الخميس 27 رمضان 1446 هـ | 27-03-2025 م

A a

خَرَجَ علينا رسولُ اللهِ -صلَّى الله عليه وسلَّم- فقال: «ما لي أراكُمْ رَافِعِي أيديكُمْ كأنَّها أذنابُ خَيْلٍ شُمْسٍ؟ اسْكُنُوا في الصَّلاةِ»، قال: ثم خَرَجَ علينا فَرَآنَا حِلَقًا فقال: «ما لي أراكُمْ عِزِينَ؟» قال: ثم خَرَجَ علينا فقال: «ألا تَصُفُّونَ كما تَصُفُّ الملائكةُ عندَ ربِّها؟» فقلنا: يا رسولَ اللهِ، وكيفَ تَصُفُّ الملائكَةُ عندَ ربِّها؟ قال: «يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الأُوَلَ، ويَتَرَاصُّونَ في الصَّفِّ».


رواه مسلم برقم: (430)، من حديث جابر بن سَمُرَة -رضي الله عنه-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«أَذْنَاب»:
جمع الذَّنَب بالتَّحْرِيكِ، وهو الذَّيْلُ. تاج العروس، للزبيدي (2/ 436).
وقال ابن فارس -رحمه الله-:
(ذَنَبَ) الذَّالُ والنُّونُ والبَاءُ أصول ثلاثة: أحدها: الذَّنَبُ، وهو مُؤَخَّرُ الدَّوَابِّ؛ ولذلك سُمِّيَ الأتباع الذُّنَابَى. مقاييس اللغة (2/ 361).

«خَيْل شُمْسٍ»:
الشُّمْس: بسكون الميم وضمها معًا. إكمال المعلم، لعياض (2/343).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
«خيل شُمْس» هي جمع شُمُوس، وهو النَّفُورُ من الدواب الذي لا يستقر لِشَغَبِه وحدَّته. النهاية (2/501).

«حِلَقًا»:
هو بكسر الحاء وفتحها لغتان. شرح صحيح مسلم (4/153).
قال البيضاوي -رحمه الله-:
«حِلَقًا» جمع: حَلْقَة. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/337).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
وهي الجماعة المستديرة. كشف المشكل (1/456).

«عِزِيْن»:
جمع عِزَة، وهي الحَلْقة المجتمعة من الناس، وأصلها عِزْوَة، فحذفت الواو وجمعت جمع السلامة على غير قياس، كثُبِيْن وبُرِين في جمع ثُبَة (أي: الجماعة) وبُرَة (أي: حلقة تجعل في أنف البعير). النهاية، لابن الأثير (3/233).
قال الطيبي -رحمه الله-:
«عِزْين» أي: جماعات متفرقين حَلْقة حَلْقة. الكاشف عن حقائق السنن (4/1143).

«يتراصُّون»:
أي: يتلاصقون بحيث تتصل مناكبهم. المفاتيح في شرح المصابيح، للمظهري (2/226).
قال ابن الجوزي -رحمه الله-:
«وتتراصُّون في الصف» أي: تتضامون فيه. كشف المشكل (1/456).


شرح الحديث


قوله: «خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «خرج علينا» أي: طَلع. الكاشف عن حقائق السنن (4/1143).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-» أي: من بيته إلى المسجد، أو المراد من الخروج الطُّلوع والظهور. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (2/593).

