«قيلَ لرسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: أيُّ الأديانِ أحبُّ إلى اللهِ؟ قال: الحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ».
رواه أحمد برقم: (2107)، والبخاري في الأدب المفرد برقم: (287)، والطبراني في الكبير برقم: (11572)، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.
سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (881)، صحيح الأدب المفرد برقم: (287).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«الحَنِيفِيَّة»:
أي: الملَّة المستقيمة. فتح الباري، لابن حجر (1/ 108).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
المائلة عن الباطل إلى الحق. إرشاد الساري (1/ 123).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
والحَنِيْفُ: عند العرب من كان على دِين إبراهيم -عليه السلام-، وأصل الحَنَفُ الـمَيل. النهاية (1/451).
وقال ابن منظور -رحمه الله-:
والحَنِيْفُ: المسلم الذي يتحنَّف عن الأديان أي: يميل إلى الحق، وقيل: هو الذي يستقبل قبلة البيت الحرام على مِلَّة إبراهيم -على نبينا وعليه الصلاة والسلام-، وقيل: هو الْمُخْلِصُ، وقيل: هو مَن أسلم في أمر الله فلم يَلْتَوِ في شيء، وقيل: كلُّ مَن أسلم لأمر الله تعالى، ولم يَلْتَوِ فهو حنيف. لسان العرب (9/ 57).
«السَّمْحَةُ»:
أي: السهلة. إرشاد الساري، القسطلاني (1/ 123).
وقال ابن منظور -رحمه الله-:
والسَّمْحَةُ: ليس فيها ضيق ولا شدة. لسان العرب (2/489).
شرح الحديث
قوله: «قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أي الأديان أحب إلى الله؟»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
المراد بالأديان: الشرائع الماضية قبل أن تُبَدَّلَ وتُنْسَخَ. فتح الباري (1/93-94).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«أحب الأديان» جمع دِين...، والمراد هنا: مِلَل الأنبياء والشرائع الماضية قبل أن تُبدَّل وتُنسخ، وفي رواية للبخاري: «الدِّين» بالإفراد، فإنْ حُمِلَ على الجنس وافق ما هنا، وإلا فالمراد أحبُّ خصال الدِّين؛ لأن خصالها كلها محبوبة، لكن ما كان منها سمحًا أو سهلًا فهو أحب إلى الله، كما يشهد له خبر أحمد الآتي «خيرُ دِيْنِكُم أيْسَرُهُ». فيض القدير (1/ 169).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«أحب» أفْعَل تفضيل من بناء المجهول أي: أشد محبوبيَّة. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (1/102).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: فيلزم أن تكون الملَّة دِينًا، وأن يكون سائر الأديان أيضًا محبوبًا إلى الله -سبحانه وتعالى-، وهما باطلان؛ إذ المفهوم من الملَّة غير المفهوم من الدِّين، وإذ سائر الأديان منسوخة.
قلتُ: اللازم الأول قد يلتزم، وأما الثاني فموقوف على تفسير المحبة، أو المراد بالدِّين الطاعة، أي: أحب الطاعات هي السمحة. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (1/160).
وقال ابن حجر -رحمه الله- عن حديث: «أحب الدين»:
ومعنى «أحب الدِّين» أي: خصال الدِّين؛ لأن خصال الدِّين كلها محبوبة، لكن ما كان منها سمحًا: أي: سهلًا فهو أحب إلى الله، ويدل عليه ما أخرجه أحمد بسند صحيح، من حديث أعرابي لم يُسمَّه، أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «خيرُ دِيْنِكُمْ أَيْسَرُهُ»، أو الدِّين جنس: أي: أحب الأديان إلى الله الحنيفية. فتح الباري (1/93-94).
قوله: «قال: الحَنِيفِيَّة»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«الحنيفية» المائلة عن الباطل إلى الحق، أو المائلة عن دين اليهود والنصارى، فهي المستقيمة، والحنيفية ملة إبراهيم، والحنيف لغة: مَن كان على مِلَّتِه، قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} الحج:78. فيض القدير (1/ 169).
