«إنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عليكم عندَ وفَاتِكُمْ بِثُلُثِ أموالِكُم، زيادةً لكم في أعمالِكُم».
رواه أحمد برقم: (27482)، من حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه-.
ورواه ابن ماجه برقم: (2709) واللفظ له، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
ورواه الطبراني في الكبير برقم: (94)، والدارقطني برقم: (4289)، وابن أبي شيبة برقم: (30917)، من حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه-.
إرواء الغليل برقم: (1641)، صحيح الجامع برقم: (1733)
شرح مختصر الحديث
.
شرح الحديث
قوله: «إنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عليكم»:
قال السندي -رحمه الله-:
قوله: «إنَّ اللهَ تَصَدَّقَ عليكم» أي: جعل لكم، وأعطى لكم أنْ تتصرَّفُوا فيها، وإنْ لم ترضَ الورثة. كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجه (2/ 158).
وقال الشيخ عبد القادر شيبة الحمد -رحمه الله-:
قوله: «إنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عليكم» أي: أجاز لكم أنْ تُوصوا، وتتصرَّفوا. فقه الإسلام شرح بلوغ المرام (6/ 175).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «إنَّ اللهَ» -عز وجل- «تَصَدَّقَ عليكم» أي: رخَّصَ لكم، وأَذِنَ لكم. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (15/ 539).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
قوله: «أنَّ اللهَ تعالى تَصَدَّقَ عليكم...» أي: مكَّنكم من التصرُّف فيه (المال) بالوصية، وغيرها، من نحو: هبة، ووقف، قهرًا على الوارث. السراج المنير شرح الجامع الصغير (1/ 358).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
المراد: رخَّصَ لكم أنْ تُوصوا بثلث أموالكم، وليس المراد مطلق الصدقة؛ لأنَّ كل أموالنا صدقة وتفضُّل من الله -عز وجل- علينا، القليل منها والكثير، الذي عند الموت، والذي في الحياة، لكن المراد بقوله: «تَصَدَّقَ» أذن لكم تفضُّلًا منه. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (4/ 413).
وقال الكاساني -رحمه الله-:
أي: تَصَدَّقَ باستيفاء ملككم عليكم في ثلث أموالكم زيادة على أعمالكم، أخبر عن منةِ الله تعالى على عباده أنَّه استبقى لهم الملك في ثلث أموالهم؛ ليكون وسيلة إلى الزيادة في أعمالهم بالصرف إلى وجوه الخير؛ لأنَّ مثل هذا الكلام يخرج مخرج الإخبار عن المنة، وآخر أعمارهم مرض الموت، فدل على زوال ملكهم عن الثلثين؛ إذ لو لم يزل، لم يكن ليمُنَّ عليهم بالتصدُّق بالثلث بل بالثلثين؛ إذ الحكيم في موضع بيان المنة لا يترك أعلى المنتين، ويذكر أدناهما، وإذا زال ملكه عن الثلثين يؤول إلى ورثته؛ لأنهم أقرب الناس إليه، فيرضى بالزوال إليهم؛ لرجوع معنى الملك إليه بالدعاء والصدقة، وأنواع الخير. بدائع الصنائع (3/ 219).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
«إنَّ الله تصدق...» ولم يخص من كان له وارث أو غيره. شرح صحيح البخاري (8/ 149).
وقال الكماخي -رحمه الله-:
وإنما قال: «تَصَدَّقَ عليكم...» إلى آخره؛ لأنَّ القياس يقتضي أنْ لا تجوز الوصية؛ لأنَّها تمليك شيء مضاف إلى حال زوال الملك، ولو أضاف أحد التمليك إلى حال قيام الملك، بأنْ قال: ملَّكتُكَ غدًا، كان باطلًا، فهذا أولى. المهيأ في كشف أسرار الموطأ (3/ 385).
وقال العلقمي -رحمه الله-:
قيل: إنَّ ذلك مختصٌّ بالمسلمين؛ لأنهم الذين يُزداد في أعمالهم، فحينئذٍ لا تصح وصية الكافر، وفيه نظر؛ لأنَّ أصحابنا (الشافعية) اتفقوا على صحة وصيته؛ لأنَّها تصرُّفٌ في المال، فتصح من كل مَن له التصرف في المال، وهي تبرعٌ ممن له أهلية التبرع، فتصح وصية الذمي والحربي، حيث تصح من المسلمين. الكوكب المنير شرح الجامع الصغير، مخطوط (2/54).
