إنَّ محمدًا -صلى الله عليه وسلم- قال: «ألا أُنبئكم ما العَضْهُ؟ هي النميمةُ، القَالَةُ بين الناسِ، وإنَّ محمدًا -صلى الله عليه وسلم- قال: إنَّ الرَّجُلَ يصْدُقُ حتى يُكتبُ صِدِّيقًا، ويَكذِبُ حتى يُكتبُ كذابًا».
رواه مسلم برقم: (2606)، من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«العَضْهُ»:
بفتح العين المهملة، وسكون الضاد المعجمة: البُهتان الذي يُحير. البحر المحيط الثجاج، للإتيوبي (41/22).
وقال ابن منظور -رحمه الله-:
العَضَه العِضَه...: هي الإفك والبُهتان والنميمة. لسان العرب (13/ 515).
وقال النووي -رحمه الله-:
هذه اللفظة رووها على وجهين:
أحدهما: العِضَهُ بكسر العين وفتح الضاد المعجمة على وزن العِدَة والزِّنَة، والثاني: العَضْهُ بفتح العين وإسكان الضَّاد على وزن الوَجْه، وهذا الثاني هو الأشهر في روايات بلادنا، والأشهر في كتب الحديث، وكتبُ غَرِيْبِهِ، والأوَّل أشْهَر في كتب اللغة، ونقل القاضي (عياض) أنه رواية أكثر شيوخهم. شرح مسلم (16/ 159).
«النَّمِيْمَة»:
هي نقل الحديث من قوم إلى قوم على جهة الإفساد والشر. النهاية، لابن الأثير (5/120).
«القَالَةُ»:
أي: كثرة القول وإيقاع الخصومة بين الناس بما يُحكى للبعض عن البعض. النهاية، لابن الأثير (4 /123).
شرح الحديث
قوله: «إنّ محمدًا -صلى الله عليه وسلم- قال: ألا أُنبِّئُكم»:
قال المناوي -رحمه الله-:
عَنْوَنَ بـ«أَلَا» تنبيهًا على فخامة ما يُلقيه من الكلام، وإشارة إلى أنه يتعين معرفته، ويقبح الجهل به. فيض القدير (1/114).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«ألَا» أداة استفتاح وتنبيه، يُلقى بها للمخاطَب تنبيهًا له، وإزالة لغفلته. البحر المحيط الثجاج (41/21).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«قال: ألَا» أي: انتبهوا واستَمِعُوا ما أُخبركم. الكوكب الوهاج (24/418).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«أُنَبِّئُكُم» بضم أوَّله، وتشديد الموحدة، من التَّنْبيء.
ويحتمل: أن يكون بتخفيف الموحدة، من الإنباء؛ أي: ألا أخبركم. البحر المحيط الثجاج (41/21).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«أُنَبِّئُكُم» أي: أُخْبِرُكم جواب سؤالي. الكوكب الوهاج (24/418).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
هذا من أساليب التعليم الجيدة، وهي أن يلقي المعلِّم السؤال على المخاطَبين للتنبيه، حتى يستثير أفهامهم، ويعْطُوا الكلام انتباهًا، «ألا أُنَبِّئُكُم ما العَضْهُ» والنبأ والخبر في اللغة العربية معناهما واحد...
وفي هذا: دليل على حُسن تعليم النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ حيث يأتي بالأساليب التي يكون فيها انتباهُ المخاطَب، ولا سيما إذا رأى الإنسانُ من المخاطَب غفلة، فإنه ينبغي أن يأتي بالأسلوب الذي ينبهه؛ لأن المقصود من الخطاب هو الفهم والاستيعاب والحفظ، فيأتي الإنسان بالأساليب المفيدة في ذلك. شرح رياض الصالحين (6/147- 148).
