الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

«خيرُ يومٍ طَلَعَتْ فيه الشمسُ يومُ الجُمعةِ، فيه خُلِقَ آدمُ، وفيه أُهْبِطَ، وفيه تِيبَ عليه، وفيه ماتَ، وفيه تقومُ السَّاعةُ، وما مِنْ دابَّةٍ إلا وهي مُسِيخَةٌ يومَ الجُمعةِ، مِن حينَ تُصْبِحُ حتى تَطْلُعَ الشمسُ؛ شَفَقًا مِن الساعةِ، إلا الجِنَّ والإِنس، وفيه ساعةٌ لا يُصادِفُها عبدٌ مُسْلِمٌ، وهو يُصَلِّي، يسألُ اللَّهَ حاجةً، إلا أَعْطَاهُ إيَّاها».


رواه مسلم برقم: (852) مختصرًا، ورواه أحمد برقم: (10303)، وأبو داود برقم: (1046)، والترمذي برقم: (491)، ورواه أحمد أيضا برقم(23791)، والنسائي برقم:(1430) بلفظ: «مُصِيخَة»، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (3334)، مشكاة المصابيح برقم: (1359).


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«أُهْبِطَ»:
أي: أُسْقِطَ، وأُخْرِجَ من الجنة إلى الأرض. المفاتيح، للمظهري (2/ 316).
قال ابن دريد-رحمه الله-:
يُقال: هَبَط الشيْءُ يَهْبِطُ هُبوطًا: إذا انحدر، فهو هابط، والهبوط: ضد الارتفاع، وهبَّطْتُّ الشيْء وأهبطتُه؛ لغتانِ فصيحتان. جمهرة اللغة، لابن دريد(1/ 363).

«تِيبَ عليه»:
ماضٍ مجهول، مِن (تاب) أي: قُبلت توبتُه. شرح المصابيح، لابن الملك (2/ 222).

«دابَّةٍ»:
كُلُّ حيوانٍ في الأرضِ دابَّةٌ، وخالَفَ فيه بعضُهُم فأخرجَ الطيرَ مِن الدَّوابِّ، وَرُدَّ بالسماعِ، وهو قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} النور: 45. المصباح المنير، للفيومي (1/ 188).

«مُسِيخَةٌ»:
بِضَم الْمِيم، وكسر المُهملة، وإِسكان المُثَنَّاة تحت، وبالخاء المُعجَمَة، وفي(الموطأ) بصاد بدَل السِّين، وهما بمعنى، أَي مستمعة مُصغية.خلاصة الأحكام للنووي(2/٧٥٣).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
ويُروى بالصاد، وهو الأصلُ. النهاية(2/ 1053).
وقال اليفرني -رحمه الله-:
فالإصاخة: الاستماع، وهو ها هنا: استماع حَذَر وإشفاق؛ خشية الفجاءة والبغتة، وأصله: الاستماع. الاقتضاب في غريب الموطأ(1/ 135).

«شَفَقًا»:
أي: خَوْفًا من القيامة. المفاتيح، للمظهري(2/ 316).
قال الأزهري -رحمه الله-:
والشَّفَقُ: الخوف، تقولُ: أنا مُشْفِقٌ عليك، أي: خائفٌ، وأنا مُشْفِقٌ من هذا الأمر، أي: خائفٌ.تهذيب اللغة، للأزهري(8/ 261)

«لا يُصادِفُها»:
أي: لا يوافِقُها.شرح المصابيح، لابن الملك(2/ 222).
وقال ابن منظور -رحمه الله-:
يُقال: صادَفْتُ فلانًا: لاقيته ووجَدته. لسان العرب(9/ ١٨٨).

«وهو يُصَلِّي»:
أي: يَدْعُو. التيسير، للمناوي (1/ 532).
وقال ابن قتيبة -رحمه الله-:
وأصل الصلاة: الدُّعاء، قال الله -عز وجل-: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} التوبة: 103، أي: ادعُ لهم. غريب الحديث، لابن قتيبة(1/ 167).


