«خمسُ صلواتٍ كتبهنَّ اللهُ على العبادِ، فمَن جاء بهنَّ، لم يُضَيِّعْ منهنَّ شيئًا استخفافًا بحقهنَّ، كان له عند اللهِ عهدٌ أن يُدْخِلَهُ الجنةَ، ومَن لم يأتِ بهِنَّ، فليسَ له عند اللهِ عهدٌ، إنْ شاءَ عذَّبَهُ، وإنْ شاءَ أدخلَهُ الجنةَ».
رواه أحمد برقم: (22752)، ورقم: (22693)، ورقم: (22720)، وأبو داود برقم: (1420)، والنسائي برقم: (461)، وابن ماجه برقم: (1401)، من حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (3243)، صحيح الترغيب والترهيب برقم: (370).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«كتبهنَّ»:
أي: أَوْجَبَهُنَّ وفَرَضَهُنَّ. حاشية السندي على سنن النسائي (1/ 230).
«استخفافًا»:
أي: تهاونًا وتكاسلًا. البحر الرائق، لابن نجيم (1/ 365).
«عَهْدٌ»:
أي: وعدٌ لازمٌ منه سبحانه أن يدخله الجنة يوم القيامة. شروق أنوار المنن الكبرى الإلهية لمحمد المختار الشنقيطي (4/1031).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
والمراد به هنا: الوَعد الموثق المحفوظ عند الله. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (6/176).
شرح الحديث
قوله: «خمس صلوات كتبهنَّ الله على العباد»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«خمس صلوات» مبتدأ سوَّغَهُ كونه مضافًا، وخبره جملة «كتبهنَّ الله».
ويحتمل: أن تكون الجملة صفة لـ«خمس» في محل رفع، والخبر جملة قوله: «مَن جاء بهنَّ...» إلخ. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (6/175).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«خمس صلوات» خمس مرفوع؛ لأنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: الإسلام خمس صلوات «كتبهنَّ الله على العباد». شرح سنن أبي داود (7/55).
وقال الشيخ محمد المختار الشنقيطي -رحمه الله-:
ولم ينص على كل واحدة منهن؛ لأنهن معلومات عند الناس. شروق أنوار المنن الكبرى الإلهية(4/ 1031).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
قوله: «خمس صلوات كتبهنَّ الله على العباد» الوتر ليس من الخمس الصلوات، إذًا: هو زائد على المفروض. شرح سنن أبي داود (172/12).
وقال الزرقاني -رحمه الله-:
وفي رواية لأبي داود وغيره عن عُبادة: «افترضهنَّ الله -عزَّ وجلَّ- على العباد»، فأفاد أنه لم يُكتب غيرهنَّ، ومنه الوتر. شرح الزرقاني على الموطأ (1/ 445).
وقال السندي -رحمه الله-:
«خمس صلوات» الظاهر أنه مبتدأ؛ لتخصيصه بالإضافة، خبره «كتبهنَّ» أي: أَوْجَبَهُنَّ وفَرَضَهُنَّ.
وقد استدل بالعدد على عدم وجوب الوتر، لكن دلالة مفهوم العدد ضعيفة عندهم، وقد يقال: لعله استدل على ذلك بقوله: «مَن جاء بهنَّ...» إلخ، حيث رتَّب دخول الجنة على أداء الخمس، ولو كان هناك صلاة غير الخمس فرضًا لَمَا رتّب هذا الجزاء على أداء الخمس.
قلتُ: هذا منقوض بفرائض غير الصلوات، فليتأمل. حاشية السندي على سنن النسائي (1/ 230).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
وفيه حُجَّة قوية لمن يقول بمفهوم العدد المخصوص، ونقله أبو حامد (الإسفراييني) والماوردي عن نص الشافعي، ومَثَّلَهُ بقوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} النور: 4، وبقوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: «في أربعين شاةً شاةٌ». شرح سنن أبي داود (7/ 56).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
مفهوم العدد هو تعليق الحكم بعدد مخصوص، فإنه يدل على انتفاء الحكم فيما عدا ذلك العدد زائدًا كان أو ناقصًا، وقد ذهب إليه الشافعي كما نقله عنه أبو حامد وأبو الطيب الطبري والماوردي وغيرهم، ونقله أبو الخطاب الحنبلي عن أحمد بن حنبل، وبه قال مالك وداود الظاهري، وبه قال صاحب الهداية من الحنفية.
