«كانَ آخرُ كلامِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: الصلاةَ الصلاةَ، اتقوا اللهَ فيما ملكتْ أيمانُكُم».
رواه أحمد برقم: (585)، وأبو داود برقم: (5156)، من حديث علي -رضي الله عنه-.
وزاد أحمد برقم: (26483) واللفظ له، والنسائي في الكبرى برقم: (7061)، وابن ماجه برقم: (1625)، من حديث أُمّ سلمة -رضي الله عنها- بزيادة: «حتى جعلَ نبيُّ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُلَجْلِجُهَا في صدرِهِ، وما يفيضُ بها لسانُهُ».
صحيح الجامع برقم: (4616)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (868).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«مَلَكَتْ أيمانكم»:
هذا يُتأول على وجهين:
أحدهما: أن يكون في مماليك الرقيق، أَمَرَ بالإحسان إليهم، والتخفيف عنهم.
والوجه الآخر: أن يكون ذلك في حقوق الزكاة وإخراجها من الأموال التي تملكها الأيمان على مشاكلة قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} البقرة: 43. غريب الحديث، للخطابي (1/565).
شرح الحديث
قوله: «كان آخر كلام النبي -صلى الله عليه وسلم-»:
قال السهارنفوري -رحمه الله-:
«كان آخر كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-» أي: في آخر كلامه، أو يقال: في آخر كلامه في المواعظ والوصايا، وإلا فآخر كلامه: «اللهم أَلْحِقْنِي بالرفيق الأعلى». بذل المجهود في حل سنن أبي داود (13/543).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «آخر كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-» أي: في الأحكام، وإلا فقد جاء أن آخر كلامه على الإطلاق: «الرفيق الأعلى». حاشية السندي على ابن ماجه (2/155).
وقال السندي -رحمه الله- أيضًا:
لعل المراد آخر ما ذَكَر من الأحكام، أو خاطَب به الناس، وإلا فقد جاء أن آخر كلامه: الرفيق الأعلى. فتح الودود في شرح سنن أبي داود (4/ 696).
قوله: «الصلاة الصلاة»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
و«الصلاة...» إلى آخره منصوب على الإغراء بفعلٍ محذوف وجوبًا؛ لنيابة الـمَعْطُوفِ منابه، والفعل المحذوف مقول لقولٍ محذوف منصوب على أنه خبر لِكَان، تقديره: كانت عامة وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين حضرته الوفاة قوله: الزموا الصلاة المفروضة ومراعاة حقوق ما ملكت أيمانكم. مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه (15/509).
وقال العظيم أبادي -رحمه الله-:
«الصلاة الصلاة» بالنصب على تقدير فِعْلٍ، أي: الزموا الصلاة، أو أقيموا، أو احفظوا الصلاة بالمواظبة عليها والمداومة على حقوقها. عون المعبود (14/44).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
الذي يقتضيه ضيق المقام من توصية أُمَّته في آخر عهده أن يُقَدَّر: احذروا، كقولهم: أهلك والليل، ورأسك والسيف. الكاشف عن حقائق السنن (7/2384).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
وفي حذف الفعل تفخيم للأمر، وتعظيم لشأنه. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (2/420).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
المعنى: احفظوا الصلاة، أو أحذركم الصلاة وما ملكت أيمانكم أن تضيعوها. الميسر في شرح مصابيح السنة (3/ 791).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«كان آخر كلامه: الصلاة الصلاة» أي: احفظوها بالمواظبة عليها، واحذروا تضييعها، وخافوا ما يترتب عليه من العذاب. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/285).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
المقصود بذلك: الحث والاهتمام والعناية بالصلاة؛ وذلك بالمحافظة عليها وإقامتها وأدائها كما شرع الله -عزَّ وجلَّ- وكما أوجب. شرح سنن أبي داود (586/3).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
وكرر للتأكيد. السراج المنير شرح الجامع الصغير (4/115).