شرح الحديث


قوله: «خيرُ يومٍ طلعت فيه الشمسُ يومُ الجُمعةِ»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«خير يوم طلعت» أي: أشرقت، «عليه» أي: على أهله، «الشمس» يعني: من أيام الأسبوع، وأما أيام السَّنة فخيرها يوم عرفة. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (10/ 297).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «عليه» الضمير عائد إلى «يوم»، أي: طلعت على ما سكن فيه، قال تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} الأنعام: 13. الكاشف عن حقائق السنن (4/ 1263).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«خيرُ يومٍ طلعتْ عليه الشَّمسُ» أي: خير يوم ظهر بظهور الشمس؛ إذ اليوم لغةً: من طلوعها إلى غروبها، وهذا أولى من قول شارحٍّ (يريد الطيبي): أعاد الضمير «عليه» باعتبار ما سكن فيه، قال تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} الأنعام: 13، انتهى، ووجه الأولوية: أنَّ هذا التقدير لا يجعل لقوله: «طلعت عليه الشمس» كثير فائدة، أو توهّم غير المقصود؛ لأن المقصود: فضل يوم الجمعة نفسه، لا باعتبار ما سكن فيه، المتوهَّم من هذا التقدير...
قوله: «يوم الجمعة» أَخَذ منه بعض أصحابنا (الشافعية): أنه أفضل من يوم عرفة؛ لما له من الفضائل الجمَّة العامَّة، ما لم يرد ليوم عرفة، وحينئذٍ فيُجمع هذا الحديث والأحاديث الناصَّة على أفضلية عرفة بأنه أفضل أيام السَّنة، ويوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، وهذا ليس محل الخلاف، وإنما محلُّه الخيرية المطلقة. فتح الإله في شرح المشكاة (5/208).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«خير يوم» حُذِفت الألف من «خير» للتخفيف؛ لكثرة استعماله، «طلعت عليه الشمس» جملة في محل الصفة لـ«يوم»، وهي مَسُوْقَة لبيان الواقع؛ إذ كل يوم كذلك، «يوم الجمعة»؛ فلذا كان سيد أيام الأسبوع، ولا ينافيه خبر «سيد الأيام يوم عرفة»؛ لأنه محمول على أيام السَّنة. دليل الفالحين (6/ 617).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«خير يوم طلعت عليه الشمس» هذا الوصف للتعميم، نظير: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} الأنعام: 38، أي: كل دابة؛ إذ كل يوم كذلك. التنوير شرح الجامع الصغير (6/ 28).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة» خيرٌ وشرٌ يُستعملان للمفاضلة ولغيرها، فإذا كانتا للمفاضلة فأصلهما: أَخْيَرُ وَأَشَرُّ؛ على وزن (أفعل)، وقد نطق بأصلها، فجاء عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «توافون يوم القيامة سبعين أمة، أنتم أخيرهم»، ثم (أفعل) إنْ قُرِنَت بـ(من) كانت نكرة، ويستوي فيها المذكَّر والمؤنث، والواحد والاثنان والجَمْع، وإن لم تُقْرَن بها لَزِم تعريفها بالإضافة، أو بالألف واللام، فإذا عُرِّف بالألف واللام أُنِّث وثُنِّيَ وجُمِع، وإنْ أُضيف ساغ فيه الأمران، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} الأنعام: 123، وقال: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} البقرة: 96، وأما إذا لم يكونا للمفاضلة فهما من جملة الأسماء، كما قال تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} البقرة: 180، وقال: {وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} النساء: 19، وهي في هذا الحديث للمفاضلة، غير أنها مضافة لنكرة موصوفة، ومعناها في هذا الحديث: أنَّ يوم الجمعة أفضل من كل يوم طلعت شمسه.
ثم كون الجمعة أفضل الأيام لا يرجع ذلك إلى عين اليوم؛ لأن الأيام متساوية في أنفسها، وإنما يَفضُل بعضها بعضًا بما به من أمر زائد على نفسه، ويوم الجمعة قد خُصَّ من جنس العبادات بهذه الصلاة المعهودة التي يجتمع لها الناس، وتتفق هممهم ودواعيهم ودعواتهم فيها، ويكون حالهم فيها كحالهم في يوم عرفة، فيُستجاب لبعضهم في بعض، ويغفر لبعضهم ببعض؛ ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: «الجمعة حج المساكين»، أي: يحصل لهم فيها ما يحصل لأهل عرفة، -والله أعلم-.
ثم إنَّ الملائكة يشهدونهم ويكتبون ثوابهم؛ ولذلك سُمّي هذا اليوم: المشهود، ثم تخطر فيه لقلوب العارفين من الألطاف والزيادات بحسب ما يدركونه من ذلك؛ ولذلك سُمِّي: بيوم المزيد، ثم إنَّ الله تعالى قد خصَّه بالساعة التي فيه (أي: الساعة التي يجاب فيها الدعاء)، ثم إنَّ الله تعالى قد خصَّه بأنْ أوقع فيه هذه الأمور العظيمة المفهم (2/ 489-490).

قوله: «فيه خُلِقَ آدمُ»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فيه خُلِقَ آدم» -عليه السلام-، أي: نُفِخَ فيه الروح. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (10/ 297).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«فيه خُلِقَ آدم» زاد بعض الحُفَّاظ: «وحواء». فتح الإله في شرح المشكاة (5/209).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فيه خُلِقَ آدم» الذي هو أشرف جنس العالَم. مرقاة المفاتيح (3/ 1011).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«فيه خُلِقَ آدم» -عليه السلام-، وهو أصل النوع الذي هو أفضل أنواع المخلوقات، وخلقه فيه يحتمل أنْ يكون سبب فضله أو بسببه. دليل الفالحين (6/ 617).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
قوله: «فيه خُلِقَ آدم» وخَلَقَ اللهُ الخلق يوم السبت أو الأحد على اختلاف الروايات، إلا أنَّ رواية أبي هريرة: «إنَّ الله خلق البرية يوم السبت، وخلق آدم يوم الجمعة» ففيه ختام الخِلْقة، وهو أشرف المخلوقات. عارضة الأحوذي (2/232).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «فيه خُلِقَ آدم» أي: نُفخ فيه الروح، أو خُمِّرت طينته. التنوير شرح الجامع الصغير (6/ 29).
وقال العيني -رحمه الله-:
يجوز أنْ يكون ابتداءُ خَلْق آدم من الطين يوم الجمعة، ثم قعد ما شاء الله، ثم نفخ فيه الروح يوْم الجمعة أيضًا. شرح أبي داود (4/ 362).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فيه خُلِق آدم» -عليه السلام-، أي: في آخر ساعة منه (أي: يوم الجمعة)؛ كما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: «أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيدي فقال: خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبثَّ فيها الدوابَّ يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة من آخر ساعة من ساعات يوم الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل». ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (16/ 89-90).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
فيه: دليل على أنَّه -عليه السلام- لم يُخلَق في الجنة، بل خُلِق خارجها، ثم أُدخلها. المنهل العذب المورود (6/ 182).

