«إذا أصبحَ ابنُ آدمَ فإنَّ الأعضاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسانَ؛ فتقولُ: اتَّقِ اللَّهَ فينا؛ فإنَّما نحنُ بِكَ، فإنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وإنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا».
رواه الترمذي برقم: (2407) واللفظ له، وأحمد برقم: (11908)، والبيهقي في الشعب برقم: (4595)، وابن خزيمة في فوائد الفوائد برقم: (2)، وأبو يعلى الموصلي برقم: (1185)، وأبو داود الطيالسي في مسنده برقم: (2323) عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.
صحيح الترغيب برقم: (2871)، صحيح الجامع برقم: (351).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«تُكَفِّرُ»:
أي: تَذِلُّ وتخضع. الغريبين للهروي (5/ 1643).
أي: تتواضع وتخضع من تكفير الذمي، وهو أن يطأطئ رأسه، وينحني عند تعظيم صاحبه. الفائق للزمخشري (3/ 269).
شرح الحديث
قوله: «إذا أصبح ابن آدم»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«إذا أصبح ابن آدم» أي: دخل في الصباح، وهو مفتاح باب النجاح؛ لأن آفات اللسان إنما هي بمعاشرة الإخوان، وهي في النهار أكثر باعتبار أغلب الأزمان. مرقاة المفاتيح (7/ 3040).
قوله: «فإن الأعضاء كلها تكفِّر اللسان»:
قال محب الدين الطبري -رحمه الله-:
هكذا وقع «تُكَفِّرُ اللسان» ولعله: تستكف اللسان. غاية الأحكام (6/495).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فإن الأعضاء» أي: التي يتأتى منها العصيان أو مطلقها، فإن لها تعلُّقًا ما في الحركات والسكنات للإنسان، ويؤيده تأكيدها بقوله: «كلها». مرقاة المفاتيح (7/ 3040).
وقال الخليل بن أحمد الفراهيدي -رحمه الله-:
العُضْوُ والعِضْوُ -لغتان-، كلّ عظم وافر من الجسد بلحمه. العين (2/ 193).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
التكفير: أن يخضع الإنسان لغيره كما يُكَفِّرُ العِلْجُ للدَّهَاقِين؛ يضع يده على صدره، ويَتَطَامَن له. الميسر في شرح مصابيح السنة (3/ 1056).
وقال النووي -رحمه الله-:
معنى «تُكَفِّرُ اللِّسَان» أَي: تَذِلُّ وتَخْضعُ لَهُ. رياض الصالحين (ص: 429).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
أي: تذل وتخضع، والتكفير: هو أن ينحني الإنسان ويطأطئ رأسه قريبًا من الركوع، كما يفعل من يريد تعظيم صاحبه. النهاية (4/ 188).
وقال الصنعاني -رحمه الله- مُتعقِّبًا كلام ابن الأثير:
ولا يلائمه قوله: «فتقول: اتقِ الله فينا» فإنه ورد كالتفسير للتكفير، والأقرب أنه من التكفير التغطية، أي: الأعضاء تغطي ستر اللسان بما تعظها به، من قولها: اتقِ الله، وظاهره أنه قول حقيقي، ولا مانع منه، وإن لم نعلمه، ويحتمل التمثيل وأن الأعضاء لما كانت متابعة للسان في الخير والشر، وفي الاستقامة والاعوجاج كانت بمثابة من يناصح من أمره بيده. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 574).
وقال ابن علان -رحمه الله- مُعلقًا أيضًا على ابن الأثير:
كذا في النهاية، ونقله الطيبي وسكت عليه، قال بعض شراح الجامع الصغير: ولا مانع أنْ يكون التكفير هنا كناية عن تنزيل الأعضاء اللسان إذا أخطأ منزلة الكافر النعم، أو الخارج من الإِسلام إلى الكفر مبالغة، فهي تُكفِّره بهذا الاعتبار وبلسان الحال، ولا ينافي هذا قوله: «تقول...» إلخ، وكأنه الحامل لصاحب النهاية لِمَا جنح له، فإنه لولا توهمه المنافاة، ما اقتصر على ما ذكره، وقد عُلِمَ مما قررته، بل هو أبعد عن التأويل. دليل الفالحين (8/ 347).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
أي: يتواضع لها، من قولهم: كفر اليهودي، إذا خضع مُطَأْطِئًا رأسه، وانحنى لتعظيم صاحبه، مأخوذ من الْكَافِرَة، وهي الكاذبة التي هي أصل الفخذ، فإنه ينثني عليها. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (3/ 240).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
أي: تذل وتخضع، والتكفير هو أن ينحني الإنسان ويُطَأْطِئُ رأسه قريبًا من الركوع، كما يفعل من يريد تعظيم صاحبه. الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3124).
