدْر، فإنه إذا فعل هذا حصَلت له تلك الفوائد. المفهم (5/198).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «جائزة يوم وليلة»: قيل: معناه: إتحافه وصِلَته وإكرامه يوم وليلة، ويطعمه بقية الأيام الثلاثة ما أمكنه من غير تكليف. وقيل: يحتمل: أن جائزته يوم وليلة حق المجتاز في الضيافة، ومن أراد الإقامة فثلاثة أيام.
وقيل: الجائزة غير الضيافة، يضيفه ثلاثة أيام ثم يعطيه ما يجيزه مسافة يوم وليلة. إكمال المعلم (6/21).
وقال النووي -رحمه الله-:
قال العلماء: معناه: الاهتمام به في اليوم والليلة، وإتحافه بما يمكن من بِرٍّ وإلطاف. شرح النووي على مسلم (12/31).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«جائزته يوم وليلة»؛ أي: إكرامه بتقديم طعام حَسن إليه سُنة مؤكدة في اليوم الأول وليلته، وفي اليوم الثاني والثالث يقدِّم إليه ما كان حاضرًا عنده بلا زيادة على عادته. شرح مصابيح السنة (4/575).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
«جائزته يوم وليلة» قال بعضهم: قسَّم -عليه السلام- أمر الضيفان إلى ثلاثة: يتكلَّف في أولها، ثم في الثاني يقدِّم ما حضر، فإذا جاوز الثلاث كان مخيرًا بين أن يستمر أو يقطع. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (28/326).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«يوم وليلة» أي: كفايته في كل يوم وليلة يستقبلها بعد ضيافته، وقيل: جائزته يوم وليلة حقُّه إذا اجتاز به، وثلاثة أيام إذا قصده، ووجْهُ وقوعه خبرًا عن الجثة: إما باعتبار أن له حكم الظرف، أو بتقدير (زمان) في المبتدأ، أي: زمان جائزته يوم وليلة. اللامع الصبيح (15/58).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
يوم الجائزة أول يوم قدومه، أو يوم ارتحاله، يُعطى ما يبلغ به المنزل، قولان للعلماء فيه، وهذا الثاني أَوفقُ؛ لمكان الاشتقاق. الكوثر الجاري (10/ 158).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
ويحتمل أنْ يكون المراد بقوله: «وجائزته» بيانًا لحالة أخرى، وهي أنَّ المسافر تارة يقيم عند من ينزل عليه، فهذا لا يُزاد على الثلاث بتفاصيلها، وتارة لا يقيم، فهذا يُعطى ما يجوز به قدر كفايته يومًا وليلة، ولعل هذا أعدل الأوجه، والله أعلم. فتح الباري(10/ 533).
قوله: «والضيافة ثلاثة أيام»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«والضيافة» أي: وقدر الضيافة في حق المقيم الذي يريد الإقامة لا السفر «ثلاثة أيام». الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (19/77).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
«والضيافة ثلاثة أيام» يعني بها بالكاملة التي إذا فعلها المضيف فقد وصل إلى غاية الكمال، وإذا أقام الضيف إليها لم يلحقه ذمٌّ بالمقام فيها؛ فإن العادة الجميلة جارية بذلك، وأما ما بعد ذلك فخارج عن هذا كله، وداخل في باب: إدخال المشقَّات والكُلَف على المضيف، فإنه يتأذى بذلك من أوجه متعددة. المفهم (5/198).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
قوله: «الضيافة ثلاثة» يحتمل: أن يريد بعد اليوم الأول، ويحتمل: أن يدخل فيه اليوم والليلة وهو أشبه. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (28/326).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«ثلاثة أيام» أي: كضيافة المسافر. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (15/59).
وقال النووي -رحمه الله-:
وأما في اليوم الثاني والثالث فيُطعمه ما تيسر، ولا يزيد على عادته. شرح النووي على مسلم (12/31).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
واختُلف: هل الضيافة على الحاضر والبادي أم على البادي خاصة؟
فذهب الشافعي ومحمد بن عبد الحكم إلى أنها عليهما.
وقال مالك وسحنون: إنما ذلك على أهل البوادي؛ لأن المسافر يجد في الحضر المنازل في الفنادق ومواضع النزول، وما يشتري في الأسواق. الكاشف عن حقائق السنن (9/2865).
