«انْطلقْتُ أنا وأخي إلى رسولِ اللهِ -صلَّى الله عليه وسلَّم-، قال: قلنا: يا رسولَ اللهِ، إنَّ أُمَّنَا مُلَيْكَةَ كانت تَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ، هَلَكَتْ في الجاهلِيَّةِ، فهل ذلك نَافِعُهَا شيئًا؟ قال: لا، قال: قلنا: فإنَّها كانتْ وأَدَتْ أُخْتًا لنا في الجاهليَّةِ، فهل ذلك نَافِعُهَا شيئًا؟ قال: الوَائِدَةُ والمَوْءُودَةُ في النَّارِ، إلَّا أنْ تُدْرِكَ الوائِدَةُ الإسلامَ، فَيَعْفُوَ اللهُ عنها».
رواه أحمد برقم: (15923) واللفظ له، والنسائي في الكبرى برقم: (11585)، وأبو داود الطيالسي في مسنده برقم: (1402)، من حديث سَلَمَة بن يزيد الجُعْفِي -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (7143)، مشكاة المصابيح برقم: (112).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«تصل الرحم»:
الصِّلَة: العطف والحنان والرحمة.إكمال المعلم بفوائد مسلم(8/ 20).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
صلة الرحم: كناية عن الإحسان إلى الأقربين، من ذَوِيْ النسب والأصهار، والتَّعَطُّف عليهم، والرفق بهم، والرعاية لأحوالهم، وكذلك إن بعدوا أو أساءوا، وقطع الرحم: ضد ذلك كله، يقال: وصل رحمه يصلها وصلًا وصلة، والهاء فيها عوض من الواو المحذوفة، فكأنه بالإحسان إليهم قد وصل ما بينه وبينهم من علاقة القرابة والصهر.النهاية في غريب الحديث(5/ 191-192).
«تَقْري الضيف»:
بوزن ترمي، وسُمع بضم تاء...أي: تُهَيِّئ له طعامه ونُزُلَه. مجمع بحار الأنوار، للفتني (4/ 265).
وقال أبو ذر الخشني -رحمه الله-:
القِرى: ما يُصنع للضيف من الطعام. لإملاء المختصر في شرح غريب السير (302).
«هَلَكَتْ»:
هلك، كضرب ومنع ...: مات. القاموس المحيط (ص: 958).
«وَأَدَتْ»:
وأَدَتْ...: إذا دفنتها حيّة. عمدة القاري (12/247).
«الوائدة»:
«الوائدة» بهمزة مكسورة قبل الدال. فيض القدير (6/370).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
الوَأْدُ: دَفْنُ الولد الحي في القبر، وكانت العرب في جاهليتهم يدفنون البنات حية. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/110).
«الموءودة»:
هي البُنَيَّة التي تُدفن وهي حيَّة. الغريبين في القرآن والحديث (6/1963).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
سُميت بذلك لما يُطرح عليها من التراب فيُوئدها، أي: يثقلها حتى تموت، من قولهم: وَأَد البنت يَئِدُها، وهو مقلوب من أَأَد يوئد إذا أَثْقَلَ. شرح سنن أبي داود (18/284).
شرح الحديث
قوله: «انطلقت أنا وأخي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: قلنا: يا رسول الله، إنّ أُمَّنا مليكة كانت تَصل الرّحم، وتَقْري الضيف، وتفعل وتفعل، هلكت في الجاهلية، فهل ذلك نافعها شيئًا؟ قال: لا»:
«تَصل الرّحِم»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
ومعنى صِلة الرَّحِمِ: مشاركةُ ذَوي القُربى في الخيرات، قاله العيني.ذخيرة العقبى في شرح المجتبى(6/٢٤٠)
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
«تصل الرّحِم» أي: تواسي ذَوي القَرابةِ في الخيرات.فتح الباري(3/٢٦٥).
وقال النووي -رحمه الله-:
أي: تُحسن إلى أَقاربك ذَوي رَحِمك بما تيسّر على حَسب حالك، وحالهم مِن إنفاق أو سلام أو زيادة أو طاعتهم أو غير ذلك.شرح صحيح مسلم(1/١٧٣).
