الأحد 23 رمضان 1446 هـ | 23-03-2025 م

A a

«حقُّ المسلمِ على المسلمِ ستٌّ» قيل: ما هُنَّ يا رسولَ اللهِ؟ قال: «إذا لَقيتَه فسلِّمْ عليه، وإذا دَعاكَ فأجِبْه، وإذا استَنصَحَكَ فانصَحْ له، وإذا عطَسَ فحمِدَ اللهَ فَسَمِّتْهُ، وإذا مَرضَ فعُدْه، وإذا مات فاتْبَعْه».


رواه مسلم برقم: (2162)، وفي رواية للبخاري برقم: (1240) «خمس»، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«دَعاكَ»:
الدعوة: بفتح الدّال في الطعام هو اسم من دعوت الناس إذا طلبتهم ليأكلوا عندك، فقال: نحن في دعوة فلان ومدعاته بمعنى. دليل الفالحين، لابن علان (6/370).

«استَنصَحَكَ»:
معناه: طلب منك النصيحة، فعليك أن تنصحه، ولا تُداهِنْهُ ولا تَغُشَّه، ولا تمسك عن بيان النصيحة. شرح صحيح مسلم، للنووي(14/ 143).

«فَسَمِّتْهُ»:
بالسين والشين معًا، وأصله السّين فيما قاله ثعلب، قال: وأصله من السَّمْتِ وهو الهدي والقصد، وأكثر روايات المحدثين فيه، وقول الناس بالشين المعجمة قال أبو عبيد: وهي أعلى اللغتين، وأَصله الدعاء بالخير، وقال بعض المتكلفين: إنما أَصله الشين من شماتته بالشيطان وقمْعِه بذكر الله وحمده. مشارق الأنوار (2/ 220).
وقال نشوان الحميري -رحمه الله-:
تسميت ‌العا‌‌طس: الدعاء له بالرّحمة. شمس العلوم (5/ 3211).


شرح الحديث


قوله: «حق المسلم على المسلم ست»:
قال ابن بطال -رحمه الله-:
«حق المسلم على المسلم» يعني: حق حرمته عليه، وجميل صحبته له، ما لم يكن فرضًا في الحديث كتشميت العاطس، وعيادة المريض، وإجابة الدعوة. شرح صحيح البخاري (3/ 238).
وقال ابن حجر -رحمه الله- معقبًا:
«حق المسلم» وقد تبين أن معنى الحق هنا الوجوب، خلافًا لقول ابن بطال: المراد حق الحرمة والصحبة، والظاهر أن المراد به هنا وجوب الكفاية. فتح الباري (3/ 113).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
القول بالكفاية على الإطلاق فيه نظر، فإن بعضها على الأعيان -كتشميت العاطس- كما سنحقّقه -إن شاء اللَّه تعالى-. ذخيرة العقبى (19/ 133).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وقوله: «‌حق ‌المسلم ‌على ‌المسلم ‌ست» أي: الحقوق المشتركة بين المسلمين عند ملابسة بعضهم بعضًا، والحق لغة هو: الثابت، ونقيضه هو: الباطل، والحق في الشريعة: يقال على الواجب وعلى المندوب المؤكد، كما قال: «الوتر حق»؛ لأن كل واحدٍ منهما ثابت في الشرع، فإنَّه مطلوب مقصود قصدًا مؤكَّدًا، غير أن إطلاقه على الواجب أوَّلُ وأولى، وقد أُطلق في هذا الحديث الحق على القَدْر المشترك بين الواجب والندب، فإنَّه جمع فيه بين واجبات ومندوبات. المفهم (5/ 488).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «حق المسلم» هذا اللفظ أعم من الواجب على الكفاية وعلى العين، ومن المندوب. الكواكب الدراري (7/ 52).
وقال المغربي -رحمه الله-:
قوله: «حق المسلم» الحق معناه: ما لا ينبغي تركه، ويكون فعله إما واجبًا أو مندوبًا ندبًا مؤكَّدًا شبيهًا بالواجب الذي لا ينبغي تركه، ويكون استعماله في المعنيين من باب استعمال المشترَك في معنَيَيْه، فإن الحق مستعمل في معنى الواجب، كذا ذكره ابن الأعرابي، وفي معنى الثابت، ومعنى اللازم، ومعنى الصدق وغير ذلك، فيكون هنا مستعملًا في الواجب والمندوب ندبًا مؤكدًا تشبيهًا بالواجب، وكون بعض هذه المذكورة واجبًا على خلاف فيه. البدر التمام (10/ 143).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «‌حق ‌المسلم ‌على ‌المسلم ‌ستٌّ» هذا لا يعني الحصر، لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- أحيانًا يذكر الأشياء المتفِقة في حكم من الأحكام ويحصرها مع أن غيرها ثابت، فهنا ليس على سبيل الحصر، بل هناك حقوق أخرى.
«حق المسلم على المسلم» مَن المسلم؟ المسلمُ: مَن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ولم يأت بمكفِّر. فتح ذي الجلال والإكرام (6/ 238).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«حق ‌المسلم ‌على ‌المسلم ‌ست» والعدد لا مفهوم له، فلا يفيد تحديد المأمورات، وفي حديثٍ سبق: «أَمَرَنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسبع»، والأمر بعدد لا ينافي الأمر بعدد آخر، في وقت آخر. فتح المنعم (8/ 483).
وقال الشيخ عبد العزيز الراجحي -حفظه الله-:
وهذه الست قيل: إنها واجبة وجوبًا كفائيًّا، وهي عند الجمهور سنن مؤكدة. توفيق الرب المنعم (6/ 282).
وقال البغوي -رحمه الله-:
هذه المأمورات كلها من حق الإسلام، يستوي فيها جميعُ المسلمين، بَرهم وفاجرهم، غير أنه يَخُص البَرَّ بالبشاشة، والمساءلة والمصافحة، ولا يفعلها في حق الفاجر المظهر للفجور. شرح السنة (5/ 211).