قوله: «ما العَضْهُ؟»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«ما العَضْهُ؟» «ما» استفهامية مبتدأ، خبرها «العَضْهُ». البحر المحيط الثجاج (41/22).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«ما» معنى «العَضْهُ»؟ أي: ما الفاحش الغليظ التحريم؟ الكوكب الوهاج (24/418).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«ما العَضْهُ؟» سكت عن جوابهم لظهور استدعائهم، أي: قالوا: بلى. دليل الفالحين (8/367-368).
قوله: «هي النميمة»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وقد فسَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- العَضْهُ بالنميمة؛ لأنَّ النميمة لا تنفك عن الكذب والبهتان غالبًا. المفهم (6/ 590).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«هي النميمة» وأَنَّثَ المبتدأ نظرًا لتأنيث الخبر، وهو الأحسن في مثله، أي: مراعاة الخبر؛ لأنه محط الفائدة. دليل الفالحين (8/368).
وقال الغزالي -رحمه الله-:
حدُّها (أي: النميمة): كشْفُ ما يُكره كَشْفُه، سواء كرهه المنقول عنه أو المنقول إليه أو كرهه ثالث، وسواء كان الكشف بالقول أو بالكتابة أو بالرمز أو بالإيماء، وسواء كان المنقول من الأعمال أو من الأقوال، وسواء كان ذلك عيبًا ونقصًا في المنقول عنه أو لم يكن، بل حقيقة النميمة: إفشاء السر وهتْكُ الستر عما يُكره كشْفُه، بل كل ما رآه الإنسان من أحوال الناس مما يكره فينبغي أن يسكت عنه، إلا ما في حكايته فائدة لمسلم، أو دفعٌ لمعصية، كما إذا رأى مَن يتناول مال غيره فعليه أن يشهد به؛ مراعاة لحق المشهود له. إحياء علوم الدين (3/156).
وقال المازري -رحمه الله-:
فلعل النميمة سمِّيت عَضْهٌ؛ لأنها تفرِّق بين الناس. المعلم بفوائد مسلم (3/298).
قوله: «القالة بين الناس»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«القَالَة» بتخفيف اللام «بين الناس» أي: كثرة القول، وإيقاع الخصومة بين الناس، بما يُحكى للبعض عن البعض. دليل الفالحين (8/368).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«القَالَةُ» أي: المقالة التي تفرِّق وتُفْسِد «بين الناس». الكوكب الوهاج (24/418).
وقال المناوي -رحمه الله-:
والمراد التحذير مِن نقْلِ كلام قوم لآخرين لإلقاء العداوة والبغضاء بينهم، وهذا هو النميمة التي هي كما قال جَمْعٌ: نقل الحديث على وجه الإفساد، وهو من الكبائر. فيض القدير (1/114).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
أي: نَقْلُ قبيح ما يقوله الرجل في الآخر، لا مُطْلَق ما يقوله فيه...، احتراز لو أراد الناقل بالنقل النصيحة للمنقول إليه، مثل: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} القصص: 20، فيَحْتَرِزُ على نفسه. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 306).
وقال الشيخ ابن جبرين -رحمه الله-:
فالنميمة على هذا من كبائر الذنوب...، وتتفاوت النميمة بحسب المفسدة التي تترتب عليها. شرح عمدة الأحكام (2/ 22).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
فإذا قال قائل: إذا كان الشخص يَنْقُل كلام الإنسان في الإنسان نصيحة، مثل: أن يرى شخصًا مغرورًا بشخص يفضي إليه أسراره ويلازمه، والشخص هذا يفضي أسرار صاحبه الذي يفضي إليه أسراره ويخدعه، فهل له أن يتكلم فيه؟
فالجواب: نعم، له أن يتكلم فيه ويقول: يا فلان احذر هذا الشخص؛ فإنه ينقل كلامَك، ويقول فيك: كذا وكذا؛ لأن هذا من باب النصيحة، ليس غرضه أن يفرِّق بين الناس، ولكن غرضه أن يسدي النصيحة إلى صاحبه، والله تعالى يقول: {وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} البقرة:220. شرح رياض الصالحين (6/148).