قوله: «فقال: ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أَذْنَاب خَيْل شُمْسٍ؟»:
قال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«فقال: ما لي أراكم» «ما» اسم استفهام مبتدأ، و«لي» جار ومجرور خبر، وجملة «أراكم» في محل النصب على الحال، وجملة: «فقال»: معطوف على محذوف، أي فرآنا في حالة كذا فقال: أيُّ شيء حصل لي حالة رؤيتي لكم؟ والاستفهام وإن كان في صورته استفهامًا عن رؤية نفسه، وتعجبًا من هذه الرؤية، إلا أن المقصود التَّعجب من حالهم وكان حقه أن يقول: ما لكم تفعلون كذا؟ لكنه آثر أسلوب التعريض.
«رافعي أيديكم» «رافعي» حال من مفعول «أراكم»؛ لأنها بصرية، والمراد من رفع الأيدي رفعها عن الفخذ والإشارة بها يمينًا وشمالًا، وجمع الأيدي لجمع أصحابها، ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادًا، كأنه قال: ما لي أراكم رافعًا كل منكم يده، أي: يمينه، يشير بالسلام. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (2/593).
وقال الرافعي -رحمه الله-:
منعهم من الإشارة باليدين عند السلام، ومِن رفع الأيدي لها كما تُرفع الأذناب عند الشِّماس (أي: عندما تمنع الخيل ظهرها من الركوب)، وبيّن أن اليدين عند السلام ينبغي أن تكونا موضوعَتين على الفخذين. شرح مسند الشافعي (1/384).
وقال النووي -رحمه الله-:
والمراد بالرفع المنهي عنه هنا رفعهم أيديهم عند السلام مشيرين إلى السلام من الجانبين كما صرح به في الرواية الثانية. شرح النووي على مسلم (4/153).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
والمراد من رفع الأيدي رفعها عن الفخذ، والإشارة بها يمينًا وشمالًا. البحر المحيط الثجاج (10/217).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
والمقصود من هذا التشبيه التنفير، وقد استخدم فيه ثلاثة مشبهات بها منفِّرة: تشبيه الأيدي التي في مقدمة الإنسان ورمز قوته بالأذناب التي في المؤخرة، وهي مَثَلٌ للحقارة والضَّعف والتبعية، وتشبيه الإنسان بالحيوان، وتشبيه الحركة بالشغب والنفور، وجملة «كأنها» حال من «أيديكم». فتح المنعم شرح صحيح مسلم (2/593).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
وقد احتج بعض أصحاب أبي حنيفة بهذا الحديث في منعهم رفع اليدين في الركوع وعند الرفع منه، وليس لهم فيه حجة؛ لأنه قد روي مفسَّرًا بعد حديثين، قال جابر: صلينا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكنَّا إذا سلمنا قُلْنا بأيدينا: السلام عليكم، السلام عليكم، فنظر إلينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «ما شأنكم تُشِيرون بأيديكم كأنها أذناب خَيْل شُمْس؟ إذا سلَّم أحدكم فليلتفت إلى صاحبه ولا يومئ بيده»، فبان بهذا أنه ليس لرفع الأيدي للتكبير. كشف المشكل (1/456).
وقال العيني -رحمه الله-:
وقد استدل بهذا الحديث أصحابنا (الأحناف) في ترك رفع اليَدين في الصلاة عند غير تكبيرة الافتتاح، واعترض البخاري على وجه استدلالهم. شرح أبي داود (4/ 285).
وقال البخاري -رحمه الله-:
عن جابر بن سَمُرَة قال: دخل علينا النبي -صلى الله عليه وسلم-، ونحن رافعي أيدينا في الصلاة، فقال: «ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شُمْس؟ اسكنوا في الصلاة»، فإنَّما كان هذا في التشهد لا في القيام، كان يُسلِّم بعضهم على بعض، فنهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن رفع الأيدي في التشهد، ولا يحتج بمثل هذا من له حظٌّ من العِلم، هذا معروف مشهور لا اختلاف فيه، ولو كان كما ذهب إليه؛ لكان رفع الأيدي في أول التكبيرة، وأيضًا تكبيرات صلاة العيد منهيًّا عنها؛ لأنه لم يستثنِ رفعًا دون رفع. رفع اليدين (ص: 36).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قد استدل بحديث جابر طائفتان:
من قال: لا تُرفع الأيدي عند تكبيرة الإحرام، ومن قال: تُرفع فيها ولا تُرفع عند الركوع، والحديث واضح أنه في غير ذلك، وإنما هو نهي عن الإيماء عند التسليم، وقال بعضهم: إنه يستدل بعموم: «اسْكُنوا»؛ فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وأجيب عنه: بأنه لو حمل على العموم لزم ألا يركع ولا يسجد؛ لأنه لم يسكن في الصلاة.
والحق: أنه مقصور على سببه؛ لثبوت الأحاديث برفع الأيدي في المحلات الثلاثة، وغيرها. التحبير لإيضاح معاني التيسير (5/ 418).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
