«إذا أَكَلَ أحدُكُم فليأكُلْ بيمينِهِ، وإذا شَرِبَ فليشرَبْ بيمينِهِ؛ فإنَّ الشَّيطانَ يأكلُ بشمالِهِ، ويشربُ بشمالِهِ».
رواه مسلم برقم: (2020)، من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.
شرح مختصر الحديث
.
شرح الحديث
قوله: «إذا أكل أحدكم»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«إذا أكل أحدكم» حذف المفعول لِيَعُمَّ كل مأكول. التنوير شرح الجامع الصغير (1/593).
وقال الزرقاني -رحمه الله-:
«إذا أكل أحدكم» أي أراد أن يأكل. شرح الزرقاني على الموطأ (4/454).
قوله: «فليأكل بيمينه»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«فليأكل» ندبًا مؤكدًا، «بيمينه» أي: بيده اليمنى، حيث لا عذر. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 78).
وقال الزرقاني -رحمه الله-:
«فليأكل بيمينه» أي: بيده اليمنى، مِن اليُمْنِ وهو البركة. شرح الزرقاني على الموطأ (4/454).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فليأكل بيمينه» والأمر للإيجاب لما يأتي من علة ذلك، مع كون الأصل في الأمر ذلك. التنوير شرح الجامع الصغير (1/593).
قوله: «وإذا شرب فليشرب بيمينه»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«وإذا شرب فليشرب بيمينه» كذلك (يعني: ندبًا) لأنَّها أشرف من الشمال، وأقوى غالبًا، وأسبق للأعمال، وأمكن في الأشغال، ثم هي مشتقة من اليُمن والبركة، وقد شرَّف الله أهل الجنة بنِسْبَتهم إليها، كما ذمَّ أهل النار بنسبتهم إلى الشمال، فقال: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} الواقعة: 8، وعكسه في أصحاب الشمال، فاليمين وما نُسب إليها، وما اشتُق منها محمودٌ لسانًا وشرعًا ودينًا وأخرى، والشمال بالضد...، وقيل: يحرم. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 78).
وقال الزرقاني -رحمه الله-:
«وإذا شرب فليشرب بيمينه» لأن مِن حقِّ النعمة القيام بشكرها، ومن حق الكرامة أن تُتَناول باليمين، ويميَّز بها بين ما كان من النعمة، وما هو من الأذى. وقدَّم الأكل إجراءً لحكم الشرع على وفق الطباع؛ ولأنه سبب للعطش. شرح الزرقاني على الموطأ (4/454).
قوله: «فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله»:
قال التوربشتي -رحمه الله-:
المعنى: أنه يحمل أولياءه من الإنس على ذلك الصنيع؛ ليضاد به عباد الله الصالحين، ثم إن من حق نعم الله والقيام بشكره أن تكرم ولا يُستهان بها، ومن حق الكرامة أن تُتَناول باليمين، ويميّز بها بين ما كان من النعمة، وبين ما كان من الأذى. الميسر في شرح مصابيح السنة (3/ 952).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
تحريره أن يقال: لا يَأْكُلَنَّ أحدكم بشماله ولا يشربن بها، فإنكم إن فعلتم ذلك كنتم أولياء الشيطان، فإن الشيطان يحمل أولياءه من الإنس على ذلك. الكاشف عن حقائق السنن (9/2839).
وقال ابن حجر -رحمه الله- متعقبًا على الطيبي -رحمه الله-:
وفيه عدول عن الظاهر، والأَوْلى حمل الخبر على ظاهره، وأن الشيطان يأكل حقيقة؛ لأن العقل لا يحيل ذلك، وقد ثبت الخبر به فلا يحتاج إلى تأويله. فتح الباري (9/522).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله» كمثل أكله هو على الحقيقة، أو أنه على ما تقدم على المجاز.
