الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

قال رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- لمعاذِ بنِ جَبَلٍ حين بَعَثَهُ إلى اليمن: «إنَّك ستأتي قومًا أهلَ كتابٍ، فإذا جئتَهُم، فادعُهُم إلى أنْ يَشْهَدُوا أنْ لا إله إلَّا اللَّهُ، وأنَّ محمدًا رسولُ اللَّهِ، فإنْ هم أَطَاعُوا لك بذلك، فأخْبِرْهُمْ أنَّ اللَّهَ قد فَرَضَ عليهم خَمْسَ صلواتٍ في كُلِّ يومٍ وليلةٍ، فإنْ هم أَطَاعُوا لك بذلك، فأخبِرْهُم أنَّ اللَّه قد فَرَضَ عليهم صدقةً تُؤْخَذُ مِن أغنيائِهِم، فتُرَدُّ على فقرائِهِم، فإنْ هم أَطَاعُوا لك بذلك، فإيَّاكَ وكَرَائِمَ أموالِهِم واتَّقِ دعوةَ المظلومِ، فإنَّه ليس بينَهُ وبينَ اللَّهِ حِجَابٌ».


رواه البخاري برقم: (2448)، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.
ورواه أحمد برقم: (12549)، من حديث أنس -رضي الله عنه-، وزاد في دعوة المظلوم: «وإنْ كان كافرًا».
سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (767)، صحيح الترغيب والترهيب برقم: (2231).


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«أهل كتاب»:
المرادُ بهم: اليَهُود والنَّصارى، ومن يُوافِقُهم في التَّدَيُّن بالتوراة والإنجيل. الدر النقي في شرح ألفاظ الخرقي، لابن المبرد (3/ 626).
وقال الراغب الأصفهاني -رحمه الله-:
وحيثما ذَكَرَ الله تعالى أهل الكتاب فإنما أراد بالكتاب التّوراة والإنجيل، أو إيّاهما جميعًا. المفردات في غريب القرآن (ص: 701).

«فَرَضَ»:
الفَرْضُ: هو الواجِبُ المقطوعُ بوجوبِهِ، وفَرَضَ اللهُ علينا، أي: أوجَبَ. النظم المستعذب في تفسير غريب ألفاظ المهذب، الركبي (1/ 96).

«كَرَائِمَ»:
كرائم أَمْوَالهم: نَفَائِسها، وَقيل: مَا يختصه صَاحبه لنَفسِهِ مِنْهَا ويُؤْثِرُهُ... كرائمُ المَال خيره وأفضله. مشارق الأنوار، للقاضي عياض (1/ 339).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
أي: نفائسها التي تتعلق بها نفس مَالِكِها ويختصها لها، حيث هي جامعة للكمال الممكن في حقها، وواحدتها: كريمة. النهاية في غريب الحديث(4/ 167).

«حِجَابٌ»:
أي: ليس لها صارفٌ يصرفها ولا مانع، والمراد أنها مقبولة، وإن كان عاصيًا. دليل الفالحين، لابن علان (2/ 524).
وقال الأزهري-رحمه الله-:
الحِجَاب: اسم ما حَجَبْتَ به بين شيئين، وكل شيء مَنَعَ شيئًا فقد حَجَبَه. تهذيب اللغة (4/ 97).


شرح الحديث


قوله: «قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قومًا أهل كتاب»:
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «ستأتي قومًا» توطئة للوصية؛ ليُقَوِّي همَّتَه عليها؛ لكون أهل الكتاب أهل علم في الجملة، فلذلك خصَّهم بالذكر؛ تفضيلًا لهم على غيرهم.
قوله: «أهل كتاب»، بدل لا صفة، وكان في اليمن أهل الذمة وغيرهم، وحكى ابن إسحاق في أول السيرة: إن أصل دخول اليهود في اليمن في زمن أسعد أبي كَرِبٍ، وهو تُبَّعُ الأصفر. عمدة القاري (9/ 93).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «أهل الكتاب» بدل لا صفة، وقُيِّد بهم وفي اليمن أهل الذمة وغيرهم من المشركين تغليبًا لهم. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (8/ 40).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«أهل الكتاب» بدل ممّا قبله، وخصَّهم بالذكر مع أن في اليمن غيرهم من المشركين؛ تغليبًا وإشارة إلى أنهم المقصودون بالبعث، وتوطئة لبَعْثِهِ -صلى الله عليه وسلم- معاذًا؛ لتقوى همته عليه؛ لكونهم أهل علم في الجملة. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (3/ 590)
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«إنك ستأتي قومًا أهل كتاب» بنصب «أهل» بدلًا من قوم لا صفة، وهذا كالتوطئة للوصية؛ لتقوى همته عليها؛ لكون أهل الكتاب أهل علم في الجملة؛ ولذا خصَّهم بالذِّكر تفضيلاً لهم على غيرهم مِن عَبَدَة الأوثان، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: «أهل الكتاب» بالتعريف. إرشاد الساري(3/ 78).
وقال القسطلاني -رحمه الله- أيضًا:
«قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن» سنة عشر قبل حجة الوداع، يعلمهم القرآن والشرائع، يقضي بينهم ويأخذ الصدقات من العمال.
«إنك ستأتي قومًا من أهل الكتاب» التوراة والإنجيل، ولأبي ذر: «قومًا من أهل كتاب» وسقطت لفظة ، فـ«أهل» بفتح اللام و«كتاب» بالتنكير. إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (6/ 420).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وكان بَعْثُ معاذ إلى اليمن سنة عشر، قبل حَجِّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كما ذكره المصنف (البخاري) في أواخر المغازي، وقيل: كان ذلك في أواخر سنة تسع عند مُنْصَرَفِهِ -صلى الله عليه وسلم- من تبوك، رواه الواقدي بإسناده إلى كعب بن مالك، وأخرجه ابن سعد في الطبقات عنه، ثم حكى ابن سعد أنه كان في ربيع الآخر سنة عشر، وقيل: بَعَثَهُ عام الفتح سنة ثمان، واتفقوا على أنه لم يزل على اليمن إلى أن قَدِمَ في عهد أبي بكر ثم توجَّه إلى الشام فمات بها، واختُلف هل كان معاذ واليًا أو قاضيًا؟
فجَزَم ابن عبد البر بالثاني، والغساني بالأول.
قوله: «ستأتي قومًا أهل كتاب» هي كالتوطئة للوصية؛ لتستجمع همته عليها؛ لكون أهل الكتاب أهلُ علم في الجملة، فلا تكون العناية في مخاطبتهم كمخاطبة الجهال من عبدة الأوثان، وليس فيه أن جميع من يقدم عليهم من أهل الكتاب، بل يجوز أن يكون فيهم من غيرهم، وإنما خصَّهم بالذِّكر تفضيلًا لهم على غيرهم. فتح الباري (3/ 358).

