«أما يخشى أحدُكُم -أو: لا يخشى أحدُكُم- إذا رفعَ رأسَهُ قبلَ الإمامِ أن يجعلَ اللهُ رأسَهُ رأسَ حمارٍ، أو يجعلَ اللهُ صورتَهُ صورةَ حمارٍ».
رواه البخاري برقم: (691) واللفظ له، ومسلم برقم: (427)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
شرح الحديث
قوله: «أما يخشى أحدكم -أو: لا يخشى أحدكم-»:
قال الفاكهاني -رحمه الله-:
«أمَا» مخفَّف، لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه: التقرير والتوبيخ، ويسمى: حرف استفتاح، وحرف الاستفتاح: (أما) و(ألا) أي: يستفتح بعدهما الكلام، والأصل فيه (ما) النافية دخلت عليها همزة الاستفهام، فهي كـ(ليس) في قوله تعالى: {أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ} الأعراف: 172...
قوله: «يخشى» أي: يخاف. رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام (2/104).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
يعني: ألا يخشى أن يعاقبه الله -عزَّ وجلَّ- بأن يُحَوِّل صورته إلى هذه الهيئة الكريهة. شرح سنن أبي داود (83/30).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«أمَا يخشى أحدكم» أيها المصلون في جماعة. التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 199).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «أما يخشى أحدكم» في رواية الكشميهني: «أَوَ لَا يخشى»، ولأبي داود عن حفص بن عمر عن شعبة: «أمَا يخشى، أو ألَا يخشى» بالشك، و(أمَا) بتخفيف الميم، حرف استفتاح، مثل (ألَا)، وأصلها النافية، دخلت عليها همزة الاستفهام، وهو هنا استفهام توبيخ. فتح الباري (2/ 183).
قوله: «إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«إذا رَفَعَ رأسه» أي: من السجود، فهو نَصٌّ في السجود؛ لحديث أبي داود: «الذي يرفع رأسه والإمام ساجد»، وأُلحق به الركوع؛ لكونه في معناه. فيض القدير (2/166).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «إذا رَفَعَ رأسه قبل الإمام» زاد ابن خزيمة من رواية حماد بن زيد عن محمد بن زياد: «في صلاته»، وفي رواية حفص بن عمر المذكورة: «الذي يرفع رأسه والإمام ساجد» فتبيَّن أنَّ المراد الرفع من السجود، ففيه تعقُّب على مَن قال: إنَّ الحديث نصٌّ في المنع من تقدُّم المأموم على الإمام في الرفع من الركوع والسجود معًا، وإنما هو نصٌّ في السجود، ويلتحق به الركوع؛ لكونه في معناه.
ويمكن أنْ يُفرَّق بينهما بأنَّ السجود له مزيد مزيَّة؛ لأن العبد أقرب ما يكون فيه من ربه؛ لأنه غاية الخضوع المطلوب منه؛ فلذلك خُصَّ بالتنصيص عليه، ويحتمل: أنْ يكون من باب الاكتفاء، وهو ذِكْرُ أحد الشيئين المشترَكين في الحكم إذا كان للمذكور مزيَّة، وأما التقدُّم على الإمام في الخفض في الركوع والسجود فقيل: يلتحق به من باب الأَولى؛ لأن الاعتدال والجلوس بين السجدتين من الوسائل، والركوع والسجود من المقاصد، وإذا دل الدليل على وجوب الموافقة فيما هو وسيلة، فأَوْلَى أن يجب فيما هو مقصد، ويمكن أنْ يقال: ليس هذا بواضح؛ لأن الرفع من الركوع والسجود يستلزم قَطْعَهُ عن غاية كماله، ودخول النقص في المقاصد أشد من دخوله في الوسائل، وقد ورد الزجر عن الخفض والرفع قبل الإمام في حديثٍ آخر أخرجه البزار من رواية مليح بن عبد الله السعدي عن أبي هريرة مرفوعًا: «الذي يخفض ويرفع قبل الإمام إنما ناصيته بيد شيطان»، وأخرجه عبد الرزاق من هذا الوجه موقوفًا، وهو المحفوظ. فتح الباري (2/ 183).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- معلقًا:
ما قاله في الفتح من إلحاق الركوع بالسجود، وأنه لا يشمله صريح النص المذكور غير سديد، بل الظاهر أنه يشمله، ويقوِّي ذلك: زيادة «في صلاته» عند مسلم وابن خزيمة.