وقال النووي -رحمه الله-:
الأحاديث مُتظاهرة على الأمر بالضيافة والاهتمام بها وعظيم موقعها، وقد أجمع المسلمون على الضيافة، وأنها من متأكِّدات الإسلام، ثم قال الشافعي ومالك وأبو حنيفة -رحمهم الله تعالى- والجمهور: هي سنة ليست بوجبة.
وقال الليث وأحمد: هي واجبة يومًا وليلة، قال أحمد -رضي الله عنه-: هي واجبة يومًا وليلة على أهل البادية وأهل القُرى دون أهل المدن.
وتأوَّل الجمهور هذه الأحاديث وأَشباهها على الاستحباب ومَكارم الأخلاق، وتأكَّد حقّ الضيف كحديث: «غُسل الجمعة واجب على كل محتلم» أي: متأكِّد الاستحباب. شرح صحيح مسلم (12/30-31).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
للضيف حقًّا على مَن نزل به، وهو ثلاث مراتب: حقٌّ واجب، وتمام مستحب، وصدقة مِن الصدقات. فالحق الواجب يومٌ وليلة. وقد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- المراتب الثلاثة في الحديث المتفق على صحته من حديث أبي شُرَيحٍ الخُزاعي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُكرِمْ ضيفَه جائزتَه»، قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: «يومُه وليلته، والضيافة ثلاثة أَيام، فما كان وراء ذلك فهو صدقة، ولا يحل له أن يَثْوِي عنده حتى يُحْرِجَه». زاد المعاد(3/٨٣١).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
الضيف إِذا نزل بشخص، وامتنع من ضيافته فإن للضيف أن يأخذ من ماله ما يكفيه لضيافته بالمعروف من غير علمه؛ لأن الحقَّ في هذا ظاهرٌ؛ فإن الضّيف إِذا نزل بالشخص يجب عليه أنْ يُضيفه يومًا وليلة حقًا واجبًا لا يحِل له أن يتخلَّف عنه.فتاوى نور على الدرب(16/2)
وقال النووي -رحمه الله-:
والضيافة مِن آداب الإسلام وخُلق النبيين والصالحين، وقد أَوجبها الليث ليلة واحدة، واحتج بالحديث «ليلة الضيف حق واجب على كل مسلم» وبحديث عُقبة «إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بحق الضيف فاقبلوا وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حقّ الضيف الذي ينبغي لهم» وعامة الفقهاء على أَنَّها مِن مَكارم الأخلاق. وحُجتهم قوله -صلى الله عليه وسلم-: «جائزته يومٌ وليلة» والجائزة العطية والمِنحة والصِّلة وذلك لا يكون إلا مع الاختيار.شرح صحيح مسلم(2/١٨)
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وهذا يحتمل (الأمر بالضيافة) أنْ يكون في أول الإسلام إذ كانت المواساة واجبة ثم أتى الله تعالي بالخير والسَّعة فصارت الضيافة جائزة وكرما مندوبا إليها محمودًا فاعلها عليها.الاستذكار(8/٣٦٨)
قوله: «فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فما كان» من الضيافة «وراء ذلك» أي: وراء ثلاثة أيام «فهو صدقة عليه» أي: على الضيف، أي: فما زاد على ذلك فهو صدقة عليه، فالمضيف مخيَّر فيه إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (19/77).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «فما كان وراء ذلك» يريد ثلاثة أيام «فهو صدقة» يريد أنها أخرجته عن حد الضيافة المشروعة والمكارمة المستحبة للاثنين إلى حد التعريض للعطاء والسؤال، وحكم الصدقة المكروه إلا للمحتاج المضطر إليها المحرمة على الأغنياء الأخذ لها بغير طيب نفس صاحبها. إكمال المعلم (6/22).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«فهو صدقة عليه» في التعبير بالصدقة تنفير عنه؛ لأن كثيرًا من الناس يأنفون غالبًا من أكل الصدقة. إرشاد الساري (9/ 26).