وقال السندي -رحمه الله-:
«تُكفِّر اللسان» من التكفير، بمعنى: الخضوع، أي: أنَّ الأعضاء كلها تطلب منه الاستقامة طلب مَنْ يخضع لغيره؛ ليفيض عليه بالمطلوب بواسطة الخضوع لديه. والمراد بالأعضاء الظاهرة، وهذا لا ينافي أن يكون المدار على إصلاح القلب، وأن تكون استقامة اللسان به، كما جاء «في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله». حاشية السندي على مسند أحمد (3/132).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
قيل: معناهُ: تَخْضَعُ له... وإنَّما خَضَعَتْ للِّسان؛ لأنَّه بريدُ القلب وتَرْجُمانُهُ والواسطةُ بينه وبين الأعضاءِ. الفوائد (1/ 81).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
والمراد: إطاعة الأعضاء وانقيادها لما يجري على اللسان؛ وذلك باعتبار كونه ترجمان القلب وخليفته، فحكمه حكمه. لمعات التنقيح (8/ 157).
وقال الزبيدي -رحمه الله-:
قوله: «تُكفِّر اللسان» كذا وقع في أكثر نسخ الجامعين الكبير والصغير، ودرر البحار، والذي في نسخ الترمذي والنهاية: «تكفر للسان»، ومنهم من وقفه على أبي سعيد، لا على حماد، كما في الجامع الكبير للسيوطي. إتحاف السادة المتقين (7/ 450).
وقال الخادمي -رحمه الله-:
عن أبي سعيد الخدري أنه قال -صلى الله تعالى عليه وسلم-: «إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تستكفي» أي: تطلب الكفاية والاندفاع من شره، وفي رواية: «تكفِّر اللسان». بريقة محمودية (3/ 158).
قوله: «فتقول: اتقِ الله فينا»:
قال المظهري -رحمه الله-:
«فتقول» أي: فتقول الأعضاء للسان: «اتق الله فينا» أي: اتق الله في حفظ حقوقنا. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 182).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«فتقول» أي: حقيقة، أو هو مجاز بلسان الحال «اتق الله فينا» أي: خَفْهُ في حفظ حقوقنا. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 74).
وقال السندي -رحمه الله-:
«تقول» قيل: بلسان الحال، ولا يبعد الحمل على لسان المقال «فينا» أي: في حفظنا. حاشية السندي على مسند أحمد (3/132).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«فتقول» أي: بلسان الحال، وزَعْم أنَّ المراد لسان القال جمود «اتق الله فينا» أي: خَفْهُ في حفظ حقوقنا، فلا تقتحم منهيًّا فنهلك معك. فيض القدير (1/ 287).
وقال الخادمي -رحمه الله-:
«فتقول» أي: الأعضاء حقيقةً؛ لأن الأصل أن كل أمر ممكن أخبر به الصادق فواقع، والتأويل إنما يصار إليه عند تعذر الحقيقة، كما قيل: الأصل في النصوص أن تُحملَ على ظواهرها، أو مجازًا بلسان الحال. بريقة محمودية (3/ 158).
قوله: «فإنما نحن بك»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
وقوله: «فإنما نحن بك» أي: نحن نستقيم ونعوج بك. الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3124).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
أي: نجاتُنا بك، وهلاكُنا بك. الفوائد (1/ 81).
وقال المظهري -رحمه الله-:
أي: فإنَّا نتعلق بك. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 182).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
أي: نتعلق ونستقيم ونعوج بك. مرقاة المفاتيح (7/ 3040).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
أي: مجازون بما يصدر عنك، والحصر إضافي. دليل الفالحين (8/ 347).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فإنما نحن بك» الفاء للتعليل، والباء للسببية، أي: إنما نعاقب ونثاب بسببك. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 575).