ويؤيد ذلك: حديث أنس -رضي الله عنه- عند مسلم، قال: «صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم، فلما قضى الصلاة أقبل علينا بوجهه، فقال: أيها الناس، إني إمامكم، فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالانصراف، فإني أراكم أمامي، ومِن خلفي»، ثم قال: «والذي نفس محمد -صلى الله عليه وسلم- بيده لو رأيتم ما رأيتُ لضحكتم قليلًا، ولبكيتم كثيرًا». ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (10/359).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«إذا رفع رأسه» من ركوع أو سجود «قبل» رفع «الإِمام أن يجعل الله رأسَه رأسَ حِمار». التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 199).
وقال الفاكهاني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: لم خَصَّ الرأس دون غيره؟
قلتُ: لأنه به وقَعَت الجناية. رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام (2/106).
وقال الفاكهاني -رحمه الله- أيضًا:
فإن قلتَ: لم خصَّ الركوع والسجود دون غيرهما من الأركان؟
قلتُ: لأنها آكد أركان الصلاة؛ من حيث كانت غاية للخضوع والتذلل ظاهرًا إنما تحصل بهما، فهما محل القُرْب «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد»، وذلك يناسب الطمأنينة فيهما، فلما عجَّل حتى سبق الإمام فيهما، وقصَّر فيما ينبغي التطويل فيه نُهي عن ذلك ونُبِّه عليه. رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام (2/107).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
وهو حقيقة، وقيل: مجاز عن البلادة؛ لأن المسخ لا يجوز في هذه الأُمَّة. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (5/ 74).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
ليس قوله: «أن يجعل الله رأسه رأس حمار» في الأُمة موجود، فإن المسخ فيها مأمون، وإنما المراد معنى الحمار؛ من قلة البصيرة، والعناد في الانقياد، فإنَّ مَن شأنه إذا قُيِّد حَرن (وقَفَ جامدًا لا يتحرك)، وإذا حُبِسَ ظَعَن (انتقل ورحل)، ولا يطيع قائدًا، ولا يُعِين حابسًا. عارضة الأحوذي (2/53).
وقال العيني -رحمه الله-:
قلتُ: في كلامهما (الكرماني وابن العربي): إنَّ المسخ لا يجوز في هذه الأُمَّة، وإنَّ المسخ فيها مأمون، نظر، وقد روي وقوع ذلك في آخر الزمان عن جماعة من الصحابة. عمدة القاري (5/ 224).
قوله: «أو يجعل الله صورته صورة حمار»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
الشك من شعبة، فقد رواه الطيالسي عن حماد بن سلمة، وابن خزيمة من رواية حماد بن زيد، ومسلم من رواية يونس بن عبيد، والربيع بن مسلم، كلهم عن محمد بن زياد بغير تردد، فأما الحمَّادان، فقالا: «رأس»، وأما يونس فقال: «صورة»، وأما الربيع فقال: «وجه»، والظاهر أنه مِن تَصَرُّف الرواة. فتح الباري (2/183).
وقال العيني -رحمه الله-:
كيف يكون مِن تصرُّفهم ولكل واحد من هذه الألفاظ معنى في اللغة يُغَايِر معنى الآخر؟
أما الرأس فإنه اسم لعضو يشتمل على الناصية والقفا والفودين (أي: ناحيتي الرأس).