ومنع من العمل به المانعون بمفهوم الصفة.
قال الشيخ أبو حامد وابن السمعاني: وهو دليلٌ كالصفة سواء، والحق ما ذهب إليه الأولون، والعمل به معلوم من لغة العرب، ومن الشرع، فإنَّ مَن أَمَرَ بأمرٍ وقيَّده بعدد مخصوص، فزاد المأمور على ذلك العدد، أو نقص عنه، فأنكر عليه الآمر الزيادة أو النقص كان هذا الإنكار مقبولًا عند كل مَن يعرف لغة العرب، فإنْ ادعى المأمور أنه قد فعل ما أُمر به مع كونه نقص عنه، أو زاد عليه كانت دعواه هذه مردودة عند كل مَن يعرف لغة العرب. إرشاد الفحول (ص: 308).
وقال ابن المنذر -رحمه الله-:
دلَّت هذه الأخبار (أي: الأحاديث التي ذكرها) وما لم نذكره من الأخبار في هذا الموضوع على أن فرائض الصلوات خمس، وسائرهن تطوع، وهو قول عوام (أي: عامة) أهل العلم غير النعمان (أبو حنيفة)؛ فإنه خالَفَهُم، وزعم أن الوتر فرض، وهذا القول مع مخالفته للأخبار الثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- خلاف ما عليه عوام أهل العلم عالمهم وجاهلهم، ولا نعلم أحدًا سبقه إلى ما قال، وخالفه أصحابه فقالوا كقول سائر الناس. الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف (5/167).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وفيه: أن الصلوات المكتوبات المفترضات خمس لا غير، وهذا محفوظ في غير هذا، محفوظ في غير ما حديث. التمهيد (23/290).
وقال المازري -رحمه الله-:
مذهب أبي حنيفة: أنَّ الوتر واجب وليس بفرض، على طريقته وطريقة أصحابه في التفرقة بين الفرض والواجب، مع أنهما جميعًا يأثم تاركهما عنده، وفرَّق بعضهم بينهما: بأن الواجب هو ما وجب بالسُّنة، والفرض ما وجب بالقرآن، وقال بعضهم: الواجب ما لا يكفر مَن خالف فيه، والفرض ما يكفر مَن خالف فيه.
وهذه التفرقة عندنا غير صحيحة على مقتضى اللسان، بل الأَوْلَى على حكم الاشتقاق أن يكون الواجب آكد من الفرض، وأما الوتر فهو عند مالِك سُنّة، وما وقع لبعض أصحابنا من تجريحِ تاركه، ولبعضهم أَمْرُ تأديبه، محمول على أنه إنما استحق ذلك لأنَّ تَرْكَهُ عنده عَلَمٌ على الاستخفاف بالدِّين، لا لأجل أن الوتر فرض. المعلم بفوائد مسلم (1/ 452).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
واستدل به عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- على عدم وجوب الوتر، ووجه الاستدلال: أنه لما رتب -صلى الله عليه وسلم- دخول الجنة على أداء الصلوات الخمس عُرف أن ما عداهن ليس واجبًا؛ إذ لو وَجَبَ لمنع تركُه من دخول الجنة. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (6/176).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- أيضًا:
«كتبهنَّ» أي: افترضهنَّ «على العباد» المكلفين. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (6/175).
قوله: «فمَن جاء بهنَّ لم يُضيع منهنَّ شيئًا استخفافًا بحقهنَّ كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة»:
قال الشيخ محمد المختار الشنقيطي -رحمه الله-:
قوله: «فمَن جاء» الفاء استئنافية و«مَن» شرطية و«جاء» فعل الشرط، يحتمل أن معناه: فَعَلَهُن، يقال: جاء بكذا إذا قاله أو فعله.
