«رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- نُخَامَةً في القِبلَةِ، فشقَّ ذلك عليه حتى رُئِيَ في وجهِهِ، فقام فحكَّهُ بيدهِ، فقال: إنَّ أحدَكُم إذا قام في صلاتِهِ فإنه يُنَاجِي ربَّهُ، أو إنَّ ربَّهُ بينَهُ وبين القِبلَةِ، فلا يَبْزُقَنَّ أحدُكُم قِبلَ قِبْلَتِهِ، ولكن عن يسارهِ أو تحتَ قدميه. ثم أَخذ طَرف ردائِهِ، فَبَصَقَ فيه، ثم رَدَّ بَعضه على بعضٍ، فقال: أو يفعلُ هكذا».
رواه البخاري برقم: (405) واللفظ له، ومسلم برقم: (551)، من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«نُخَامَة»:
النخامة: هي البَزْقَةُ التي تخرج من أقصى الحلق، ومِن مخرج الخاء المعجمة. النهاية في غريب الحديث (5/34).
وقال ابن قرقول -رحمه الله-:
النخامة من الصدر، وهو البلغم اللَّزِج. مطالع الأنوار على صحاح الآثار (4/133).
«رُئِي»:
بضمِّ الراء وهمزة مكسورة بعدها ياء مفتوحة، وبكسر الراء فياء فهمزة. مصابيح الجامع (2/ 116).
أي: شُوهِد. إرشاد الساري، القسطلاني (1/ 419).
«يُنَاجِي»:
أي: يخاطبه ويسارّه بإتيانه بِالذكر وَالْقِرَاءَة. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 307).
قال البرماوي -رحمه الله-:
والمناجاة والنجوى: السر بين اثنين. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (3/ 155).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
المناجاة: المسارَّة، يقال: ناجيته ونَجَوْتُه إذا سارَرْتُه. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (2/112).
«لا يَبْزُقنَّ»:
أي: لا يَتْفُلَنَّ. كشف المشكل (3/ 234).
قال الفيروز أبادي -رحمه الله-:
والبُزَاق: ماء الفم إذا خرج منه، وما دام فيه فَرِيْقٌ. القاموس المحيط (868).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
والتَّفْلُ شبيه بالبَزْقِ؛ لأن الأوّل البَزْق، ثم التفل، ثم النفث، ثم النفخ. إرشاد الساري، القسطلاني (1/ 420).
شرح الحديث
قوله: «رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- نُخامة في القبلة»:
قال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «في القبلة» أي: في حائط من جهة قِبلة المسجد. الكواكب الدراري (4/ 70).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«في القبلة» أي: جدار المسجد الذي يلي القبلة، وليس المراد بها المحراب الذي يسميه الناس قِبلة؛ لأن المحاريب من المحدَثات بعده -صلى الله عليه وسلم-، ومن ثم ذكر جمع من السلف اتخاذها والصلاة فيها.
قال القضاعي: وأوَّل مَن أحدث ذلك عمر بن عبد العزيز، وهو -يومئذٍ عامل للوليد بن عبد الملك على المدينة، لما أسَّس مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- وهدَمه وزاد فيه، ويسمى موقف الإمام من المسجد محرابًا؛ لأنه أشرف مجالس المسجد، ومنه قيل للقصر محراب؛ لأنه أشرف المنازل، وقيل: المحراب مجلس الملك سُمي به لانفراده فيه، وكذلك محراب المسجد لانفراد الإمام فيه، وقيل: سمي بذلك لأن المصلي يحارب فيه الشيطان. مرقاة المفاتيح (2/624).
قوله: «فشَقَّ ذلك عليه»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فشقَّ» أي: صعب «ذلك» أي: ما ذكر من رؤية النُّخامة. مرقاة المفاتيح (2/624).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
إنما شقَّ ذلك عليه احترامًا لجهة القبلة. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (5/418).