قوله: «إنّ الرَّجُل يَصدق حتى يُكتب صديقًا»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«إنَّ الرَّجُل يَصْدُقُ» أي: يلازم الصدق ويواظب عليه «حتى يُكتب» عند الله «صِدِّيقًا» أي: مُبالِغًا في الصدق، ومواظبًا عليه، وهو صيغة مبالغة. الكوكب الوهاج (24/418).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
ومعنى «يُكتَب» هنا: أي: يُحكم عليه وله بذلك، وحُقَّ له منزلة الصِّدِّيقين وثوابهم، أو صفة الكذابين وعقابهم...، ويكون هذا إظهار حُكْمِه فيه، وإنفاذ قدَرِهِ له بالشقاوة والسعادة بمقتضى الصفتين، أو كُتب ذلك في كتاب؛ ليُشْهَر بالصفتين في الملأ الأعلى، أو يُلقى ذلك في ألسنة الناس، كما يوضع القبول والبغضاء، وإلا فقضاؤه المتقدِّم، وكتابه السابق قد سبق فيه بما كان، ويكون فيه هذا. إكمال المعلم (8/ 81).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
«وصِدِّيق» فعيل من الصدق، يسمى به كلُّ مُكْثِر من الصدق، كما يقال: سِكِّيت وشِرِّيب أي: كثير السكوت والشرب. الإفصاح عن معاني الصحاح (2/77).
وقال صفي الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
«صِدِّيقًا» بكسرتين مع تشديد الدال، هو المبالِغ في الصدق، وهو أرفع درجة بعد الأنبياء في قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا} النساء: 69. منة المنعم في شرح صحيح مسلم (4/195).
قوله: «ويكذِبُ حتى يُكتب كذابًا»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«ويَكْذِبُ» أي: يُكثر الكذب ويلازمه، «حتى يُكتب» عند الله «كذابًا» أي: كثير الكذب ومُلازِمُه. الكوكب الوهاج (24/418).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
إذا كَذَبَ ثم كَذَبَ فإنه يُكتب عند الله كذابًا، ولم يأتِ في اللغة كِذِّيب؛ لأن الكذب عورة، فقليلها مذموم، فلم يُبنَ لها بناءٌ نهائيًّا مبالغة؛ ليحذر القليل منها. الإفصاح عن معاني الصحاح (2/77).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «إن الرَّجُل يصْدُقُ حتى يُكتبَ عند الله صدِّيقًا، ويَكْذِبُ حتى يُكتبَ عند الله كذابًا»: فيه تحريض على تحري الصدق وتجنب الكذب وترك التساهل فيه؛ فإن ذلك يؤدي إلى أمثاله، ويقع فيه ويُكثر منه إذا لم يتحفَّظ من الكذب حتى يُعْرَف به، ويُكتب عند الله بالمبالغة في الصدق إذا اعتادهُ، أو بالكذب إذا اعتادهُ، فإنَّ فعيل وفعَّال من «صديق»، «وكذاب» من أبنية المبالغة والكثرة. إكمال المعلم (8/ 81).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث من الفقه: أن الرجل يَصْدُقُ ثم يَصْدُق إلى أن ينتهي به إكثار الصدق إلى أن يُكتب صدِّيقًا، والصِّدِّيق هو الصادق في مقاله وفي حاله، فمَقَالُه يُصدِّق حالَه، وحالُه يُصَدِّقُ مقالَه. الإفصاح عن معاني الصحاح (2/77).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله- أيضًا:
في هذا الحديث من الفقه: أنه إذا كان النمَّام قد أَخبر بالسوء دون الحَسَن، وغلَّظ ما حكاه من القبيح، فهو شرّ ممن يحكي ما جرى على صورته، وأن هذا العَضْه ينتشر فيصير قالَةً بين الناس، ويكون حَوْبَها (أي: إثمها) على العاضِهِ في كل ما ينتشر من طريقه إذا كان عضَّها بالباطل لا بالحق. الإفصاح عن معاني الصحاح (2/127).
