«مَن ضحَّى قبل الصلاة فإنما ذَبَحَ لنفسِهِ، ومَن ذبحَ بعدَ الصلاةِ فقد تمَّ نُسُكُهُ، وأصابَ سُنَّة المسلمين».
رواه البخاري برقم: (5546)، من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-.
ورواه مسلم برقم: (1961)، واللفظ له، من حديث البراء -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«مَن ضحَّى»:
أي: ذبح أُضْحِيَتَه أيام النحر. التنوير شرح الجامع الصغير، للصنعاني (10/ 298).
«نُسُكُهُ»:
النُّسْكُ والنُّسُكُ: الطاعة والعبادة، وكل ما تُقُرِّب به إلى الله تعالى. النهاية، لابن الأثير (5/48).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
النُّسك يطلق ويراد به الذبيحة، ويستعمل في نوع خاص من الدماء المراقة، ويستعمل بمعنى العبادة، وهو أعم، يقال: فلان ناسِكٌ، أي، عابد. فتح الباري (10/4).
شرح الحديث
قوله: «مَن ضحَّى قبل الصلاة فإنما ذَبَحَ لنفسه»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«مَن ضحى قبل الصلاة» أي: ذبح أضحيته قبل صلاة العيد. فيض القدير (6/173).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
«قبل الصلاة» الصلاة المعهودة، وهي صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وصلاة الأئمة بعد انقضاء عصر النبوة. نيل الأوطار (5/147).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«قبل الصلاة» أي: قبل مُضي وقت صلاة العيد، وما يتعلَّق بها من الخطبة، وإلا فوقت الصلاة إلى الزوال. إرشاد الساري (8/ 299).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فإنما ذَبَحَ لنفسه» لا للقُربة والسُّنة؛ لأن تفويت الوقت تفويت للمُؤَقَّت. التنوير شرح الجامع الصغير (10/299).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«فإنما ذَبَحَ لنفسه» ولم يضحِّ، وفي رواية: «فإنما هو لحم قدَّمه لأهله». فيض القدير (6/173).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «فإنما يذْبَحُ لنفسه» يعني: لا تجوز عن الأضحية. المفاتيح في شرح المصابيح (2/341).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
قوله: «لنفسه» لحمًا يأكل، لا ثواب له فيه. إرشاد الساري (8/ 299).
قوله: «ومَن ذَبَحَ بعد الصلاة فقد تمَّ نُسُكُهُ»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«ومَن ذَبَحَ بعد الصلاة» للعيد. فيض القدير (6/173).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
«ومَن ذَبَحَ بعد الصلاة فقد تمَّ نُسُكُهُ» أي: عبادته. فتح الباري (10/ 16).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فقد تمَّ نُسُكُهُ» أي: ذَبْحُهُ باستكمال آدابه، وقُبِلَت ذبيحته. الكوكب الوهاج (20/403).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فقد تمَّ نُسُكُهُ» عبادته بالضحية. التنوير شرح الجامع الصغير (10/299).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «فقد تمَّ نُسُكُهُ» أي: ثبت وصح. لمعات التنقيح (3/555).
قوله: «وأصاب سُنَّة المسلمين»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
«وأصاب سُنَّة المسلمين» أي: طريقتهم. فتح الباري (10/ 16).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«وأصاب» أي: وافق «سُنَّة المسلمين» أي: طريقتهم في قرابينهم. الكوكب الوهاج (20/403).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«وأصاب سُنّة المسلمين» فيه أن التضحية بعد الصلاة سُنة من سنن المسلمين التي سَنَّها الله لهم، وأنه لا ضحية لمن ضحى قبل الصلاة ولو كان ممن لا تلزمه الصلاة؛ إذ لا دليل على التخصيص. التنوير شرح الجامع الصغير (10/299).
