«إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأُمَّتي عمَّا وسْوَسَتْ، أو حَدَّثَتْ به أنفسَهَا، ما لم تَعْمَلْ به أو تَكَلَّمْ».
رواه البخاري برقم: (6664) واللفظ له، ومسلم برقم: (127)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«وَسْوَسَتْ»:
أي: ما خطر في قلوبهم من الخواطر الرديئة. مرقاة المفاتيح، للقاري (1/ 135).
وقال ابن سيده -رحمه الله-:
والوسوسة والوسواس: حديث النفس. المحكم والمحيط الأعظم(8/ 539).
وقال الفيومي-رحمه الله-:
والوَسْوَاس: بالفتح اسم مِن وَسْوَسَتْ إلَيْهِ نَفْسُهُ إذا حَدَّثَتْهُ. المصباح المنير(2/ 658).
شرح الحديث
قوله: «إن الله تجاوز لأمتي»:
قال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «تجاوز»: أي عفا وغفر. المفاتيح في شرح المصابيح (1/ 152).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
أي: لم يؤاخذها. شرح سنن أبي داود (9/ 656).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«إن الله تجاوز» مِنْ جازه إذا تعداه وعبَر عليه، وهو هنا بمعنى: ترك، أو رفع. الفتح المبين بشرح الأربعين (ص: 606).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«إنَّ الله تجاوز» أي: عفا، مِنْ جازه يجوزه إذا تعداه، وعبَر عليه «لأمتي» أمة الإجابة، وفي لفظ رواية البخاري: «تجاوز لي عن أمتي». فيض القدير (2/ 218).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«لأمتي» احتراز عن غير أمته -عليه السلام- من الأمم. المفاتيح في شرح المصابيح (1/ 152).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
وظاهر الحديث أنّ هذا من خصائص هذِه الأمة؛ تكريمًا لها وتشريفًا لنبيها، بخلاف ما كان على الأمم التي قبلها من المؤاخذة بوساوس النفوس الذي لا طاقة لنا بالخلاص منه. شرح سنن أبي داود (9/ 656).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
أي: أمة الإجابة، وفي رواية: «تجاوز لي عن أمتي» أي: لم يؤاخذهم بذلك لأجلي، فله المنة العظمى التي لا منتهى لها علينا. مرقاة المفاتيح (1/ 135).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
وفيه إشعار باختصاصها بذلك، بل صرَّح بعضهم بأنه من خصائص هذه الأمة. مرعاة المفاتيح (1/ 141).
قوله: «عمّا وسوست، أو حدثت به أنفسها»:
قال المظهري -رحمه الله-:
وسوس يوسوس وسوسة: إذا خطر وظهر في القلب خاطر قبيح، فما يظهر بالقلب من الخواطر الدنية المذمومة يسمى وسوسة، وما كان من الخواطر المرضية الحسنة يسمى إلهامًا. المفاتيح في شرح المصابيح (1/ 152).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
«ووسوست» على هذا بمعنى: حدثت. مصابيح الجامع (5/ 424).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
أي: وسوست النفوس به صدورها، وهي إما ضرورية، وهي: التي يستجلبها الطبع البشري من غير قصد، وإما اختيارية، وهي: التي تلقى في نفس المؤمن من تزيين المعصية والكفر.
والمراد بها في الحديث هي الاختيارية؛ لأن الضرورية معفو عن جميع الأمم إذا لم يصر عليه؛ لامتناع الخلو عنها، يعني: لا يؤاخذهم بما وقع في قلوبهم من القبائح «ما لم تعمل به أو تتكلم». شرح المصابيح (1/ 82).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«حدثت به أنفسها» بالنصب للأكثر، وبالرفع لبعضهم، أي: بغير اختيارها. إرشاد الساري (9/ 386).
وقال الطحاوي -رحمه الله-:
وكان الذي حدثنا هؤلاء جميعًا هذا الحديث عليه هو «حدثت به أنفسَهَا» بالنصب، فكان ذلك على معنى حديثها به أنفسها، وأهل اللغة يخالفونهم في ذلك، ويذكرون أنَّه «حدثت به أنفسُهُا» بالرفع، وأنَّ أنفسها حديثها به عن غير اختيارها إياه، ولا اجتلابها له منها. مشكل الآثار (4/ 181).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله- مُعلِّقًا:
يعني: أن الذي لا يؤاخذ به هي الأحاديث الطارئة التي لا ثبات لها، ولا استقرار في النفس، ولا ركون إليها. المفهم (1/ 340).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
فالوسوسة ملغاة مطرحة لا حكم لها، ما لم تستقر وتثبت. شرح صحيح البخاري (6/ 199).