قال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
عُدَّ النميمة من الكبائر هو ما اتفقوا عليه، وبه صرح الحديث الصحيح بقوله: «بلى إنه كبير». قال الحافظ المنذري: أجمعت الأُمّة على تحريم النميمة؛ وأنها من أَعظم الذنوب عند الله -عز وجل-. انتهى.الزواجر عن افتراق الكبائر(2/٣٧).
وقال أبو الليث السمرقندي -رحمه الله-:
وقال يحيى بن أكثم: النَّمام شرٌّ مِن السّاحر، ويعمل النَّمام في ساعة ما لا يعمل السّاحر في شهر.
ويقال: عمل النمام أضر من عمل الشيطان، لأن عمل الشيطان بالخيال والوسوسة.
وعمل النمام بالمواجهة والمعاينة.
وقد قال الله تعالى: {حَمَالَةَ الْحَطَبِ}المسد: 4 ، قال أكثر المفسرين إنّ الحَطب أَراد به النميمة.
وإنما سُميت النميمة حطبًا؛ لأنها سبب للعداوة والقتال، فصار بمنزلة إِيقاد النار.تنبيه الغافلين بأحاديث سيد الأنبياء والمرسلين (ص171-172).
وقال وكيع بن الجراح -رحمه الله-:
حدثنا أبي، عن عطاء بن السائب قال: قدِمتُ من مكة، فلقيني الشعبي، فقال لي: يا أبا زيد، أطرفنا ما سمعت، قال: قلت: لا، إلا أني سمعت عبد الرحمن بن عبد الله بن سابط يقول: لا يسكن مكة سَافكُ دم، ولا آكل الربا، ولا مَشَّاءٍ بنميم، قال: فَعَجِبْتُ منه حين عدل النميمة بسفك الدم، وأكل الربا، قال: قال الشعبي: وما تعجب من ذلك؟ وهل تسفك الدماء وتستحل المحارم إلَّا بالنميمة؟ الزهد (ص764).
وقال الغزالي -رحمه الله-:
وكُلّ مَن حُملت إليه نميمة، وقيل له فلان يقول فيك أو يفعل فيك كذا فعليه ستة أمور الأول أن لا يصدقه لأن النمام فاسق الثاني أن ينهاه عن ذلك وينصحه ويقبح له فعله الثالث أن يبغضه في الله تعالى فإنه بغيض عند الله تعالى ويجب بغض من أبغضه الله تعالى الرابع أن لا يظن بأخيه الغائب السوء الخامس أن لا يحمله ما حكي له على التجسس والبحث عن ذلك السادس أن لا يرضى لنفسه ما نهي النمام عنه فلا يحكي نميمته عنه فيقول فلان حكى كذا فيصير به نماما ويكون آتيا ما نُهي عنه.نقلًا عن شرح صحيح مسلم للنووي(2/١١٣).
وقال النووي -رحمه الله-:
وكُل هذا المذكور في النّميمة إذا لم يَكن فيها مصلحة شرعية؛ فإن دَعت حاجة إليها فلا منع منها؛ وذلك كما إذا أخبرهُ بأن إنسانًا يُريد الفَتك به أَو بأهله أَو بماله أو أخبر الامام أو مَن له ولاية بأن إنسانًا يفعل كذا، ويسعى بما فيه مفسدة ويجب على صاحب الولاية الكشف عن ذلك، وإزالته فكُلُّ هذا وما أَشبهه ليس بحرام، وقد يكون بعضه واجبًا وبعضه مستحبًا على حَسب المواطن. والله أعلم. شرح صحيح مسلم(2/١١٣).