فإن قيل: إنه حقيقة، فنهى عن التشبُّه في مخالفته ومضادته الاستقامة في أموره، وقد تكون الهاء هنا في «شماله» عائدة على الشَّارب والطَّاعم، أي: يأكل بها الشيطان معه، أو يكون على المجاز، أي: ذلك من محبة الشيطان ونزغه حتى خالف سُنة نبيه. إكمال المعلم (6/486).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
وأَبْعَدَ وتَعَسَّف من أعاد الضمير في «شماله» على الآكل. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (8/199).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
حمل قوم هذا الحديث وما كان مثله على المجاز في أكل الشيطان وشربه، قالوا: المعنى فيه أن الأكل بالشمال يحبُّه الشيطان كما قيل في الخمر: زينة الشيطان، وفي الاقتعاط بالعمامة (هو أن يعتم بالعمامة ولا يجعل منها شيئًا تحت ذقنه): عِمَّة الشيطان، أي: أن الشيطان يرضاها ويزينها، وكذلك يدعو إلى الأكل بالشمال ويزينه؛ ليواقع المرء ما نهي عنه.
وهذا عندي ليس بشيء، ولا معنى بحمل شيء من الكلام على المجاز إذا أمكنت فيه الحقيقة بوجه ما.
وفي هذا الحديث: نص بأن الشيطان يأكل ويشرب، ومن الدليل أيضًا على أنَّ من الشياطين من يأكلون ويشربون قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث الاستنجاء «إن ذلك زاد إخوانكم من الجن»، وفي حديث آخر: «إن طعام الجن ما لم يُذكر اسم الله عليه»، وما لم يُغسل من الأيدي والصحاف، وشرابهم الجَدَف وهو الرَّغوة والزَبَد، وهذه الأشياء لا تُدرك بقياس ولا اعتبار، ولا يصح فيها تكييف. الاستذكار (342).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
قالت المبتدعة: الشياطين لا تأكل ولا تشرب.
وقالت طائفة: من الجن تأكل ولا تشرب.
وقال قائلون: أكْلُهم شَمٌّ.
وهذه حيالة إلحاد لا يقع فيها إلا معيب الفؤاد أو عديم الرشاد، الشياطين والجن يأكلون ويشربون وينكحون ويولد لهم ويموتون، وذلك جائز في العقل، وورد به الشرع، وتظاهرت به الأحاديث
فلا يخرج عن هذا المضمار إلا حمار، والذين يقولون: إنهم يشمون ما شَمُّوا العلم. عارضة الأحوذي (7/304).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
ومن فوائد الحديث: أن الشيطان يأكل ويشرب...، وينبي على هذه الفائدة أن الشيطان له جُرْمٌ، وهو كذلك، فيُشْكل على هذا كيف يكون له جُرْمٌ والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إنه يجري من ابن آدم مجرى الدم»، كيف ذلك والإنسان لا يشعر بأن الجُرْمَ يدخل في عروقه؟
أجاب بعض العلماء الذين يَنْحُون إلى تحكيم العقل قالوا: إنه لا يجري حقيقة في العروق، ولكنه يجري في الوساوس، يعني: يوسوس للإنسان، وأن قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «يجري من ابن آدم مجرى الدم» يعني: يوسوس له حتى يصل إلى قلبه الذي يصل إليه الدم، ولكن هذا خلاف ظاهر اللفظ، ونحن نقول: يجري حقيقة، أليس في الدم كريات تجري في الدم؟ ألا يمكن أن الشيطان يتصاغر حتى يكون مثل هذه الكريات ويدخل؟ ممكن، فهذا غير مستحيل عقلًا، وعلى هذا فالشيطان يمكن أن يتلبس ويكون بصورة الآدمي، ويكون بصورة أخرى، ويكون صغيرًا بحيث يجري من العروق من غير أن يشعر به الإنسان. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (6/272).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله» والمؤمن مأمور بألا يتصف بصفة الشيطان في شيء، وإذا حُرِّم التشبه باليهود، بل تَشَبُّه الرجال بالنساء وعكسه فالتشبيه بالشيطان أشد تحريمًا. التنوير شرح الجامع الصغير (1/593).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
هذا الأمر على جهة الندب؛ لأنه من باب تشريف اليمين على الشمال؛ وذلك لأنها أقوى في الغالب، وأسبق للأعمال، وأمكن في الأشغال، ثم هي مشتقة من اليُمْن والبركة. المفهم (5/295).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
فيه النهي عن الأكل والشُّرب بشماله، والنّهي حقيقة في التحريم كما تقرر في الأصول، ولا يكون مُجرًّدُ الكراهة فقط إلا مجازًا مع قيام صارف. نيل الأوطار(8/١٨٣)
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
فالقول في ذلك حرام، لا يقال فيه: إنَّه مكروه، بل يأثم فاعله، فإنَّ كل فعل يُنسب إلى الشياطين فهو حرام وشر، لا خير، ولا جائز. (7/222)].