وقال الطوفي -رحمه الله-:
المعفو عنه في هذا الحديث هو الخطرات والهمم الضعيفة، بخلاف ما عقدت عليه العزائم. التعيين في شرح الأربعين (1/ 38).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
محمول على ما إذا لم يستقر؛ وذلك معفو عنه بلا شك؛ لأنه يمكن الانفكاك عنه بخلاف الاستقرار. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (1/ 111).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
والمراد بحديث النفس ما لم يبلغ حد الجزم، ولم يستقر، فأما إذا عقد واستقر عزمه عليه فيؤاخذ، حتى لو عزم على ترك واجب أو فعل محرم ولو بعد سنين عصى الآن. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (13/ 395).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
والتحقيق في هذا المقام: أن الخواطر وهواجس النفس لا يؤاخذ بها في ملة من الملل، وأن الذي يخطره الإنسان بقلبه من المعاصي باختياره، إن لم يصمم عليه العزم، فهو الذي لا تؤاخذ به هذه الأمة، بخلاف سائر الأمم. والذي صمم العزم عليه يؤاخذ به بهذا النص وأمثاله. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (1/ 92).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
والمعنى: ما حدثت به نفسه، وهو ما يخطر بالبال، والوسوسة الصوت الخفي، ومنه وَسْواسُ الحَلْيِ لأصواتها. وقيل: ما يظهر في القلب من الخواطر إن كانت تدعو إلى الرذائل والمعاصي تسمى وسوسة، فإن كانت تدعو إلى الخصال الرضية والطاعات تسمى إلهامًا، ولا تكون الوسوسة إلا مع التردد والتزلزل من غير أن يطمئن إليه أو يستقر عنده. إرشاد الساري (4/ 308).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
والمراد بالوساوس ما كانت من أمور الدنيا، وأما إذا كانت من أمور الآخرة فلا، وقد قال عمر بن الخطاب: وأُجَهّزُ جيشي وأنا في الصلاة. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (4/ 383).
وقال المظهري -رحمه الله-:
اعلم أن الوسوسة ضرورية واختيارية، فالضرورية: ما يجري في القلب من الخواطر ابتداء من غير أن يقدر الإنسان على دفعه، فهذا معفو عن أمة محمد -عليه السلام- وعن جميع الأمم؛ لأن الله تعالى قال: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} البقرة: 286، الوسع: الطاقة والقدرة.
والاختيارية: الدوام والإصرار على ما يجري في الخاطر، بأن يردد ما يجري في القلب من الخواطر، ويقصد أن يعمل به ويتلذذ منه، بأن يجري في قلبه حب امرأة، ويدوم على ذلك الحب، ويقصد الوصول إلى تلك المرأة، أو يجري في قلبه قتل مَنْ يحرم قتله، أو يعزم على سرقة أو شرب خمر، وما أشبه ذلك من المعاصي، فهذا النوع اختياري؛ لأن الإصرار بما يجري في الخاطر والعزم على العمل به باختياره، فهذا النوع هو الذي عفا الله عنه من هذه الأمة دون سائر الأمم، تشريفًا وتكريمًا لنبينا -عليه السلام- وأمته.
اعلم أن اعتقاد الكفر والبدعة والشرك وظن السوء في حق المسلمين، فإذا ظهر في قلبه شيء من هذه الأشياء وتركه وندم عليه لم يؤخذ به، وإن أصر على شيء من هذه الأشياء يكون مأخوذًا به. المفاتيح في شرح المصابيح (1/ 152، 153).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
والحاصل: أن المراتب ثلاث: الهم المجرد؛ وهو يثاب عليه ولا يؤاخذ به، واقتران الفعل بالهم أو بالعزم، ولا نزاع في المؤاخذة به، والعزم؛ وهو أقوى من الهم، وفيه النزاع. فتح الباري (13/ 34).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
تحديث النفس بالشيء والوسواس به حركة في الباطن بتخييله وتمثيله، والنظر في تحصيله، ومنع ذلك من جولانه في الباطن لا يدخل تحت طوق العبد، وإنما غاية قدرته أن يعرض عن مساكنة ذلك، ولو أنه حدث نفسه بمعصية لم يؤاخذ، فأما إذا عزم على المعصية فإنه يخرج عن تحديث النفس، ويصير من أعمال القلب، فإن عقد النية على الفعل من عمل القلب، فحينئذٍ يأثم بنية السر.