قوله: «فإذا جئتهم، فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله»:
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«أطاعوا لك» عدَّاه باللام، مع أنه يتعدَّى بنفسه؛ لتضمينه معنى انقادوا. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (3/ 590)
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله» بدأ بهما؛ لأنهما أصل الدين الذي لا يصح شيء غيرهما إلا بهما، واستُدِلَّ به على أنه لا يكفي في الإسلام الاقتصار على شهادة أن لا إله إلا الله حتى يضيف الشهادة لمحمد بالرسالة، وهو قول الجمهور. إرشاد الساري (3/ 78).
وقال الفاكهاني -رحمه الله-:
وقعت البداية بمطالبتهم بالشهادتين؛ لأنهما أصل الدين وأساسُه الذي تُبنى عليه جملةُ فروعه؛ إذ لا يصح شيء منها إلا بعد ثبوت الشهادتين قطعًا؛ ولذلك أجمعت الأُمّةُ على أن الكفار مخاطَبون بهما، فمن كان منهم غيرَ موحِّد على التحقيق -كالنصارى- طولب بكل واحدة من الشهادتين عَيْنًا، ومن كان موحِّدًا -كاليهود- طولب بالإقرار بالرسالة؛ فإنهم يدخلون في الإِسلام بالإيمان بما كفروا به، وتقديم المطالبة بالإيمان لا يدل على عدم المخاطبة بالفروع؛ من حيث إن الترتيب في الدعاء لا يلزم منه الترتيبُ، ولا بد من الترتيب في الوجوب؛ بدليل وجود الترتيب في الحديث بين الصلاة والزكاة، ولا ترتيبَ بينهما في الوجوب. رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام (3/ 289).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
والبداءة في المطالبة بالشهادتين؛ لأن ذلك أصل الدِّين الذي لا يصح شيء من فروعه إلا به، فمن كان منهم غير موحِّد على التحقيق -كالنصارى- فالمطالبة متوجهة إليه بكل واحدة من الشهادتين عينًا، ومن كان موحدًا -كاليهود- فالمطالبة له: بالجمع بين ما أقر به من التوحيد، وبين الإقرار بالرسالة، وإن كان هؤلاء اليهود -الذين كانوا باليمن- عندهم ما يقتضي الإشراك، ولو باللزوم يكون مطالبتهم بالتوحيد؛ لنفي ما يلزم من عقائدهم.
وقد ذكر الفقهاء: أن مَن كان كافرًا بشيء، مؤمنًا بغيره: لم يدخل في الإسلام إلا بالإيمان بما كفر به.
وقد يتعلق بالحديث -في أن الكفار غير مخاطَبين بالفروع- من حيث إنه إنما أَمَرَ أولًا بالدعاء إلى الإيمان فقط، وجعل الدعاء إلى الفروع بعد إجابتهم الإيمان، وليس بالقوي؛ من حيث إن الترتيب في الدعاء لا يلزم منه الترتيب في الوجوب، ألا ترى أن الصلاة والزكاة لا ترتيب بينهما في الوجوب؟ وقد قُدِّمت الصلاة في المطالبة على الزكاة، وأخر الإخبار لوجوب الزكاة عن الطاعة بالصلاة، مع أنهما مستويتان في خطاب الوجوب. إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 375).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «فإذا جئتهم» قيل: عبَّر بلفظ: «إذا» تفاؤلًا بحصول الوصول إليهم.
قوله: «فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله» كذا للأكثر، وقد تقدم في أول الزكاة بلفظ: «وأني رسول الله» كذا في رواية زكريا بن إسحاق لم يختلف عليه فيها، وأما إسماعيل بن أمية ففي رواية روح بن القاسم عنه: «فأوَّل ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله»، وفي رواية الفضل بن العلاء عنه: «إلى أن يوحدوا الله، فإذا عرفوا ذلك»، ويجمع بينها بأن المراد بعبادة الله توحيده، وبتوحيده الشهادة له بذلك ولنبيه بالرسالة، ووقعت البداءة بهما؛ لأنهما أصل الدِّين الذي لا يصح شيء غيرهما إلا بهما، فمن كان منهم غير موحِّد فالمطالبة متوجهة إليه بكل واحدة من الشهادتين على التعيين، ومن كان موحدًا فالمطالبة له بالجمع بين الإقرار بالوحدانية والإقرار بالرسالة، وإن كانوا يعتقدون ما يقتضي الإشراك أو يستلزمه كمن يقول: ببُنُوَّة عزير، أو يعتقد التشبيه، فتكون مطالبتهم بالتوحيد لنفي ما يلزم من عقائدهم، واستدل به من قال من العلماء: إنه لا يشترط التبري من كل دِين يخالف دين الإسلام، خلافًا لمن قال: إن من كان كافرًا بشيء وهو مؤمن بغيره لم يدخل في الإسلام إلا بترك اعتقاد ما كفر به، ويُطَالَب بالثانية، وفائدة الخلاف تظهر بالحكم بالردة. فتح الباري (3/358-359).