قوله: «حتى رُئِي في وجهه»:
قال الكوراني -رحمه الله-:
«رُئِي في وجهه» أي: كراهة ذلك. الكوثر الجاري (2/91).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
و«رُئِي» أي: شوهد أثر المشقَّة في وجهه. الكواكب الدراري (4/ 70).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «حتى رُئي في وجهه» الضمير الذي أقيم مقام الفاعل راجع إلى معنى قوله: «شقَّ ذلك عليه» وهو الكراهة. الكاشف عن حقائق السنن (3/ 958).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وللنسائي: «فغضب حتى احمرَّ وجهه» وللمصنف (يعني: البخاري) في الأدب من حديث ابن عمر: «فتغيّظ على أهل المسجد». فتح الباري (1/508).
قوله: «فقام فحكَّه بيده»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فقام» بنفسه الشريفة. مرقاة المفاتيح (2/624).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
قوله: «فحكَّه» أي: أزاله. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (5/418).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«فحكَّه» أي: أثر النخامة. إرشاد الساري (1/419).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«فحكَّه بيده» من شدة غضبه باشَرَه، أو اكتسابًا للأجر، ويؤيد الأول...قوله: «فتغيط». الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (2/91).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فحكَّه بيده» اللطيفة عوضًا من أُمَّته الضعيفة، إشارة إلى أن سيد القوم خادمهم، وتواضعًا لِربه -جلَّ حقُّه-، ومحبةً لبيته. مرقاة المفاتيح (2/624).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «فحكَّه بيده» ظاهره أنه حكَّه بيده بلا واسطة، خشبة ونحوها فتكون يابسة، ويحتمل: أن يكون المراد من قوله: «بيده» أنه فعل ذلك بنفسه الشريفة، ولم يأمر أحدًا به، لا أَنه فعله بيده بلا واسطة خشبة أو شيء آخر، فيحتمل: أن تكون رطبة أيضًا. لمعات التنقيح (2/496).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
ونازع الإسماعيلي في ذلك فقال: قوله: «فحكَّه بيده» أي: تولى ذلك بنفسه، لا أنه باشر بيده النخامة، ويؤيد ذلك الحديث الآخر: «أنه حكَّها بعُرْجُون» اهـ، والمصنف (البخاري) مشى على ما يحتمله اللفظ (بترجمته: باب حك البزاق باليد من المسجد) مع أنه لا مانع في القصة من التعدد. فتح الباري (1/ 508).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
قوله: «فتناوَل حصاة فحتَّها»، في رواية للبخاري «فحكَّه بيده»، وفي رواية «فحكه»، واختلاف الروايات يدل على جواز الحكِّ باليد، أو الحصى، أو غيرهما مما يزيل الأثر، وقد بوَّب البخاري للحكِّ باليد، وبوَّب للحكِّ بالحصى. نيل الأوطار (2/ 394).
قوله: «فقال: إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يُنَاجِي ربه»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «إذا قام في صلاته» أي: بعد شروعه فيها. فتح الباري (1/508).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«قام في صلاته» أي: شرع فيها، بخلاف: قام إلى الصلاة، فإنه قبل الشُّروع، والجملة الشرطية خبر «إن». اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (3/ 155).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «إذا قام في صلاته» الفرق بين قام في الصلاة، وقام إلى الصلاة: أن الأول يكون بعد الشروع، والثاني عند الشروع. عمدة القاري (4/149).
وقال العيني -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «فإنه» الفاء: فيه جواب «إذا»، والجملة الشرطية قائمة مقام خبر المبتدأ. عمدة القاري (4/149).
وقال النووي -رحمه الله-:
«يناجي ربه» إشارة إلى إخلاص القلب وحضوره وتفريغه لذكر الله –تعالى- وتمجيده وتلاوة كتابه وتدبره. شرح النووي على مسلم (5/40).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
ومن كان يناجي ربه وهو بينه وبين قِبلته فلا يقابلها بذلك. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (5/419).