والصورة: الهيئة، ويقال: صورتُه حسنة، أي: هيئته وشكله، ويُطلق على الصفة أيضًا يقال: صورة الأمر كذا وكذا أي: صفته، ويطلق على الوجه أيضًا يقال: صورته حسنة، أي: وجهه، ويطلق على شكل الشيء وعلى الخِلْقَة.
والوجه: اسم لما يواجِهُه الإنسان، وهو مِن مَنْبَتِ الناصية إلى أسفل الذقن طولًا، ومن شحمة الأذن إلى شحمة الأذن عرضًا.
والظاهر أن هذا الاختلاف من اختلاف تعدد القضية، ورواة الرأس أكثر، وعليه العمدة.
وقال عياض: هذه الروايات متفقة؛ لأن الوجه في الرأس، ومعظم الصورة فيه، وفيه نظر؛ لأن الوجه خلاف الرأس لغةً وشرعًا. عمدة القاري (5/224).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
و«أو» هذه إما أن تكون للشك، يعني: هل قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أن يحول الله رأسه رأس حمار»، أو قال: «أو يجعل صورته صورة حمار؟» للشك، أو للتقسيم، بعضهم يُجْعَل رأسه رأس حمار على بدن إنسان، وبعضهم يُمْسَخ بالكامل، وأيهما أسهل أن يُمسخ بالكامل حمار، أو يمسخ رأسه ويبقى بدنه بدن إنسان؟ يعني: يمسخ بالكامل أسهل من أن يمسخ رأسه فقط. شرح المحرر في الحديث (24/4).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
لفظ «الصورة» يطلق على الوجه أيضًا، وأما «الرأس» فرُوَاتها أكثر، وهي أشمل، فهي المعتمدة، وخص وقوع الوعيد عليها؛ لأن بها وقعت الجناية وهي أشمل. فتح الباري (2/183).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
وقيل: الظاهر أن الاختلاف حصل مِن تَعَدُّد الواقعة، ويؤيِّده رواية ابن حبان بلفظ: «أن يُحَوِّلَ اللهُ رأسَه رأس كلب». مرعاة المفاتيح (4/98).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: ما الحكمة في تخصيص الحمار من بين الحيوانات؟
قلتُ: أمثال هذه الحِكَم لا يعلمها إلا الله -سبحانه وتعالى-، لكن يحتمل: أن يقال: الحمار مشهور بالبلادة، والفاعل لذلك كأنه في غاية البلادة؛ حيث لم يعلم أن معنى الائتمام المتابعة ولا يتقدم التَّابع على الـمَتْبُوع، فيجعل ظاهره على ما هو مقتضى عمله. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (5/74).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
وإنما اختصَّ الحمار بالذِّكْر دون سائر الحيوانات عَلَى الرواية الصحيحة المشهورة -والله أعلم-؛ لأن الحمار من أبلد الحيوانات وأجهلها، وبه يُضْرب المثل فِي الجهل؛ ولهذا مثَّل الله بِهِ عالِمَ السوء الذي يحمل العلم ولا ينتفع بِهِ فِي قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} الجمعة: 5.
فكذلك المتعبِّد بالجهل يُشْبِه الحمار؛ فإن الحمار يحرك رأسه ويرفعه ويخفضه لغير معنى، فشبَّه مَن يرفع رأسه قَبْلَ إمامه بالحمار، وكذلك شبَّه مَن يتكلم وإمامه يخطب بالحمار يحمل أسفارًا؛ لأنه لَمْ ينتفع بسماع الذِّكر، فصار كالحمار فِي المعنى، والله أعلم. فتح الباري (6/166- 167).
قال الصنعاني -رحمه الله-:
وقوله: «أو يجعل الله صورته صورة حمار»...، وذلك أنه قد عرَّفَهم -صلى الله عليه وسلم- أنه إنما جُعل الإِمام ليؤتمَّ به، وأنه إذا ركع ركعوا، وإذا سجد سجدوا، فهذا الوعيد بعد علْمِهِم بوجوب المتابعة. التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 199).