قوله: «فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة»:
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «فإن هم أطاعوا لك بذلك» أي: شهِدوا وانقادُوا، وفي رواية ابن خزيمة: «فإن هم أجابوا لذلك»، وفي رواية الفضل بن العلاء: «فإذا عرفوا ذلك»، وإنما عُدِّي «أطاعوا» باللام، وإن كان يتعدَّى بنفسه لتضمُّنه معنى: انقادوا. عمدة القاري(9/ 93).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
«وأطاعوا» أي: انقادوا له. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري(8/ 40).
وقال الفاكهاني -رحمه الله-:
وأما إطاعتُهم بالصلاة فلا يلزم منها إقرارُهم بفرضيَّتها، بل لو فعلوها على الوجه المشروع كان ذلك كافيًا، ولم يشترط تلفُّظُهم بالإقرار بالفرضية؛ ولذلك نقول في الزكاة: حيث يحصل منهم الامتثالُ بإخراجها، لا يلزمُهم التلفظ بالإقرار بوجوبها، وإنما المعتبرُ من ذلك الإذعانُ لما أُمروا به، وعدمُ الإنكار، واللَّه أعلم. رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام (3/ 289-290).
وقال الفاكهاني -رحمه الله- أيضًا:
قوله -عليه الصلاة والسلام-: «خمسُ صلواتٍ في كلِّ يوم وليلة» فيه: دليل صريح على عدم وجوب الوتر، فإنَّ بَعْثَه -عليه الصلاة والسلام- مُعاذًا إلى اليمن كان متأخرًا بعدَ استقرار أمر الوتر، والعملِ به قبلَ وفاته -عليه الصلاة والسلام- بقليل. رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام (3/ 290).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
وقوله -عليه السلام-: «فإن هم أطاعوا لك بذلك»...، أما طاعتهم في الصلاة: فيحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون المراد إقرارهم بوجوبها وفرضيتها عليهم، والتزامهم لها.
والثاني: أن يكون المراد الطاعة بالفعل، وأداء الصلاة.
وقد رجح الأول بأن المذكور في لفظ الحديث هو الإخبار بالفريضة، فتعود الإشارة بذلك إليها.
ويترجح الثاني بأنهم لو أُخبروا بالوجوب فبادروا بالامتثال بالفعل لكفى، ولم يشترط تلفظهم بالإقرار بالوجوب. إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 376).
وقال ابن حجر -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
والذي يظهر أن المراد القَدْرُ المشترك بين الأمرين، فمن امتثل بالإقرار أو بالفعل كفاه أو بهما فأَوْلى. فتح الباري (3/359).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
لكن رجّح الأول بأمر معاذ بإخبارهم بالفرضية، فتعود الإشارة إليها، ورجح الثاني بأنهم لو بادروا إلى الامتثال بالفعل لكفى، ولم يشترط بلفظهم بالإقرار للوجوب، وكذلك في الزكاة، لو بادروا بأدائها من غير لفظٍ بالإقرار لكفى، فالشرط عدم الإنكار للوجوب، لا التلفظ بالإقرار، وإنما كان كذلك؛ لأن المبادرة إلى الفعل متضمِّن الامتثال والإقرار بالوجوب، فهو أبلغ في ذلك جميعه، لا أنه المطلوب فقط ظاهرًا، بل مطلوب الشرع وجود الامتثال للأمر بسوابقه ولواحقه، لكن هل يستفاد ذلك من صيغة الأمر بالمطلوب أم من أمر خارج؟ فيه كلام في أصول الفقه. العدة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام (2/ 798-799).