وقال القسطلاني -رحمه الله- أيضًا:
«فهو صدقة» استدل به على أن الذي قَبْلَها واجب. إرشاد الساري (9/ 82).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«فما كان وراء ذلك» أي: فإذا مضت الثلاثة فقد قضى حقه، فإن زاد عليها فما يقدمه له «فهو صدقة» عليه، لا يقال: قضية جعله ما زاد على الثلاثة صدقة أن ما قبلها واجب؛ لأنا نقول: إنما سماه صدقة للتنفير عنه؛ إذ كثير من الناس سيما الأغنياء يأنفون من أكل الصدقة. فيض القدير (4/ 260).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
«وما زاد فهو صدقة» أي: يضاف ثلاثة أيام، فيتكلف له في اليوم الأول مما اتسع له من بِرٍّ وإلطاف، ويقدم له في اليوم الثاني والثالث ما حضره، ولا يزيد على عادته، ثم يعطيه ما يجوز به مسافة يوم وليلة، ويسمى الجيزة: وهي قدر ما يجوز به المسافر من منهل إلى منهل، فما كان بعد ذلك فهو صدقة ومعروف إن شاء فعل، وإن شاء ترك، وإنما كُرِهَ له المقام بعد ذلك لئلا تضيق به إقامته، فتكون الصدقة على وجه المنِّ والأذى. النهاية (1/ 314).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
وعلى هذا التقرير (في كلام ابن الأثير) الجائزة متأخرة زائدة على الضيافة ثلاثة أيام، والقرينة على أنه قد جاء ذكرها متأخرًا في بعض الروايات الصحيحة عن أبي شُرَيْح، ويمكن أن تكون الجائزة إشارة إلى ارتكاب التكلُّف والمبالغة في البِرِّ والإحسان للضيف في اليوم الأول، والاكتفاء بما تيسَّر في اليومين الأخيرين، فيكون يوم الجائزة أحد الأيام الثلاثة للضيافة. لمعات التنقيح (7/ 283).
قوله: «ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت»:
قال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر» كرره للإيذان بأن كل واحدة من الثلاث مستقلة بالطلب لا تابعة لأختها، وأن من كان هذا شأنه ينبغي أن يحصِّل كلًّا من الثلاث، وأن يحرص على كل منها باهتمام. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/174).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله- أيضًا:
«خيرًا» صفة لمصدر محذوف، أي قولًا خيرًا، أو صفة لمفعول محذوف أي: فليقل مقولًا خيرًا... «أو ليصمت» لام الأمر هنا مكسورة على الأصل، وفي الفعل السابق ساكنة. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/174).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «فليقل خيرًا أو ليصمت» فمعناه: أنه إذا أراد أن يتكلَّم فإن كان ما يتكلم به خيرًا محقَّقًا يُثاب عليه، واجبًا كان أو مندوبًا فليتكلم، وإن لم يظهر له خيرُه فليمسك عنه سواء ظهر له أنه حرام أو مكروه أو مباح، فعلى هذا يكون الكلام المباح مأمورًا بتركه مندوبًا إلى الإمساك عنه؛ مخافة من الجرارة إلى الحرام.
وقال الشافعي في معنى الحديث: من أراد أن يتكلم فليتفكر، فإن ظَهَرَ له أنه لا ضرر عليه تكلَّم، وإن ظهر له فيه ضرر أو شكَّ فيه أمسك.
وقال بعض علماء المالكية: جماع آداب الخير تتفرع من أربعة أحاديث: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت»، «ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»، وقوله للذي اختصر له الوصية: «لا تغضب»، وقوله: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه». الكاشف عن حقائق السنن (9/2865).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
قوله: «أو ليصمت» يريد -والله أعلم-: أن هذا حكم من كان يؤمن بالله وعَلِمَ أنه يجازى في الآخرة، ومما يلزمه: أن يقول خيرًا يؤجَر عليه، أو يصمت عن شرٍّ يعاقَب عليه.
وأما الصمت عن الخير وذكر الله -عزَّ وجلَّ- والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليس بمأمور به، بل هو منهي عنه نهي تحريم أو نهي كراهية.
وإنما معناه: أن يقول خيرًا أو يسكت عن شر، وأن تكون «أو» ها هنا بمعنى الواو، فيكون المعنى: يقول خيرًا ويصمت عن شر. المسالك في شرح موطأ مالك (7/393).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
وأما النطق بخير أو الصمت فيمكن تقسيم الكلام والصمت من حيث الأحكام الشرعية إلى ستة أنواع:
أ - كلام واجب كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان حيث أمكن، وكشهادة الحق، وكالعبادات القولية الواجبة، فهذا لا شك في خيريته، والنطق به واجب، يثاب عليه.
ب - كلام مندوب كالوعظ ونشر العلم والأذكار المستحبة، والكلام الذي يؤدِّي إلى خير دنيوي مشروع، وهو كذلك خيرٌ محقق، والنطق به مستحب يثاب عليه.