«وتَقْري الضيف»:
أي: تأتيه بالقرى وهو ما يَبرهُ به عند نُزوله عليه من طعام وغيره مما يحتاج إليه، يُقال: قَرى الضيف يَقْرِيهِ إذا فعل به ذلك، قِرى بِكسر القاف والقصر، وبفتحهما والمد فهو قَار. شرح حديث المقتفى(ص: ١٤٥.
قوله: «قلنا: فإنَّها كانتْ وأَدَتْ أُخْتًا لنا في الجاهليَّةِ، فهل ذلك نَافِعُهَا شيئًا؟»:
قال السندي -رحمه الله-:
وهذا منهما عجيب؛ إذ الوَأْدُ معصية يُخاف ضررها، فكيف يُرجى نفعها فيمن لا ينفعها الخيرات؟ إلا أنْ يُقال: زعما ذلك بناء على أنَّ الموءودة كانت كافرة، وقَتْلُ الكافر خير.حاشية السندي على مسند أحمد (3/613).
قوله: «قال: الوائدة والموءودة في النار، إلا أن تُدْرِكَ الوائدة الإسلام، فيعفو الله عنها»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«الوائدة» فاعلة ذلك. فيض القدير (6/370).
وقال السندي -رحمه الله-:
«الوائدة» لكفرها، وقتلها من لا يستحق ذلك، «والموءودة» لِكونها بنت الكافرين، فهي كافرة تبعًا، وهذا مثل ما جاء في أولاد المشركين، وقد جاء غير ذلك أيضًا؛ فلذلك توقف المحققون، والله أعلم. حاشية السندي على مسند أحمد (3/613).
وقال الدهلوي -رحمه الله-:
وإنما خصَّ الوائدة بالذِّكر؛ لأن أكثر ما كان الوَأْدُ من النساء. لمعات التنقيح (1/ 402).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
وهذا (يعني: الوأد) كان مِن عادة العرب في الجاهلية؛ خوفًا من الفقر، أو فرارًا من العار، وبعضهم كانوا يخلونها ويربونها على طريق الذل والهوان، قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيم * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُون} النحل: 58 - 59. مرقاة المفاتيح (1/186).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
الوأد: دفن الولد الحي في القبر، وكانت العرب في جاهليتهم يدفنون البنات حية، فالوائدة في النار لكفرها وفعلها، والموءودة فيها لكفرها...،ولعل المراد بالوائدة: القَابِلة، وبالموءودة: الموءودة لها، وهي أم الطفل، فحذفت الصلة؛ إذ كان من ديدنهم أن المرأة إذا أخذها الطَّلق حُفِر لها حُفرة عميقة، فجلست عليها، والقابلة وراءها تترقب الولد، فإن ولدت ذكرًا أَمسكت، وإن ولدت أنثى ألقتها في تلك الحفرة، وأهالت عليها التراب. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/110).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
لا بد من هذا التأويل؛ ليصح كون الموءودة في النار؛ ولئلا يلزم التعارض. مرعاة المفاتيح (1/200).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«الوائدة والموءودة في النار» يعني: الأم والبنت كلتاهما في النار؛ أما الأم فلأنها كانت كافرة، وأما البنت فيحتمل أنها كانت بالغة، فيثبت لها حكم الكفر، فتكون من أهل النار، ويحتمل: أن تكون غير بالغة، ولكن عِلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمعجزة كونها من أهل النار، ولا يجوز الحكم على أطفال الكفار بأن يكونوا من أهل النار بهذا الحديث؛ لأن هذه الواقعة كانت في شخص معين، ولا يجوز إجراء حكم شخص معين على جميع أطفال الكفار، بل حكمهم موقوف. المفاتيح في شرح المصابيح (1/218).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
أما الوائدة فلكفرها وفعلها، وأما الموءودة فلكفرها، ثم إنْ أُريد بذلك ما يعم أهل الفترة، كان مبينًا على ما نُقل عن الأكثرين أنهم في النار، أو ما يختص بأهل الإسلام كان محمولًا في الموءودة على البالغة. فتح الإله في شرح المشكاة (1/485).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
وقد قيل: إن الألف واللام ليستا للاستغراق حتى يقال: كُل موءودة في النار ولو كانت صغيرة، بل يُحمل على ما إذا كانت كبيرة، قالوا: ويدل عليه أنه جاء في بعض الروايات أنه سئل عن امرأة وَأَدَتْ بنتها فذكر الحديث، فيكون المقصود من ذلك قضية معينة، وتكون تلك الموءودة من أهل النار. شرح سنن أبي داود (532/15).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
وهذا بعيد جدًّا، فإنه لا يُعرف من العرب مَن دَفَنَ ولده حيًّا بعد بلوغه. مرقاة المفاتيح (1/ 186).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
وأما قولهم: ورد هذا الحديث في قصة خاصة، وهي أن ابْنَيْ مُليكة أتيا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسألانه عن أم لهما كانت تَئِد، فقال -عليه الصلاة والسلام-: «الوائدة والموءودة في النار» فلا يجوز حمله على العموم.