أما حديث: «ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شُمْس، اسكنوا في الصلاة» فالمراد بالرفع هنا: رفعهم أيديهم عند السلام، مشيرين إلى السلام من الجانبين كما صرح به في الرواية الأخرى، ثم المشهور أنه لا يجب شيء من الرفع، وحكي الإجماع عليه، وحكي عن داود إيجابه في تكبيرة الإحرام، وبه قال ابن سيار من أصحابنا (الشافعية) وحكي عن بعض المالكية، وحكي عن أبي حنيفة ما يقتضي الإثم بتركه. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (6/ 626-627).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وقد احتج بعض المتأخرين للكوفيين، ومَن ذهب مذهبهم في رفع اليدين بما حدثنا أحمد بن محمد...، عن جابر بن سَمُرَة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيلٍ شُمْس؟ اسكنوا في الصلاة» وهذا لا حجة فيه؛ لأن الذي نهاهم عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غير الذي كان يفعله؛ لأنه محال أن ينهاهم عما سنَّ لهم، وإنما رأى أقوامًا يعبثون بأيديهم، ويرفعونها في غير مواضع الرفع، فنهاهم عن ذلك، وكان في العرب القادمين والأعراب من لا يعرف حدود دِينه في الصلاة وغيرها، وبُعِث -صلى الله عليه وسلم- معلمًا، فلما رآهم يعبثون بأيديهم في الصلاة نهاهم وأمرهم بالسكون فيها، وليس هذا من هذا الباب في شيء، والله أعلم. التمهيد (9/ 221-222).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وقد ذكر ابن القصار هذا الحديث حجة في النهي عن رفع الأيدي في الصلاة على رواية المنع من ذلك جملة، وذكر أن في ذلك نزلت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} النساء:77، والمفسِّرون في سبب نزول الآية على غير هذا. إكمال المعلم (2/344).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
واختلف العلماء في رفع اليدين في الصلاة؛ هل يرفعهما أو لا يرفعهما في شيء من الصلاة؟ أو يرفعهما مرة واحدة عند الافتتاح؟
ثلاثة أقوال عند مالك، مشهور مذهبه الثالث، وهو مذهب الكوفيين على حديث عبد الله بن مسعود والبراء أنه -عليه الصلاة والسلام- كان يرفع يديه عند الإحرام مرة، ثم لا يزيد عليها، وفي أخرى: لا يعود، خرجهما أبو داود، ولا يصح شيء منهما، ذكر علَّتهما أبو محمد عبد الحق.
والأول: هو أحد أقواله وأصحها والمعروف من عمل الصحابة، ومذهب كافة العلماء إلا من ذكر، وهو أنه يرفعهما عند الافتتاح وعند الركوع والرفع منه، وإذا قام من اثنتين، وهو الذي يشهد له الصحيح من الأحاديث.
والثاني: أضعف الأقوال وأشذها، وهو ألا يرفع، ذكره ابن شعبان وابن خِوَاز مِنْدَاد وابن القصار. المفهم (2/ 18-19).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
هذا الذي نقل عن ابن القصار إنْ أراد المنع في غير محل المشروع فمسلَّم، وإن أراد المنع عن رفع اليدين في المحل المشروع كالركوع والرفع منه ونحو ذلك مما ثبت في الصحيح فما أبعده عن الصواب، وأبعد منه استدلاله بالآية المذكورة، فإنه لم يقُله أحد ممن تكلَّم فيها، كما أشار إليه القرطبي. البحر المحيط الثجاج (10/225-226).
وقال السندي -رحمه الله-:
المقصود النهي عن الإشارة باليد عند السلام، فنسَلِّم أي في الصلاة، وبهذه الرواية تبين أن الحديث مسوق للنهي عن رفع الأيدي عند السلام إشارة إلى الجانبين، ولا دلالة فيه على النهي عن الرفع عند الركوع، وعند الرفع منه، ولذلك قال النووي: الاستدلال به على النهي عن الرفع عند الركوع، وعند الرفع منه جهل قبيح.
وقد يقال: العبرة بعموم اللفظ، ولفظ: «ما بالهم رافعي أيديهم في الصلاة؟» إلى قوله: «اسكنوا في الصلاة» تمام، فصح بناء الاستدلال عليه، وخصوص المورد لا عبرة به، إلا أن يقال: ذلك إذا لم يعارضه عن العموم عارض، وإلا يحمل على خصوص المورد، ها هنا قد صح وثبت الرفع عند الركوع، وعند الرفع منه ثبوتًا لا مرد له، فيجب حمل هذا اللفظ على خصوص المورد؛ توفيقًا، ودفعًا للتعارض. حاشية السندي على سنن النسائي (3/4-5).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
هذا الذي حققه السندي -رحمه الله- أخيرًا هو الحق الذي لا مرية فيه، وهذا من إنصافه للحق، وعدم تعصبه لمذهبه الحنفي، كما تعصب له كثير ممن أعماهم التقليد وأصمهم عن اتباع الحق. البحر المحيط الثجاج (10/227).