قوله: «وفيه أُهْبِطَ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وفيه أُهْبِط» أي: أُنزل من الجنة إلى الأرض؛ لعدم تعظيمه يوم الجمعة بما وقع له من الزَّلة؛ ليتداركه بعد النزول في الطاعة والعبادة، فيرتقي إلى أعلى درجات الجنة، وليعلم قدر النعمة؛ لأن المنحة تتبيَّن عند المحنة، والظاهر: أنَّ «أُهْبِط» هنا بمعنى: أُخرِج في الرواية السابقة، وقيل: كان الإخراج من الجنة إلى السماء، والإهباط منها إلى الأرض، فيفيد أنَّ كلًّا منهما كان في يوم الجمعة، إمَّا في يوم واحد، وإمَّا في يومين، -والله أعلم-. مرقاة المفاتيح (3/1013-1014).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «وفيه أُهْبِط» أي: وفي يوم الجمعة أُنْزِل آدم إلى الأرض بعد أنْ أُخرِج من الجنَّة على جبل سَرنديب (في الهند). شرح أبي داود (4/ 362).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«وفيه أُهْبِط» من الجنة للخلافة في الأرض، لا للطَّرد، بل لتكثير النسل، وبثِّ عباد الله فيها، وإظهار العبادة التي خُلِقوا لأجلها، وما أُقيمت السماوات والأرض إلا لأجلها؛ وذلك لا يثبت إلا بخروجه منها، فكان أحرى بالفضل من استمراره فيها، فإخراجه منها يُعَدُّ فضيلة لآدم؛ خلافًا لما وقع لعياض (أي: القاضي عياض). فيض القدير (3/ 494).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
الظاهر: أنَّ هذه القضايا المعدودة فيه (يوم الجمعة) ليست لذكر فضيلته؛ لأنَّ ما وقع فيه من إخراج آدم، وقيام الساعة لا يُعَدُّ من الفضائل. إكمال المعلم (3/ 247).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
أما إخراجه منها (الجنة) فلا فضل فيه ابتداءً، إلا أنْ يكون لِمَا كان بعده من الخيرات والأنبياء والطاعات، وأنَّ خروجه منها لم يكن طردًا، كما كان خروج إبليس، وإنما كان خروجه منها مسافرًا لقضاء أوطار، ويعود إلى تلك الدار. عارضة الأحوذي (2/232).

قوله: «وفيه تِيبَ عليه»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«وفيه تِيبَ عليه» بالبناء للمفعول، والفاعل معلوم. فيض القدير (3/ 494).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وفيه» أي: في يوم الجمعة، والظاهر: أنَّه في ذلك اليوم بخصوصه «تيب عليه»، وهو ماضٍ مجهول من (تاب)، أي: وُفِّق للتوبة، وقُبِلَتْ التوبة منه، وهي أعظم المنة عليه، قال تعالى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىْ} طه: 122. مرقاة المفاتيح (3/ 1014).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «وفيه تِيبَ عليه» أي: وفي يوم الجمعة تاب الله على آدم بعد أنْ مكث ثلاثمائة سنة لا يرفع رأسه حياءً من الله، وقال ابن عباس: بكى آدم وحواء على ما فاتهما من نعيم الجنَّة مائتي سنة، لم يأكلا ولم يشربا أربعين سنةً، ولم يقرب آدم حواء مائة سنة، فلما أراد الله أنْ يرْحمه لقَّنَهُ كلمات كانت سبب توبته، كما قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} البقرة: 37، قيل: هو قوله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} الآية الأعراف: 23، وقيل غير ذلك. شرح أبي داود (4/ 362).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«وفيه تِيبَ» بكسر المثناة أوله، مبنيٌّ للمفعول، كما في «أُهْبِط» قبله، وهو من التوبة، وقوله: «فيه» أي: في ساعة منه تاب الله فيها على آدم -عليه السلام-، فمَن صادف هذِه الساعة يسأل الله تعالى إياها أعطاه حاجته، وتاب عليه، وفيه: أنَّ مَن كان له إلى الله حاجة، وأراد إجابتها، فليتحرَّى أوقات مظانِّ الإجابة، كما في هذِه الساعة في الجمعة، وبين الأذان والإقامة، وعند نزول الغيث، والتقاء الجيوش، والثُّلث الأخير، أو الأوسط، ونحو ذلك. شرح سنن أبي داود (5/ 448).

قوله: «وفيه ماتَ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وفيه» أي: في نحوه من أيام الجمعة «مات»، والموت تحفة المؤمن، كما ورد عن ابن عمر مرفوعًا، رواه الحاكم والبيهقي وغيرهما. مرقاة المفاتيح (3/ 1014).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «وفيه مات» أي: في يوم الجمعة مات آدم على نَوْذ (اسم جبل) بالهند، وقال ابن عباس: لما كان أيام الطوفان حمل نوح تابوت آدم في السفينة، فلما خرج دفنه ببيت المقدس، وكانت وفاته يوم الجمعة في الساعة التي خُلِقَ فيها، وهي أفضل ساعة يوم الجمعة، وقيل: دُفِنَ بمكة في غار أبي قُبَيْس، وهو الذي يقال: غار الكنز، وعن ابن عساكر قيل: ورأسه عند مسجد إبراهيم، ورجلاه عند صخرة بيت المقدس. شرح أبي داود (4/ 362).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«وفيه» أي: في ساعة منه «ماتَ» آدم -عليه السلام-، فيه: أنَّ مِن مظانِّ أوقات الإجابة الأوقات التي مات فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو أحد الأنبياء والمرسلين، وكذا الساعة التي مات فيها العلماء الصالحون، فمن كان حاضرًا عند موت أحد منهم، فليجتهد في الدعاء في ختم أعماله بالصالحات الحسنى، ونحو ذلك (هكذا قال ولا دلالة في الحديث على ذلك). شرح سنن أبي داود (5/ 448).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
ولا شك أنَّ خَلْق آدم فيه (يوم الجمعة) يُوجِب له شرفًا ومزيةً، وكذا قبضه فيه، فإنَّه سببٌ لوصوله إلى جناب القدس، والخلاص عن البليات. تحفة الأبرار (1/ 385).