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
الحديث دليل على تحريم الأكل والشرب بالشمال؛ فإنه علَّلَه بأنه فِعْلُ الشيطان وخُلُقه، والمسلم مأمور بتجنُّب طريق أهل الفسوق فضلًا عن الشيطان.
وذهب الجمهور إلى أنه يستحب الأكل باليمين والشرب بها، لا أنه بالشمال محرَّم، وقد زاد نافع: الأخذ والإعطاء. سبل السلام (2/626).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وفي هذا الحديث أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالأكل باليمين، ومعلوم أن الأمر بالشيء نهي عن ضده، وهذا تأكيد منه -صلى الله عليه وسلم- في النهي عن الأكل بالشمال والشرب بها، فمن أكل بشماله أو شرب بشماله وهو عالم بالنهي ولا عذر له ولا علة تمنعه فقد عصى الله ورسوله، ومن عصى الله ورسوله فقد غوى. الاستذكار (341-342)
وقال ابن حجر-رحمه الله-:
صرّح ابن العربي بإثم من أَكل بشماله واحتج بأن كُلُّ فعلٍ يُنسب إلى الشيطان حرام. وقال القرطبي: هذا الأمر على جهة الندب؛ لأنه من باب تشريف اليمين على الشمال؛ لأنها أقوى في الغالب وأسبق للأعمال وأمكن في الأشغال، وهي مشتقة من اليُمن، وقد شرَّف الله أصحاب الجَنّة إِذ نسبهم إلى اليمين، وعكسه في أصحاب الشمال. قال وعلى الجملة فاليمين، وما نُسب إليها وما اشْتُقَّ منها محمودٌ لغة وشرعًا ودينًا والشمال على نقيض ذلك.فتح الباري(9/٥٢٣)
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
الأرجح قول مَن قال بوجوب الأكل باليمين، وتحريمه بالشمال؛ لقوّة أدلّة ذلك، فإن الأحاديث بَعضها بصيغة الأَمر، وبعضها بصيغة النهي، والأول للوجوب، والثاني للتحريم، ومما يؤكّد ذلك دعاؤه -صلى الله عليه وسلم- على ذلك الرَّجل بقوله: "لا استطعتَ"، واستجيبت دعوته، فما رفع يدهُ بعدُ، فمثل هذا الدُّعاء لا يكون إلا لترك واجب، أو ارتكاب محرّم، فتبصّر بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم.البحر المحيط الثجاج، شرح صحيح مسلم(34/١٢١).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث من الفقه: أن الله -عزَّ وجلَّ- لما خلق لابن آدم يَدَيْنِ، وكانت له أعماله الصالحة كتناول الغذاء وغيره جعل ذلك من شغل اليمنى، وكانت له أعمال لا بد له منها تنفر النفس عنها كإزالة الأنجاس، ومسِّ الفَرْجِ، وإماطة الأذى وغير ذلك، فجعل ذلك من شغل اليسرى، فإذا خالف الإنسان وأَشْغَل اليسرى فيما خُلِقَت له اليمنى كان ذلك مخالفًا لموضع الحكمة، وذلك من موافقة الشيطان، والشيطان يدعو من اتَّبعه إلى عمله. الإفصاح عن معاني الصحاح (4/259).