قوله: «فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتُرَدُّ على فقرائهم»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
«فأخْبِرْهُم أن الله قد فرض عليهم صدقة» في أموالهم «تؤخذ من أغنيائهم» يأخذها الإمام أو نائبه، «فتُرَدُّ على فقرائهم»، خصهم بالذِّكر وإن كان مستحق الزكاة أصنافًا أُخَر لمقابلة الأغنياء؛ ولأن الفقراء هم الأغلب، والضمير في «فقرائهم» يعود على أهل اليمن، فلا يجوز النقل لغير فقراء أهل بلد الزكاة. إرشاد الساري(3/ 79).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
نقول في الزكاة: لو امتثلوا بأدائها من غير تلفُّظ بالإقرار لكفى، فالشرط عدم الإنكار، والإذعان للوجوب، لا التلفظ بالإقرار.
وقد استدل بقوله -عليه السلام-: «أَعْلِمْهُم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتُرَدُّ على فقرائهم» على عدم جواز نقل الزكاة عن بلد المال، وفيه عندي ضعيف؛ لأن الأقرب أن المراد: يؤخذ من أغنيائهم من حيث إنهم مسلمون، لا من حيث إنهم من أهل اليمن، وكذلك الرد على فقرائهم، وإن لم يكن هذا هو الأظهر فهو محتمل احتمالًا قويًا، ويقويه: أن أعيان الأشخاص المخاطَبين في قواعد الشرع الكلية لا تعتبر، وقد وردت صيغة الأمر بخطابهم في الصلاة، ولا يختص بهم قطعًا -أعني الحكم-، وإن اختص بهم خطاب المواجهة، وقد استدل بالحديث أيضًا على أن من ملك النصاب لا يعطى من الزكاة.
وهو مذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب مالك، ومن حيث إنه جعل أن المأخوذ منه غنيًا، وقابَلَهُ بالفقير، ومَن مَلَكَ النصاب فالزكاة منه، فهو غني، والغني لا يُعطَى من الزكاة إلا في المواضع المستثناة في الحديث، وليس بالشديد القوة، وقد يستدل به من يرى إخراج الزكاة إلى صنف واحد؛ لأنه لم يذكر في الحديث إلا الفقراء، وفيه بحث، وقد يُستدل به على وجوب إعطاء الزكاة للإمام؛ لأنه وصف الزكاة بكونها «مأخوذة من الأغنياء»، فكل ما اقتضى خلاف هذه الصفة فالحديث ينفيه. إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 376).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
«فتُرَدُّ على فقرائهم» الضمير في فقرائهم وأغنيائهم عائد إلى المسلمين أم إلى كل ناحية منهم؟ فإن نظرنا إلى عموم الحُكم، جعلنا الضمير عائدًا إلى جميع المسلمين، وإن نظرنا إلى خصوصية المبعوث إليهم أهل اليمن، رددناه إلى الناحية، فيختص الحكم بهم، لكن أعيان الأشخاص في قواعد الشرع الكلية غير معتَبر، ولولا المناسبة الموجودة في باب الزكاة لقطعنا بعدم اعتبار خصوصية الناحية، كما هي غير معتبرة في الصلاة قطعًا في الحكم، وتظهر فائدة هذا الكلام في جواز نقل الزكاة وعدمه عن بلد المال، وفيه اختلاف. العدة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام (2/ 799).

قوله: «فإنْ هم أطاعوا لك بذلك، فإياك وكرائم أموالهم»:
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «أطاعوا» ذكره ابن التين بلفظ: «أطاعوا لك بذلك» أي: انقادوا لك بذلك، يقال: هو طوع فلان أي: مُنقاد له، فإذا مضى لأمره فقد أطاعه، وإذا وافقه فقد: طاوعه.
قوله: «وكرائم» جمع كريمة. وهي: النفيسة. عمدة القاري (18/ 5).
وقال العيني -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «فإياك» كلمة تحذير «وكرائمَ» منصوب بفعل مُضْمَر لا يجوز إظهاره، قال ابن قتيبة: ولا يجوز حذف الواو، أما عدم جواز إظهار الفعل فللقرينة الدالة عليه، ولطول الكلام، وقيل: لأن مثل هذا يقال عند تشديد الخوف، وأما عدم جواز حذف الواو لأنها حرف عطف، فيختل الكلام بحذفه، والكرائم: جمع كريمة وهي النفيسة. عمدة القاري (9/ 93-94).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
و«كرائم» أي: نفائس. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (8/ 40).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
ويدل الحديث أيضًا على أن كرائم الأموال لا تؤخذ من الصدقة، كالأكولة والرُّبَّى -وهي التي تُرَبِّي ولدها-، والماخِضِ -وهي الحامل-، وفحل الغنم، وحَزَرَات المال -وهي التي تُحْرَزُ بالعين وتُرْمَق-، لشرفها عند أهلها.
والحكمة فيه: أن الزكاة وجَبَت مواساة للفقراء من مال الأغنياء، ولا يناسب ذلك الإجحاف بأرباب الأموال، فسامَحَ الشرع أرباب الأموال بما يضنون به، ونهى الْمُصَدِّقِينَ (الذين يأخذون الصدقات) عن أخذه. إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 376-377).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «فإنْ هم أطاعوا لك بذلك، فإياك وكرائمَ أموالهم» الكرائمُ: جمع كريمة، وهي جامعة الكمال في حقها؛ من غزارة لبن، وجمال صورة، أو كثرة اللحم، أو الصوف، والرواية: «وإياك وكرائم» بالواو في «وكرائم»... العدة في شرح العمدة (2/ 799).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
ففيه ترك أخذ خيار المال، والنُّكتة فيه: أن الزكاة لمواساة الفقراء فلا يناسب ذلك الإجحاف بمال الأغنياء إلا إن رضوا بذلك. فتح الباري (3/360).