قال ابن حمزة الحسيني -رحمه الله-:
سببه (أي: سبب ورود الحديث) أخرج الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: «صلى رجل خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- فجعل يركع قبل أن يركع، ويرفع قبل أن يرفع، فلما قضى النبي -صلى الله عليه وسلم- الصلاة قال: مَن فعل هذا؟! قال: أنا يا رسول الله، أحببتُ أن أَعْلَمَ أَتَعْلَمُ ذاك أم لا؟ فقال: اتقوا خِدَاجَ الصلاة، إذا ركع الإمام فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا» ثم ذكره. البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث الشريف (1/ 160).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
وليس يريد به عند العلماء المسخْ صورة، وإنما يريدون به الحمارية معنى، وهو البَلَهُ، ضرب له الحمار مثلًا؛ لأنه أشد البهائم بَلَهًا في تلك الحال، وهذا كقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لِيَنْتَهِيَنَّ أَقْوامٌ عَنْ رفْعِهِمْ أبْصارهِمْ إلى السَّمَاءِ في الصَّلَاةِ أَوْ لَتُخْطَفُنَّ أَبْصارُهُمْ»، وليس يريد بذلك إذهابها بالعمى، وإنما يشير به إلى ذهاب فائدتها مِن العبرة. القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (ص: 243).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
قوله: «يجعل الله رأسه رأس حمار أو صورة حمار» فإنه ينبغي ألا يستبعد هذا؛ فإن الله -سبحانه تعالى- إن لم يجعل رأسه على شكل رأس الحمار فإنه قد يجعل رأسه في المعنى رأس حمار في البَلادة وبُعْدَ الفهم، وهو على صورة الآدميين. الإفصاح عن معاني الصحاح (7/195).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
إنما المعنى: أنه لو عَقَلَ أمره لَعَرَفَ عظمة المعبود، فأَوْجَبَ التعبُّد عليه الخشوع، فإذا لم يعرف كان كالبهيمة، فلم يأمن أن يُمسخ بهيمة. كشف المشكل (3/ 490).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
وقوله: «أنْ يُحَوِّل الله رأسه رأس حمار، أو يجعل صورته صورة حمار» يقتضي تغيير الصورة الظاهرة.
ويحتمل: أن يرجع إلى أمر معنوي مجازي، فإن الحمار موصوف بالبلادة، ويُستعار هذا المعنى للجاهل بما يجب عليه من فروض الصلاة ومتابعة الإمام، وربما رجح هذا المجاز بأن التحويل في الظاهرة لم يقع مع كثرة رفع المأمومين قبل الإمام، وقد بيَّنا أنّ الحديث لا يدل على وقوع ذلك، وإنما يدل على كون فاعله متعرضًا لذلك، وكون فعله صالحًا لأن يقع عنه ذلك الوعيد، ولا يلزم مِن التعرُّض للشيء وقوع ذلك الشيء. إحكام الأحكام (1/222-223).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وقال ابن بزيزة: يحتمل: أن يراد بالتحويل المسخ، أو تحويل الهيئة الحسية أو المعنوية أو هما معًا.
وحمَلَهُ آخرون على ظاهره؛ إذ لا مانع من جواز وقوع ذلك، وفي كتاب الأشربة الدليل على جواز وقوع المسخ في هذه الأُمة، وهو حديث أبي مالك الأشعري في المغازي؛ فإن فيه ذِكْر الخسف وفي آخره: «ويَمْسَخُ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة»...
ويقوّي حَمْلَه على ظاهره: أن في رواية ابن حبان من وجه آخر عن محمد بن زياد: «أن يُحَوِّلَ الله رأسه رأس كلب»، فهذا يُبْعِدُ المجاز؛ لانتفاء المناسبة التي ذكروها من بلادة الحمار.
ومما يُبْعِده أيضًا: إيراد الوعيد بالأمر المستقبل، وباللفظ الدال على تغيير الهيئة الحاصلة.