قوله: «إذا لَقِيتَه فسلِّم عليه»:
قال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «فسلم عليه» التسليم سُنة، فإذا سلَّم مِن بين جماعة أحدٌ يكفي، وقد أدَّى جميعُهم السُّنة. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 386).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قال: «‌فسلِّم ‌عليه» أي: ابتداءً وجوابًا. مرقاة المفاتيح (3/ 1120).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«فسلِّم ‌عليه» ندبًا؛ لأنه إذا لم يُسلِّم عليه فقد احتقره، واحتقاره احتقارٌ لِمَا خَلَقَ الله في أحسن تقويم وعظَّمه وشرفه، فهو من أعظم الجرائم والذنوب العظائم. فيض القدير (3/ 390).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «‌إذا ‌لقيته ‌فسلِّم ‌عليه» حاصله: سلامك عليه في وقت ملاقاتك له. وإجابتك إياه حين دعائه إياك. لمعات التنقيح (4/ 10).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«‌إذا ‌لقيته ‌فسلم ‌عليه»: أي: ابْدَأْه به ندبًا عينيًا إن كنتَ وحدك، وإلا فعلى الكفاية. دليل الفالحين (3/ 29).
وقال المغربي -رحمه الله-:
وقوله: «‌إذا ‌لقيته ‌فسلِّم ‌عليه» من باب الالتفات من الغَيبة إلى الخطاب. البدر التمام (10/ 144- 149).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«‌إذا ‌لقيته ‌فسلِّم ‌عليه» والأمر دليل على وجوب الابتداء بالسلام، إلا أنه نقل ابن عبد البر وغيره أن الابتداء بالسلام سُنة، وأن رده فرض. سبل السلام (8/ 132، 133).
وقال النووي -رحمه الله-:
واعلم أن ابتداء السلام سُنة، وردَّه واجب، فإن كان المسلِّم جماعة فهو سُنةُ كفاية في حقهم، إذا سلَّم بعضهم حصلت سُنة السلام في حق جميعهم، فإن كان المسلَّمُ عليه واحدًا تعيَّن عليه الرد، وإن كانوا جماعة كان الرد فرض كفاية في حقهم، فإذا ردَّ واحد منهم سقط الحرج عن الباقين، والأفضل أن يبتدئ الجميعُ بالسلام، وأن يرد الجميع. شرح مسلم (14/ 140).
وقال الشيخ عطية سالم -رحمه الله-:
«إذا ‌لقيته ‌فسلم ‌عليه» أي: بلفظ: السلام عليكم، ومن آداب السلام: أن يسلِّم الصغير على الكبير، والراكب على الماشي، والماشي على الجالس، فإذا لم يسلِّم من عليه الابتداء بالسلام فمن حق الثاني أن يقول له: أعطني حقي؛ لأن عدم السلام يدل على أن في النفس شيئًا، وقد جاء عن عمر -رضي الله تعالى عنه-: أنه مر بعثمان وهو جالس فسلم عليه، فلم يرد عثمان عليه السلام، فذهب إلى أبي بكر واشتكى... ولو لم يكن له حق في هذا السلام لما اشتكاه، لكنه حق الأخوة. شرح بلوغ المرام (120/ 11).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«‌إذا ‌لقيته ‌فسلم ‌عليه» ظاهر الحديث أن تبدأ بالسلام، ولو كان أكبر منك أو أصغر أو أكثر أو أقل، وهذا هو الحق؛ أن الأفضل أن تبدأ بالسلام حَتّى وإن كان دونك؛ لأنه أضاع ما هو حق عليه فلا تُضيِّع أنت السُّنة كلها، وإلا فإن الأفضل أن يسلِّم الصغير على الكبير، والقليل على الكثير، والراكب على الماشي، والماشي على القاعد، لكن لو فرض أن واحدًا منهم لم يقم بما ينبغي أن يقوم به؛ فلا تدع السُّنة، لا تقل: الحق عليه هو الذي يسلّم! «وخيرهما الذي يبدأ بالسلام» سواء كان صغيرًا أو كبيرًا. فتح ذي الجلال والإكرام (6/ 240).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قوله: «‌إذا ‌لقيته ‌فسلم ‌عليه» نص صريح في الأمر بالسلام عند اللقاء، والأمر للوجوب إلا لصارف، كما هو رأي الجمهور، فالحق أحق أن يُتَّبع أينما نبع، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. البحر المحيط (43/ 643).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