جـ - كلام محرَّم تحريمًا ظاهرًا، كالكذب والغيبة والنميمة والسخرية والاستهزاء والسب والفحش، والخوض في الباطل (كالغزل وذكر محاسن النساء والخمور والمحرمات) فهذا لا خير فيه، والإمساك عنه واجب.
د - كلام غير محرَّم في حد ذاته، لكنه يجر إلى محرم تحقيقًا أو غالبًا كالتَّقعر في الكلام، فإنه يجر إلى المقت والبغض، وكالوعد مع نية الخُلْف، وكمجادلة من يغضب، وكممازحة من لا يحب المزاح، وهذا أيضًا لا خير فيه، والإمساك عنه واجب.
هـ - كلام لا خير فيه: مشكوك في أنه يجر إلى ضرر أو مكروه، كالكلام فيما لا يعنيك، والزيادة عن قدر الحاجة فيما يعنيك، وهذا هو المعروف بفضول الكلام، فالإمساك عنه مندوب والصمت عنه مستحب.
و- كلام مباح يستوي طرفاه.
فالنوعان الأوَّلان داخلان في الأمر الأول «فليقل خيرًا».
والثالث والرابع والخامس داخلة في الأمر الثاني «ليصمت».
والأمر على هذا لمطلق الطلب واجبًا كان المطلوب أو مستحبًا.
وهذا لا خلاف فيه، وإنما الخلاف في النوع السادس ككلام الناس ومسامرتهم فيما لا يضر، هل يدخل في الأمر الثاني؟ أو لا يدخل في الأمرين؟
جمهور العلماء على أنه يدخل في الأمر الثاني؛ لأن الأمر الأول موجَّه للقول الذي تحقق أو ترجح خيره، «فليقل خيرًا» وهذه المسامرة مفروض أنه لا خير فيها ولا شر، والأمر بالصمت توجَّه لما لا خير فيه. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/178).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وقد أكثر الناس في تفصيل آفات الكلام، وهي أكثر من أن تدخل تحت حصر ونظام.
وحاصل ذلك: أن آفات اللسان أسرع الآفات للإنسان، وأعظمها في الهلاك والخسران، فالأصل: ملازمة الصمت إلى أن تتحقق السلامة من الآفات، والحصول على الخيرات، فحينئذٍ تخرج تلك الكلمة مَخْطُومة، وبأزمَّة التقوى مَزْمُومَة. المفهم (5/200).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
فإنْ قلتَ: ما وجه ذكر هذه الأمور الثلاثة؟ قلتُ: هذا الكلام من جوامع الكلم؛ لأنها هي الأصول؛ إذ الثالث منها إشارة إلى القوليات، والأولان إلى الفعلية الأول منها إلى التخلية عن الرذائل، والثاني إلى التحلية بالفضائل، يعني من كان له صفة التعظيم لأمر الله لا بد له أن يتصف بالشفقة على خلق الله، إما قولًا بالخير أو سكوتًا عن الشر، وإما فعلًا لما ينفع أو تركًا لما يضر. الكواكب الدراري (21/175).
وقال النووي -رحمه الله-:
وفيه: التصريح بأنه ينبغي له الإمساك عن الكلام الذي ليس فيه خير ولا شر؛ لأنه مما لا يعنيه، ومن حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه؛ ولأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام، وهذا موجود في العادة وكثير. شرح صحيح مسلم (12/31).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
ويؤخذ من الحديث:
1 - تعظيم حق الجار.
2 - الحث على إكرام الضيف.
3 - الأمر بقول الخير.
4 - إمساك اللسان عن الشر.
5 - أن إكرام الضيف والجار وحفظ اللسان من صفات المؤمن، وليس معنى ذلك انتفاء الإيمان عمَّن فقد هذه الصفات، فإن عبارة «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر» أريد بها المبالغة والحث على الالتزام، كما نقول: من كان ابني فلْيُطِعْنِي؛ إذ المقصود منه التهييج على الطاعة بذكر الباعث عليها وهو البنوة، والباعث هنا على الانصياع للأوامر الثلاثة هو الإيمان بالله وبجزائه، وهو لا يظلم مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها، ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/179-180).
وقال الشيخ فيصل ابن المبارك -رحمه الله-:
قال العلماء: المطلوب من المضيف أنْ يُبالغ في إكرام الضيف اليوم الأول وليلته، وفي باقي اليومين يأتي له بما تيسر من الإِكرام.
وفي الحديث: الحث على النظر إلى حال المضيف والتخفيف عنه. تطريز رياض الصالحين (ص: 453).