قوله: «وفيه تقومُ الساعةُ»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«وفيه» ينقضي أجل الدُّنيا، و«تقوم السَّاعة» أي: القيامة، وفيه يُحاسب الخَلْق. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 532).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وفيه تقوم الساعة» وفيها نعمتان عظيمتان للمؤمنين، وصولهم إلى النعيم المقيم، وحصول أعدائهم في عذاب الجحيم. مرقاة المفاتيح (3/ 1014).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
وكذا النفخة -وهي نفخة الصور- فإنَّها مبدأ قيام الساعة، ومقدمات النشأة الثانية، وأسباب تُوصِل أرباب الكمال إلى ما أُعِدَّ لهم من النعيم المقيم. تحفة الأبرار (1/ 385).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«وفيه تقومُ الساعة» لم يُذْكَرْ قيام الساعة لوقت فضيلتها. شرح سنن أبي داود (5/ 448).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
قوله: «وفيه تقومُ الساعة» وذلك أعظم لفضله (أي: يوم الجمعة)؛ لِمَا يُظْهِر الله فيه من رحمته، ويُنْجِزُ من وعْدِه. المسالك في شرح موطأ مالك (2/ 464).

قوله: «وما مِنْ دابَّةٍ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وما من دابة» زيادة (من) لإفادة الاستغراق في النفي. مرقاة المفاتيح (3/ 1014).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
قوله: «وما مِن دابَّةٍ» من دواب الأرضين السبع، والظاهر: أنَّه يدخل فيه الطير الذي يطير بين السماء والأرض، وينزل إلى الأرض يمشي عليها، وكذا دواب البحار السبع، والأنهار العظام والصغار، وقد تدخل فيه الملائكة الذين يهبطون إلى الأرض، ويمشون عليها، والملائكة الذين في السبع الطباق، وغيرهم. شرح سنن أبي داود (5/ 448-449).

قوله: «إلَّا وهي مُسِيخَةٌ يومَ الجُمعةِ»:
قال محمود السبكي -رحمه الله-:
قوله: «مُسِيخَةٌ» روى بالسين والصّاد المُهملتين أَي: مُصغية، ومُترقبة قيام الساعة بإِلهام مِن الله تعالى خوفًا من قيامها فيما بين الفَجر وطلوع الشمس. وسُمّيت القيامة ساعة لسرعة قيامها.المنهل العذب(6/١٨٣)
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
أَي: مُصغية تَخشى أنْ تقوم الساعة، فقد أَلهمها الله -عز وجل- ذلك، ولا يحصل ذلك للجن والإنس؛ لأنهم مكلفون، وشاء الله -عزَّ وجلَّ- أن يحصل للبهائم ما لا يحصل لهم، ولهذا جاء في بعض الأحاديث: أنَّ عذاب القبر تسمعه البهائم؛ حتى تظهر حِكمة التشريع وحِكمة الإيمان بالغيب؛ لأنه لو ظهر الغيب للناس علانية لم يتميز أولياء الله من أعدائه الله، ومن يؤمن بالغيب ومن لا يؤمن به.
ثم هذا الحديث يُدلنا على أنَّ الساعة تقوم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس؛ لأنه قال: «من حين تصبح إلى أن تطلع الشمس».شرح سنن أبي داود(ص: 3)
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «إلا وهي مُصِيخَة» أي: منتظرة لقيام الساعة، «يوم الجمعة» وفي أكثر نسخ المصابيح بالسين، وهما لغتان. مرقاة المفاتيح (3/ 1014).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
«إلا وهي مُصِيخَة» أي: مُصغية مستمعة، ساخ وأصاخ بمعنى واحد، وأصاخ: أكثر استعمالًا، وكأنَّه هو الأصل، وأساخ: قُلِبَت صاده سينًا، والعرب تفعل ذلك إذا كانت في الكلمة خاء أو طاء أو عين أو قاف؛ كالصماخ والصراط والصدغ والبصاق، والرواية في هذا الحديث بالسين، والصاد في كلامهم أكثر، قال أبو دُوَاد (الأيادي) الشاعر (يصف الثور):
ويصيخُ أحيانًا كما اسـ *** ـتمع المضلُّ لصوت ناشد.
ووجه إساخة كل دابة يوم الجمعة وهي مما لا يعقل: أنْ نقول: إنَّ الله تعالى يجعلها ملهَمة بذلك، مستشعِرة منه، وغير مستنكَر أمثال ذلك -وما هو فوقه في العجب- من قدرة الله سبحانه...
ويجوز أنْ يكون وجه إساخة كل دابة يوم الجمعة: أنَّ الله تعالى يظهر يوم الجمعة في أرضه من عظائم الأمور، وجلائل الشؤون: ما تكاد الأرض تميد بها؛ فتبقى كل دابة ذاهلة دَهشة؛ كأنَّها مُسيخَة للرعب الذي بداخلها، والحالة التي تشاهدها، حتى كأنَّها تشفق شفقتها من قيام الساعة. الميسر في شرح مصابيح السنة (1/ 332-333).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
ووجه ‌إِصاخة ‌كُلّ ‌دابة -وهي مما لا يعقل- هو أنّ الله تعالى يجعلها مُلهمة لذلك، مُستشعرة عنه، فلا عَجب مِن ذلك عند قُدرة الله تعالى. ولعل الحكمة في الإخفاء من الجن والإنس؛ لأنهم إذا كوشفوا بشيء من ذلك، اختلّت قاعدة الابتلاء والتكليف، وحق القول عليهم. ووجه آخرٌ: أنّ الله تعالى يظهر يوم الجمعة مِن عظائم الأمور، وجلائل الشؤون ما تكاد الأرض تميد بها، فتبقى كُلّ دابة ذاهلة دَهشة، كأنها مَسيخة للرّعب الذي يداخلها إشفاقًا منها لقيام الساعة.الكاشف عن حقائق السنن(4/١٢٦٥)