قوله: «عندَ وفَاتِكُمْ»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «عند وفاتكم» قريب حلولها بكم. التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 285).
وقال المناوي -رحمه الله-:
قوله: «عند وفاتكم» أي: موتكم. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 248).
وقال الشيخ عبد القادر شيبة الحمد -رحمه الله-:
«عند وفاتكم» أي: في مرض موتكم. فقه الإسلام شرح بلوغ المرام (6/ 175).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
ومعنى: «عند وفاتكم» أي: عند قُرْب وفاتكم، بظهور مقدمات الموت وأسبابه. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (15/ 539).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
ففي هذا الحديث: دليل على أنه يجوز للإنسان أن يُوصي بالثلث ولو عند الموت؛ لقوله: «عند وفاتكم»، حتى في مرض الموت يجوز أن يُوصي بالثلث، ويجوز أيضًا أنْ يُوصي بالثلث منقلًا بعد موته؛ لحديث سعد بن أبي وقاص، فالوصية تكون بعد الموت، والعطية تكون في مرض الموت، والحديث يقول: «عند وفاتكم» يحتمل أنَّ المراد بالعندية: العندية السابقة، أو العندية اللاحقة، فإنْ كان المراد العندية اللاحقة فهي وصية، وإنْ كان المراد بالعندية: العندية السابقة فهي العطية؛ لأن العلماء يقولون: إنَّ التبرع بالمال في مرض الموت المخوف يُسمَّى عطية، ولا ينفذ منه إلا الثلث فقط، ولغير وارث. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (4/ 413).
قوله: «بِثُلُثِ أموالِكُم»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «بثلث أموالكم» لما كان مال الميت قد جعله الله لوارثه، فكان قد خرج عنه، فتصدَّق عليه تعالى بإباحة ثُلُثٍ ينفقه في وجوه الخير. التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 285).
وقال المناوي -رحمه الله-:
قوله: «بثلث أموالكم» أي: مكَّنكم من التصرف فيها حالتئذٍ بالوصية، وغيرها، فتصح الوصية بالثلث قهرًا على الوارث. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 248).
وقال الشيخ عبد القادر شيبة الحمد -رحمه الله-:
«بثلث أموالكم» أي: بثلث ما تخلِّفونه وراءكم من مالٍ. فقه الإسلام شرح بلوغ المرام (6/ 175).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«بثلث أموالكم» أي: في أنْ تتصرَّفوا في ثلث أموالكم من التبرعات؛ وقفًا وهبةً وصدقةً، حالة كون ذلك من الثلث. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (15/ 539).
وقال السندي -رحمه الله-:
«بثلث أموالكم» أي: جعل لكم التصرُّف فيه، دون الورثة، بخلاف الثلثين. حاشية السندي على مسند أحمد (5/644).
قوله: «زيادةً لكم في أعمالِكُم»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «زيادةً لكم في أعمالكم» في أعمال البر التي قدمتم. التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 285).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«زيادة لكم في أعمالكم» فأجر الوصية بذلك من أعمال الميت التي يُثاب عليها إنْ قُبِلَت. وأَخَذَ جمعٌ من مُخاطبة الصَّحْبِ بذلك، وجعله زيادة في العمل؛ أنَّه خاصٌّ بالمسلمين؛ لاختصاصهم بزيادة الأعمال، ومذهب الشافعية خلافه، ومن خصائص نبينا -صلى الله عليه وسلم- أنَّ له أنْ يُوصي بالتصدُّق بجميع ماله في سائر أحواله من غير حرمة ولا كراهة؛ لأنه لا يورث كسائر الأنبياء. فيض القدير (2/ 220).
وقال الشيخ عبد القادر شيبة الحمد -رحمه الله-:
قوله: «زيادة في حسناتكم» أي: لتكون لكم فرصة اكتساب زيادة الثواب. فقه الإسلام شرح بلوغ المرام (6/ 175).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «زيادة لكم» في الأجر «في أعمالكم» أي: أجور أعمالكم التي عملتموها في حال صحتكم. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (15/ 539).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
وقوله: «زيادة» يحتمل أنْ تكون حالًا من «ثلث»، ويُحتمل أنْ تكون مفعولًا من أجله، أي: من أجل الزيادة في حسناتكم. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (4/ 413).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
استُحب جماعة الوصية بالثلث، واحتجوا بحديث ضعيف عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: «جعل الله لكم في الوصية ثلث أموالكم زيادة في أعمالكم»، وهو حديث انفرد به طلحة بن عمرو عن عطاء عن أبي هريرة، وطلحة ضعيف، روى عنه هذا الخبر وكيع وابن وهب وغيرهما، ولا خلاف بين علماء المسلمين أنَّ الوصية بأكثر من الثلث لا تجوز. التمهيد (8/382- 383).
