«كافلُ اليتيمِ له أو لغيره أنا وهو كَهَاتَيْنِ في الجنةِ» وأشارَ مالكٌ بالسبابةِ والوسطى.
رواه مسلم برقم: (2983) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
وهو في البخاري برقم: (5304) عن سهل -رضي الله عنه-، ولفظه: «أنا وكافلُ اليتيمِ في الجَنَّةِ هكذا» وأشارَ بالسَّبَّابةِ والوسطى، وفَرَّجَ بينهما شيئًا.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«كَافِلُ اليتيم»:
الكَافِلُ: القائم بأمر اليتيم، الْمُرَبِّي له، وهو من الكفيل: الضَّمِين. النهاية، لابن الأثير (4/192).
«اليتيم»:
اليتيم في الناس: مِن قِبَل فَقْدِ الأب، وفي البهائم: مِن قِبَل فَقْدِ الأم، وفي الطير مِن قِبَل الأب والأم. المفهم، لأبي العباس القرطبي (6/614).
«السَّبَّابة»:
الإصبع التي بين الإبهام والوسطى، صفة غالبة، وهي الْمُسبِّحَة عند المصلين. لسان العرب، لابن منظور (1/ 456).
قال الراغب الأصفهاني -رحمه الله-:
والسَّبَّابَةُ سمّيت للإشارة بها عند السَّبِّ، وتسميتها بذلك كتسميتها بالمسبِّحَة؛ لتحريكها بالتسبيح. المفردات في غريب القرآن (ص: 392).
شرح الحديث
قوله: «كافل اليتيم له أو لغيره»:
قال النووي -رحمه الله-:
كافل اليتيم: القائم بأموره مِن نفقة وكسوة وتأديب وتربية وغير ذلك، وهذه الفضيلة تحصل لمن كَفَلَهُ مِن مالِ نفسه، أو مِن مال اليتيم بِولاية شرعية. شرح مسلم (18/113).
وقال الصنعاني رحمه الله-:
«كافل اليتيم» أي: القائم بتربيته ومصالحه، والإحسان إليه، وظاهرُه: ولو قام به مِن تَرِكَتِهِ. التنوير شرح الجامع الصغير (4/ 269).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«كافل اليتيم له» الظرف يصح أن يكون حالًا من المضاف إليه، وجاز لكون المضاف عاملًا في المضاف إليه قبل الإضافة، فهو نظير {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} يونس: 4، وأن يكون صفةً لليتيم، وجاز لأن المحلَّى بـ(أل) الجنسية كالنكرة من جهة المعنى. دليل الفالحين (3/82).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
ومعنى قوله: «له أو لغيره» أي: سواء كان اليتيم قريبًا للكافل، أو لم يكن، في حصول ذلك الجزاء الموعود على كفالته. المفهم (21/ 140).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
قوله: «له أو لغيره» يعني: بقوله: «له» إذا كان له ولد وقد ماتت أمُّه فخَلفها عليه في لزامها له، وحُنُوِّها وصَبْرِها على تحرمه( )، واحتمال تَعَنُّتِه. الإفصاح عن معاني الصحاح (8/38).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
ومعنى قوله: «له» بأن يكون جَدًّا أو عمًّا أو أخًا أو نحو ذلك من الأقارب، أو يكون أبو المولود قد مات فتقوم أمُّه مقامه، أو ماتت أمه فقام أبوه في التربية مقامها. فتح الباري (10/ 436).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«أو» كان اليتيم «لغيره» أي: لغير الكافل؛ بأن يكون الكافلُ أجنبيًّا عن اليتيم، أي ليس بينه وبينه قرابة. الكوكب الوهاج (26/398).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
وقوله: «لغيره» معناه: أن يكون أيضًا راحِمًا لليتيم على الإطلاق. الإفصاح عن معاني الصحاح (8/38).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
فالمراد أن هذه الفضيلة تحصل له سواء كان اليتيم قريبًا له وتحت ولايته الشرعية كجَدِّه وعَمِّه مثلًا، أو كان أجنبيًّا عنه، وإنما كَفَلَهُ في سبيل الله تعالى. الكوكب الوهاج (26/398).
قوله: «أنا وهو كهاتين في الجنة»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«أنا وهو» أي: ذلك الكافل. الكوكب الوهاج (26/398).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«أنا وهو» في التقارب والمنزلة. التنوير شرح الجامع الصغير (8/117).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
وفي إلحاقه بالرسول -صلى الله عليه وسلم- مناسبة؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- أبو الأُمَّة، ربَّاها بإحسانه إليها، وبإرشاده لها أمور دِينها ودنياها، فأُلْحِقَ به كافل اليتيم.