قوله: «مِنْ حينَ تُصْبِحُ حتى تطلع الشمسُ»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «من حينَ تصبح» بُني «حينَ» على الفتح لإضافته إلى الجملة، مثل قوله تعالى: {يَوْمَ لَا يُغْنِي} الدخان: 41، ويجوز إعرابه مثل قوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} المائدة: 119، ولكن الرواية على الفتح الكاشف عن حقائق السنن (4/ 1266).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
قوله: «تُصبح» أي: ينفجر الفجر. فتح الإله في شرح المشكاة (5/215).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
قوله: «مِن حينَ تُصْبِحُ» إلى حين تمسي، وهي مستمرة على ذلك في كل يوم جمعة، «حتى تَطْلُعَ الشمسُ» من مغربها (هكذا قال ولعل المراد: طلوعها كل يوم). شرح سنن أبي داود (5/ 449).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
ويُحتمل: أنَّ المراد: أنَّ أول علامات الساعة وهي طلوع الشمس من مغربها يكون ابتداؤه يوم الجمعة، وقد أعلم الله ذلك كل دابة بالإلهام أو غيره، فهي تنتظر رجفة الناس، وأصوات فزعهم بطلوعها كذلك، ويحتمل الصيحة التي يهلك كل مَن في السماوات والأرض إلا من شاء الله، والله أعلم بمراد رسوله -صلى الله عليه وسلم-. التنوير شرح الجامع الصغير (6/ 30).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«حتى تطلع الشمس» لأن القيامة تظهر يوم الجمعة بين الصبح وطلوع الشمس. مرقاة المفاتيح (3/ 1014).
وقال الرافعي -رحمه الله-:
قوله: «حتى تطلع الشمس» يدل على أنَّها إذا طلعت عرفت الدواب أنَّه ليس بذلك اليوم. شرح مسند الشافعي (2/ 8).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«من حينِ تصبحُ حتى تطلعَ الشمس» وإساختها في ذلك الوقت: بأنَّ الله تعالى أَلْهَمَ جميعَ الدوابِّ أنَّ القيامة تقوم يومَ الجمعة بين الصبح إلى طلوع الشمس، فلا يزالون ينتظرونها كلَّ جمعة. شرح المصابيح (2/ 222).
وقال الزرقاني -رحمه الله-:
ففيه: أنَّ قيامها بين الصبح وطلوع الشمس، وليس فيه علم متى تقوم؟؛ لأن يوم الجمعة مُتكرِّر مع أيام الدنيا، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} الأعراف: 187، وقال: {لَا تَأْتِيكُم إِلَّا بَغْتَة} الأعراف: 187، وقال -صلى الله عليه وسلم- لجبريل: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل». شرح الزرقاني على الموطأ (1/ 395).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
وكأنَّ هذا الحديث مَأْخَذ مَن قال: إنَّ ساعة الجمعة بين ظهور الصبح وطلوع الشمس، يعني: أنَّ الحيوانات إذا كانت ذاكرات حاضرات خائفات في تلك الساعة، فإنَّ الإنسان الكامل ينبغي بالأَوْلى أنْ يكون مشتغلًا بذكر المولى، وخائفًا عما وقع له في الحالة الأولى؛ إذ خوف الدوابِّ من تصيير التراب، وخوف أولي الألباب من ردِّ الباب، وعظيم العقاب، وسخط الحجاب، فخوفهن أهون مآبًا؛ ولذا يقول الكافر: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} النبأ: 40. مرقاة المفاتيح (3/ 1014).
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-:
ففيه: التصريح بأنَّ الدوابَّ عندها هذا الإدراك الذي تُفرِّق به بين أيام الأسبوع، وعندها هذا الإيمان بيوم القيامة، والإشفاق منه، وأخذ منه العلماء: أنَّ الساعة تكون في يوم الجمعة، وفي أوله، فإذا كان هذا أمرًا غُيِّبَ عنا، فقد أخبرنا به -صلى الله عليه وسلم-، فعلينا أنْ نُعطي هذا اليوم حقه من الذِّكْر والدعاء، ومما يليق من العبادات؛ إشفاقًا أو تزوُّدًا لهذا اليوم، لا أنْ نجعله موضع النزهة واللعب والتفريط، وقد يكون إخفاؤها مدعاة للاجتهاد كل اليوم، كَلَيْلَةِ القدر. أضواء البيان (8/ 164).
وقال الشيخ عطية سالم -رحمه الله-:
فالدوابُّ تعلم أنَّ هناك ساعة، وتعرف أنَّها ستكون يوم الجمعة، وتعرف أنَّها بعد الفجر، وقبل طلوع الشمس، ونحن ما كُنَّا نعرف هذا. شرح الأربعين النووية (78/ 8).