وقال الشيخ محمد الخضر الشنقيطي -رحمه الله-:
قوله: «يناجي ربه» أي: من جهة مُسَارَرَتِه بالقرآن والأذكار، فالمناجاة من قِبل العبد حقيقة النَّجوى، ومن قِبل الرب لازم ذلك، فيكون مجازًا؛ لأن القرينة صارفة عن إرادة الحقيقة؛ إذ لا كلام محسوس إلا من جهة العبد، والمعنى إقباله عليه بالرحمة والرضوان. كوثر المعاني الدراري (7/70).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«يناجي ربه» يعني: إذا كان يصلي فإنه يناجي الله، يعني يخاطبه، والله -عزَّ وجلَّ- يرد عليه. شرح رياض الصالحين (3/623).
وقال العيني -رحمه الله-:
ويجوز أن تكون من باب التشبيه أي: كأنه ربه ينادي.
والتحقيق فيه: أنه شبَّه العبد وتوجُّهه إلى الله تعالى في الصلاة وما فيها من القراءة والأذكار، وكشف الأسرار واستنزال رحمته ورأفته مع الخضوع والخشوع بمن يناجي مولاه ومَالكه، فمِن شرائط حُسن الأدب أن يقف محاذيه، ويطرق رأسه، ولا يمد بصره إليه، ويراعي جهة أمامه؛ حتى لا يصدر من تلك الهيئات شيء، وإن كان الله تعالى منزهًا عن الجهات (هذه عبارة يرددها أهل التعطيل ويريدون بها نفي علو الرّبِ على خلقه واستوائه على عرشه)؛ لأن الآداب الظاهرة والباطنة مرتبط بعضها ببعض. عمدة القاري (4/149).
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- ردًا على من نفى الجهة في حق الله تعالى:
...إنْ أراد بنفي المكان، المكان المحيط بالله -عزَّ وجلَّ- فهذا النّفي صحيح، فإن الله تعالى لا يُحيط به شيء من مخلوقاته..، وإن أراد بنفي المكان، نفي أن يكون الله تعالى في العلو فهذا النفي غير صحيح، بل هو باطل بدلالة الكتاب والسنة، وإجماع السلف والعقل والفطرة.مجموع الفتاوى(1/١٩٦)
وقال الكرماني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: ما معنى كون الرّب بينه وبين القِبلة؛ إذ لا يصح على ظاهرهِ؛ لأن الله تعالى منزَّه عن الحلول في المكان تعالى عنه؟
قلتُ: معناه: التشبيه، أي: كأنه بينه وبين القبلة. الكواكب الدراري (4/ 70).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
هذا وأمثاله من أحاديث الصفات مما يجب الإيمان به، وإثباته كما صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بلا تأويل، ولا تشبيه، ولا تعطيل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير} الشورى: 11. البحر المحيط الثجاج (12/349).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قِبَل وجهه، فلا يبصُق قِبَلَ وجهه» الحديث حق على ظاهره، وهو سبحانه فوق العرش، وهو قِبَل وجه المصلي، بل هذا الوصف يثبت للمخلوقات.
فإن الإنسان لو أنه يناجي السماء أو يناجي الشمس والقمر لكانت السماء والشمس والقمر فوقه، وكانت أيضًا قِبل وجهه، -وقد ضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- المثل بذلك، ولله المثل الأعلى، ولكن المقصود بالتمثيل بيان جواز هذا وإمكانه، لا تشبيه الخالق بالمخلوق، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما منكم من أحد إلا سيرى ربه مُخْلِيًا به»، فقال له أبو رزين العقيلي: كيف يا رسول الله، وهو واحد ونحن جميع؟! فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «سَأُنَبِّئُك بمثل ذلك في آلَاءِ الله، هذا القمر كلكم يراه مُخْلِيًا به، وهو آية من آيات الله، فالله أكبر» أو كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وقال: «إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر»، فشَبَّه الرُّؤية بالرُّؤية، وإن لم يكن المرئي مشابهًا للمرئي، فالمؤمنون إذا رأوا ربهم يوم القيامة وناجوه كل يراه فوقه قِبل وجهه، كما يرى الشمس والقمر، ولا منافاة أصلًا، ومن كان له نصيب من المعرفة بالله والرسوخ في العلم بالله يكون إقراره للكتاب والسنة على ما هما عليه أوكد. مجموع الفتاوى (5/107).