وقال المغربي -رحمه الله-:
وهذا إذا لم يَكن عُذر، فإن كان عُذرٌ يمنع الأكل والشرب باليمين مِن مرضٍ أو جراحة أو غير ذلك فلا كراهة في الشمال. شرح صحيح مسلم (13/ 192).
وقال النووي -رحمه الله- أيضًا:
وفيه: أنه ينبغي اجتناب الأفعال التي تُشبه أفعال الشياطين، وأن للشياطين يَدَيْن. شرح النووي على صحيح مسلم (13/191-192).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
في هذا الحديث فوائد:
أولًا: إكرام اليمين؛ لأننا أُمِرْنا أن نأكل بها، ومعلوم أن الأكل غذاء للبدن، فيكون المتفضِّل بالغذاء هي اليد اليمنى.
ثانيًا: وجوب الأكل باليمين، إذا قال قائل لك من أين أخذت ذلك؟
قلنا: من كون الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله، نقول: الأمر هنا للوجوب، ويؤيد ذلك: أنه ورد بصيغة أخرى «لا يأكل بشماله ولا يشرب بشماله»، فاجتمع فيه الأمر بالأكل باليمين والنهي عن الأكل بالشمال، إذًا الأكل باليمين واجب، الشرب باليمين واجب، القاعدة الشرعية أن الواجب يسقط مع العجز فإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يرفع يده اليمنى لشلل، أو مرض جاز له أن يأكل بالشمال للضرورة.
ومن فوائد الحديث: تحريم الشرب بالشمال، وإذا كان كذلك فإن المحرَّم لا يرتفع التحريم فيه إلا للضرورة؛ لقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} الأنعام: 119، وعلى هذا يتبين خطأ أولئك القوم الذين إذا احتاجوا إلى الماء على الطعام أخذوه بشمالهم، هذا لا يجوز، يدَّعي أنه يُلوث الكأس أو الإناء.
جوابنا على هذا أن نقول: أولًا: يمكن أن تمسك باليمين بدون تلويث، فالكأس مثلًا ممكن أن تجعله بين الإبهام والسبابة وتمسكه من أسفل، هذه واحدة.
ثانيًا: في الوقت الحاضر كثير من الناس يشربون من كؤوس لا يَشرب منها غيرهم، وهي البلاستيك يشرب بها وتُرمى، وإذا لوثها يلوثها على من؟ لا أحد.
ثالثًا: لو قدَّرنا أنك لوَّثْتها فهل تتلوث بنجاسة؟ تتلوث بطعام، وليس في ذلك أكثر من المرأة أو الخادم تغسل الإناء، وهل تَلَوَّث الإناء بالطعام، يضطر الإنسان إلى أن يشرب بالشمال؟ لا، لكن التهاون، تهاون الناس وتقليد بعضهم بعضًا هو الذي جعلهم يقدمون على هذا العمل المحرم...
ومن فوائد الحديث: النهي عن التشبه بالكفار؛ لأننا نهينا عن التشبه بالشيطان والشيطان رأس الكفر، وهذا نقوله من باب تعدد الأدلة على النهي عن التشبه بالكفار، وإلا فقد وردت الأدلة صريحة في أن الرسول نهى عن التشبه بالكفار، وقال: «من تشبه بقوم فهو منهم».
ومن فوائد الحديث: نُصْحُ النبي -صلى الله عليه وسلم- للأُمَّة؛ حين أرشدهم إلى هذا الأمر الذي يخفى عليهم، وهو أنه أمَرهم أن يأكلوا باليمين ويشربوا باليمين، وأخبرهم أن الشيطان يأكل بالشمال ويشرب بالشمال، ونحن لا علم لنا في هذه الأمور إلا عن طريق الوحي. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (6/271-272).
وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)