قوله: «اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم»:
قال العزيزي -رحمه الله-:
«اتقوا الله فيما ملكت إيمانكم» بالإنفاق عليهم، والرفق بهم. السراج المنير شرح الجامع الصغير (4/115).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم» بحسن الْمَلَكَة والقيام بما عليكم لهم، وقَرَنَ الوصية بالصلاة الوصية بالمملوك إشارة إلى وجوب رعاية حقه كوجوب الصلاة. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/285).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
«ما» عام في ذوي العلم وغيرهم، وإذا خُصَّ بذوي العلم يراد به الصفة، وهي تحتمل التعظيم والتحقير، فحمله على المماليك يقتضي تحقير شأنهم، وكونهم مسخَّرين لمواليهم، والوجه الأول أوجه لعمومه، فيدخل المماليك فيه أيضًا. الكاشف عن حقائق السنن (7/2384).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
فبعمومه شمل الغلمان والجواري والدواب وغيرها. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (13/543).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«ما ملكت أيمانكم» مِن كل آدمي وحيوان محترم وغيرهما؛ لأن (ما) عام في ذوي العلم وغيرهم أن اتَّقوا الله بحُسْنِ الْمَلَكَةِ والقيام بما يحتاجونه، وخافوا ما يترتب على إهمالهم والتفريط في حقهم من العذاب، ولا تُكَلِّفوهم على الدوام ما لا يطيقونه على الدوام فإنه حرام، وعلموهم ما لا بد منه من طُهْرٍ وصلاة وكل واجب ومندوب، وأدِّبوهم على ترك المأمورات وفعل المنهي. فيض القدير (1/127).
وقال المظهري -رحمه الله-:
وقيل: و«ما ملكت أيمانكم» عبارة عن الزكاة، وإنما قال: أراد به الزكاة؛ لأن القرآن والحديث إذا ذُكِرَ فيهما الصلاة فالغالب أنه ذكر بعدها الزكاة، قال تعالى: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} التوبة: 71، {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} البقرة: 43، وفي الحديث: «وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج»، و«تقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة»؛ فقاس هذا الْمُبْهَم بالمعَيَّن.
وقيل: عبارة عن المماليك، وهو الأظهر. المفاتيح في شرح المصابيح (4/144).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
وقد ذهب بعض الناس في تأويل قوله: «وما ملكت أيمانكم» إلى أنه الزكاة، والأكثر والأظهر أنه أراد به المماليك.
وإنما قَرَنَه بالصلاة ليعلم أن القيام بمقدار حاجتهم من الكسوة والطعام واجب على مَن مَلَكَهم وجوب الصلاة التي لا سعة في تركها.
وقد ضم بعض العلماء البهائم المستملكة في هذا الحكم إلى المماليك. الميسر في شرح مصابيح السنة (3/ 791).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
وقَرَنَ أمر المماليك بأمر الصلاة إشارة إلى أنَّ حقوق المماليك واجبة على السادات وجوبَ الصلاة. شرح المصابيح (4/ 70).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
والأَوْلَى أنه أراد الأعم الشامل لهما، فأراد بالصلاة العبادات البدنية، ونبَّه بها عليها وخصَّها؛ لأنها أشرف العبادات البدنية، وأراد بما ملكت أيمانكم: الحقوق المالية. التنوير شرح الجامع الصغير (8/637).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
وإضافة الْمِلْكِ إلى اليمين كإضافته إلى اليد، والاكتساب والأملاك تضاف إلى الأيدي لِتَصَرُّف المالك فيها، وتَمَكُّنِهِ من تحصيلها باليد، وإضافتها إلى اليمين أبلغ من إضافتها إلى اليد؛ لكون اليمين أبلغ في القوة والتصرف، وأولى بتناول ما كَرُمَ وطاب.