ويحتمل أن المراد: جاء بهن يوم القيامة في صحيفة عمَلِهِ كاملات من غير نقصان ولا تضييع لوقتهنَّ، كما في الرواية: «أحْسَنَ وضوءهنَّ وصلّاهنَّ لوقتهنَّ، وأتم ركوعهنَّ وخشوعهنَّ». شروق أنوار المنن الكبرى الإلهية بكشف أسرار السنن الصغرى النسائية (4/1031).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«مَن جاء بهنَّ» يحتمل: أن تكون «مَن» شرطية جوابها جملة «كان»، وأن تكون موصولة مبتدأ، خبرها جملة «كان» أيضًا، والجملة في محل رفع خبر بعد خبر، إن كانت جملة «كتبهنَّ» خبرًا، أو خبر إن كانت صفة. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (6/175).
وقال الشيخ محمد المختار الشنقيطي -رحمه الله-:
وقوله: «لم يضيّع منهن شيئًا» جملة حالية، وقوله: «استخفافًا» أي: تهاوُنًا، أما إذا كان حصل شيء من ذلك على سبيل النسيان أو الاضطرار؛ فإنه لا يعدُّ تهاونًا ولا استخفافًا. شروق أنوار المنن الكبرى الإلهية بكشف أسرار السنن الصغرى النسائية (4/1031).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«لم يضيِّع» من التضييع، أو من الإضاعة، «منهن شيئًا» أي: من الأركان والشروط. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (6/175).
وقال اليفرني -رحمه الله-:
وقوله: «استخفافًا بحقهن» ينتصب على وجهين:
أحدهما: أن يكون مصدرًا وقع موقع الحال، كأنه قال: لم يضيِّع منهن شيئًا مُسْتخِفًّا بحقهن، فيكون من باب قولهم: جِئْتُهُ ركضًا وعدوًا، أو راكضًا وعاديًا.
والثاني: أن يكون مفعولًا من أجله. الاقتضاب في غريب الموطأ وإعرابه على الأبواب(1/ 149-150).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
قوله: «استخفافًا بحقهنَّ» فاعلم أن تارك العبادات على ضربين:
غير قاصد كالناسي والنائم وما أشبههما، واللوم عنه مرفوع شرعًا.
وقاصِدٌ ترْكَها، إما للاشتغال بغيرها، أو تركًا مجردًا، ولا يكون ذلك على الاستخفاف الذي هو في لسان العرب: التهاون والاحتقار، مشتقٌّ من الخِفَّة؛ فإن المرء إذا اعتقد الشيء عظيمًا هابَهُ ووفَّاه من الخدمة حقه، وإذا اعتقده خفيف الوَطْأَةِ، هَيِّن المدرك احتقره.
وهذا الاستخفاف إما أن يكون عن رب الرسل تعالى، أو في المرسَل -صلى الله عليه وسلم-، فيكون بهذا كافرًا مخلدًا في النار.
وأما أن يكون عن تغافل عن عذاب الله تعالى واغترار بالأمل، فذلك فاسق عند أكثر العلماء، وهو القسم المراد في الحديث، بدليل قوله: «إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له»، ولو كان القسم الذي يكون به كافرًا لما جعله تحت المشيئة.
وقد ينقسم الترك للاشتغال بعد هذا، إلا أن يكون الشغل بفرض يتعين، كإنجاء الغرقى، وإنقاذ الهَلْكَى وشبه ذلك، فهذا قسم محمود، فإذا اشتغل بهذين وتركهما كان أيضًا مستخِفًّا؛ لأنه ترك الأعلى للأدنى، والأكبر للأجل، والله أعلم. المسالك شرح موطأ مالك (3/8).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
قوله: «استخفافًا بحقهنَّ» هو قيد للمنفي لا للنفي. نيل الأوطار (1/ 365).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
وكلمة: «استخفافًا» متعلقة بالتضييع، بأن يضيعها استخفافًا، وأما إذا حصل منه شيء خطأ وليس استخفافًا فهو يخالف ذلك، وإنما هنا قيده بالاستخفاف الذي معناه: الاستهانة. شرح سنن أبي داود (172/12).
وقال أبو الوليد الباجي -رحمه الله-:
«لم يضيِّع منهن شيئًا استخفافًا بحقهن» احترز من النسيان والسهو التي لا يمكن لأحدٍ الاحتراز منه إلا مَن تفضل الله عليه بالعصمة، فمَن نقص منهنَّ شيئًا عالِـمًا بذلك وقادرًا على إتمامه فذلك المستخِفّ الذي لا عَهْدَ له عند الله. المنتقى شرح الموطأ (1/ 221).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«كان له عند الله عَهْدٌ» العهد في الأصل اليمين والأمانة والذمة والحفظ، والمراد به هنا: الوعد الموثَّق المحفوظ عند الله.