وقال الكشميري -رحمه الله-:
اعلم أن القرآن جعل اليهودية والنصرانية مقابِلًا للحنيفية، قال تعالى: {وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} البقرة: 135، فالقرآن يذم اليهودية والنصرانية، ويمدح الحنيفية، ولا يدرى وجهه، فإنهما أيضًا من الأديان السماوية، نعم، لو كانت المذمَّة على المتَّبِعين لما كان فيه إشكالًا، إلا أنها على هذه الأديان.
فالوجه عندي: أن اليهودية والنصرانية في الأصل ألقاب لأَتْبَاع التوراة والإنجيل؛ ولَمَّا حرفوهما وبدَّلوا كلام الله من بعد ما عقلوه، واشتروا به ثمنًا قليلًا، وباؤوا بغضب من الله، صارت اليهودية والنصرانية ألقابًا لأَتْبَاعِ التوراة المحرَّفة والإنجيل المحرف الذي في أيديهم، فذمَّه القرآن، وقابَل بينهما وبين الحنيفية لهذا.
والحنيف في الأصل لَقَبٌ لإبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، وهو الأصل في هذا اللقب، وسائر الناس فيه تبع له؛ لأنه كان مبعوثًا إلى الكفار، بخلاف موسى وعيسى -عليهما الصلاة والسلام- فإنهما كانا مَبْعُوثَيْن إلى بني إسرائيل، وهم مسلمون نَسَبًا، فلم يُلَقَّبَا به، وإن كانا حَنِيْفَيْنِ قطعًا... وقد أمر الله جميع الناس بالحنيفية فقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء} البينة: 5. فيض الباري على صحيح البخاري (1/203).
قوله: «السمحة»:
قال الكرماني -رحمه الله-:
«السمحة» أي: السهلة؛ إذ المسامَحَة المساهَلة، والملة السمحة التي لا حرج فيها، ولا تضييق فيها على الناس، أي: ملَّة الإسلام، ويحتمل: أن تكون اللام للعهد، ويراد بالملة الحنيفية الملة الإبراهيمية؛ مقتبسًا من قوله تعالى: {بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} البقرة:135. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (1/160).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«السمحة» السهلة القابلة للاستقامة المنقادة إلى الله، المسَلِّمَة أمرها إليه، لا تتوجه إلى شيء من الكثافة والغلظة والجمود التي يلزم منها العصيان والسماجة والطغيان. فيض القدير (1/ 169).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«السمحة» السهلة التي ليس فيها شيء من الآصار والأغلال التي كانت في شرائع الأنبياء -عليهم السلام-، ولما كانت أحبَّ الأديان إليه اختارها لأحب رسله -صلى الله عليه وسلم- إليه وأُمَّته {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} النحل:123. التنوير شرح الجامع الصغير (1/390).
وقال ابن قرقول -رحمه الله-:
«الحنيفية السمحة» أي: الملَّة المستقيمة، والحنَفُ: الاستقامة، والحنيف: المستقيم، ومنه في وصفه (أي: النبي -صلى الله عليه وسلم-): برًّا حنيفًا قاله أبو زيد، وقيل: المائلة إلى الإسلام عن كل دِين، والحنيف: المائل من شيء إلى شيء. مطالع الأنوار على صحاح الآثار (2/ 316).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
جمع بين كونها حنيفية وكونها سمحة، فهي حنيفية في التوحيد سمحة في العمل، وضد الأمرين الشرك وتحريم الحلال، وهما اللذان ذكرهما النبي -صلى الله تعالى عليه وآله- فيما يروي عن ربه -تبارك وتعالى- أنه قال: «إني خلقتُ عبادي حُنَفَاء، وإنهم أتتهم الشياطين فَاجْتَالَتْهُم عن دِينهم، وحرَّمتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرتْهم أن يشركوا بي ما لم أُنْزِلْ به سلطانًا». إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/158).