قوله: «اسكنوا في الصلاة»:
قال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«اسكنوا في الصلاة» أي: في غير التحركات المشروعة كرفع اليدين عند الرفع والخفض. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (2/594).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«اسكنوا في الصلاة» فيه الأمر بالسكون في الصلاة، فيلزم منه النهي عن الحركة فيها، وهو محمول على الحركات لغير حاجة، أو الحركات الكثيرة، كما يدل عليه تشبيهه -صلى الله عليه وسلم- باضطراب أذناب الخيل الشُمْس. البحر المحيط الثجاج (10/219).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وهذا دليل على أبي حنيفة في أن حكم الصلاة باق على المصلي إلى أن يُسَلِّم، ويلزم منه أنه إن أحدث في تلك الحالة –أعني: في حالة الجلوس الأخير للسلام- أعاد الصلاة. المفهم (2/61).

قوله: «قال: ثم خرج علينا فرآنا حِلَقًا»:
قال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
«ثم خرج علينا» أي: مرة أخرى بعد هذا. مرعاة المفاتيح (4/12).

قوله: «فقال: ما لي أراكم عِزيْن؟»:
قال ابن الملك -رحمه الله-:
«عزين» نصبٍ على الحال. شرح مصابيح السنة (2/106).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
قوله: «عزين» يريد فِرَقًا مختلفين لا يجمعكم مجلس واحد. معالم السنن (4/114).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «ما لي أراكم عزين؟» إنكار على رؤيته -صلى الله عليه وسلم- إياهم متفرقين أشتاتًا، والمقصود: الإنكار عليهم كائنين على تلك الحالة، يعني لا ينبغي لكم أن تتفرقوا ولا تكونوا مجتمعين مع توصيتي إياكم بذلك، وكيف وقد قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} آل عمران:103، ولعل العذر من طرفي؛ وذلك أنكم مجتمعون، وإني أراكم متفرقين، ولو قال: وما لكم متفرقين لم يُفِد من المبالغة فائدة، ونظيره قوله تعالى: {مَا لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ} النمل:20 حكاية عن سليمان -عليه السلام- أنكر على نفسه عدم رؤية الهدهد إنكارًا بليغًا، على معنى أنه لا يراه وهو حاضر لساترٍ سَتَرَهُ، أو غير ذلك من الأعداء الخارجين. الكاشف عن حقائق السنن (4/1143).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
لأنه ربما أدى تفرق الأبدان إلى تفرُّق القلوب الذي عنه ينشأ كل شر. التنوير شرح الجامع الصغير (9/434).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
أمرهم بالائتلاف والاجتماع، وحذَّرهم من الفرقة، وقد يحتمل أنه نهاهم عن هذا في الصلاة. إكمال المعلم (2/344).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