وقال ابن حمزة الحسيني -رحمه الله-:
سببه (أي: الحديث) كما في مسلم عن البراء قال: «ضحى خالي أبو بُرْدَة قبل الصلاة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: تلك شاةُ لحْمٍ، فقال: يا رسول الله، إن عندي جذعة من المعز، فقال: ضحِّ بها ولا تصلح لغيرك، ثم قال: مَن ضحَّى» فذكره. البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث الشريف (2/224).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
كون أبي بردة -رضي الله عنه- ضحى قبل الصلاة ولم تعتبر أضحيته؛ لعدم موافقتها للسُّنة، وعدم الإتيان بها على الوجه المشروع، يدلُّنا على أن الإنسان إذا فعل القُربة وهو غير موافق للسُّنة لا يُعتبر ذلك؛ لأن أبا بُردة -رضي الله عنه- كان قصده حسنًا، ومع ذلك لم يُعتبر النبي -صلى الله عليه وسلم- ذبيحته أضحية؛ لأنها ما وَقَعَت في الوقت. شرح سنن أبي داود (330/14).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: وفيه (أي: الحديث) أن العمل وإن وافق نيَّةً حسنة لم يصح إلا إذا وقع على وفق الشرع. فتح الباري (10/ 17).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله- معلقًا:
ولهذا فإن ما يفعله بعض الناس مِن ذِكْرٍ وأمورٍ مبتدعة مُحْدَثَة لم تأتِ بها سُنة، ويتعللون بأن القصد حسن لا يصح؛ لأن ذلك لا يكون كافيًا؛ لدلالة هذا الحديث الذي معنا. شرح سنن أبي داود (330/14).
وقال المازري -رحمه الله-:
«ومَن ذبح بعد الصلاة فقد تمَّ نُسُكُهُ وأصاب سُنَّة المسلمين»، فاعتبر في هذه الأحاديث الصلاة دون الذبح، وقد قال في بعضها: «فمَن ذبح بعد الصلاة فقد تمَّ نُسُكُهُ» واشتراط الذبح زيادة تفتقر إلى دليل.
وأما الشافعي فرأى أن المراد بذكره الصلاة: الوقت، وجَعَل الفراغ منها عَلَمًا عليه، فلهذا اعتبر الوقت.
هذا الكلام في مبتدأ زمن الذبح، وأما منتهاه فمن الناس مَن قال: يوم النحر خاصة، ومنهم مَن قال: يوم النحر ويومان بعده وهو مذهب مالك، ومنهم مَن قال: يوم النحر وثلاثة بعده، ومنهم مَن قال: إلى آخر الشهر. المعلم بفوائد مسلم (3/89).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
اختلفوا في وقت الأضحية:
فعند الشافعية بعد مضي قدر صلاة العيد وخطبتها من طلوع الشمس يوم النحر سواء صلى أم لا، مقيمًا بالأمصار أم لا؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «مَن ذبح بعد الصلاة»، وهي أعم من صلاة الإمام وغيره، ولا يشترط فعل الصلاة اتفاقًا لصحة التضحية، فدل على أن المراد بها وقتها.
وعند الحنفية وقتها في حق أهل الأمصار: من صلاة الإمام وخطبته، وفي حق غيرهم بعد طلوع الفجر (الثاني).
وعند المالكية: بعد فراغ الإمام من الصلاة والخطبة والذبح.
وعند الحنبلية: لا يجوز قبل صلاة الإمام ويجوز بعدها قبل ذبحه. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (20/121-122).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
وقالت الهادوية: إنَّ وقتها (الأضحية) يدخل بعد صلاة المضحِّي، سواء صلى الإمام أم لا، فإذا لم يصلِّ المضحي وكانت الصلاة واجبة عليه كان وقتها من الزوال، وإن كانت الصلاة غير واجبة عليه لعذر من الأعذار، أو كان ممن لا تلزمه صلاة العيد، فوقتها من فجر النحر، ولا يخفى أنَّ مذهب مالك هو الموافق لأحاديث الباب، وبقية هذه المذاهب بعضها مردود بجميع أحاديث الباب، وبعضها يَرُدُّ عليه بعضها. نيل الأوطار (5/ 147).
وقال ابن المنذر -رحمه الله-:
أجمع كل مَن يُحفظ عنه من أهل العلم على أنَّ الضحايا لا يجوز ذبحها قبل طلوع الفجر من يوم النحر.
واختلفوا في الوقت الذي يجوز فيه ذبح الأضحية، فكان الشافعي يقول: إذا برزت الشمس ومضى من النهار قدر ما يدخل الإمام في الصلاة فيصلي ركعتين ويخطب خطبتين خفيفتين حلَّ الأضحى.
وقال الحسن البصري: إذا ذبح قبل صلاة الإمام يُعيد.
وقال الأوزاعي: لا يصلح إلا بعد الصلاة.
وقال أحمد: إذا انصرف الإمام.
وقال إسحاق: إذا فرغ الإمام من الخطبة.