فجوابه: أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب عند قيام الشواهد. الكاشف عن حقائق السنن (2/575).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«والموءودة» قيل: أراد بها هنا المفعولة لها ذلك، وهي أم الطفل؛ لقوله: «في النار»، ولو أريد البنت المدفونة لما اتضح ذلك؛ وهذا أولى من ادعاء أنه وارد على سبب خاص وواقعة معينة لا يجوز إجراؤه في غيره؛ لأنه وإن ورد على ذلك لا ينجع في التخلص عن الإشكال كما لا يخفى على أهل الكمال على أن الطيبي ردَّه بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند قيام الشواهد. فيض القدير (6/370).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
وهذا الحديث إنما أوردوه في هذا الباب للاستدلال على تعذيب أطفال المشركين، ولا يجوز أن يُقْطَع في هذه المسألة بمثل هذا الحديث؛ لأنه من جملة الآحاد، مع ما فيه من الاختلاف. الميسر في شرح مصابيح السنة (1/70).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الوائدة والموءودة في النار»، وهذا لا يدل على أنهم كلهم في النار، بل يدل على أن بعض هذا الجنس في النار، وهذا حق، وقد رد بعضهم على الحديث بأنه مخالف لنص القرآن، قال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} التكوير: 8، 9، سواء كان المعنى: أنها تُسأل سؤال توبيخ لمن وَأَدَها، أو تُطلب ممن وأدها كما تُطلب الأمانة ممن اؤتمن عليها، وعلى التقديرين فقد أخبر سبحانه أنه لا ذنب لها تقتل به في الدنيا قتلة واحدة، فكيف تُقْتَل في النار قتلات دائمة، ولا ذنب لها، فالله أعدل وأرحم من ذلك؛ لأنه إذا كان قد أَنْكَر على مَن قَتَلَها بلا ذنب، فكيف يعذبها -تبارك وتعالى- بلا ذنب؟ وهذا المعنى حق لا يعارض نص القرآن، فإنه لم يخبر أن الموءودة في النار بلا ذنب، فهذا لا يفعله الله قطعًا، وإنما يُدخلها النار بحجته التي يقيمها يوم القيامة إذا ركَّب في الأطفال العقل، وامتحنهم، وأَخْرَجَت المحنة منهم ما يستحقون به النار. أحكام أهل الذمة (5/ 149).
وقال ابن القيم -رحمه الله- أيضًا:
وإنما الجواب الصحيح عن هذا الحديث: أن قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الوائدة والموءودة في النار» جواب عن تينك الوائدة والموءودة اللتين سُئل عنهما، لا إخبار عن كل وائدة وموءودة، فبعض هذا الجنس في النار، وقد يكون هذا الشخص من الجنس الذي في النار. أحكام أهل الذمة (2/ 1121).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
ليس لهذا الحديث إسناد أقوى وأحسن من هذا الإسناد، ورواه جماعة عن الشعبي كما رواه داود، وقد رواه أبو إسحاق عن علقمة، كما رواه الشعبي، وهو حديث صحيح من جهة الإسناد، إلا أنه محتمل أن يكون خرج على جواب السائل في عين مقصودة، فكانت الإشارة إليها، والله أعلم، وهذا أولى ما حُمل عليه هذا الحديث؛ لمعارضة الآثار له، وعلى هذا يصح معناه، والله المستعان. التمهيد (18/ 120).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
«في النار» أي: هما في نار جهنم. السراج المنير شرح الجامع الصغير (4/397).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
والحديث دليل على تعذيب أطفال المشركين. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/110).