الاحتمال الأول هو الصحيح، فالنهي عن تحلُّقهم ليس في حال الصلاة، بل هو في حال اجتماعهم في المسجد، وهذا هو الذي تدل عليه روايات الحديث المختلفة. البحر المحيط الثجاج (10/221).
وقال المناوي -رحمه الله-:
وهذا لا ينافيه أن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- كان يجلس في المسجد وأصحابه مُحْدِقون كالمتحلِّقين؛ لأنه إنما كَرِهَ تحلُّقهم على ما لا فائدة فيه ولا منفعة، بخلاف تحلُّقهم حوله؛ فإنه لسماع العلم والتعلم منه. فيض القدير (5/464).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
والتَّحلُق في المسجد إذا كان قبل الصلاة فهو غير سائغ؛ لأنه إذا أذَّن المؤذن فإن المطلوب أن يكون الناس صفوفًا، وأن يتمُّوا الصف الأول فالأول، وأن يستعدوا للصلاة، فإذا كان هذا الأمر قبل الصلاة فمعلوم أن هذه الهيئة لا تنبغي، وأن المطلوب عندما يأتي الناس إلى المسجد في الصلاة وقد دَخَل الوقت فإنهم يتقدمون إلى الصف الأول حتى يملئوه، ثم يُنْشِئون الصف الثاني حتى يملؤوه، ثم الصف الثالث وهكذا، فيملؤون كل صفٍّ، وينتقلون إلى الصف الذي يليه، فلا ينبغي الجلوس على هذه الهيئة قبل الصلاة، وعلى الناس أن يجلسوا صفوفًا ينتظرون الصلاة، يقرؤون القرآن أو يذكرون الله -عزَّ وجلَّ-، ولا يجلسون حِلقًا، فإن هذا هو الذي أنكره النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال: «ما لي أراكم عِزْين؟».
وأما الجلوس في المسجد في غير وقت الصلاة حِلقًا لتعليم العلم، وتكون الحِلَق متعددة هذا يدرس فنًا وهذا يدرس فنًا، وهذا يدرس علمًا، وهذا يدرس علمًا، فهذا لا بأس به، وقد كانت الحلقات في مسجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- موجودة منذ زمن قديم، فهذا شيء لا بأس به، وهو أمر مطلوب، وتحصيل العلم إنما يكون بالتدريس في المساجد، ولا يلزم أن يكون الناس حلقة واحدة، بل يمكن أن يكون الناس حِلَقًا، وأن يكونوا متعددين، وكل له شيء يريد أن يدرِّسه وأن يَدْرُسَه، فمثل ذلك لا بأس به، والذي يبدو -والله أعلم- أن الذي حصل هو أنهم كانوا متحلقين قبل الصلاة. شرح سنن أبي داود (548/42).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قال الأبي: والنهي يحتمل: أنه في غير الصلاة؛ خوف افتراق الكلمة، ويحتمل: أنه في الصلاة؛ لما فيه من تقطيع الصفوف.
قلتُ: يبعده قول الراوي: «فرآنا حِلَقًا»، والحلقة لا تَسْتَقْبِل كُلها القبلة. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (7/225).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
والمقصود أنه رآهم كذلك في الصلاة، فيستبعد فهم الحِلَق على الاستدارة الكاملة، ويكون المراد اعوجاج الصفوف وتقوسها كأنها حِلَق. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (2/594).