وفيه: فضيلة بالِغَةٌ لكافل اليتيم. التنوير شرح الجامع الصغير (4/ 269).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«كهاتين» الإصبعين منزلةً. الكوكب الوهاج (26/398).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
قوله: «كَهَاتَين»... قال علماؤنا: أي: لا أَفْضُلُه في الجنَّةِ إِلَّا بقَدرِ فضلِ الوُسْطَى على الّتي تلي الإبهام. المسالك في شرح موطأ مالك (7/484- 485).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
«كهاتين» إما في تمثيل قُرْبِ المنازِل كمُجَاورة السبابة والوسطى، أو لتمثيل التفضيل بين المنزلتين، وأن درجة الكافل لليتيم تاليةٌ لدرجة النبي وثانية لها كتدريج السبابة والوسطى. إكمال المعلم (8/531-532 ).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
ومعنى قوله: «أنا وهو في الجنة كهاتين» أي: هو معه في الجنة وبِحَضْرَتِهِ، غير أن كل واحد منهما على درجته فيها؛ إذ لا يَبْلُغُ درجة الأنبياء غيرهم، ولا يبلغ درجة نبينا -صلى الله عليه وسلم- أحد من الأنبياء...، وإلى هذا المعنى الإشارة بِقِرَانِهِ بين إصبعيه السبابة والوسطى، فيُفهم من الجمع بينهما: المعيَّة والحضور، ومِن تفاوُتِ ما بينهما: اختصاص كل واحد منهما بمنزلته ودرجته، وقد نصَّ على هذا المعنى النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: «المرء مع مَن أَحَبَّ، وله ما اكتسب»، وقد تقدَّم نحو هذا. المفهم (6/614).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وفيه: إشارة إلى أن بَيْنَ درجة النبي -صلى الله عليه وسلم- وكافل اليتيم قَدْر تفاوت ما بين السبابة والوسطى، وهو نظير الحديث الآخر: «بُعِثْتُ أنا والساعة كهاتين» الحديث...
ويكفي في إثبات قُرْبِ المنزلة من المنزلة أنه ليس بين الوسطى والسبابة إصبع أخرى...
ويحتمل: أن يكون المراد قُرْبَ المنزلة حالة دخول الجنة؛ لما أخرجه أبو يعلى من حديث أبي هريرة رفعه: «أنا أول مَن يَفْتَحُ باب الجنة فإذا امرأة تُبَادِرُني، فأقول: مَن أنتِ؟ فتقول: أنا امرأة تَأَيَّـمْتُ على أيتام لي»، ورُوَاتُه لا بأس بهم...
ويحتمل: أن يكون المراد مجموع الأمرين: سرعة الدخول، وعلو المنزلة. فتح الباري (10/ 436).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«في الجنة» مصاحبًا له؛ لعِظَم أجره عند الله تعالى. التنوير شرح الجامع الصغير (8/117).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«في الجنة» أي: مصاحبٌ لي فيها، والقصد به الحث على الإحسان إلى الأيتام. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 204).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
المرادُ بهذه المبالغةُ في درجة كافل اليتيم، وإلا فدرجاتُ الأنبياءِ -عليهم الصلاة والسلام- أعلى مِن درجات سائر الخلق، ونبيُّنا -صلى الله عليه وسلم- أعلى من الكلِّ، لا ينالُ درجتَه أحدٌ. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (15/ 47).
قوله: وأشار مالكٌ بالسبابة والوسطى:
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
ذكر مسلم أن في الحديث: المشير بالسبابة والوسطى هو مالك، وجاء في الموطأ الحديث مُدْرَجًا غير منسوب لقائل إلا في موطأ ابن بكير قال: «وأشار النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسبابة والوسطى». إكمال المعلم (8/532).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«وأشار» الراوي وهو الإمام الجليل «مالك» بن أنس بن أبي عامر بن عمرو الأصبحي، أبو عبد الله، الفقيه المدني إمام دار الهجرة، رأس المتقين، وكبير الْمُثْبِتِيْنَ، حتى قال البخاري: أصح الأسانيد كلها مالك عن نافع عن ابن عمر، ومِن أتباع التابعين، مات سنة مائة وتسعة وسبعين، وكان مولده سنة ثلاث وتسعين، وقال الواقدي: بلغ تسعين سنة. دليل الفالحين (3/ 82).
وقال العيني -رحمه الله-:
ويُقال: لَمَّا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك استوت سبابته ووسطاه استواء بيِّنًا في تلك الساعة، ثم عادَتَا إلى حالهما الطبيعية الأصلية؛ وذلك لتوكيد أمر كفالة اليتيم. عمدة القاري (20/ 294).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وزعم بعضهم أنه -صلى الله عليه وسلم- لما قال ذلك استوت إصبعاه في تلك الساعة، ثم عادتا إلى حالهما الطبيعية الأصلية؛ تأكيدًا لأمر كفالة اليتيم، قلتُ: ومثل هذا لا يثبت بالاحتمال، ويكفي في إثبات قُرْبِ المنزلة من المنزلة أنه ليس بين الوسطى والسبابة إصبع أخرى. فتح الباري (10/ 436).