إجماع العلماء على أنَّ الابتداء بالسلام سُنة، وأن الرد فرض؛ لقول الله -عز وجل-: {وَإِذَا حُييتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} النساء: 86. الاستذكار (8/ 464).
وقال المغربي -رحمه الله-:
والحديث فيه دلالة على شرعية الابتداء بالسلام، ونقل ابن عبد البر وغيره إجماع المسلمين أن ابتداء السلام سُنة وأن ردَّه فرض، وأقل السلام أن يقول: السلام عليكم، فإن كان المسلَّمُ عليه واحدًا فأقله: السلام عليك، والأفضل أن يقول: السلام عليكم؛ ليتناوله وملائكته، وأكمل منه أن يزيد: ورحمة الله وأيضًا: وبركاته، ولو قال: سلام عليكم أجزأه...
وأما صفة الرد: فالأفضل والأكمل أن يقول: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فيأتي بالواو، فلو حذفها جاز وكان تاركًا للأفضل، ولو اقتصر على: وعليكم السلام، أو على: عليكم السلام أجزأه، فلو اقتصر على: عليكم، لم يجزئه بلا خلاف، ولو قال: وعليكم بالواو، ففي إجزائه وجهان لأصحاب الشافعي، فإذا قال المبتدئ: سلام عليكم، أو: السلام عليكم، أجزأه وكان الجواب مثله، قال الله تعالى: {قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ} هود: 69، ولكن بالألف واللام أفضل، وأقل السلام ابتداء وردًّا أن يُسْمِعَ صاحبه، ولا يجزئه دون ذلك، ويشترط كون الرد على الفور، ولو أتى سلام من غائب مع رسول أو في ورقة وجب الرد على الفور، وجاء في رواية مسلم: «يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير»، وفي رواية البخاري: «والصغير على الكبير» وهذا كله للاستحباب، فلو عكسوا جاز وكان خلاف الأفضل.
ومفهوم قوله: «حق المسلم» أنه لا يسلَّم على الكافر ابتداءً ولو ذمِّيًّا...
والسلام قيل: هو اسم من أسماء الله تعالى، فقوله: السلام عليكم: أي اسم الله تعالى عليكم، أي: أنت في حفظ الله، كما يقال: الله معك، و: الله يصحبك، وقيل: السلام بمعنى السلام، أي: السلامة مُلازِمة لك، والله أعلم. البدر التمام (10/ 144- 149).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وقوله: «إذا لقيته» يدل أنه لا يسلِّم عليه إذا فارقه، لكنه قد ثبت حديث: «إذا قعد أحدكم فليسلِّم، وإذا قام فليسلِّم، وليست الأُولى بأحق من الآخرة»، فلا يعتبر مفهوم «إذا لقيته»، ثم المراد بلقيه وإن لم يطل بينهما الافتراق؛ لحديث أبي داود: «إذا لقي أحدكم صاحبه فليسلم عليه، فإنْ حال بينهما شجرة أو جدار ثم لقيه فليسلم عليه»، وقال أنس: كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتماشون، فإذا لقيتهم شجرة أو أكمة تفرقوا يمينًا وشمالًا، فإذا التقوا من ورائها يسلّم بعضهم على بعض. سبل السلام (8/ 132، 133).
وقال الشيخ ابن سعدي -رحمه الله-:
«إذا ‌لقيته ‌فسلّم ‌عليه» فإن السلام سبب للمحبة التي توجب الإيمان الذي يوجب دخول الجنة، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم»، والسلام من محاسن الإسلام؛ فإنَّ كل واحد من المتَلَاقِيَيْنِ يدعو للآخر بالسلامة من الشرور، وبالرحمة والبركة الجالبة لكل خير، ويتبع ذلك من البشاشة وألفاظ التحية المناسبة ما يوجب التآلف والمحبة، ويزيل الوحشة والتقاطع، فالسلام حقّ للمسلم، وعلى المسلَّم عليه ردّ التحية بمثلها أو أحسن منها، وخير الناس مَن بدأهم بالسلام. بهجة قلوب الأبرار (ص: 81).