قوله: «أو إنَّ رَبه بينه وبين القبلة»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «أو إن ربه بينه وبين القبلة» كذا بالشك للأكثر...، وللمستملي والحموي «وإن ربه» بواو العطف. فتح الباري (1/508).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
قوله: «ربه بينه وبين قِبلته» معناه: أنَّ توجُّهه إلى القبلة يفضي بالقصد منه إلى ربه، فصار في التقدير كأن مقصوده بينه وبين قِبلته، فأمر أن تُصَان تلك الجهة عن البُزَاق ونحوه من أثقال البدن (يعني: ما يستقذر). أعلام الحديث (1/386).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
«أو إن ربه بينه وبين القبلة» لا ينافي في ذلك علوه واستواؤه على عرشه؛ فهو معهم باطلاعه وعلمه وإحاطته ورؤيته لخلقه -سبحانه وتعالى-. الحلل الإبريزية (1/130).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
كلامٌ خرج على التعظيم لشأن القِبلة وإكرامها -والله أعلم-، والآثار تدل على ذلك مع النظر والاعتبار، وقد نزع بهذا الحديث بعض من ذهب مذهب المعتزلة في إن الله -عزَّ وجلَّ- في كل مكان، وليس على العرش، وهذا جهل من قائله؛ لأن في الحديث الذي جاء فيه النهي عن البُزاق في القِبلة أنه يَبْزُق تحت قدمه وعن يساره، وهذا ينقض ما أصَّلوه في أنه في كل مكان. التمهيد (14/158).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وفيه: الرد على من زعم أنه على العرش بذاته، ومهما تُؤُوِّل به هذا جاز أن يتأول به ذاك. فتح الباري (1/508).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
وقد ردَّ على ما ذكرهُ صاحب الفتح هنا العلامة المحقق عبد العزيز بن باز -رحمه الله-، فقال: ليس في الحديث المذكور ردٌّ على من أثبت استواء الرب سبحانه على العرش بذاته؛ لأن النصوص من الآيات والأحاديث في إثبات استواء الرب على العرش بذاته محكمة قطعية واضحة لا تحتمل أدنى تأويل.
وقد أجمع أهل السنة على الأخذ بها، والإيمان بما دلت عليه على الوجه الذي يليق بالله سبحانه من غير أن يُشَابِهَ خلْقه في شيء من صفاته.
وأما قوله في هذا الحديث: «فإنَّ الله قِبل وجهه إذا صلى»، وفي لفظ: «فإن ربه بينه وبين القِبلة»، فهذا لفظ محتمل أن يفسر بما يوافق النصوص المحكمة، كما أشار الإمام ابن عبد البر إلى ذلك، ولا يجوز حمل هذا اللفظ وأشباهه على ما يناقض نصوص الاستواء الذي أثبتته النصوص القطعية المحكمة الصريحة. البحر المحيط الثجاج (12/350-351).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
والحاصل أن الصواب في هذا الباب: إثبات النصوص كما وردت على ظاهر معناها على الوجه الذي أراده الله تعالى، مع اعتقاد تنزيه الله تعالى عن مشابهة الخلق، إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير} الشورى: 11. البحر المحيط الثجاج (12/351).
قوله: «فلا يَبْزُقنَّ أحدكم قِبَلَ قِبلته»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
«فلا يبزقنَّ» بنون التوكيد الثقيلة. إرشاد الساري (1/419).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«قِبَل» بكسر القاف وفتح الموحدة، أي: جهة. اللامع الصبيح (3/ 156).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
والأصح أن النهي للتحريم. إرشاد الساري (1/419).