قوله: «اتَّقِ دعوة المظلوم»:
قال المظهري -رحمه الله-:
يعني: احذر دعوة المظلوم؛ يعني: لا تظلم أحدًا حتى لا يدعو عليك؛ فإن المظلوم إذا دعا على الظالم يقبل الله دعاؤه؛ لأن قبول دعائه نصرة المظلوم، والله تعالى وعد بنصرةِ المظلوم. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 122).
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «واتق دعوة المظلوم» أي: تجنب الظلم؛ لئلا يدعو عليك المظلوم، وقيل: هو تذييل لاشتماله على الظلم الخاص وهو أخذ الكرائم، وعلى غيره. عمدة القاري (9/ 94).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«واتق دعوة المظلوم» أي: تجنب الظلم؛ لئلا يدعو عليك المظلوم، فإن ظلمه سبب لدعائه. شرح سنن أبي داود (7/ 528).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«اتق» أي: احذر «دعوة المظلوم» أي: لا تظلم أحدًا بأن تأخذ منه شيئًا ظلمًا، أو تمنع أحدًا حقَّه تعديًا، أو تتكلم في عرضه افتراء حتى لا يدعو عليك. مرقاة المفاتيح(4/ 1526).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قوله: «واتق دعوة المظلوم» فيه: أن للإمام أن يَعِظَ من ولَّاه النظر في أمور رعيته، ويأمره بالعدل بينهم، ويخوِّفه عاقبة الظلم، ويحذِّره وَبَالَه، قال الله تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} هود:18، ولعنة الله: الإبعاد من رحمته، والظلم محرَّم في كل أُمَّة، وقد جاء في الحديث: «أن دعوة المظلوم لا تُرَدُّ وإن كانت من كافر»، ومعنى ذلك: أن الله تعالى لا يرضى ظلم الكافر كما لا يرضى ظلم المؤمن، وأخبر تعالى أنه لا يظلم الناس شيئًا، فدخل في عموم هذا اللفظ جميع الناس من مؤمن وكافر. شرح صحيح البخاري (3/ 548).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
بوَّب مالك -رضي الله عنه- على الحديث المروي: «اتقوا دعوة المظلوم» وأُدخلَ ذلك عن عمر -رضي الله عنه-؛ وذلك في كتابِ الله تعالى موجود، قال الله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} النمل:62، والمظلوم مضطر، فإذا قال المظلوم المضطر: ربِّ إني قد اضطررتُ إليك فأجِبْ دعائي، والضرورة قد تكون في البدن، وقد تكون في الدين بالمعصيَةِ، فيقول: رب قد اضطرَرت إليك في التوبة، ورجعت إليك رجوع العبد الآبق إلى المولى الكريم، فاقبلني بفضلك كأكرم قبول لقي به مَولىً عبده، فإنك لطيف كريم وأنت أرحم الراحمين، فهكذا كان يدعو بعض أشياخي، وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} البقرة:186. القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (ص: 1199-1200).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «واتَّقِ دعوة المظلوم» أي: تجنَّب الظلم؛ لئلا يدعو عليك المظلوم، وفيه تنبيه على المنع من جميع أنواع الظلم، والنكتة في ذكره عقب المنع من أخذ الكرائم: الإشارة إلى أنَّ أخذها ظلم، وقال بعضهم: عطف «واتق» على عامل «إياك» المحذوف وجوبًا، فالتقدير: اتَّقِ نفسك أن تتعرض للكرائم، وأشار بالعطف إلى أن أخذ الكرائم ظلم، ولكنه عمَّم إشارة إلى التحرز عن الظلم مطلقًا. فتح الباري (3/360).
وقال السندي -رحمه الله-:
«واتق دعوة المظلوم» أريد به اتق الظلم؛ خوفًا من دعوة المظلوم عليك.
فيه: أنه وإن كان قد يغلب حب الدنيا حتى ينسى الآخرة فلا يترك الظلم لكونه حرامًا مضرًّا في الآخرة، فليترك لحب الدنيا خوفًا من دعوة المظلوم وإلا فالظلم يجب تركه؛ لكونه حرامًا وإن لم يخف دعوة صاحبه. حاشية السندي على سنن ابن ماجه (1/ 543-544).
وقال السندي -رحمه الله- أيضًا:
وقوله: «اتق دعوة المظلوم» أُرِيد به: اتق الظلم خوفًا من دعوته عليك؛ وهذا لزيادة التأكيد، وإلا فلا بد من اتقاء الظلم؛ لكونه حرامًا وإن لم يَخَفْ دعوة صاحبه. فتح الودود في شرح سنن أبي داود (2/ 208).
وقال العجلوني -رحمه الله-:
«اتَّقِ» بتشديد المثناة الفوقية وبالقاف على حذف الياء؛ لأنه معتل بها؛ أي: اجتنب «دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ» أي: سببها، فلا تظلمه وإن كان عاصيًا. الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري (ص: 9124).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
ويدخل في الظلم جميع أنواعه لا ظلم نفسه؛ فإن الإنسان إذا ظَلَمَ نفسه لا يدعو عليها، والنكتة في ذكر الظلم عقب المنع من أخذ الكرائم: إشارة إلى أنَّ أَخْذَها من جملة الظلم المنهي عنه، والإشارة بالعطف إلى أن التقدير: اتق نفسك أن تأخذ الكرائم؛ فإنه ظلم، واتقِ جميع أنواع الظلم. شرح سنن أبي داود (7/ 528).