قوله: «وإذا دعاك فأجبه»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وإذا دعاك» أي: للإعانة والدعوة. مرقاة المفاتيح (3/ 1120).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«وإذا ‌دعاك ‌فأجبه» إلى مأدُبته وجوبًا للعُرس، وندبًا لغيره حيث لا عذر. التيسير (1/ 499).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«‌وإذا ‌دعاك ‌فأجبه» وجوبًا عينيًا إذا دعاك إلى وليمة عُرس، وإلا فعلى الكفاية، ولا بد من إطاقة التخليص في الحالين، وندبًا إذا دعاك إلى غير وليمة عرس ونحوها. دليل الفالحين (3/ 29).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«‌وإذا ‌دعاك ‌فأجبه» ظاهره عموم حقية الإجابة في كل دعوة يدعوه بها، وخصها العلماء بإجابة دعوة الوليمة ونحوها، والأَولى أن يقال: إنها في دعوة الوليمة واجبة، وفيما عداها مندوبة؛ لثبوت الوعيد على من لم يُجب في الأَولى دون الثانية. سبل السلام (8/ 133).
وقال الشيخ ابن سعدي -رحمه الله-:
«إذا دعاك فأجبه» أي: دعاك لدعوة طعام أو شراب فاجبر خاطر أخيك الذي أدلى إليك وأكرمك بالدعوة، وأجبه لذلك، إلا أن يكون لك عذر. بهجة قلوب الأبرار (ص: 72).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«إذا دعاك فأجبه» إذا دعاك إلى أي شيء؟ إلى طعام وليمة، ليس المعنى إذا دعاك لكل شيء، قد يدعوك مثلًا أن تذهب معه إلى ملهى، هذا لا يريده الرسول -صلى الله عليه وسلم-، يريد إذا دعاك إلى طعام فأجبه، أو دعاك إلى شراب كالشاهي والقهوة فأجبه. فتح ذي الجلال والإكرام (6/ 238).
وقال محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«وإذا دعاك» إلى وليمة «فأجبه» أي: فأجب دعوته بالحضور وإن لم تأكل. الكوكب الوهاج (22/ 101).
وقال الشيخ عبد الله بن صالح الفوزان -حفظه الله-:
قوله: «‌وإذا ‌دعاك ‌فأجبه» أي: إذا دعاك لحضور وليمة أو غيرها فأجب دعوته، ويحتمل العموم فيشمل حتى الدعوة لمساعدته ومعاونته على حمل شيء ونحو ذلك. منحة العلام (10/ 8).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وأخرجه مسلم وأبو داود من طريق أيوب عن نافع بلفظ «إذا دعا أحدكم أخاه فليجب عُرسًا كان أو نحوه»، ولمسلم من طريق الزبيدي عن نافع بلفظ: «مَن دُعي إِلى عُرسٍ أو نحوه فليُجب»، وهذا يُؤيد ما فهمه ابن عمر وأنَّ الأَمر بالإجابة لا يختص بطعام العُرس، وقد أخذ بظاهر الحديث بعض الشافعية فقالوا بوجوب الإجابة إلى الدعوة مطلقًا عُرسًا كان أو غيره بشرطه. ونقله ابن عبد البر عن عبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة، وزعم ابن حزم أنه قول جمهور الصحابة والتابعين، ويعكِّر عليه ما نقلناهُ عن عثمان بن أبي العاص، وهو من مشاهير الصحابة أَنَّه قال في وليمة الختان: لم يَكُن يُدعى لها، لكن يمكن الانفصال عنه بأن ذلك لا يمنع القول بالوجوب لو دُعوا. وعند عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عمر أَنه دَعا بالطعام، فقال رجلٌ من القوم: اعفني، فقال ابن عمر: إنه لا عافية لك من هذا فَقُم. وأخرج الشافعي وعبد الرزاق بسند صحيح عن ابن عباس أنَّ ابن صفوان دَعاهُ فقال: إني مشغول، وإن لم تعفني جئت. وجزم بعدم الوجوب في غير وليمة النكاح المالكية والحنفية والحنابلة وجمهور الشافعية، وبالغ السّرخسي منهم، فنقل فيه الإجماع، ولفظ الشافعي: إتيان دعوة الوليمة حقٌّ، والوليمة التي تُعرف وليمة العرس، وكُل دَعوة دُعي إليها رجُلٌ وليمة، فلا أُرخِّص لأحدٍ في تركها، ولو تركها لم يتبيّن لي أَنه عاصٍ في تركها كما تبيّن لي في وليمة العرس. فتح الباري(9/٢٤٧)
وقال ابن حجر -رحمه الله- أيضًا:
وقد نقل ابن عبد البر ثم عياض ثم النووي الاتفاق على القول بوجوب الإجابة لوليمة العرس، وفيه نظر، نعم المشهور من أقوال العلماء الوجوب، وصرح جمهور الشافعية والحنابلة بأنها فرض عين، ونص عليه مالك، وعن بعض الشافعية والحنابلة أنها مستحبة، وذكر اللخمي من المالكية أنه المذهب، وكلام صاحب (الهداية) يقتضي الوجوب مع تصريحه بأنها سنة، فكأنه أراد أنها وجبت بالسنة وليست فرضًا كما عُرف من قاعدتهم، وعن بعض الشافعية والحنابلة هي فرض كفاية، وحكى ابن دقيق العيد في (شرح الإلمام) أن محل ذلك إذا عمت الدعوة، أما لو خَص كل واحد بالدعوة فإن الإجابة تتعين، وشرط وجوبها: أن يكون الداعي مكلفًا حرًّا رشيدًا، وأن لا يَخُصَّ الأغنياء دون الفقراء، وأن لا يُظْهِر قصد التودد لشخص بعينه؛ لرغبة فيه أو رهبة منه، وأن يكون الداعي مسلمًا على الأصح، وأن يختص باليوم الأول على المشهور، وأن لا يُسْبَقَ فمَن سَبق تعينت الإجابة له دون الثاني، وإن جاءا معًا قَدَّم الأقرب رحمًا على الأقرب جِوارًا على الأصح، فإن استويا أقْرَعَ، وأن لا يكون هناك مَن يتأذى بحضوره مِن منكَر وغيره، وأن لا يكون له عذر، وضبطه الماوردي بما يرخَّص به في ترك الجماعة، هذا كله في وليمة العرس. فتح الباري (9/ 242).