قوله: «فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا»:
قال المظهري -رحمه الله-:
فإن كنتَ صالحًا تكون صالحة، وإن كنتَ فاسدًا تكون فاسدة. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 182).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«استقمت» أي: اعتدلت «استقمنا» اعتدلنا تبعًا لك، «وإن اعوججت» مِلْتَ عن طريق الهدى «اعوججنا» مِلْنَا عنه اقتداءً بك، فنطق اللسان يؤثر في أعضاء الإنسان بالتوفيق والخذلان، فلله دره من عضو ما أصغره! وأعظم نفعه وضره! التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 75).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
وقوله: «فإن استقمت استقمنا...» إلخ، بيان للمراد بقوله: «نحن بك». لمعات التنقيح (8/ 157).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«فإن استقمت استقمنا» الْقَوَامُ بالفتح: العدل والاعتدال، أي: إن اعتدلت اعتدلنا. دليل الفالحين (8/ 347).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«اعوج» ضد استقام. المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 182).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
الْعَوَجُ بفتحتين في الأجساد، خلاف الاعتدال، وهو مصدر من باب تَعِبَ، يُقَالُ: عَوِجَ الْعُودُ وَنَحْوُهُ، فَهُوَ أَعْوَجُ، وَالْأُنْثَى عَوْجَاءُ، من باب أَحْمَرَ، وَالنِّسْبَةُ إلى الْأَعْوَجِ أَعْوَجِيٌّ على لفظه.
وَالْعِوَجُ بكسر العين في المعاني، يقال: في الدين عِوَجٌ، وفي الأمر عِوَجٌ. المصباح المنير (2/ 435).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
فإن قلتَ: كيف التوفيق بين هذا الحديث، وبين قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إن في الجسد لمضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت، فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»؟
قلتُ: اللسان ترجمان القلب، وخليفته في ظاهر البدن، فإذا أُسنِدَ إليه الأمر يكون على سبيل المجاز في الحكم، كما في قولك: شفى الطبيب المريض. الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3124).
وقال الخادمي -رحمه الله-:
قوله: «إن استقمتَ استقمنا، وإن اعوججتَ اعوججنا» لا يخفى أن ما دل عليه وشهد عليه الأثر: أن هذا إنما يصدق على القلب لا اللسان، فلعله أصاب من قال هنا: المراد باللسان هنا القوة الناطقة؛ ولذا كان استقامة الأعضاء واعوجاجها تابعة له؛ لأنها تخدمه وتحت تصرفه وانقياده، وإنما ذكر اللسان لأنه مصدر النطق الذي به الاستقامة والاعوجاج، لكن يشكل بما ورد: «المرء بأصغريه: قلبه ولسانه». بريقة محمودية (3/ 158).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «استقمت» بقلة الكلام، وترك ما لا يعني، والاشتغال بالأذكار، ونحوها.
«اعوججنا» لعله لهذا قلَّما ترى المكثر في الكلام خاشعًا حتى في نحو الصلاة، والله تعالى أعلم. حاشية السندي على مسند أحمد (3/132).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
وأعظم ما يراعى استقامته بعد القلب من الجوارح اللسان، فإنه ترجمان القلب والمعبر عنه. جامع العلوم والحكم (1/ 512).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وفائدة الخبر النبوي: إعلام الإنسان إنه لا يأتيه الخير والشر إلا من قبل لسانه؛ فليحذرها. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 575).
وقال الغزالي -رحمه الله-:
والمعنى فيه -والله أعلم-: أنَّ نطق اللسان يؤثِّر في أعضاء الإنسان بالتوفيق والخذلان (فاللسان أشدُّ الأعضاء جماحًا وطغيانًا، وأكثرها فسادًا وعُدوانًا)، يؤكِّد هذا المعنى ما روي عن مالك بن دينارٍ أنه قال: إذا رأيت قسوةً في قلبك، ووهنًا في بدنك، وحرمانًا في رزقك، فاعلم أنَّك تكلَّمت فيما لا يعنيكَ. منهاج العابدين (ص: 169).