قوله: «ولكن عن يسارهِ أو تحت قدميه»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
«ولكن» يَبْزُق «عن يساره» أي: لا عن يمينه. إرشاد الساري (1/419).
وقال النووي -رحمه الله-:
«تحت قدمه وعن يساره» هذا في غير المسجد، أما المصلي في المسجد فلا يبزق إلا في ثوبه؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «البزاق في المسجد خطيئة»، فكيف يأذن فيه -صلى الله عليه وسلم-؟ وإنما نهى عن البُصَاق عن اليمين؛ تشريفًا لها. شرح النووي على مسلم (5/39).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
«عن يساره أو تحت قدمه» تنزيهٌ أيضًا لجهة اليمين عن الأقذار كما نزِّهت تصريف الميامن فيها، أو تنزيه للملائكة، فقد ذكر البخاري في هذا الحديث زيادة: «فإن عن يمينه ملكًا»، وهذا مع إمكان البصاق لغير اليمين من على اليسار وتحت القدم كما جاء في الحديث، فأما مع تعَذُّر هذه الجهات؛ لكون من يصلي على يساره فله أن يبصق عن يمينه ويدفنه، لكن الأَوْلى تنزيه اليمين عن ذلك ما قدر؛ لما ذكرناه. إكمال المعلم (2/ 484).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
لا يظهر وجود التعذر مع وجود الثوب الذي هو لابسه وقد أرشده الشارع إلى التفل فيه. فتح الباري (1/510).
وقال ابن حجر -رحمه الله- أيضًا:
فإن قلنا: المراد بالملك الكاتب فقد استُشكل اختصاصه بالمنع مع أن عن يساره ملكًا آخر.
وأجيب: باحتمال اختصاص ذلك بِمَلَكِ اليمين؛ تشريفًا له وتكريمًا، هكذا قاله جماعة من القدماء، ولا يخفى ما فيه.
وأجاب بعض المتأخرين: بأن الصلاة أم الحسنات البدنية فلا دخل لكاتب السيئات فيها، ويشهد له ما رواه ابن أبي شيبة من حديث حذيفة موقوفًا في هذا الحديث قال: «ولا عن يمينه؛ فإن عن يمينه كاتب الحسنات»، وفي الطبراني من حديث أبي أمامة في هذا الحديث: «فإنه يقوم بين يدي الله ومَلَكُه عن يمينه، وقرينه عن يساره» اهـ.
فالتَّفل حينئذٍ إنما يقع على القرين وهو الشيطان، ولعل مَلَكُ اليسار حينئذٍ يكون بحيث لا يصيبه شيء من ذلك، أو أنه يتحول في الصلاة إلى اليمين. فتح الباري (1/ 513).
قوله: «ثم أخذ طرف رِدَائه، فبَصَق فيه، ثم ردَّ بعضه على بعض، فقال: أو يفعل هكذا»:
قال ابن الملقن -رحمه الله-:
قوله: «ثم أخذ رداءه» إلى آخره، فيه: جواز هذا الفعل. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (5/419).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «ثم أخذ طرف ردائه» إلخ فيه البيان بالفعل؛ ليكون أوقع في نفس السامع. فتح الباري (1/509).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«أو يفعل هكذا» عطف على المقدَّر، وبعد حرف الاستدراك، أي: ولكن ليبزق عن يساره، «أو يفعل هكذا»...، ولفظة: «أو» هنا ليست للشك بل للتخيير بينهما.
والحاصل: أنه مخيَّر في المسجد بين بصقه تحت قدمه اليسرى، وبصقه عن يساره بطرف ثوبه، وفي غيره بين كل منهما، وبين بصقه عن يساره خارج ثوبه. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (2/112).