قوله: «وإذا استنصحك فانصح له»:
قال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «وإذا استنصحك» أي: إذا طلب منك النصيحة، والنصيحة: وعظ أحد ودلالته على الرشد، وإرادة الخير له. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 386).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
«وإذا ‌استنصحك ‌فانصح ‌له» معناه: طلب منك النصيحة فعليك أن تنصحه ولا تداهنه ولا تغُشَّه ولا تمسك عن بيان النصيحة، وأما نصيحة العامة: فإرشادهم لمصالحهم في أخراهم ودنياهم، وكفُّ الأذى عنهم، وتعليم ما جهلوا، وإعانتهم على البر والتقوى، وستر عوراتهم، والشفقة عليهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير. فتح القريب المجيب (11/ 108، 109).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وإذا استنصحك» أي: طلب منك النصيحة «فانصح له»، والنصيحة إرادة الخير للمنصوح له. مرقاة المفاتيح (3/ 1120).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«وإذا ‌استنصحك ‌فانصح ‌له» وأفضل النصيحة ما كانت سرًّا، وقُصد بها وجه الله. الإتحافات السنية (ص: 127).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«وإذا ‌استنصحك ‌فانصح ‌له» غير وانٍ في الفكرة ولا مقصر في الإرشاد، بل ابذل الجهد، لكن ينبغي ألا يشير قبل أن يُستشار، ولا يتبرع بالرأي فيكون رأيه متَّهمًا أو مطَّرَحًا. فيض القدير (3/ 390).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
وقوله: «‌وإذا ‌استنصحك ‌فانصح ‌له» النصيحة: إرادة الخير للمسلمين، وهي سُنة، وعند الاستنصاح واجبة، والنصح في اللغة بمعنى الخلوص. لمعات التنقيح (4/ 10).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
«وإذا ‌استنصحك ‌فانصح ‌له» وجوبًا، وكذا يجب النصح وإن لم يستنصحه. السراج المنير (3/ 95).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«وإذا استنصحك» أي: طلب منك النصيحة في أي أمر «فانصح له» باذلًا الجهد غير غاش له، ولا ينبغي أن يشير إلا بعد طلب الرأي منه، فلا تتبرع به. التنوير (5/ 364، 365).
وقال الشيخ ابن سعدي -رحمه الله-:
قوله: «‌وإذا ‌استنصحك ‌فانصح ‌له» أي: إذا استشارك في عمل من الأعمال: هل يعمله أم لا؟ فانصح له بما تحبه لنفسك، فإن كان العمل نافعًا من كل وجه فحُثَّه على فعله، وإن كان مضرًّا فحذِّره منه، وإن احتوى على نفع وضرر فاشرح له ذلك، ووازن بين المصالح والمفاسد، وكذلك إذا شاورك على معاملة أحد من الناس أو تزويجه أو التزوَّج منه فابذل له محض نصيحتك، واعمل له من الرأي ما تعمله لنفسك، وإياك أن تغشه في شيء من ذلك، فمن غش المسلمين فليس منهم، وقد ترك واجب النصيحة.
وهذه النصيحة واجبة مطلقًا، ولكنها تتأكد إذا استنصحك وطلب منك الرأي النافع؛ ولهذا قيَّده في هذه الحالة التي تتأكد. بهجة قلوب الأبرار (ص: 72).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
«وإذا استنصحك» أي: طلب منك النصيحة «فانصح له» وجوبًا، وكذا يجب النُّصحِ وإن لم يستنصحه.مرعاة المفاتيح (5/ 213).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«وإذا ‌استنصحك ‌فانصح ‌له» السين والتاء للطلب، أي: إذا طلب منك النصيحة فعليك أن تنصحه، ولا تداهنه، ولا تغش، ولا تمسك عن بيان النصيحة. فتح المنعم (8/ 484).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
وقوله: «‌وإذا ‌استنصحك ‌فانصح ‌له» أي: إذا طلب منك النصح، فابذله له، والنصح: إرادة الخير للمنصوح له؛ وذلك أن تريد له الخير في حضوره وغَيبته، فلا تتملق في حضوره، وتغتابه في غيبته؛ فإن هذا صفة المنافقين. البحر المحيط الثجاج (35/ 504).