ولو أُريد تشبيهه بالحمار لأجل البلادة لقال مثلًا: فرأسه رأس حمار، وإنما قلتُ ذلك لأن الصفة المذكورة وهي البلادة حاصلة في فاعل ذلك عند فعله المذكور، فلا يحسن أن يقال له: يُخشى إذا فعلتَ ذلك أن تصير بليدًا، مع أن فِعْلَهُ المذكور إنما نشأ عن البلادة.
وقال ابن الجوزي في الرواية التي عبَّر فيها بالصورة: هذه اللفظة تَمْنَع تأويل مَن قال: المراد رأس حمار في البلادة، ولم يُبيِّن وجه المنع. فتح الباري (2/184).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
الأظهر: أن هذا تهديد شديد ووعيد أكيد، ويكون حقيقته في البرزخ أو في النار، ويمكن أن يقال: المسخُ معلَّق على عدم الخشية المقارنة مع المخالفة، لا على مجرد عدم المتابعة، فيندفع به قول ابن دقيق العيد: يُرَجِّحُ التجوُّز أنَّ التحويل الظاهر لم يقع مع كثرة رفع المأمومين قبل الإمام. مرقاة المفاتيح (3/879).
وقال عبد الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
والقول الظاهر الراجح هو حمله على الظاهر، ولا حاجة إلى التأويل مع ما فيه مما ذكره الحافظ.
ويؤيِّد حَمْلَهُ على الظاهر: ما حكي عن بعض المحدثين أنه رحل إلى دمشق لأخذ الحديث عن شيخ مشهور بها، فقرأ جملةً، لكنه كان يجعل بينه، وبينه حجابًا ولم يرَ وجهه، فلما طالت ملازمته له ورأى حرصه على الحديث كشف له الستر، فرأى وجهه وجه حمار، فقال له: احذر -يا بني- أن تسبق الإمام؛ فإني لما مرَّ بي الحديث استبعدتُ وقوعه، فسبقتُ الإمام فصار وجهي كما ترى. تحفة الأحوذي (3/152).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قد تبين بما ذُكِرَ أن الراجح حَمْلُ الحديث على ظاهره، من كون المراد بالتحويل مسخ رأسه إلى رأس حمار، أو مسخ صورته إلى صورة الحمار؛ عقوبة لإجرامه بالمخالفة المذكورة، ولا داعي لدعوى المجاز. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (10/367).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قال الأشرف (البقاعي): أي: يجعله بليدًا، وإلا فالمسخ غير جائز في هذه الأُمَّة.
وأقول: لعل المأموم لَمَّا لم يعمل بما أُمِرَ به من الاقتداء بالإمام، ولم يَفْهَمْ أن معنى المأموم والإمام ما هو، شُبِّه بالحمار في البَلَادَة، كقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ} الجمعة:5. الكاشف عن حقائق السنن (4/1164).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
والمقصود: الإنكار على ترك الخشية، والحث عليها؛ ليرتدع فاعلُ ذلك الفعل بسبب الخشية من شنيع عاقبته عن ذلك الفعل. مرعاة المفاتيح (4/97).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
قد أخذ على المأموم ألا يسبق الإمام في التسليم، فما الذي تفيده المسابقة في الركوع أو السجود مع كونه لا يمكنه الخروج من الصلاة إلا بخروج الإمام؟
فلا يحصل له من ذلك إلا سوء الأدب، وأن يظهر للمصلين معه قِلَّة أدبه ودِينه، ونَزَارَة عِلمه وعدم ثباته، فإذنْ هذه كلها من أخلاق مَن رأسُه في المعنى رأس حمار. الإفصاح عن معاني الصحاح (7/195).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
وليس للاستعجال سبب غير طلب الاستعجال، ودواء هذا الداء: أن يعلم أنه لا يُسلِّم قبل الإِمام، فلا فائدة في الاستعجال في هذه الأفعال. القبس شرح موطأ مالك بن أنس (65).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
فيه: وعيد وتحذير مِن أخذ الله تعالى له، ومسخه إياه، وقلْبِه صورته بصورة الحمار الذي هو غاية في البلادة، وإليه ينتهي ضرب المثل في الجهل والبلادة، وهذا لَمَّا عكس حكم الصلاة ومعنى الإمامة والتقديم والاقتداء، وصيَّر نفسه بذاته إمامًا، جاء بغاية المناقضة والمضادة التي لا يفعلها إلا المنتهي في الجهالة كالحمار، فيُخشى أن الله يَقْلِبه في الصورة التي اتصف بمعناها. إكمال المعلم (2/341).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
معنى هذا الحديث: الوعيد لمن خالف إمامه في أفعال الصلاة، ومَن خالف الإمام فقد خالف سُنة المأموم، وأجزأته صلاته عند جمهور العلماء؛ لأن النبي -عليه السلام- لم يقل: إنَّ مَن فعل ذلك فصلاته فاسدة.