وقال مالك: في أهل البوادي يتحرون أقرب الأئمة إليهم فينحرون بعده.
وفيه قول ثانٍ: وهو أنَّ مَن ذبح بعد الصلاة والإمام يخطب أجزأه، هذا قول الثوري.
وقال مالك: إنْ ذبح قبل الإمام أعاد.
وقال عطاء: إذا ذبح بعد طلوع الفجر في غير مصر أجزأه، وبه قال إسحاق، وأصحاب الرأي في البوادي.
وقال أصحاب الرأي في أهل الأمصار: يذبحون بعد انصراف الإمام.
قال أبو بكر (ابن المنذر): الذي قاله الشافعي حسن. الإشراف على مذاهب العلماء (3/404- 405).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
وأما إذا لم يكن ثَمّ إمام، فالظاهر أنه يعتبر لكل مضحٍّ بصلاته، وقال ربيعة فيمَن لا إمام له: إنْ ذبح قبل طلوع الشمس لا تجزئه، وبعد طلوعها تجزئه.
وقد تأوَّل أحاديث الباب مَن لم يعتبر صلاة الإمام وذبحه: بأن المراد بها الزجر عن التعجيل الذي يؤدي إلى فعلها قبل وقتها، وبأنه لم يكن في عصره -صلى الله عليه وسلم- مَن يصلي قبل صلاته، فالتعليق بصلاته في هذه الأحاديث ليس المراد به إلا التعليق بصلاة المضحي نفسه، لكنها لما كانت تقع صلاتهم مع النبي -صلى الله عليه وسلم- غير متقدمة ولا متأخرة، وقع التعليق بصلاته -صلى الله عليه وسلم-، بخلاف العصر الذي بعد عصره، فإنها تُصلى صلاة العيد في الْمِصْرَ الواحد جماعات متعددة، ولا يخفى بعد هذا، فإنه لم يثبت أن أهل المدينة ومَن حولهم كانوا لا يصلون العيد إلا مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا يصلح للتمسك لمن جوز الذبح من طلوع الشمس، أو من طلوع الفجر ما ورد من أنَّ يوم النحر يومُ ذبح؛ لأنه كالعام، وأحاديث الباب خاصة، فيُبنى العام على الخاص. نيل الأوطار (5/147- 148).
وقال الكاساني -رحمه الله-:
وأما الذي يرجع إلى وقت التضحية فهو أنها لا تجوز قبل دخول الوقت؛ لأن الوقت كما هو شرط الوجوب فهو شرط جواز إقامة الواجب، كوقت الصلاة، فلا يجوز لأحد أن يضحي قبل طلوع الفجر الثاني من اليوم الأول من أيام النحر، ويجوز بعد طلوعه، وسواء كان من أهل المصر، أو من أهل القرى، غير أنَّ للجواز في حق أهل المصر شرطًا زائدًا، وهو أن يكون بعد صلاة العيد، لا يجوز تقديمها عليه عندنا.
وقال الشافعي -رحمه الله-: إذا مضى من الوقت مقدار ما صلى فيه رسول الله صلاة العيد جازت الأضحية، وإن لم يصلِّ الإمام.
والصحيح قولنا؛ لما روينا عن رسول الله أنه قال: «مَن ذبح قبل الصلاة فلْيُعِدْ أضحيته»، وروي عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: «أَوَّلُ نُسُكِنَا في يومنا هذا الصلاة ثم الذبح»، ورُوِيَ عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال في حديث البراء بن عازب -رضي الله عنه-: «مَن كان منكم ذبح قبل الصلاة فإنما هي غدوة أَطْعَمَهُ الله تعالى، إنما الذبح بعد الصلاة»، فقد رتب النبي -عليه الصلاة والسلام- الذبح على الصلاة، وليس لأهل القرى صلاة العيد، فلا يثبت الترتيب في حقهم.
وإن أخَّر الإمام صلاة العيد فليس للرجل أن يذبح أضحيته حتى يتنصف النهار، فإن اشتغل الإمام فلم يصلِّ العيد، أو ترك ذلك متعمدًا حتى زالت الشمس، فقد حل الذبح بغير صلاة في الأيام كلها؛ لأنه لما زالت الشمس فقد فات وقت الصلاة. بدائع الصنائع (5/ 73).