قوله: «قال: ثم خرج علينا فقال: ألا تصفُّون كما تصفُّ الملائكة عند ربها؟»:
قال موسى شاهين -رحمه الله-:
«ألا تصفُّون؟» «ألا» للتحضيض، و«تَصُفُّون» بفتح التاء وضم الصاد. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (2/594).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ألا تَصُفُّون؟» أي: للصلاة. مرقاة المفاتيح (3/851).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«كما تصفُّ الملائكة عند ربها» وهذا تأكيد في الحض كقولهم في الخمر: هو ياقوتٌ سيَّال، عكس ما تقدم من التشبيه بأذناب الخيل الشُّمْس. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (7/225).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«كما تصفُّ الملائكة عند ربها»... أي: عند قيامها لطاعة ربها، أو عند عرش ربها. مرقاة المفاتيح (3/851).

قوله: «فقلنا: يا رسول الله، وكيف تصفُّ الملائكة عند ربها؟ قال: يُتِمُّون الصفوفَ الأُوَل، ويَتَرَاصُّون في الصف».
قال ابن الملك -رحمه الله-:
«يُتِمُّون الصفوف الأولى» أي: لا يخَلُّون من الصفوف المتقدمة شيئًا أَبْتَر. شرح مصابيح السنة (2/106).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
ومعنى «يُتِمُّون الصفوف الأُوَل» أنهم لا يشرعون في الثاني حتى يتم الأوَّل، ولا في الثالث حتى يتم الثاني. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (7/226).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
«ويَتَراصُّون في الصف» أي: يتلاصق بعضهم ببعض، يقال: رصصتُ البنيان، أي: ألْصَقْتُ بعضه ببعض، ومنه قوله تعالى: {كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوص} الصف:4 أي: لاصق البعض بالبعض، ومنه الحديث: «أقيموا صفوفكم وتراصُّوا» أي: تلاصقوا حتى لا يكون بينكم فُرَجٌ. الميسر في شرح مصابيح السنة (1/291).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«يُتِمُّون الصفوف الأولى» وهذا يدل على كثرة الملائكة، والمعنى لا يَشرعون في صفٍّ حتى يكمل الذي قبله. مرقاة المفاتيح (3/851).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«ويتراصون في الصف» بتشديد الصاد، أي: يتلاصقون من غير فُرَج بينهم. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (2/594).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وأمَرهم بوصل الصفوف، ألا تَرَاه كيف قال: «ثم خرج فقال: ألا تُصَافُّون؟»، وفي هذا وفي الأحاديث الأُخَر في الأمر بالصفوف وتسويتها وإقامتها، والوعيد على ترك ذلك مما قد ذكره مسلم وغيره، مما لا يُختلف فيه أنه من سُنن وجماعات الصلاة وهديها، وحُسن هيأتهم، وإكمال الصف الأوَّل فالأول والتراص فيه، ليتم استقامته واعتداله؛ ولئلا يتخلله الشياطين، كما جاء في الحديث، وتشبهًا بالملائكة في صفوفها؛ ولما في ذلك من جمال هيئة الجماعة للصلاة وحُسنها، وتأتي صلاتهم في صفوفهم دون أن يضيق بعضهم على بعض، ولا يتمكن بعضهم من تمام صلاته وسجوده إذا كانوا غير صفوف؛ ولأن في ذلك مع مراعاة تمكُّنهم من صلاتهم من تكثير جمعهم أكثر مما يكون مع الاختلاط؛ ولئلا يشغل بعضهم بعضًا النظر إلى ما يشغله منه إذا كانوا مختلطين، وفي الصفوف غابت وجوه بعضهم عن بعض وكثير من حركاتهم، وإنما يلي بعضهم من بعض صفحات ظهورهم. إكمال المعلم (2/344).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وهذا يدل على استحباب تسوية الصفوف، وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، وقال: «إنه من تمام الصلاة». المفهم (2/62).
وقال النووي -رحمه الله-:
فيه الأمر بإتمام الصفوف الأُوَل، والتراص في الصفوف، ومعنى إتمام الصفوف الأُوَل أن يتم الأوَّل، ولا يشرع في الثاني حتى يتم الأوَّل، ولا في الثالث حتى يتم الثاني، ولا في الرابع حتى يتم الثالث، وهكذا إلى آخرها. شرح صحيح مسلم (4/153).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
ويؤخذ منه أن تلاصق بعضهم ببعض وتضامهم يستلزم تسوية صفوفهم...
(و) دلَّ الحديث على أنه ينبغي للإمام مراعاة المأمومين، وحثهم على ما هو خير لهم، وعلى استحباب إتمام الصفوف الأُوَل، وعلى استحباب تلاصق المصلين بعضهم ببعض في الصف. المنهل العذب المورود (5/51).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
وفي الحديث: النهي عن التفرق، والأمر بالاجتماع.
وفيه: الاقتداء بأفعال الملائكة في صلاتهم وتعبداتهم. مرعاة المفاتيح (4/12).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
فوائده:
منها: الإنكار على مَن أحدث في الصلاة خلاف السنة.
ومنها: الأمر بالسكون في الصلاة، والخشوع فيها، والإقبال عليها، وهو معنى قوله -عزَّ وجلَّ-: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُون} المؤمنون: 1 – 2...
ومنها: بيان أن الإمام يحث المأمومين على رصِّ الصفوف، والمقاربة بينها، وأن ذلك من وظيفته.
ومنها: ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- من شدة الاهتمام في تسوية الصفوف...
ومنها: بيان أن الملائكة يصلون، وأن صفوفهم كما وصف في هذا الحديث، فيعتنون بتسوية صفوفهم، وإتمام الأوَّل فالأول، فينبغي للمسلمين أن يقتفوا بهم في ذلك...
ومنها: النهي عن التفرق أحزابًا، بل يجب أن يكون المسلمون صفًّا واحدًا تجمعهم كلمة الحق، وتربطهم أخوة الإيمان، لا يلوون عنقهم إلى القومية، ولا إلى الوطن، ولا إلى غير ذلك مما لا صلة له بالدِّين، وإنما هم يد واحدة على من سواهم، كما وصفهم بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث قال فيما أخرجه النسائي وغيره، وأصله في الصحيحين من حديث علي -رضي الله عنه- مرفوعًا: «المؤمنون تكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم...». البحر المحيط الثجاج (10/222-224).
وقال الشيخ ابن عثيمين-رحمه الله-:
فنحن إذا صَففنا بين يَدي الله في صلاتنا: ينبغي أنْ نكون كالملائكة، يُكملون الأول فالأول، ويتراصون الأول فالأول كما أَنَّه من سُنَّة الملائكة عند الله -عزَّ وجلَّ- ومما رغَّبَ فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو من الأمور التي ينبغي أنْ يتزاحم الناس عليها؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في حديث أبي هريرة: «لو يُعلم الناس ما في النداء والصف الأول -يعني: من الأجر- ثم لم يجدوا إلا أنْ يستهموا عليه لاستهموا» يعني: لو لم يجدوا طريقًا يِصلون إلى الصف الأول به إلا أن يجروا قُرعة لفعلوا. وهذا يدلّ على فضيلة الصفّ الأول، ويدل على أنَّ الأفضل التَّراص في الصفوف، ويدل على أَنَّه يُكمل الأول فلأول؛ فهذه ثلاث مسائل ينبغي للإنسان أنْ ينتبه لها.
1- ألا يقف في صفٍّ حتّى يُكمل الذي قلبه.
2- في الصلاة يتراصون يَلصق بعضهم كعبه بكعب أخيه ومنكبه بمنكبه حتى تتم المراصة؛ لأنهم إذا لم يتراصوا تدخل الشياطين بينهم كأولاد الغنم الصغار ثم يشوشون عليهم صلاتهم.
ولكن يجب التنبه لمسائل:
1- ليس المراد بالمراصة المراصة التي تشوش على الآخرين وإنما المراد منها ألا يكون بينك وبينه فرجة.
2 - الصف الأول لا يجوز التَّقدم إليه بوضع المنديل أو الكتاب أو ما أشبه ذلك، وكأنه أصبح ملكًا له يحجزه دائمًا...شرح رياض الصالحين(5/١٠٥).


ابلاغ عن خطا