وقال العراقي -رحمه الله-:
اختلفت الأحاديث في البصاق الذي وجده النبي -صلى الله عليه وسلم- في القبلة: هل كان ذلك في مسجده -صلى الله عليه وسلم- أو في مسجد آخر؟
فقيل: إنه كان في مسجد الأنصار، بدليل ما رواه مسلم وأبو داود من رواية عبادة بن الوليد قال: «أتينا جابرًا وهو في مسجده، فقال: أتانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مسجدنا هذا، وفي يده عَرْجُون ابن طاب، فنظر فرأى في قِبلة المسجد نخامة فأقبل عليها فحتَّها بالعَرْجُون» الحديث لفظ أبي داود، وظاهر ما تقدم من كونه كان في الخطبة أنه كان في مسجد المدينة، والظاهر أنهما واقعتان أو وقائع، ففي قصة مسجد الأنصار أنه حتَّها بالعَرْجُون، وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري أنه حكَّها بحصاة، وفي قصة مسجد الأنصار «أروني عَبِيْرًا فقام فتى من الحي يشتد إلى أهله فجاء بِخَلُوقٍ في راحته، فأخذه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجعله على رأس العَرْجُون، ثم لطَّخ به على أثر النخامة»، وعند النسائي من حديث أنس: «أنه رأى نُخَامَة في قِبلة المسجد فغضب حتى احمرَّ وجهه، فقامت امرأة من الأنصار فحكَّتْها، وجعلت مكانها خَلُوقًا، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «ما أحسن هذا!» وفي بعضها أنه كان في الصلاة، وفي بعضها أنه كان يخطب...، فهذا يدل على اختلاف واقعتين أو وقائع من غير تعارض. طرح التثريب (2/ 386).
وقال النووي -رحمه الله-:
اعلم أن البزاق في المسجد خطيئة مطلقًا سواء احتاج إلى البزاق أو لم يحتج، بل يبزق في ثوبه فإن بَزَقَ في المسجد فقد ارتكب الخطيئة، وعليه أن يكفر هذه الخطيئة بدفن البزاق، هذا هو الصواب أن البزاق خطيئة كما صرح به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال العلماء والقاضي عياض: فيه كلام باطل حاصله: أن البزاق ليس بخطيئة إلا في حق من لم يدفنه، وأما من أراد دفنه فليس بخطيئة، واستدل له بأشياء باطلة، فقوله هذا غلط صريح مخالف لنص الحديث، ولما قاله العلماء، نبَّهْتُ عليه لئلا يُغْتَر به. شرح النووي على مسلم (5/41).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
وهذا الحديث دالٌّ على كراهة أن يبصق المصلي في قِبلته التي يصلي إليها، سواء كان في مسجد أو لا، فإن كان مسجد تأكَّدَت الكراهة بأن البزاق في المسجد خطيئة...، فإن كان في قِبْلَة المسجد كان أشد كراهة.
وفي الحديث: نهيُ المصلي أن يبزق وهو في الصلاة قِبل قِبلته بكل حال، وليس فيه التصريح بالنهي عن أن يَبْزُق عن يمينه، وورد التصريح به في أحاديث آخر، وهو يُفهم مِن أَمْرِه بأن يبزق عن يساره أو تحت قدمه أو في طرف ردائه. فتح الباري (3/106- 107).
وقال النووي -رحمه الله-:
فيه: إزالة البزاق وغيره من الأقذار ونحوها من المسجد. شرح النووي على مسلم (5/39-40).
وقال العيني -رحمه الله-:
فيه: تعظيم المساجد عن أثفال البدن (يعني: أقذار الجسم)، وعن القاذورات بالطريق الأولى. عمدة القاري (4/149).
وقال العيني -رحمه الله-:
وفيه من الفوائد: استحباب إزالة ما يُستقذر أو يُتنزه عنه من المسجد.