وقال الكماخي -رحمه الله-:
لكن الأَوْلَى لصاحب الأضحية أنْ يُؤخر ذبحها؛ ليقع بعد ذبح الإِمام أضحيته احتياطًا، وعملًا بأقوال جميع الأئمة، كما قاله الزرقاني. المهيأ في كشف أسرار الموطأ (3/ 191).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
واختُلف في ليالي أيام النحر: هل تدخل مع الأيام فيجوز فيها الذبح أو لا؟
فروي عن مالك في المشهور: أنها لا تدخل، فلا يجوز الذبح بالليل، وعليه جمهور أصحابه.
وقال أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: الليالي داخلة في الأيام، ويجزئ الذبح فيها، وروي عن مالك وأشهب نحوه.
ولأشهب تفريق بين الهدي والضحية، فأجاز الهدي ليلًا، ولم يجز الضحية ليلًا.
وقد تمسك مالك بأصل وضع الأيام؛ فإنه الحقيقة في الكلام.
وقد روي في ذلك نهي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث عطاء بن يسار مرسلًا، ولا يصح؛ لأنه من حديث مبشر بن عبيد، وهو متروك. المفهم (5/354).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
وهذا الحديث صريح في مذهب أحمد ومَن وافقه في تعليق الذبح بفعل الصلاة، وأنَّ وقت الذبح يدخل بعد فعل الصلاة، ولا يُشترط التأخير إلى نحر الإمام. مرعاة المفاتيح (5/43).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
منها (أي: من فوائد الحديث): أنه اُستُدل به على وجوب الأضحية على مَن التزم الأضحية، فأفسد ما يضحي به، ورده الطحاوي بأنه لو كان كذلك لتعرَّض إلى قيمة الأولى ليلزم بمثلها، فلمَّا لم يعتبر ذلك دل على أن الأمر بالإعادة كان على جهة الندب، وفيه بيان ما يُجْزِئ في الأضحية، لا على وجوب الإعادة. البحر المحيط الثجاج (33/338).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وقد استدل مَن قال بالوجوب بوقوع الأمر فيهما (أي في حديثَ البراء وأنس في الأضحية) بالإعادة.
وأُجِيب: بأن المقصود بيان شرط الأضحية المشروعة، فهو كما لو قال -لمن صلى راتبة الضحى مثلًا قبل طلوع الشمس-: إذا طلعت الشمس فأعد صلاتك. فتح الباري (10/4).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
واختلف أهل العلم في وجوبها (الأضحية) على قولين:
أحدها: أنها لا تجب بل هي سنة يثاب فاعلها، ومَن تركها لا إثم عليه، وهو قول ابن المسيب وعطاء بن أبي رباح وعلقمة والأسود والشافعي وأحمد وأبي يوسف وأبي ثور.
قال ابن التين: وهو المعروف من مذهب مالك، وذكر عنه أبو حامد الوجوب، قال ابن المنذر: وروينا أخبارًا عن الأوائل تدل على أن ذلك ليس بفرض، روينا ذلك عن أبي بكر وعمر وأبي مسعود البدري وسعد وبلال.
وقال الليث وربيعة: لا نرى أن يَتْرُك الْمُوسِرُ المالك لأمر الضحية.
وقال مالك: لا يتركها، فإن تركها بئس ما صنع إلا أن يكون له عذر.
وذكر ابن حبيب وغيره أنه قال: هي سُنة لا رخصة لأحد في تركها، وعنه: إن وجد الفقير مَن يسلفه ثمنها فلْيَسْتَسْلِف.
وفي المدونة: مَن اشترى أضحية ثم حبسها حتى ذهب أيام الذبح أنه آثم إذ لم يضحِّ بها، وقال الثوري: لا بأس بتركها حية.
وقد روي عن الصحابة ما يدل أنها ليست بواجبة.
ذكر عبد الرزاق، عن الثوري، عن إسماعيل، عن الشعبي، عن أبي سريحة قال: رأيتُ أبا بكر وعمر وما يضحيان.
وعن ابن عمر: مَن شاء ضحى ومَن شاء لم يضحِّ.
وقد ذكر البخاري فيما مضى أنها سنة ومعروف.
وروى الثوري، عن أبي معشر مولى لابن عباس قال: أرسلني ابن عباس أشتري له لحمًا بدرهم وقال: قل: هذه أضحية ابن عباس.
وقال النخعي: قال علقمة: لَأَنْ لا أُضَحِّي أحب إليَّ من أن أراه حتمًا عليَّ.