قوله: «شَفَقًا مِن السَّاعةِ»:
قال المناوي -رحمه الله-:
قوله: «شَفَقًا» أي: خوفًا وفزعًا «من» قيام «الساعة»؛ فإنَّه اليوم الذي يُطوى فيه العالَم، وتُخَرَّب الدنيا، وتنبعث فيه الناس إلى منازلهم من الجنة والنار، والساعة: اسم عَلَم ليوم القيامة، سُمِّيت به لقربها، ووصفها بالقيام لأنها اليوم ساكنة، وإذا أراد الله إيجادها اتصفت بالحركة. فيض القدير (3/ 494).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «شَفَقًا» أي: خوفًا «من الساعة» أي: من قيام القيامة، وإنما سُمِّيت لوقوعها في ساعة. مرقاة المفاتيح (3/ 1014).
وقال الرافعي -رحمه الله-:
قوله: «شَفَقًا من الساعة» أي: خوفًا، كأنَّها أُعْلِمَت أنَّها تقوم يوم الجمعة، فتخاف هي قيامها كل جمعة. شرح مسند الشافعي (2/8).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
قوله: «مِن» قيام «السَّاعة»، وهذا الحديث: يدل على أنَّ للحيوانات وغيرها من الدوابِّ عقولًا يدركون بها الأمور المستقبلة، وقد يخالف هذا ما قاله أصحابنا (الشافعية) وغيرهم: إنَّ الهِرَّة ونحوها من الدوابِّ لا تُضْرَب على فسادٍ إلا في حال إفسادها، وأما بعده في وقت آخر فلا، يعني: لأنها ليس لها عقل تُدْرِك به أنَّ هذا الضَّرْب؛ لما تقدَّم من الفساد.
وقد يُؤخَذ من خوفها من القيامة: أنَّها تحشر يوم القيامة، ويُؤخَذ للجَمَّاء (خلاف القرناء) من القرناء كما في الحديث، ويدل عليه قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ ...} ثم قال: {إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} الأنعام: 38. شرح سنن أبي داود (5/ 450).

قوله: «إلا الجن والإنس»:
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «إلا الجنَّ والإنْسَ» بالنَّصْب؛ لأنه مُستثنى من قوله: «وهي مُسيخَةٌ» وهو كلام موجب، والمُسْتثنى يَنْتصبُ إذا كان بعد (إلا) غير صفة في كلام مُوجب. شرح أبي داود (4/ 363).
وقال الباجي -رحمه الله-:
قوله: «إلا الجن والإنس» استثنى هذين النوعين من كل دابة، وهو استثناء من الجنس؛ لأن اسم الدابة واقع على كل ما دبَّ ودَرَج؛ إذ هذا الجنس لا يصيخ يوم الجمعة إشفاقًا من الساعة؛ لأنَّه قد علم أنَّ بين يدي الساعة أشراطًا ينتظرها.
وهذا عندي ليس بالبيِّن؛ لأنَّا نجد منها ما لا يصيخ، ولا علم له بالأشراط، وقد كان الناس قبل أنْ يعلموا بالأشراط على حالتهم التي هم عليها لا يصيخون. المنتقى شرح الموطأ (1/ 201).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
والحكمة في إخفاء ذلك عن الجن والإنس: أنَّهم مكلَّفون، ولا سيما بالإيمان بالغيب، فإذا كُوشِفُوا بشيء من ذلك اختلَّت قاعدة الابتلاء، وحق القول عليهم بالاعتداء، ثم إنَّهم لا يستطيعون له سمعًا إن ظهر لهم. الميسر في شرح مصابيح السنة (1/ 333).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
فإنْ قيل: لأيِّ شيء لا تصيخُ الجنُّ والإنسُ؟ قلنا: لأنَّهم مُكَلَّفون؛ فلذلك لم يعلمهم اللهُ بذلك قَطْعًا...؛ ولأنَّهم لو سمعوه لازدجروا، وإنَّما يدعهم ليطيع مَنْ يطيع، ويعصي مَنْ يعصي. المسالك في شرح موطأ مالك (2/ 464).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
قوله: «إلا الجن والإنس» فإنَّهم لا يعلمون ذلك. فتح الإله في شرح المشكاة (5/215).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
والصواب: أنَّهم لا يلهمون بأنَّ هذا يوم يحتمل وقوع القيامة فيه، والمعنى: أنَّ غالبهم غافلون عن ذلك، لا أنَّهم لا يعلمون، -والله أعلم-. مرقاة المفاتيح (3/ 1014).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
والظاهر: أنَّ المراد بالإنس والجن: الأكثر، فإنَّ الأنبياء والمرسلين والصحابة والصديقين والصالحين الذين أيقظهم الله تعالى من الغفلة: أسكن الخوف المستقر في قلوبهم في يوم الجمعة وغيرها، من هول الْمُطَّلَع (أي: الموْقِف يوم القيامة) وأهوال يوم القيامة، والوقوف بين يدي الله تعالى. شرح سنن أبي داود (5/ 450).
وقال المظهري -رحمه الله-:
يعني: أَلْهَمَ الله جميعَ الدوابِّ أنَّ يومَ القيامةِ يقومُ يومَ الجمعةِ بينَ الصبحِ وطلوعِ الشمسِ، ينتظرونها كلَّ جمعةٍ، وأخفاها عن الجِنِّ والإنس؛ لأنهم مأمورون بالإيمان بالغَيْبِ، ولو عَلِمُوا متى تكونُ القيامةُ لم يكنْ إيمانُهم بالغيب؛ ولأنهم لو علموا متى تكون القيامةُ تَنغَّصَ عليهم عيشُهم، ولم يُحَصِّلُوا من القوتِ ما يعيشون به. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 316).
وقال الغماري -رحمه الله-:
وقد كان بعض كبار الصحابة يظل طول يوم الجمعة خائفًا مترقبًا لقيام الساعة، ولا يحصل له اطمئنان إلا بعد غروب شمسها. المداوي لعلل الجامع الصغير وشرحي المناوي (1/ 395).