وقال صفي الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
«بالسبَّابة» بتشديد الباء، هي الإصبع التي تلي الإبهام، سميت بالسبابة لأنهم كانوا يَسُبُّون بها عند الخصام والجدال، وتسمَّى بالسبَّاحة والـمُسَبِّحة؛ لأنهم يُسَبِّحُون بها في الصلاة فيشيرون بها في التشهد. منة المنعم في شرح صحيح مسلم (4/401).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
هذا فيه إشارة إلى أنه يكون معه في الجنة، ولا يعني ذلك أنه يكون معه في درجته.
ولا شك أن هذا خير عظيم، والإنسان إذا دخل الجنة فإنه يجد فيها كل ما تشتهيه نفسه، ويرى أن هذا الذي هو فيه ليس فوقه شيء، وليس هناك شيء أحسن منه، كما أن المعذَّبين في النار أَهْوَنهم عذابًا يرى أنه ليس هناك أحد أشد منه عذابًا مع كونه أخف الناس عذابًا. شرح سنن أبي داود (585/10).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
حقٌّ على كل مؤمن يسمع هذا الحديث أن يرغب في العمل به؛ ليكون في الجنة رفيقًا للنبي -عليه السلام- ولجماعة النبيين والمرسلين -صلوات الله عليهم أجمعين- ولا منزلة عند الله في الآخرة أفضل من مرافقة الأنبياء. شرح صحيح البخاري (9/217).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قال شيخنا (العراقي) في شرح الترمذي: لعل الحكمة في كون كافل اليتيم يُشْبِهُ في دخول الجنة أو شُبِّهَت منزلته في الجنة بالقُرْبِ من النبي أو منزلة النبي لكون النبي شأنه أن يُبْعَثَ إلى قوم لا يعقلون أَمْرَ دِينهم، فيكون كافلًا لهم ومعلمًا ومرشدًا، وكذلك كافل اليتيم يقوم بكفالة مَن لا يعقل أَمْرَ دِينه بل ولا دنياه ويرشده ويعلِّمه ويحسن أدبه، فظهرت مناسبة ذلك. فتح الباري (10/ 437).
وقال المناوي -رحمه الله-:
وقد تطابقت الشرائع والأديان على الحث على الإحسان إلى اليتيم. فيض القدير (4/542).
رواية البخاري: «وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا»:
قال الكرماني -رحمه الله-:
وإنما فرَّج بينهما إشارة إلى التفاوت بين درجة الأنبياء، وآحاد الأُمَّة. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (19/ 219).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
في هذا الحديث فَضْلٌ عَظيمٌ في كافِلِ اليتيم، وضَمُّهُ إلى بَنِيهِ ومائدته، وأنفقَ عليه من طَولِهِ، نال ذلكَ، وحَسبُكَ بها فضيلةً وقُرْبَةً من منزل النَّبيِّ -صلّى الله عليه وسلم- في الجنَّة، فليس بين الوُسطَى والسّبَّابة في الطّول، ولا في اللّصوق كثيرٌ، وإن كان نسبة ذلك من سَعَةِ الجنَّةِ كثيرٌ. المسالك في شرح موطأ مالك (7/ 483).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
وفي الحديث: فضيلة كافل اليتيم، وهذه الفضيلة تحصل لِمَن كفله من مال نفسه، أو من مال اليتيم بولاية شرعية؛ على أن يقوم بالكفالة على الوجه الشرعي الكامل، والله أعلم. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (10/ 588).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
فوائده (أي: هذا الحديث):
منها: بيان فضل كفالة اليتيم؛ حيث إنه يُقَارِبُ درجة النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في الجنّة، ولا فضل أعظم من هذا.
ومنها: ما قاله ابن بطّال -رحمه الله-: حقُّ على من سمع هذا الحديث أن يَعمل به؛ ليكون رفيق النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في الجنة، ولا منزلة في الآخرة أفضل من ذلك.
ومنها: ما قاله الحافظ العراقيّ -رحمه الله في شرح الترمذيّ-: لعل الحكمة في كون كافل اليتيم يُشْبِهُ في دخول الجنة، أو شُبِّهت منزلته في الجنة بالقُرْبِ من النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، أو منزلة النبيّ -صلى الله عليه وسلم-؛ لكون النبيّ شأنه أن يبعث إلى قوم لا يعقلون أمر دينهم، فيكون كافلًا لهم، ومعلِّمًا، ومرشدًا، وكذلك كافل اليتيم يقوم بكفالة من لا يعقل أمر دينه، بل ولا دنياه، ويرشده، ويعلّمه، ويحسن أدبه، فظهرت مناسبة ذلك. البحر المحيط الثجاج (45/ 183).