والقول الثاني: أنها واجبة، وهو قول أبي حنيفة ومحمد، وعن النخعي أنها واجبة على أهل الأمصار ما خلا الحاج، وقال محمد: هي واجبة على كل مقيم في الأمصار إذا كان مُوْسِرًا، قال أبو بكر (ابن المنذر): لا تجب فرضًا؛ لأن الله لم يوجبها ولا الرسول ولا أجمع أهل العلم على وجوبها.
والدليل على هذا: قوله -صلى الله عليه وسلم-: «مَن رأى منكم هلال ذي الحجة وأراد أن يضحي فلا يأخذ من شَعْرِهِ» الحديث، فلو كان واجبًا لم يجعل ذلك إلى إرادة المضحي، أي: الذي يراه أبو حنيفة وأصحابه أنها تجب على الحر المقيم المسلم الموسر.
وذهب أبو يوسف إلى عدم وجوبها، وقال هو ومحمد: هي سُنَّة غير مرخَّص فيها لمن وَجَدَ السبيل إليها.
قال الطحاوي: وبه نأخذ، وليس في الآثار ما يدل على أن وجوبها وجوب فرض، ولكن يدل على تأكيدها، وأن الإباحة في تركها، وعبارة ابن حزم عن أبي حنيفة أنها فرض، وعلى المرء أن يضحي عن زوجته.
قال ابن حزم: وممن روينا عنه إيجابها: مجاهد ومكحول، وعن الشعبي: لم يكونوا يرخِّصون في تركها إلا لحاج أو مسافر، وروي عن أبي هريرة: ولا يصح.
احتج مَن لم يوجِب بحديث الباب «أول ما نبدأ...» إلى أن قال: «فقد أصاب سنتنا»، وما كان سُنة فليس بواجب، اللهم إلا أن يراد بالسُّنة الطريقة، فيدخل الواجب كما في لفظ الدِّين.
واحتج مَن أوجب بحديث الباب أيضًا: «ولن تجزي عن أحد بعدك».
قال الطحاوي: فإن قيل: كان أوجبها فأتلفها، فلذلك أوجب عليه إعادتها.
قيل له: لو أراد هذا لَتَعَرَّض إلى قيمة المتْلَفَة ليأمره بمثلها، فلما لم يعتبر ذلك دلَّ أنه لم يقصد إلى ما ذكرت. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (26/565-567).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
ومنها (أي من فوائد الحديث): أن مَن ذبح قبل الصلاة لم يجزئه، ولزمه البدل. البحر المحيط الثجاج (33/338).
وقال ابن قدامة -رحمه الله-:
وهذا محمول على الأضحية الواجبة بنذر أو تعيين، فإن كانت غير واجبة بواحد من الأمرين فهي شاة لحم ولا بدل عليه إلا أن يشاء؛ لأنه قَصَدَ التطوع فأَفْسَدَه، فلم يجب عليه بدله، كما لو خرج بصدقة تطوع فدفعها إلى غير مستحقّها، والحديث يحمل على أحد أمرين:
إما على الندب.
وإما على التخصيص بمن وجبت عليه، بدليل ما ذكرنا.
فأما الشاة المذبوحة فهي شاة لحم، كما وصفها النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومعناه: يصنع بها ما شاء، كشاةٍ ذَبَحَها للحمها، لا لغير ذلك، فإن هذه إن كانت واجبة فقد لزمه إبدالها، وذَبْحُ ما يقوم مقامها، فخرجت هذه عن كونها واجبة، كالهدي الواجب إذا عطب دون محله، وإن كان تطوعًا، فقد أخرجها بذبحه إياها قبل محلها عن القربة، فبقيت مجرد شاة لحم.
ويحتمل: أن يكون حكمها حكم الأضحية، كالهدي إذا عطب، لا يخرج عن حكم الهدي على رواية، ويكون معنى قوله: «شاة لحم» أي: في فضلها وثوابها خاصة دون ما يصنع بها. المغني (9/455).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- معلقًا:
الاحتمال الأول عندي هو الأظهر. البحر المحيط الثجاج (33/339).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وفيه: كَرم الرَّبِّ -سبحانه وتعالى-؛ لكونه شرع لعبيدهِ الأضحية مع ما لهم فيها من الشهوة بالأكل والادخار، ومع ذلك فأثبت لهم الأجر في الذَّبح، ثم مَن تصدق أُثيب وإلا لم يأثم. فتح الباري (10/ 17).
وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)