وفيه: تفقُّد الإمام أحوال المساجد وتعظيمها وصيانتها. عمدة القاري (4/156).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قال المهلب: فيه إكرام القبلة وتنزيهها؛ لأن المصلي يناجي ربه فواجب عليه أن يُكْرِم القِبلة مما يُكْرِمُ منه المخلوقين إذا ناجَاهم واستقبلهم بوجهه، بل قِبلة الله تعالى أَوْلَى بالإكرام.
وقال طاوس -رحمه الله-: أكرموا قِبلة الله لا تبزقوا فيها.
وأبان -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث أن معنى نهيه عن البزاق في القبلة إنما هو من أجل مناجاته لربه عند استقباله القبلة في صلاته، ومن أعظم الجفاء وسوء الأدب أن تتوجه إلى رب الأرباب وملك الملوك وتتنخم في توجهك، وقد أعلمنا الله تعالى بإقباله على من توجه إليه ومراعاته لحركاته. شرح صحيح البخاري (2/68).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وهذا التعليل (يعني: بأن الله بينه بين قبلته) يدل على أن البُزاق في القبلة حرام سواء كان في المسجد أم لا، ولا سيما من المصلي، فلا يجري فيه الخلاف في أن كراهية البُزاق في المسجد هل هي للتنزيه أو للتحريم؟ وفي صحيحي ابن خزيمة وابن حبان من حديث حذيفة مرفوعًا: «من تَفَلَ تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتَفْلُه بين عينيه»، وفي رواية لابن خزيمة من حديث ابن عمر مرفوعًا: «يُبعث صاحب النخامة في القِبلة يوم القيامة وهي في وجهه»، ولأبي داود وابن حبان من حديث السائب بن خلاد: أن رجلًا أمَّ قومًا فبصَق في القِبلة، فلما فرغ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يصلي لكم» الحديث، وفيه أنه قال له: «إنك آذيت الله ورسوله». فتح الباري (1/508).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
(وفيه) الحث على الاستكثار من الحسنات، وإن كان صاحبها مليًّا؛ لكونه -صلى الله عليه وسلم- باشر الحكَّ بنفسه، وهو دال على عظم تواضعه، زاده الله تشريفًا وتعظيمًا -صلى الله عليه وسلم-. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/182).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
وإنما يُكره البصاق إلى القبلة في الصلاة أو المسجد، فأما مَن بصق إلى القبلة في غير مسجد فلا يُكره له ذلك. فتح الباري (3/109).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وفي هذا الحديث من الفقه: إزالة ما يُسْتَقْذَر وما يُتَنَزَّه عنه ويُتَقَزَّز منه من المسجد، وأن ينظَّف، وإذا كان رسول الله يحكُّ البصاق من حائط المسجد مِن قِبلته فكَنْسُه وتنظيفه وكسوته يدخل في معنى ذلك. التمهيد (14/154).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وفي هذا الحديث أيضًا: دليل على أن للمصلي أن يبصق وهو في الصلاة إذا لم يبصق قِبل وجهه، ولا يقطع ذلك صلاته ولا يفسد شيئًا منها إذا غلبه ذلك واحتاج إليه، ولا يبصق قِبل وجهه ألبتة، ولكن يبصق في ثوبه وتحت قدميه على ما ثبت في الآثار. التمهيد (14/154-155).
وقال العيني -رحمه الله-:
وفيه: أنه إذا بَزَق يَبْزُق عن يساره ولا يَبْزُق أمامه؛ تشريفًا للقبلة، ولا عن يمينه؛ تشريفًا لليمين. عمدة القاري (4/149).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قال بعضهم: فيه دليل على أن المصلي لا يكون عن يساره مَلَكٌ؛ لأنه لا يجد ما يكتب لكونه في طاعة؛ لأنه علل منع البصاق على اليمين لكون الْمَلَكِ هناك، وأباحه على اليسار. إكمال المعلم (2/485).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
وفيه: فضل الميمنة على الميسرة. شرح صحيح البخاري (2/69).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
فيه إشارة إلى أن تلويث الثوب للحاجة إليه ليس مما ينبغي التنزه عنه، كما قد يأْنَفُ منه بعض أهل الكِبر والأنفة. فتح الباري (3/139).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
وفيه: طهارة البزاق؛ لأنه لو كان غير طاهر ما بَزَقَ -عليه السلام- في ثوبه، ولا أمر بذلك. شرح صحيح البخاري (2/69).