وقوله: «فإنها ليس بينها وبين الله حجاب»:
قال ابن الملك -رحمه الله-:
«فإنه ليس بينها» أي: بينَ دعوتِه «وبينَ الله حجاب» إذا دعا على ظالمه يَقبَل الله دعاءَه. شرح المصابيح(3/ 71-72).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «فإنها» أي: فإن دعوة المظلوم، ويروى: «فإنه» أي: فإن الشأن ليس بين دعوة المظلوم وبين الله حجاب، ومعنى عدم الحجاب أنها مجابة، وقد جاء في حديث آخر مفسرًا: «دعوة المظلوم مجابة وإن كان فاجرًا، ففجوره على نفسه» رواه ابن أبي شيبة عن أبي هريرة مرفوعًا. عمدة القاري (12/ 293).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» كناية عن سرعة الإجابة، وقد جاء مرفوعًا: «أربعة لا يُرَدُّ دعاؤهم: الوالد للولد، والإمام العادل، ودعاء المؤمن لأخيه المؤمن في غيبة، ودعاء المظلوم»، فإن قلتَ: كم من مظلوم يدعو على ظالمه ولا يصيبه شيء؟
قلتُ: الأمور مرهونة بأوقاتها، وسيأتي أنه يستجاب له، أو يدَّخَر له ما هو خير منه. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (5/ 122-123).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
وقوله: «ليس بينها وبين الله حجاب» دليل على أن الله تعالى لا يحجبه شيء، وإنما الحجاب عائد علينا وهو المنع. المسالك في شرح موطأ مالك (7/ 604).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وقوله: «فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» أي: أنها مسموعة مستجابة لا تُردُ. إكمال المعلم (1/ 241).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» أي: إذا دعا على ظالمه يقرب من الإجابة. مرقاة المفاتيح (4/ 1526).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» الرواية الصحيحة في «فإنه» بضمير المذكر؛ على أن يكون ضمير الأمر والشأن، ويحتمل: أن يعود على مذكَّر الدعوة؛ فإن الدعوة دعاء، ووقع في بعض النُّسَخ: «فإنها» بهاء التأنيث، وهو عائد على لفظ الدعوة.
ويستفاد منه: تحريم الظلم، وتخويف الظالم، الدعاء للمظلوم عليه، والوعد الصدق بأن الله تعالى يستجيب للمظلوم فيه، غير أنه قد تُعَجَّل الإجابة فيه، وقد يُؤخِّرها؛ إملاء للظالم؛ كما قال -عليه الصلاة والسلام-: «إن الله يُمْلِي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْهُ» ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} هود:102، وكما قد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إن الله تعالى يرفع دعوة المظلوم على الغَمَام، ويقول لها: لأَنْصُرَنَّك ولو بعد حين». المفهم(1/ 184).
وقال النووي -رحمه الله-:
ومعنى «ليس بينها وبين الله حجاب» أي: أنها مسموعة لا تُرَدُّ...، وفيه بيان عِظَمِ تحريم الظلم، وأن الإمام ينبغي أن يَعِظَ ولَاتَه ويأمرهم بتقوى الله تعالى، ويبالغ في نهيهم عن الظلم، ويُعَرِّفهم قبح عاقبته. شرح النووي على مسلم (1/ 197).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
وقوله: «فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» تعليل للاتقاء، وتمثيل للدعوة لمن يقصد إلى السلطان متظلمًا فلا يحجب عنه. شرح المشكاة (5/ 1470).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
ومعنى: «ليس بينها وبين الله حجاب» أي: ليس لها صارف يصرفها، ولا مانع يمنعها عن القبول، وإن كان الداعي عاصيًا كما جاء في رواية عن أبي هريرة: «دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرًا فجوره على نفسه» وإسناده حسن.
وليس المراد أن لله حجابًا يحجبه عن الناس، و«ليس بينها حجاب» تعليل للاتقاء، وتمثيل للدعاء كمن يقصد دار الحاكم العادل وهو مظلوم، فلا يحجب. شرح سنن أبي داود (7/ 528).
وقال السيوطي -رحمه الله- :
«فإنها ليس بينها وبين الله حجاب»، أي: ليس لها ما يصرفها، ولو كان المظلوم فيه ما يقتضي أنه ما يستجاب لمثله من كون مَطْعَمه حرامًا أو نحو ذلك، حتى ورد في بعض طرقه: «وإن كان كافرًا» رواه أحمد من حديث أنس. قوت المغتذي على جامع الترمذي (1/ 243).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«فإنها» دعوة المظلوم «أليس بينها وبين الله حجاب» كناية عن التجنُّب عن الظلم، أي: اجتنب الظلم؛ لئلا يدعو عليك المظلوم، ونفي الحجاب تمثيلٌ واستعارة لسرعة الاستجابة. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (6/ 389).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
الله -عزَّ وجلَّ- ليس بينه وبين شيء حجاب عن قدرته وعلمه وإرادته وسمعه وبصره، لا يخفى عنه شيء، ولا يعجزه شيء، فإذا أخبر عن شيء أن بينه وبينه حجاب فإنما يريد به منعه، فالمنع حجاب الله عما أراد منعه على الاطلاق، فأما الدعاء فقد جاء فيه قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} البقرة:186، مطلقًا لكل داعٍ.
وقد جاء قوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} النمل:62، فلما قررنا على ذلك قلنا بتوفيقه: لا يجيب المضطر، ولا يكشف السوء إلا أنت، فإذا رأيتَ داعيًا مظلومًا مضطرًا يسأل في شيء فلا يناله فإياك أن تقول: هذا خُلْفٌ في الوعد، ولا بخل بالعطاء؛ فإنه كفر، ولا تعتقد ذلك؛ فإنه شرك يخرج عن التوحيد، ويُبْطِل العمل، ويوجِب الخلود في النار، ولكنْ تحقَّقْ أنَّ الباري تعالى وإنْ أطلق الأقوال ها هنا في موضع فقد بيَّن على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- متقيدها المفسَّر بحقيقتها في موضع آخر، فقال: «ما من داعٍ يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث: أما يُستجاب، وإما يُدَّخر له، وإما أن يُعَوَّض». عارضة الأحوذي (3/ 119-120).