وفي المجموعة لابن القاسم، عن مالك: أن مَن رفع قبل إمامه يَظُنُّ أنه رفع فليرجع ساجدًا أو راكعًا، ولا يقف ينتظره، فإنْ عجَّل الإمام فليتمادَ ويجزئه، وهو قول أكثر العلماء. شرح صحيح البخاري (2/ 318).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وهذا وعيد وتهديد، وليس فيه أمر بإعادة، فهو فعل مكروه لمن فَعَلَه، ولا شيء عليه إذا أكمل ركوعه وسجوده، وقد أساء وخالَف سُنة المأموم، وعلى كراهية هذا الفعل للمأموم جماعة العلماء من غير أن يوجبوا فيه إعادة. التمهيد (24/365-366).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله- أيضًا:
قال مالك: السنة فيمَن سها ففعل ذلك في ركوعه وسجوده أن يرجع راكعًا أو ساجدًا ولا ينتظر الإمام، وذلك ممن فعله خطأ؛ لأن النبي -عليه السلام- قال: «إنما جُعِلَ الإمام ليُؤْتَمَّ به فلا تختلفوا عليه». الاستذكار (1/495).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وظاهر الحديث يقتضي تحريم الرفع قبل الإمام؛ لكونه توعد عليه بالمسخ، وهو أشد العقوبات، وبذلك جزم النووي في شرح المهذب، ومع القول بالتحريم فالجمهور على أن فاعله يأثم وتجزئ صلاته، وعن ابن عمر تبطل، وبه قال أحمد في رواية وأهل الظاهر؛ بناء على أن النهي يقتضي الفساد.
وفي المغني عن أحمد أنه قال في رسالته: ليس لمن سبق الإمام صلاة؛ لهذا الحديث، قال: ولو كانت له صلاة لرُجي له الثواب، ولم يُخشَ عليه العقاب. فتح الباري (2/183).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- معلقًا:
ما قاله ابن عمر -رضي الله عنهما-، ونُقل عن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- من بطلان صلاةِ مَن سابَقَ إمامه، وعزَاهُ ابن حزم إلى السَّلَف هو الراجح عندي. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (10/368-369).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
هذا التهديد يدل على أن هذا الفعل محرَّم، والإنسان إذا فعل شيئًا محرمًا في العبادة فإن القاعدة الشرعية: أن العبادة تبطل به؛ لأنه أخرجها عما جاء الأمر به، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَن عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد». فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (2/260).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
والحاصل أنه يحرم مبادرة الإمام في الركوع وغيره من أفعال الصلاة، وأن مَن فعل ذلك عمدًا بطلت صلاته، وإن كان ناسيًا وجب عليه أن يعود إلى المتابعة، وهذا هو القول الراجح. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (10/360).
وقال الفاكهاني -رحمه الله-:
والحديث نصٌّ في النهي عن الرفع قبل الإمام في الركوع والسجود، ويُقاس عليهما الخفض كالهَوْيِ في الركوع والسجود. رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام (2/104).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
فيه: كمال شفقته -عليه السلام- بأُمَّتِه، وبيانه لهم الأحكام وما يترتب على المخالفة. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (6/523).