قوله: «وفيه ساعةٌ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «وفيه» أي: في جنس يوم الجمعة. مرقاة المفاتيح (3/ 1014).
وقال الباجي -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «فيه ساعة» يقتضي جزءًا من اليوم، غير مُقدَّر، ولا مُعيَّن. المنتقى شرح الموطأ (1/ 200).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «وفيه ساعة» أي: في يوم الجمعة ساعةٌ، والساعة: اسمٌ لجزء مخصوص من الزمان، ويَرِدُ على أنحاء:
أحدها: يطلق على جزء من أربعة وعشرين جزءًا؛ وهي مجموع اليوم والليلة، وتارة تطلق مجازًا على جزء ما غير مُقدَّر في الزمان فلا يتحقق، وتارة تطلق على الوقت الحاضر، ولأرباب النجوم والهندسة وضع آخر؛ وذلك أنهم يقسمون كل نهار وكل ليلة باثني عشر قسمًا، سواء كان النهار طويلًا أو قصيرًا، وكذلك الليل، ويُسمُّون كل ساعة من هذه الأقسام ساعةً؛ فعلى هذا: تكون الساعة تارةً طويلة، وتارة قصيرة؛ على قدر النهار في طوله وقصره، ويسمون هذه الساعات: الْمُعوَجة، وتلك الأولى مُستقيمة. شرح أبي داود (4/363-364).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
اختلف الناس في وقتها (أي: ساعة الإجابة في الجمعة)...، فذهب بعضُهم إلى أنَّها من بعد العصر إلى الغروب...، وذهب آخرون إلى أنَّها من وقت خروج الإمام إلى تمام الصلاة، وذهب آخرون إلى أنها في وقت الصلاة نفسها من حين تقام إلى حين تتم...، وقيل: هي من حين يجلس الإمام على المنبر، ويحرم البيع إلى انقضاء الصلاة، وقيل: من حين يقوم الإمام يخطب إلى حين انقضاء الصلاة، وقيل: آخر ساعةٍ من يوم الجمعة، وقد رُوِيَت في هذا كله آثار عن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- مُفَسِّرة لكل قول من هذه الأقاويل. إكمال المعلم (3/ 244).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
وروى مسلم: «أنَّها حين يجلس الإمام على المنبر حتَّى تقوم (يفرغ من) الصلاة» وهو أصحُّه، وبه أقول؛ لأنَّ ذلك العمل في ذلك الوقت كله صلاة، فينتظم به الحديث لفظًا ومعنىً. المسالك في شرح موطأ مالك (2/ 465).
وقال النووي -رحمه الله-:
الصحيح بل الصواب: ما رواه مسلم من حديث أبي موسى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أنَّها ما بين أنْ يجلس الإمام إلى أنْ تُقضى الصلاة». شرح صحيح مسلم (6/ 140-141).
وقال ابن قدامة -رحمه الله-:
قيل: أخفى الله تعالى هذه الساعة ليجتهد عباده في دعائه في جميع اليوم طالبًا لها، كما أخفى ليلة القدر في ليالي رمضان، وأولياءه في الخَلْق؛ ليحسن الظن بالصالحين كلهم. المغني (2/ 206).
وقال المغربي -رحمه الله-:
والحكمة في إبهامها وإبهام ليلة القدر: بَعْث الدَّواعي على الإكثار من الصلاة والدعاء، ولو بُيِّنت لاتَّكل الناس على ذلك، وتركوا ما عداها. البدر التمام شرح بلوغ المرام (3/ 460).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
قد رُوِي عن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- في تعيينها أحاديث متعددةٌ: ومن أغربها: أنَّ ساعة الإجابة هي نهار الجمعة كله، وهو من روايةٍ هانئ بن خالدٍ عن أبي جعفر الرازي عن ليث عن مجاهد عن أبي هريرة عن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: «الساعة التي في يوم الجمعة ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس». فتح الباري (8/ 293).
وقال ابن الجزري -رحمه الله-:
والذي أعتقده أنَّها وقت قراءة الإمام الفاتحة في صلاة الجمعة إلى أن يقول: آمين، جمعًا بين الأحاديث التي صحت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كما بينته في غير هذا الموضع. الحصن الحصين (ص:77).
وقال ابن حجر بعد أنْ ذكر (42) قولًا في ساعة الإجابة يوم الجمعة:
فهذا جميع ما اتصل إليَّ من الأقوال في ساعة الجمعة، مع ذكر أدلتها، وبيان حالها في الصحة والضعف، والرفع والوقف، والإشارة إلى مأخذ بعضها، وليست كلها متغايرة من كل جهة، بل كثير منها يمكن أنْ يتَّحد مع غيره.
ثم ظفرتُ بعد كتابة هذا بقول زائد على ما تقدَّم، وهو غير منقول، استنبطه صاحبنا العلامة الحافظ شمس الدين الجزري، وأذن لي في روايته عنه في كتابه المسمى (الحصن الحصين) في الأدعية؛ لما ذكر الاختلاف في ساعة الجمعة، واقتصر على ثمانية أقوال مما تقدَّم، ثم قال ما نصه: والذي أعتقده أنَّها وقت قراءة الإمام الفاتحة في صلاة الجمعة إلى أن يقول: آمين؛ جمعًا بين الأحاديث التي صحَّت، كذا قال، ويخدش فيه: أنَّه يفوت على الداعي حينئذٍ الإنصات لقراءة الإمام، فليُتَأَمَّل. فتح الباري (2/ 421).
وقال الباجي -رحمه الله-:
قوله: «وفيه ساعة...» إخبار عن فضيلة اليوم، وعظيم درجته؛ لاختصاصه بهذه الساعة. المنتقى شرح الموطأ (1/ 201).

قوله: «لا يُصادِفُها عبدٌ مُسلِمٌ»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«لا يُصَادِفُهَا» كذا في مسند الشافعي، ورواية في الموطأ، ورواية مسلم: «لا يوافقها»، والمصادفة والموافقة سواء، «عبدٌ مُسْلِمٌ» مؤمن. شرح سنن أبي داود (5/ 451).
وقال الرافعي -رحمه الله-:
قوله: «لا يصادفها» أي: لا يجدها، ولا يوافيها، وهو كقوله في الحديث الأول: «لا يوافقها». شرح مسند الشافعي (2/ 8-9).