وسمي وعد الله عهدًا لكونه موثَّقًا؛ حيث إنه لا يُخْلِفُ الميعاد. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (6/176).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«كان له عند الله عهدٌ أن يَدْخُلَ الجنة» أي: مع السابقين، أو من غير تقديم عذاب. فيض القدير (3/453).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«كان له عند الله عهد أن يُدْخِلَه الجنة» مع السابقين الأولين، أو من غير عذاب بصغائره أو بعض كبائره. التنوير شرح الجامع الصغير (5/ 511).
وقال الشيخ محمد المختار الشنقيطي -رحمه الله-:
قوله: «كان له عند الله عهد» أي: وعد لازم منه سبحانه أن يدخله الجنة يوم القيامة، وهذا وأمثاله مما ورد في السُّنة محتمل لمعنيين:
دخول الجنة من غير سابقة تطهير، وهذا هو المراد هنا إن شاء الله؛ لأنَّ الغالب على مَن وُفِّقَ للمحافظة على الصلاة أن يكون محسِنًا في العمل؛ لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر.
والمعنى الثاني: أن يكون مآله الجنة ولو أُخذ ببعض الذنوب، وهذا ينطبق على الأحاديث الدالة على أن مَن مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، أما هنا فالظاهر المعنى الأول. شروق أنوار المنن الكبرى الإلهية بكشف أسرار السنن الصغرى النسائية (4/1031).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
قوله: «كان له عند الله عَهْدٌ أن يدخله الجنة» فيه مُتَمَسَّكٌ للمرجئة القائلين بأن الذنوب لا تضُرّ مَن حافظ على الصلوات المكتوبة، وهو مقيَّد بعدم المانع، كأحاديث مَن قال: «لا إله إلا الله» ونحوها؛ لورود النصوص الصريحة كتابًا وسُنة بذكر ذنوبٍ موجِبة للعذاب كدم المسلم وماله وعرضه وغير ذلك مما يكثر تعداده. نيل الأوطار (1/ 365).
قوله: «ومَن لم يأتِ بهِنَّ فليس له عند الله عهد، إن شاء عذَّبه، وإن شاء أدخله الجنة»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«ومَن لم يأتِ بهنَّ» على الوجه المطلوب شرعًا. فيض القدير (3/453).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«ومَن لم يأتِ بهنَّ» أي: تركَهُن أصلًا، أو أتى بهنَّ على الصفة التي لا ترضيه تعالى. التنوير شرح الجامع الصغير (5/ 511).
وقال القنازِعي -رحمه الله-:
قوله في الصلوات: «ومَن لم يأتِ بهنِّ فليس له عند الله عهد» يعني: إن لم يأتِ بهن على سبيل التضييع لهن والغفلة فالله فيه بالخيار، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له.
وإن جحدها اسْتُتِيبَ، فإن تاب وإلا قُتل، وإن أقرَّ بها وقال: لا أُصَلِّي، أُخِّر حتى يمضي وقت صلاة، فإن صلاها وإلا قُتل. تفسير الموطأ (1/179).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فليس له عند الله عهد إن شاء عذَّبه وإن شاء أدخله الجنة» أخذ منه أنه لا يُفَسَّقُ تاركُها ولا يتَعَيَّن عذابه. التنوير شرح الجامع الصغير (5/ 511).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فليس له عند الله» سبحانه وتعالى «عهد» أي: وعدٌ موثق. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (6/177).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«إن شاء عذَّبه» عدلًا، «وإن شاء أدخله الجنة» برحمةٍ فضلًا. فيض القدير (3/453).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«إن شاء عذبه» بتضييعه ما وجب عليه بعدله، «وإن شاء أدخله الجنة» بفضله سبحانه وتعالى. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (6/177).
وقال أبو الوليد الباجي -رحمه الله-:
وقوله: «ومَن لم يأتِ بهنَّ فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة» نصٌّ في أن مَن ارتكب الكبائر في المشيئة، ومانع مِن قول مَن قال: إنه لا يُغْفَرُ له، ومانع مِن قول مَن قال: إنه كافر. المنتقى شرح الموطأ (1/ 221).