قوله: «وإنْ كان كافرًا»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«‌وَإِن ‌كان ‌كافرًا» فإنّ دَعوته إِذا كان مظلومًا مقبولة، والله تعالى ينتقم له كما ينتقم منه، «فإِنَّهُ ليس دونها حجاب» أَي: ليس بينها وبين القبول مانع. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 31).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
«‌وإن ‌كان ‌كافرًا» معصومًا فإن دعوته إن كان مظلومًا مستجابة وفجورهِ على نفسه. فيض القدير (1/ 142).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«اتقوا دعوة ‌المظلوم ‌وإن ‌كان ‌كافرًا» فإن الله حرَّم ظُلمه وأَنه ينتقم له كما ينتقم منه، «فإنه ليس دونه» دون دعائه «حجاب»، فلا يظن أنّ كُفره وقبائح أفعاله يُحجب دُعاءه من القبول، فإن حجاب الدعوة كِناية عن عَدم قبولها، فإِنه إِنما يُطلب حَقّه، وهذا من عظيم إِنصاف الربّ -تبارك وتعالى- حيث ينتصف له، وما أَنصف هو رَبّه بطاعته. التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 346).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
أخبر الله تعالى أنَّه يجيب دعوة ‌المظلوم ‌وإن ‌كان ‌كافراً؛ بل قال تعالى في خطاب المشركين: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} الإسراء:67، وهذه للمشركين كما قال: {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ}، وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يونس:12.الإنصاف في حقيقة الأولياء (ص:76).
وقال السندي -رحمه الله-:
«وبَيْنَ الله» أي: بين وصولها إلى محل الاستجابة والقبول، وقد جاء «ولو كان عاصيًا» فعند أحمد مرفوعًا: «دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرًا ففجوره على نفسه» وإسناده صحيح. حاشية السندي على سنن ابن ماجه (1/ 544).
وقال السندي -رحمه الله- أيضًا:
وقوله: «بين الله» أي بين وصولها إلى محل الاستجابة والقبول، وقد جاء في بعض الحديث: «ولو كان كافرًا». فتح الودود في شرح سنن أبي داود (2/ 208).
وقال العجلوني -رحمه الله-:
يريد به أن الله تعالى لا يرد دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب ولو كانت من كافر فنفي الحجاب كناية عن إجابتها، وقد فَسر ذلك عمر -رضي الله عنه- في حديث (الحِمَى) فقال: اتق دعوة المظلوم فإنها مجابة. الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري (ص: 9124).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
وأَما إجابة السائلين فعام؛ فإن الله يُجيب دعوة المضطر ودَعوة ‌المظلوم ‌وإن ‌كان ‌كافرًا. مجموع الفتاوى (1/ 223-224).
وقال إسماعيل حقي -رحمه الله-:
اختلف العلماء في أنه هل يجوز أن يقال: يستجاب دعاء الكافرين فمنعه الجمهور؛ لقوله تعالى: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} غافر:50؛ ولأن الكافر لا يدعو الله لأنه لا يعرفه؛ لأنه وإن أَقر به لما وصفه بما لا يليق به نقض إقراره، وما روي في الحديث: «أن دعوة ‌المظلوم ‌وإن ‌كان ‌كافرًا تستجاب» فمحمول على كُفران النِّعمة، وجوزه بعضهم؛ لقوله تعالى حكاية عن إبليس: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي} ص:79، أي: أمهلني ولا تمتنى سريعًا، فقال الله تعالى: {إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} الأعراف:15، فهذه إجابة، وبالجواز يُفتى. روح البيان (8/ 192).
وقال ابن عابدين -رحمه الله-:
وما روي في الحديث من: «أن دعوة ‌المظلوم ‌وإن ‌كان ‌كافرًا تستجاب» فمحمول على كفران النِّعمة، وجوزه بعضهم حكاية عن إبليس: {أَنْظِرْنِي} الأعراف:14، فقال تعالى: {إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} الأعراف:15، وهذا إجابة، وإليه ذهب أبو القاسم الحكيم، وأبو النصر الدبوسي. حاشية ابن عابدين (2/ 185).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
هذا الحديث دليل على أحكام:
منها: أن الكفار غير مخاطَبين بفروع الشرع؛ حيث دُعوا أولًا إلى الإيمان فقط، ودُعوا إلى الفروع بعد إجابتهم إلى الإيمان، وضُعِّف هذا بأن الترتيب في الدعاء لا يلزم منه، ولا بد الترتيب في الوجوب؛ بدليل أن الصلاة والزكاة لا ترتيب بينهما في الوجوب، وقد قُدِّمت في الذِّكْر، وأُخِّرت الزكاة، مع تساويهما في الخطاب؛ للوجوب في الدنيا، ولا تتعلق المطالبة به في الدنيا إلا بعد الإسلام، وليس المراد ألا يُزَاد عذابهم بسببها في الآخرة، كيف وهو -صلى الله عليه وسلم- رتَّب ذلك في الدعاء إلى الإسلام، وبدأ بالأهم فالأهم؟
ومنها: قبول خبر الواحد، ووجوبُ العمل به.
ومنها: أن الوتر ليس بواجب، وكذلك ركعتا الفجر ليستا واجبتين، فإنَّ بَعْثَ معاذ إلى اليمن كان قبل وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بقليل بعد الأمر بالوتر وركعتي الفجر، وقد قال بوجوب الوتر أبو حنيفة، وبوجوب ركعتي الفجر الحسن البصري.