وأرى فيه وجهًا آخر، وهو: أن المماليك خُصُّوا بالإضافة إلى الأيمان تنبيهًا على شرف الإنسان وكرامته، وتبيينًا لفضله على سائر أنواع ما يقع عليه اسم الْمِلْكِ، وتمييزًا له بلفظ اليمين عن جميع ما احتوته الأيدي، واشتملت عليه الأملاك. الميسر في شرح مصابيح السنة (3/ 791).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
وإضافة الملك إلى اليمين كإضافته إلى اليد؛ من حيث إنه يحصل بكسب اليد، أو أن المالك متمكن من التصرف فيه تمكنه مما في يده، بل هي أبلغ من حيث إن اليمين أقوى اليدين، وأقدرهما على العمل. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (2/420).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
وإنما قَرَنَ بين الوصية بالصلاة والوصية بالأَرِقَّاءِ إعلامًا بأنه لا سعة في ترك حقوقهم مِن نفقة وكسوة وغير ذلك مما يجب أن يعلموهم من أمر دِينهم، كما لا سعة في ترك الصلاة. مرقاة المفاتيح (6/2198).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
المراد: احفظوا الصلاة بالمواظبة، وما ملكت أيمانكم بحسن الْمَلَكَةِ، والقيام بما يحتاجون إليه.
وقيل: أراد -صلى الله عليه وسلم- حقوق الزكاة وإخراجها من الأموال التي تملكها الأيدي، كأنه -صلى الله عليه وسلم- أُعْلِم بما يكون من أهل الردة، وإنكارهم وجوب الزكاة، وامتناعهم عن أدائها إلى القائم بعده بقطع حُجَّتهم، بأنْ جَعَلَ آخر كلامه الوصية بالصلاة والزكاة، فقرنهما.
وعلى التفسير الأول قرن بين الصلاة ونفقة المماليك؛ ليُعلم أنْ لا سعة في ترك نفقتهم، كما لا سعة في ترك الصلاة. شرح سنن أبي داود (19/447-448).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
على الإنسان أن يتقى الله -عزَّ وجلَّ- في ملك اليمين؛ وذلك بأن يُحْسَن إليه، ويُعْطَى حقه ولا يُظْلَم، ولا يكلَّف من العمل ما لا يطيق، كما جاء ذلك في الأحاديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكون النبي -صلى الله عليه وسلم- أوصى في آخر ما أوصى بهذين الأمرين اللذين هما الصلاة وملك اليمين يدل على عِظَمِ شأنهما. شرح سنن أبي داود (586/3).
وقال المناوي -رحمه الله-:
وحث عليهما لضعف المملوك، وكونه مَظِنَّة للتقصير في حقه، وميل الطبع إلى الكسل، وإيثار الراحة، والنفس تَنْفِرُ بطبعها عن كثير من العبودية، سيما إذا اتفق ذلك مع قسوة القلب وغلبة الرَّين والميل إلى اللذَّة ومخالطة أهل الغفلة، فلا يكاد العبد مع ذلك يفعلها، وإنْ فَعَلَها بتكلُّف وتشتت قلبٍ وذهول عنها وطلب لفراقها. فيض القدير (4/244).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
وجاءت الوصية بملك اليمين؛ وذلك لأنه قد يُظلم لضعفه، فجاءت السُّنة بالحث على أداء حقه فلا يُظلم ولا يُبخس حقه، وعدم التفريط وعدم التقصير في ذلك. شرح سنن أبي داود (586/3).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
الحديث من جوامع الكَلِمِ، فناب بـ«الصلاة» عن جميع المأمورات والمنهيات {إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} العنكبوت:45، وبـ«ما ملكت أيمانكم» عن جميع ما يتصرف فيه ملكًا وقهرًا؛ ولذلك خَصَّ اليمين كما في قول الشاعر:
وكنَّا الأَيْمَنِيْنَ إذا التقينا *** وكان الأَيْسَرِيْنَ بنو أبينا.
فنبه بالصلاة على تعظيم أمر الله، وبـ«ما ملكت أيمانكم» على الشفقة على خلق الله. الكاشف عن حقائق السنن (7/2384).
وقولها: «حتى جعلَ نبيُّ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُلَجْلِجُهَا في صدرِهِ، وما يفيضُ بها لسانُهُ»:
قال السندي -رحمه الله-:
قوله: «حتى ما يفيض بها لسانه» أي: ما يجري ولا يسيل بهذه الكلمة لسانه، مِن فَاضَ الماء إذا سَالَ وجَرَى، حتى لم يَقْدِرْ على الإفصاح بهذه الكلمة. حاشية السندي على سنن ابن ماجه (1/ 495).