قوله: «وإذا عطس فحمد الله فَسَمِّتْهُ»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
وقوله: «وَإِذَا عَطَسَ» من بابَيْ ضرب، ونصر، وقوله: «فَحَمِدَ اللهَ» هذا يدلّ على أنه لا يستحقّ التشميت إلا إذا حمد، وقوله: «فَسَمِّتْهُ» وفي بعض النسخ: «فشَمِّتْهُ»، والتسميت بالشين المهملة والشين المعجمة: الدعاء بالخير والبركة، والمعجمة أعلاهما، يقال: شمّتُّ فلانًا، وشمّتُّ عليه تشميتًا فهو مُشَمَّتٌ... البحر المحيط الثجاج (35/ 504).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وتشميت العاطس: هو الرد عليه، يقال: بالسين المعجمة والمهملة، وأصله: الدعاء، وكل داعٍ بالخير فمُشَمِّتٌ. إكمال المعلم (7/ 47).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
التشميت: بالشين والسين: الدعاء بالخير والبركة، والمعجمة أعلاهما...، واشتقاقه من الشَّوامِت وهي القوائم، كأنه دَعا للعاطس بالثبات على طاعة الله تعالى، وقيل: معناه: أبعدك الله عن الشماتة، وجنَّبَك ما يشمت به عليك. النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 500).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«وإذا ‌عطس ‌فحمد ‌الله ‌فشَمِّتْهُ» بأن تقول له: يرحمك الله، وظاهر الأمر الوجوب، وعليه أهل الظاهر، وقال ابن أبي جمرة: قال جمع من علمائنا: إنه فرض عين، وقوَّاه ابن القيم في حواشي السنن. فيض القدير (3/ 390).
وقال ابن حزم -رحمه الله-:
وإنْ سمع عاطسًا يحمد الله تعالى ففَرْضٌ عليه أن يشمِّتَه. المحلى بالآثار (2/ 181).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
فهذه أربع طرق من الدلالة:
أحدهما: التصريح بثبوت وجوب التشميت بلفظه الصريح الذي لا يحتمل تأويلًا.
الثاني: إيجابه بلفظ (الحق).
الثالث: إيجابه بلفظة (على) الظاهرة في الوجوب.
الرابع: الأمر به، ولا ريب في إثبات واجبات كثيرة بدون هذه الطرق، والله تعالى أعلم. حاشيته على سنن أبي داود (13/ 380-381).
وقال المغربي -رحمه الله-:
وقوله: «وإذا ‌عطس ‌فحمد ‌الله» الحديث فيه دلالة على شرعية الحمد للعاطس، وقد اتفق العلماء على استحبابه، وأن يقول: الحمد لله، فلو زاد: رب العالمين، لكان أحسن، وفي سنن أبي داود وغيره بإسناد صحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله على كل حال»، قال: «وليقل أخوه أو صاحبه: يرحمك الله، ويقول هو: يهديكم الله ويصلح بالكم»...
والتشميت سُنة على الكفاية، لو قال بعض الحاضرين أجزأ عنهم، ولكن الأفضل أن يقول له كل واحد؛ لظاهر قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي هريرة أخرجه البخاري قال: «إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب، فإذا عطس أحدكم وحمد الله، كان حقًّا على كل مسلم سمعه أن يقول: يرحمك الله تعالى»، واختلف أصحاب مالك في وجوبه...، ومفهوم الشرط يدل على أنه إذا لم يحمد لا يشمَّت...
وأقل الحمد والتشميت: أن يرفع صوته بحيث يسمعه صاحبه، ويستحب لمن حضر العاطس إذا لم يحمد الله أن يذكّره الحمد، ورواه في (معالم السنن) عن إبراهيم النخعي، وهو من باب الأمر بالمعروف، قال ابن العربي: لا يستحب، وفي كتاب (ابن السني) بإسناد فيه من لم يتحقق عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إذا عطس أحدكم فليشمِّته جليسُه، وإن زاد على ثلاثٍ فهو مزكوم، ولا يُشمَّت بعد ثلاث»...
وناسَبَ العطاس التحميد؛ لأن العطاس سببه محمود، وهو خفة الجسم التي تكون لقلة الأخلاط وتخفيف الغذاء، وهو أمر مندوب إليه؛ لأنه يضعف الشهوة ويسهل الطاعة، وهذه نعمة يُحمد عليها، والتثاؤب بضد ذلك؛ ولذلك يؤمر بردِّه ما استطاع.
وإذا عطس وهو يصلي يستحب له أن يقول: الحمد لله، ويُسمع نفسه، ذكره النووي، قال: ولأصحاب مالك ثلاثة أقوال، أحدها: هذا، واختاره ابن العربي، والثاني: يحمد في نفسه، والثالث قاله سحنون: لا يحمد جهرًا ولا في نفسه. والسُّنة أن يضع العاطس يده أو ثوبه أو نحو ذلك على فمه، وأن يخفض صوته...
وإذا سمع التحميد بعض الحاضرين دون بعض فيشمِّته مَن سمعه دون من لم يسمعه، وحكى ابن العربي خلافًا في تشميت الذين لم يسمعوا الحمد إذا سمعوا تشميت صاحبهم. البدر التمام (10/ 150 - 155).
وقال الشيخ ابن سعدي -رحمه الله-:
قوله: «‌وإذا ‌عطس ‌فحمد ‌الله ‌فشمِّته»؛ وذلك أن العطاس نعمة من الله؛ لخروج هذه الريح المحتقنة في أجزاء بدن الإنسان، يسّر الله لها منفذًا تخرج منه فيستريح العاطس، فشُرع له أن يحمد الله على هذه النعمة، وشرع لأخيه أن يقول له: «يرحمك الله»، وأمره أن يجيبه بقوله: «يهديكم الله ويصلح بالكم»، فمن لم يحمد الله لم يستحق التشميت، ولا يلومن إلا نفسه، فهو الذي فوّت على نفسه النعمتين: نعمة الحمد لله، ونعمة دعاء أخيه له المرتب على الحمد. بهجة قلوب الأبرار (ص: 82).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قد تبين بهذه الأحاديث الصحيحة أن المذهب الراجح وجوب تشميت العاطس على الأعيان، كما هو المذهب الأول، وقد قوى العلامة ابن القيم -رحمه الله- هذا المذهب في (حواشي السنن)...
وأما ترجيح الحافظ القول بأنه فرض كفاية، قائلًا: إن الأحاديث الصحيحة الدالة على الوجوب لا تُنافي كونه على الكفاية… إلى آخر كلامه، فيردُّه ما تقدم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، عند البخاري بلفظ: «فحق على كل مسلم سمعه أن يشمِّته»، فإنه صريح في كونه فرض عين، فتنبَّه، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم. البحر المحيط الثجاج (34/ 530، 531).