وقال ابن الملقن -رحمه الله- أيضًا:
هذا الحديث دال بمنطوقه على عدم المسابقة، وبمفهومه على جواز المقارنة، ولا شك فيه لكن يُكْرَه، ويفوت به فضيلة الجماعة، نعم تَضُرُّ مقارنته في تكبيرة الإِحرام، هذا في الأفعال، وأما الأقوال فإنه يتابعه فيها، فيتأخر ابتداؤه عن ابتداء الإِمام إلَّا في التأمين، فيستحب المقارنة؛ للنص فيه. الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (2/552).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- معقبًا:
فيما قاله ابن الملقن من دلالة الحديث على جواز المقارنة نظر لا يخفى. البحر المحيط الثجاج (10/ 202).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
واستُدل به على جواز المقارنة، ولا دلالة فيه؛ لأنه دل بمنطوقه على منع المسابقة، وبمفهومه على طلب المتابعة، وأما المقارنة فمسكوت عنها. فتح الباري (2/184).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- معقبًا:
قوله (يعني ابن حجر): مسكوت عنها، يعني: في خصوص هذا الحديث، وإلا فإن الشارع لم يَسْكَتْ عنها، بل نبَّه على عدم جوازها، وأمر بتأخُّر المأموم عن الإمام في أفعال الصلاة، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-، أنه قال: «إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطبنا فبيَّن لنا سُنَّتنا، وعلَّمنا صلاتنا، فقال: إذا صليتم فأقيموا صفوفكم، ثم ليؤُمَّكم أحدكم، فإذا كبَّر فكبِّروا، وإذا قال: {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} الفاتحة: 7، فقولوا: آمين، يجبكم الله، فإذا كبر وركع فكبروا واركعوا، فإن الإمام يركع قبلكم، ويرفع قبلكم»، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فتلك بتلك، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، يسمع الله لكم، فإن الله -تبارك وتعالى- قال على لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم-: سمع الله لمن حمده، وإذا كبر وسجد فكبِّروا واسجدوا، فإن الإمام يسجد قبلكم ويرفع قبلكم»، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فتلك بتلك...» الحديث. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (10/361-362).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قال ابن بزيزة: استَدَل بظاهر هذا الحديث قوم لا يعقلون على جواز التناسخ (التناسخ: تعلُّق الروح بالبدن بعد المفارقة من بدن آخر بغير تخلل زمن بين التعلقين).
قلتُ: وهو مذهب رديء مبني على دعاوى بغير برهان، والذي استَدَلَّ بذلك منهم إنما استدل بأصل المسخ، لا بخصوص هذا الحديث. فتح الباري (2/184).
وقال محمد الخضر الشنقيطي -رحمه الله-:
والقول بتناسخ الأرواح معدود من أنواع الردة. كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري (9/7).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث من الفقه: شدة كراهة المبادرة للمأموم؛ أن يرفع رأسه قبل الإمام. الإفصاح عن معاني الصحاح (7/195).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
هذا وعيد شديد؛ وذلك أن المسخ عقوبة لا تُشبه العقوبات، فضرَبَ المثل به ليُتَّقَى هذا الصنيع ويُحذر. أعلام الحديث (1/476).
وقال الشيخ فيصل ابن المبارك -رحمه الله-:
فيه: وجوب متابعة الإمام. تطريز رياض الصالحين (985).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
وأما التأخر عن الإمام كما يفعله بعض الناس، إذا سجد وقام الإمام من السجود تجده يبقى ساجدًا يزعم أنه يدعو الله، وأنه في خير ودعاء.
نقول: نعم، أنت في خير ودعاء لو كنتَ وحدك، أمَّا وأنت مع الإمام فإنَّ تأخُّرك عن الإمام مخالف لهدي النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «فإذا ركع فاركعوا» والفاء تدل على الترتيب والتعقيب، فالمشروع للإنسان أن يبادر وألا يتأخر. شرح رياض الصالحين (6/503).0