ومنها: أن السُّنة أن الكفار يُدْعون إلى التوحيد قبل القتال، ولم يَذْكُر في هذا الحديث كل دعائم الإسلام، بل ذكر بعضها...
ومنها: أن الكافر لا يُحْكَم بإسلامه إلا بالنطق بالشهادتين، وهو مذهب أهل السُّنة.
ومنها: أن الصلوات الخمس تجب في كل يوم وليلة.
ومنها: وجوب الزكاة.
ومنها: أن الإمام يَبْعَث سعاةً عدولًا أمناء ثقات علماء يأخذون الزكاة نيابة عن الفقراء.
ومنها: توصية الإمام نُوَّابَه بما يحتاجون إليه في عملهم من العمل بالأحكام؛ أمرِها ونهيِها، خصوصًا ما يتعلق بأمر الرعية.
ومنها: أنه يحرم على الساعي أخذ كرائم الأموال في الزكاة، بل يأخذ الوسط، ويحرم على رب المال إخراج شر المال.
ومنها: تحريم دفع الزكاة إلى كافر.
ومنها: أنها لا تُدفع إلى غني من نصيب الفقراء، ومقتضى مذهب الشافعي أن الغني والفقير في ذلك معتَبر برتبة الشخص، وقد اختلف العلماء في الغني الَّذي يَحْرُم عليه أخذ الزكاة، فقيل: هو مَن مَلَكَ نصابًا وهو مذهب أبي حنيفة، وبعض أصحاب مالك؛ من حيث إنه -صلى الله عليه وسلم- جعله في الحديث غنيًّا، وقابله بالفقير، وقد ورد في الحديث: «أن الغني مَن مَلَكَ أوقية».
ومنها: اهتمام الإمام بأمر الفقراء في الزكاة.
ومنها: أن صاحب المال إذا امتنع من دفعها أُخِذت منه بغير اختياره؛ حيث قال: «تؤخذ من أموالهم»، وهذا الحكم لا خلاف فيه، لكن هل تبرأ ذمَّته وتجزئه في الباطن؟ فيه خلاف للشافعية، وقد استدل به الخطابي وغيره من أصحاب الشافعي على أن الزكاة لا يجوز نقلها عن بلد المال، وفيه نظر، وفي هذه المسألة وجهان لأصحاب الشافعي: أصحهما عند جمهورهم: لا يجوز النقل، ومأخذ الخلاف عود الضمير في فقرائهم، وتقدم ذكر ذلك، وإرادة فقراء الناحية الموجودين أظهر، والله أعلم.
ومنها: وجوب بيان تحريم الظلم على الإمام وغيره من العلماء، والأمر باجتنابه، وبتقوى الله تعالى، والمبالغة في ذلك، وتعريف قبح عاقبته، والله أعلم.
ومنها: تحريم جميع أنواع الظلم، والله أعلم. العدة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام (2/ 800-802).
وقال الشيخ البسام -رحمه الله-:
الأحكام المأخوذة من الحديث:
1- قوله: «إنك ستأتي قومًا أهل كتاب» هو توطئة وتمهيد للوصية باستجماع همَّته في دعوتهم، فإن أهل الكتاب لديهم علم، ولا يخاطَبون كما يخاطَب جهال المشركين.
2- الاستعداد بالحُجج والعلم، لمجادلة أعداء الدين، وردُّ شبههم الباطلة.
3- تعلُّم وتعليم حُسن الدعوة إلى الله تعالى؛ لتكون الدعوة بالحكمة.
4- الدعوة إلى الله، تكون بالأهم فالأهم.
5- أن أهم شيء هو التوحيد؛ لأنه الأساس الذي لا تصح العبادات بدونه، وهذا هو المراد من تقديم الدعوة أولًا إلى التوحيد والإيمان.
6- أن الصلوات الخمس تأتي في المرتبة الثانية؛ لأنها عمود الدين.
7- أن الزكاة تأتي في الدرجة الثالثة، ولم يذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأركان إلا ثلاثة، مع أنه بعث معاذًا بعد فرض الصوم والحج، وفي هذا نكتة أجاب عنها العلماء بأن قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} التوبة:5، هو من سورة براءة التي نزلت بعد فرض الصوم والحج قطعًا، فكأن الحديث مساوقة لهذه اللفتة القرآنية، هذا مع إجماع العلماء على أن أركان الإسلام خمسة لا يتم إلا بها كلها.
8- أنه لا ينتقل من دعوة إلى أخرى حتى يطاع في الأولى.
9- أن الزكاة مواساة؛ لأنها تؤخذ من الأغنياء لتعطى الفقراء.
10- أنه لا يحل للساعي أن يأخذ من الجيِّد العالي، بل يأخذ الوسط إلا إذا سمح بذلك رب المال، بلا حياء ولا إكراه، فالحق له وقد بذله.
11- أن يخشى الساعي مِن ظلم الناس، فإنَّ ظلمهم سبب في دعائهم عليه الذي لا يردُّه الله تعالى؛ لأنه طلب العدل والحكم، والله أعدل العادلين، وأحكم الحاكمين، وفي الحديث دليل على فداحة الظلم.
12- مشروعية بَعْثِ الإمام السعاة لجبي الزكاة، وأن الذمة تبرأ بدفعها للإمام أو سُعَاته.
13- في الاقتصار على الصلوات الخمس دليل على عدم وجوب الوتر.
14- جواز صرف الزكاة لصنف واحد من الأصناف الثمانية.
15- قوله: «على فقرائهم» استُدل به على عدم جواز نقل الزكاة من بلد إلى آخر.
والصحيح جواز نقلها، لا سيما مع المصلحة؛ بأن يكون له أقارب فقراء في غير بلد المال، أو إعانة على جهاد أو علم، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يبعث عماله على الصدقة فيأتون بها المدينة ليُفَرِّقها فيها، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد، والمشهور من مذهبه القول الأول.
16- ومما يضعِّف القول بعدم نقلها: أنّ أعيان الأشخاص المخاطَبين في قواعد الشرع الكلية لا تُعتبر، فقد وردت مخاطبتهم بالصلاة، لا يختص بهم الحكم قطعًا. تيسير العلام شرح عمدة الأحكام (ص: 297-298).

وللاستفادة من الراوية الأخرى ينظر (هنا) و (هنا


ابلاغ عن خطا