وقال ابن تيمية-رحمه الله-:
وأَمّا إِن كان المُوصى به أَكثر مِن الثلث كان الزائد موقوفًا، فإن أَجازه الورثة جاز، وإلا بطل.الفتاوى الكبرى(4/ ٣٧٥)
وقال العيني -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
قلتُ: الاستدلال بحديث سعد (أي حديث: «الثلث والثلث كثير») المذكور الذي اتفق على صحته كافٍ، والحديث الضعيف إذا قُرن بالصحيح، يزداد قوةً، ويرتفع اعتضادًا. نخب الأفكار (16/ 176).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
في هذا الحديث فوائد، منها:
إثبات الصدقة مِن الله؛ لقوله: «إنَّ اللهَ تَصَدَّق»، وقد جاء مثلها في حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حين سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُم جُنَاحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِن الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُم أَنْ يَفْتَنَكُم الَّذِينَ كَفَرُوا} النساء: 101، فقال: يا رسول الله، كيف نقصر وقد أَمِنَّا؟ فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «صدقة، تَصَدَّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته»، ففيه إذن إثبات التصدُّق من الله، وهل نأخذ من إثبات التصدُّق أن نسميه بالمتصدق؟ لا، بناء على القاعدة العامة من أنه: لا يُؤخذ من الصفة اسم، ويُؤخذ من الاسم صفة، يعني: كل اسم فهو متضمن لصفة، وليس كل صفة تتضمن اسمًا، وذلك لأن الصفات أعم من الأسماء وأشمل؛ ولهذا تكون صفات الله تعالى حتى فيما يقع منه الشر، فالله تعالى خلق كل شيء الخير والشر، فالصفة إذن أعم وأوسع.
ومن فوائد الحديث: أنه لا يجوز للمريض مرض الموت أن يتطوع بأكثر من الثلث؛ لقوله: «وبثلث أموالكم». فإن قال قائل: ما وجه هذا؟ قلنا: لأن المقام مقام الامتنان، ومقام الامتنان يذكر فيه أعلى ما يكون منة، ولو كان هناك منة أكثر من الثلث؛ لكان مقتضى الحال أنْ تُذكر، وإلا لو قال قائل: الحديث ليس فيه النهي عن أكثر من الثلث، قلنا: نعم، لكن لَمَّا كان في مقام الامتنان كان المذكور فيه على وجوه الامتنان، ولو كان هناك وجه أعلى لبيَّنه.
ومن فوائد الحديث: جواز تبرع الإنسان عند الموت؛ لقوله: «عند وفاتكم» بالثلث فأقل، ولكن يشترط في هذا شرط؛ وهو أنْ يكون يعي ما يقول، فإن كان لا يعي ما يقول، مثل أنْ وصل به المرض إلى حالٍ صار يهذي، ولا يحسن ما يقول، ولا يدري ما يقول، فهنا لا يصح تصرفه ولا تبرعه؛ لأنَّه ليس له عقل.
ومن فوائد الحديث: أنَّ الإنسان يؤجر على ما قدَّمه من العمل بعد الوفاة؛ لقوله: «زيادة في حسناتكم» خصوصًا إذا فسرنا العندية بأنها العندية اللاحقة، ويشهد لهذا ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له».
ومن فوائد الحديث: بيان منَّة الله وفضله على عباده؛ وذلك بالصدقة؛ حيث أذن لهم أن يتصدقوا بالثلث، يعني: فأقل من أجل زيادة الحسنات. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (4/413- 414).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
والحديث دليل على شرعية الوصية بالثلث، وأنَّه لا يمنع منه الميت، وظاهره الإطلاق في حق مَن له مال كثير، ومَن قلَّ ماله، وسواء كانت لوارث أو غيره، ولكن يقيده ما سلف من الأحاديث التي هي أصح منه، فلا تنفذ للوارث، وإليه ذهب الفقهاء الأربعة وغيرهم، والمؤيد بالله روى عن زيد بن علي، وذهبت الهادوية إلى نفوذها للوارث، وادعى فيه إجماع أهل البيت، ولا يصح هذا. سبل السلام (2/ 157).