قوله: «وإذا مرض فعُدْهُ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«‌وإذا ‌مرض ‌فعُدْهُ» ولو مرة، وما اشتُهر في مكة أن بعض الأيام لا يُعاد المريض فيها فلا أصل له، ويُبطله ما ورد في تفسير قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} الجمعة: 10 أن المراد به العيادة ونحوها، وزَعْم أن السبت لا يعاد فيه مما أدخله يهودي على المسلمين؛ لأنه كان يطلب ملكًا فأمره بالمجيء إليه يوم سَبْتِه فخَشي مِن قَطْعِه فقال له: إن دخول الطبيب على المريض يوم السبت لا يصلح، قال ابن حجر: وقول بعض أصحابنا: تستحب في الشتاء ليلًا، وفي الصيف نهارًا غريب. اهـ.
ويمكن أن يوجَّه بأن المقصود من العيادة حصول التسلِّي والاشتغال بالأصحاب والأحباب حالة التخلي، فإنَّ لقاء الخليل شفاء العليل، مع ما فيه من التوجه إلى الجناب العلي، والتضرع بالدعاء الجلي والخفي، ولما كان ليل الشتاء ونهار الصيف طويلًا ناسب أن يَشْغَلوه عما فيه من الألم، ويخففوا عنه حمل السقم بالحضور بين يديه، والتأنس بالكلام والدعاء والتنفيس لديه، وهذا أمر مشاهَد، من ابتُلي به لا يخفى عليه. مرقاة المفاتيح (3/ 1121).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«‌وإذا ‌مرض ‌فعُدْهُ» أي: زُرْهُ في مرضه وجوبًا أو ندبًا. فيض القدير (3/ 390).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«وإذا ‌مرض ‌فعُدْهُ» ندبًا متأكدًا في أي يوم كان. دليل الفالحين (3/ 29).
وقال المغربي -رحمه الله-:
وقوله: «‌وإذا ‌مرض ‌فعُدْهُ» فيه دلالة على شرعية عيادة المريض، وهي مشروعة بالإجماع، وجزم البخاري بوجوبها، وقال: (باب وجوب عيادة المريض)... وقال الجمهور بالندب، وقد يصل إلى الوجوب في حق بعض دون بعض. البدر التمام (10/ 155، 156).
وقال الشيخ ابن سعدي -رحمه الله-:
قوله: «وإذا ‌مرض ‌فعُدْهُ» عيادة المريض من حقوق المسلم، وخصوصًا من له حق عليك متأكَّدٌ، كالقريب والصاحب ونحوهما، وهي من أفضل الأعمال الصالحة، ومن عاد أخاه المسلم لم يزل يخوض في الرَّحمة، فإذا جلس عنده غمرته الرحمة، ومن عاده أول النهار صلت عليه الملائكة حتى يمسي، ومن عاده آخر النهار صلَّت عليه الملائكة حتى يصبح، وينبغي للعائد أن يدعو له بالشفاء، وينفّس له، ويشرح خاطره بالبشارة بالعافية، ويذكِّره التوبة والإنابة إلى الله والوصية النافعة، ولا يطيل عنده الجلوس، بل بمقدار العيادة، إلا أن يُؤثِر المريضُ كثرة تردُّدِه وكثرة جلوسه عنده، فلكل مقام مقال. بهجة قلوب الأبرار (ص: 82).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«‌وإذا ‌مرض ‌فَعُدْهُ» إذا مرض مرضًا يمنعه عن الخروج إلى الناس بدليل قوله: «‌فَعُدْهُ»؛ لأنه إذا كان مرضه يسيرًا لم يمنعه من الخروج فلا حاجة لعيادته؛ لأنه سوف يراه الناس في السوق أو في المسجد فلا حاجة. فتح ذي الجلال والإكرام (6/ 239).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
من حق المسلم على أخيه أن يعوده إذا مرض؛ لقوله: «وإذا مرض ‌فَعُدْهُ»، وهل هذا واجب أو لا؟ أكثر العلماء على أنه سنة، والصواب أنه واجب كفائي، وأنه يجب للواحد من المسلمين أن يعوده المسلمون، وألا يتركوه؛ لأن هذا انفصام عُرى بين المسلم وأخيه، أخوك له مدة منحبس في بيته من المرض لا يعوده أحد من الناس! فالصواب: أن عيادته فرض كفاية، إذا علمتَ أن أحدًا لم يأت من الناس وجبَ عليك أن تذهب أنت بنفسك وتعوده.
ومن فوائده: أنه إذا مرض مرضًا لا يُقعده فإن عيادته ليست حقًّا علينا، وجه ذلك: أن العيادة إنما تكون لمنحبس، وأما من كان يمشي مع الناس ويذهب ويجيء، لكن في عينه مرض أو في وجهه جرحٌ أو غير ذلك فهذا لا يُعاد، وإنما يُعاد مَن حُبس، ولم يذكر في هذا الحديث ماذا عليه عند العيادة هل يخفف العيادة أو يتباطأ فيها؟ هل يتكلم فيها؟ هل يسكت؟
يقال: يُراعى في ذلك حال المريض، إذا كان المريض يأنس لك، وتعرف أنه منشرح صدره، ويحب أن تبقى وأن تحدِّثه، فالأفضل أن تجلس وتحدثه، وأما إذا عرفت أنه قَلِقٌ، وأنه يحب أن ينفرد بأهله دون غيرهم من الناس فالأفضل التخفيف، كذلك أيضًا إذا رأيت من المناسبة أن تتلو عليه آيات تحث على الصبر، ويتبين له ثواب الصابرين، والأحاديث كذلك فافعل، فإنْ رأيت أنه يحب الكلام عما سبق وأنك تقول له: أتذكر يوم كذا ويوم كذا؟ فاعمل ما يدخل السرور عليه. فتح ذي الجلال والإكرام (6/ 242، 243).
وقال الشيخ عبد الله بن صالح الفوزان -حفظه الله-:
قوله: «‌وإذا ‌مرض ‌فَعُدْهُ» أمرٌ من العيادة، وهو من باب نَصَرَ، تقول: عُدْتُ المريض عيادة: إذا زُرْتُه. وسُمِّيت عيادة لتكرُّرها، والمريض أعم من أن يكون معروفًا أم غير معروف، قريبًا أم بعيدًا. منحة العلام (10/ 9).