وبيان الفرق بين الهمة والعزم أنه لو حدَّث نفسه وهو في الصلاة بقطعها لم تنقطع، فإذا عزم حكمنا بقطعها، وكذلك إذا نوى الإفطار فقد أفطر، وقد سُئل سفيان الثوري: أيؤاخذ العبد بالهمة؟ فقال: إذا كانت عزمًا. كشف المشكل (3/ 488).
قوله: «ما لم تعمل به أو تكلم»:
قال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«ما لم تعمل» أي: في العمليات بالجوارح «أو تكلم» أي: أو تتكلم في القوليات باللسان، ومن ذلك أن الشخص لا يؤاخذ بحديث النفس، ومحله إذا لم يبلغ حد الجزم، وإلا مؤاخذ به، حتى لو عزم على ترك واجب أو فعل حرام ولو بعد سنين أثم الآن. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (5/ 313، 314).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«ما لم تعمل» في العمليات بالجوارح «أو تكلم» في القوليات باللسان على وفق ذلك، وأصل تكلم تتكلم بمثناتين؛ حذفت إحداهما تخفيفًا. إرشاد الساري (4/ 308).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«ما لم تعمل» «ما» للدوام، يعني: ما جرى في خاطر الإنسان من قصد المعاصي لا يؤاخذه الله تعالى به إن لم يفعله ولم يقله، فإذا فعله أو تلفظ به أخذ به. المفاتيح في شرح المصابيح (1/ 152).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
أي: فالاعتبار بالوجود الخارجي قولًا أو فعلًا، لا الوجود الذهني، فإن قيل: لو أصر العبد على العزم على معصية، يعاتب عليه لا عليها، حتى لو نوى ترك الصلاة بعد عشرين سنة، وجزم عليه، عصى في الحال، قيل: ذلك لا يسمى وسوسة، ولا حديث نفس؛ بل عمل من أعمال القلب. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (16/ 163).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
فحديث النفس معفو عنه، فإذا تكلَّم به، أو عمل عُوقِب، وهل يعاقب على حديث النفس والعمل أو على العمل فقط؟ يحتمل ذلك.
إنْ قلتَ: حديث ابن عباس عند الشيخين وفيه: «من همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همَّ بها وعملها كتبها عنده عشر حسنات» الحديث، «وإن همَّ بسيئة فلم يعملها كتبها عنده حسنة كاملة، فإن عملها كتبها عنده سيئة واحدة» يقضي بالمحاسبة بحديث النفس؟
قلتُ: حديث الكتاب أفاد أنه تعالى تجاوز للأمة عن حديث النفس، والتجاوز لا يكون إلا عن ذنب، وهو غير منافٍ لحديث ابن عباس؛ إذ هو في بيان أن ترك السيئة مع الهمِّ بها حسنة، وليس فيه ما ينافي هذا، بل فيه بيان ما سكت عنه في هذا من أنه ترك السيئة مع الهمِّ بها حسنة. التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 283-284).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
الخواطر التي تَردُ على القلب إذا لم يسترسل معها الإنسان ويَطمئن إليها فإنها لا تضرهُ، سواء كانت هذه الخواطر فيما يتعلق بجلال الله -عزَّ وجلَّ- أو فيما يتعلق برسوله -صلى الله عليه وسلم-، أو فيما يتعلق بشهوة النَّفس وإراداتها، فإنها لا تَضرُّ الإنسان بشرط ألا يسترسل، بل إنِّ هذه الخواطر لا ترد إلا على قلبٍ سليمٍ، يهاجم الشيطان بها القلب حتى يُفسده؛ ولهذا لما شَكَا الصحابة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل هذه الخَواطِر، قال: «أَوجدتم ذلك» قالوا: نعم. قال: «ذلك صريح الإيمان»، يعني: خالصه؛ لأن الشيطان لا يَهجم على قلب فاسد، وإِنَّما يَهجم على القلوب الصالحة ليفسدها، ودواء ذلك أنْ تستعيذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم، وأن تنتهي، وأنْ تُثني على الله -عزّ وجلّ- بما هو أهله، فتقول: (الله أحدٌ صمدٌ لم يلدْ، ولم يُولد، ولم يكن له كفوًا أحدٌ)، استجارة بالله تعالى وانتهاء، ووصفًا لله تعالى بالكمال، وبعد ذلك تزول عنك شيئًا فشيئًا.تفسير سورة الأحزاب(ص: 432).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
والحديث دليل على أنَّه لا يقع الطلاق بحديث النفس، وهو قول الجمهور، وروي عن ابن سيرين والزهري ورواية عن مالك بأنه إذا طلق في نفسه وقع الطلاق. سبل السلام (2/ 258).