وقال النووي -رحمه الله-:
فيه: جواز الفعل في الصلاة.
وفيه: أن البزاق والمخاط والنخاعة طاهرات، وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين، إلا ما حكاه الخطابي عن إبراهيم النخعي أنه قال: البُزاق نجس. ولا أظنه يصحُّ عنه.
وفيه أن البُصَاق لا يُبطل الصلاة، وكذا التَّنَخُّع إن لم يتبين منه حرفان، أو كان مغلوبًا عليه. شرح النووي على مسلم (5/39-40).
وقال العيني -رحمه الله-:
وفيه: أن للمصلي أن يبصق في الصلاة ولا تفسد صلاته.
وفيه: أنه إذا نفخ أو تنحنح جاز، كذا قالوا، ولكن هذا بالتفصيل، وهو أن التنحنح لا يخلو إما أن يكون بغير اختياره فلا شيء عليه، وإن كان باختياره فإن حصلت منه حروف ثلاثة تفسد صلاته، وفي الحرفين قولان، وعن أبي حنيفة: إن النفخ إذا كان يُسمع فهو بمنزلة الكلام يقطع الصلاة...
ومن فوائده: أن التحسين والتقبيح إنما هو بالشرع؛ لكون اليمين مفضَّلة على اليسار، واليد مفضَّلة على القدم. عمدة القاري (4/156).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وقد أجمع العلماء على أن العمل القليل في الصلاة لا يضرها، وفي إباحة البصاق في الصلاة لمن غلبه ذلك دليل على أن النفخ في الصلاة إذا لم يَقصد به صاحبه اللعب والعبث وكان يسيرًا لا يضر المصلي في صلاته، ولا يفسد شيئًا منها؛ لأنه قلَّمَا يكون بصاق إلا ومعه شيء من النفخ والنحنحة، والبصاق والنخامة والنخاعة كل ذلك متقارب...، قال مالك: التنحنح والنفخ والأنين في الصلاة لا يقطع الصلاة...، وقال الشافعي: كل ما كان لا يُفهم منه حروف الهجاء فليس بكلام، ولا يَقطع الصلاة إلا الكلام، وهو قول أبي ثور: لا يقطع الصلاة إلا الكلام المفهوم، وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن: إن كان النفخ يُسمع فهو بمنزلة الكلام يقطع الصلاة، وقال أبو يوسف: لا يقطع الصلاة إلا أن يريد به التَّأْفِيْف، ثم رجع فقال: صلاته تامة، وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه: لا إعادة على من نفخ في صلاته، والنفخ مع ذلك مكروه عندهم على كل حال. التمهيد (14/155-156).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده:
منها: بيان النهي عن البصاق في الصلاة؛ لمنافاته التعظيم لله -عزًّ وجلَّ-؛ إذ المصلي يناجي ربه -عزَّ وجلَّ-.
ومنها: مشروعية إنكار المنكر لمن رآه، وإزالته باليد، وفي حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان» أخرجه مسلم وأصحاب السنن.
ومنها: غضب الإمام على رعيته وزجرهم إذا رأى منهم إخلالًا بأمر من أمور الشرع، فعند أبي داود: «فتَغَيَّظَ على الناس»، وفي حديث أنس -رضي الله عنه- في الصحيح: «فشق ذلك عليه، حتى رئي في وجهه».
ومنها: وجوب احترام القبلة وتعظيمها، وقد عَلَّل ذلك بقوله: «فإن اللَّه عز وجل قِبل وجهه». البحر المحيط الثجاج (12/352).
وللاستفادة من الروايات الأخرى ينظر (هنا) و (هنا)