قوله: «وهو يُصَلِّي»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
قوله: «وهو يُصَلِّي» رواية مسلم: «قائم يصلي». شرح سنن أبي داود (5/ 451).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وهو يصلي» حقيقةً أو حُكْمًا بالانتظار، أو معناه: يدعو. مرقاة المفاتيح (3/ 1014).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «وهو يصلي» جملة حالية. شرح أبي داود (4/ 364).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
قوله: «يُصَلِّي» اختلف العلماءُ في تأويل هذا اللَّفظ كاختلافهم في تَعْيِينِ الساعة؛ فقيل: إنَّ «يصلِّي» بمعنى: أنَّ له حُكم المُصلِّي، ويصلحُ أن يُتَأوَّلَ أيضًا «يُصَلِّي» بمعنى: يَدْعُو، وذهب إلى ذلك جماعة من الْمُتَأخِّرينَ في معنى «يُصَلِّي» أي: يواظبُ. المسالك في شرح موطأ مالك (2/ 460).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
مَن قال: إنَّ منتظِر الصلاة في صلاةٍ صحيحٌ، لكن لا يقال فيه: قائمٌ، وقول: «يصلي» فإنَّ ظاهر هذا اللفظ حمله على القيام الحقيقي في الصلاة الحقيقية، وقد روى عبد الرزاق في كتابه: (نا) يحيى بن زمعة: سمعتُ عطاءً يقول: سمعتُ أبا هريرة يقول: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «في يوم الجمعة ساعةٌ لا يوافقها عبدٌ وهو يصلي، أو ينتظر الصلاة، يدعو الله فيها بشيء إلا استجاب له»، وهذا غريبٌ، ويحيى بن زمعة هذا غير مشهورٌ، ولم يعرفه ابن أبي حاتم بأكثر من روايته عن عطاءٍ، ورواية عبد الرزاق عنه، وهذه الرواية تدل على أنَّ المراد بالصلاة: حقيقة الصلاة؛ لأنه فرَّق بين المصلي، ومنتظر الصلاة، وجعلهما قسمين، وتدل على أنَّ ساعةَ الجمعة يمكن فيها وقوع الصلاة وانتظارها، وهذا بما بعد الزوال أشبه؛ لأنَّ أول تلك الساعة يُنْتَظَر فيها الصَّلاة، ويُتَنَفَّل فيها بالصلاة، وآخرها يُصلَّى فيهِ الجمعة. فتح الباري (8/ 307).

قوله: «يسألُ اللَّهَ حاجةً، إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاها»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«يسألُ اللَّهَ» تعالى «حاجةً» إطلاقه يشمل حوائج الدنيا والآخرة، «إلَّا أعطاهُ إيَّاها»، وفي رواية للترمذي: «ولا يستعيذ من شيء إلا أعاذه منه، ما لم يَدْعُ بإثم أو قطيعة رحم»؛ كما في رواية مسلم. شرح سنن أبي داود (5/ 451-452).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «يسأل الله» حال أو بدل، «شيئًا» من أمر الدنيا والآخرة، «إلا أعطاه إياه» بالشروط المعتبرة في آداب الدعاء. مرقاة المفاتيح (3/ 1014).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «يَسألُ الله حاجةً» جملة حالية أيضًا (يعني كقوله: «وهو يصلي»)، وهما حالان متداخلتان أو مترادفتان. شرح أبي داود (4/ 364).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وفيه: أنَّ خير الأيام يوم الجمعة، وهذا على الإطلاق والعموم، وفي ذلك دليل على أنَّ الأيام بعضها أفضل من بعض، ولكن الفضائل في ذلك لا تُعلَم إلا بتوقيف، ولا تُدرَك بقياس...
وفيه: الخبر عن خَلْق آدم، وهبوطه إلى الأرض، وإنَّه قد تِيْبَ عليه من خطيئته؛ وذلك -والحمد لله- ثابت بنص التنزيل الذي لا يجوز عليه التحريف والتبديل، ولكن ليس في القرآن أنَّ ذلك كان يوم الجمعة.
وفيه: دليل على إباحة الحديث عما يأتي ويكون، وهذا من علم الغيب، فما كان منه عن الأنبياء الذين يجوز عليهم إدراك بعضه من جهة الرسالة، أو عمن أضاف إلى الله ذلك بخبر كتبه أو رسله، فذلك جائز، وقيام الساعة من الغيب الذي لم يطلع عليه أحد على حقيقة، ونحن وإن علمنا أنَّها تقوم يوم جمعة بهذا الحديث؛ فلسنا ندري أي جمعة هي؟...
وفي هذا الحديث: دليل على أنَّ الإنس والجن لا يعلمون من معنى الساعة ما يعرف غيرهم من الدوابِّ، وهذا أمر تَقْصُرُ عنه أفهامنا، ومِن هذا الجِنس مِن العلم لم يؤتَ الناس منه إلا قليلًا. التمهيد (23/ 40-42).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده:
منها: بيان فضل يوم الجمعة؛ لاختصاصه بساعة الإجابة.
ومنها: فضل الدعاء، واستحباب الإكثار منه.
ومنها: ما قيل: إنه استُدِلَّ به على بقاء الإجمال بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتُعُقِّب بأنَّه لا خلاف في بقاء الإجمال في الأحكام الشرعية، لا في الأمور الوجودية، كوقت الساعة، فهذا لاختلاف في إجماله، والحكم الشرعي المتعلق بساعة الجمعة وليلة القدر، وهو تحصيل الأفضلية- يمكن الوصول إليه، والعمل بمقتضاه باستيعاب اليوم والليلة، فلم يَبْقَ في الحكم الشرعي إجمال، -والله تعالى أعلم-. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (16/ 310-311).

وللاستفادة من الروايات الأخرى ينظر (هنا) و (هنا)


ابلاغ عن خطا