وقال أبو الوليد الباجي -رحمه الله- أيضًا:
ومعنى الحديث: إن كان لا يأتي بها مع إيمانه بها فحكمه في الدنيا أن ينتظر خروج وقت الصلاة، فإن صلاها وإلا قُتِلَ حدًّا، ولو تركها مكذِّبًا بها اسْتُتِيبَ ثلاثًا فإن تاب وإلا قُتل كفرًا. المنتقى شرح الموطأ (1/ 221).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
ذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن معنى حديث عبادة المذكور في هذا الباب، ومعنى حديث كعب بن عُجْرة هذا: أن التضييع للصلاة الذي لا يكون معه لفاعله المسلم عند الله عهد هو أن لا يقيم حدودها؛ من مراعاة وقتٍ وطهارةٍ وتمامِ ركوعٍ وسجودٍ ونحو ذلك، وهو مع ذلك يصليها ولا يمتنع من القيام بها في وقتها وغير وقتها، إلا أنه لا يحافظ على أوقاتها، قالوا: فأما مَن تركها أصلًا ولم يصلِّها فهو كافر، قالوا: وترْكُ الصلاة كفر.
واحتجوا بآثار منها حديث أبي الزبير وأبي سفيان عن جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «بين العبد وبين الكفر تَرْكُ الصلاة». التمهيد (23/293).
وقال السندي -رحمه الله-:
وهذا يقتضي أن المحافِظَ على الصلوات يُوفَّق للصالحات بحيث يدخل الجنة ابتداءً.
والحديث يدل على أن تارك الصلوات مؤمن كما لا يخفى، ومعنى «عذَّبه» أي: على قدر ذنوبه، ومعنى «أدخله الجنة» أي: ابتداءً بمغفرته. حاشية السندي على سنن النسائي (1/ 230).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وفيه: دليل على أن مَن لم يصلِّ من المسلمين في مشيئة الله إذا كان موحِّدًا مؤمنًا بما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-، مصدِّقًا مقرًّا وإن لم يعمل، وهذا يرُدُّ قول المعتزلة والخوارج بأسرها، ألا ترى أن المقِرَّ بالإسلام في حين دخوله فيه يكون مسلمًا قبل الدخول في عمل الصلاة وصوم رمضان بإقراره واعتقاده وعقدة نيته، فمن جهة النظر لا يجب أن يكون كافرًا إلا برفع ما كان به مسلمًا، وهو الجحود لما كان قد أقر به واعتقده. التمهيد (23/290).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
قوله: «ومَن لم يأتِ بهن فليس له عند الله عهد، إن شاء عذَّبه وإن شاء أدخله الجنة»، وهذا يَسْتَدل به الذين يقولون بأن مَن ترك الصلاة تهاونًا وكسلًا ليس بكافر، لكن يمكن أن يُحمل على أن المقصود بقوله: «يأتي بهنَّ» يعني: على التمام والكمال أو كما هو مطلوب، لا أنه تارك لهنَّ أصلًا، ولا يسجد لله ولا يركع، وإنما هو تارك للصلاة نهائيًّا، يعني: ليس هذا من هذا القبيل؛ لأنه جاءت أحاديث تدل على كفر تارك الصلاة، وهذا يمكن أن يُحْمَل على أن المقصود به أنه لم يأتِ بها كما هو مطلوب منه، وإنما عنده تقصير، فهذا التقصير وهذا النقص الذي منه أَمْرُهُ إلى الله -عزَّ وجلَّ-. شرح سنن أبي داود (172/12).
وقال الشيخ محمد المختار الشنقيطي -رحمه الله-:
الحديث دليل على أن الفرض في الصلاة مقصور على الخمس، وأنه ليس في الصلاة شيء واجب غيرهنّ...
وفيه: الحث على المحافظة على الصلاة كما تقدم...
وفيه: حجة للجمهور القائلين بأن تارك الصلاة كسلًا من غير جَحْدٍ لا يُحكم بكفره، وسيأتي الكلام على ذلك.
وفيه: حجة لأهل السنة والجماعة على أن مرتكب الكبيرة إذا مات على التوحيد يكون تحت مشيئة الله تعالى. شروق أنوار المنن الكبرى الإلهية بكشف أسرار السنن الصغرى النسائية (4/ 1031-1032).