قوله: «وإذا مات فَاتْبَعْهُ»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«‌وإذا ‌مات فَاتْبَعْهُ» حتى تصلي عليه، فإنْ صَحِبْتَه إلى الدفن فأفضل. التيسير (1/ 499).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«وإذا ‌مات فَاتْبَعْهُ» ندبًا كذلك من بيته إلى أن يفرغ من دفنه. دليل الفالحين (3/ 29).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «‌وإذا ‌مات فَاتْبَعْهُ» دليل على وجوب تشييع جنازة المسلم معروفًا كان أو غير معروف. سبل السلام (8/ 137).
وقال الشيخ ابن سعدي -رحمه الله-:
قوله: «وإذا مات فَاتْبَعْهُ» فإنَّ مَن تبع جنازة حتى يُصلى عليها فله قيراط من الأجر، فإن تبعها حتى تُدفن فله قيراطان، واتباع الجنازة فيه حق لله، وحق للميت، وحق لأقاربه الأحياء. بهجة قلوب الأبرار (ص: 82).
وقال الشيخ عطية سالم -رحمه الله-:
إنَّ مِن حق المسلم على أخيه المسلم أن يتبع جنازته بعد موته؛ لما في ذلك من إكرام لهذا الميت عند القيام بحمله والسير به إلى المقابر، ومن ثم دفنه وتسوية التراب عليه.
والسير مع الجنازة له آداب وقواعد ينبغي للمسلم الإحاطة بها، ومن هذه الآداب: السير أمام الجنازة للراجل، والسير خلفها للراكب، كما أن من الآداب اللازمة على أهل الطريق: القيام عند مرور الجنازة من أمامهم، وغير ذلك من الآداب التي تَحفظ كرامة المسلم الميت كما تحفظها للمسلم في حياته. شرح بلوغ المرام (121/ 1).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
من حق المسلم إذا مات أن نتبعه؛ لقوله: «‌وإذا ‌مات ‌فاتبعه»، واتباع الجنائز فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، ودليل هذا من السُنة كثير جدًّا. فتح ذي الجلال والإكرام (6/ 243 ، 244).
وقال الشيخ عبد الله بن صالح الفوزان -حفظه الله-:
قوله: «‌وإذا ‌مات فَاتْبَعْهُ» أي: امشِ خلف جنازته من منزله أو من موضع الصلاة عليه إلى المقبرة، وعليه الناس اليوم، والمراد بذلك السَّيْر مع جنازة أخيك المسلم حتى يُفرغ من دفنه، وعدم التخلف عنه لأداء راتبة أو نحو ذلك مما يخل بمعنى الاتباع. منحة العلام (10/ 9).
قال البغوي -رحمه الله-:
هذه المأمورات كلها من حق الإسلام، يستوي فيها جميع المسلمين، بَرُّهُم وفاجِرُهم، غير أنه يُخَصُّ البر بالبشاشة والمساءلة والمصافحة، ولا يفعلها في حق الفاجر المظهِر للفجور، ولو تَرَكَ الإجابة إذا دُعي لِحَقِّ الدَّين كان أولى.شرح السنة (5/ 211-212).

وللاستفادة من الراوية الأخرى ينظر (هنا


ابلاغ عن خطا