أُقِيمت الصلاة فأَخذَ بيدِ رجُلٍ فقدَّمه وكان إِمام قومِه، وقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إِذا أُقِيمَتِ الصلاةُ ووجَدَ أحدُكُم الخَلَاءَ، فليبدَأْ بالخَلَاءِ».
رواه أحمد برقم: (15959)، وأبو داود برقم: (88)، والترمذي برقم: (142) واللفظ له، والنسائي برقم: (852)، وابن ماجه برقم: (616)، من حديث عبد الله بن الأرقم -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (373)، صحيح سنن أبي داود برقم: (80).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«الخلَاء»:
الخلَاء في الأصل مَصدر، ثم استُعمل في المكان الخالي المتَّخَذ لقضاء الحاجة لا للوضوء فقط. تاج العروس، للزبيدي(38/13).
شرح الحديث
قوله: «إذا أقيمت الصلاة»:
قال محمد بن محمد المختار الشنقيطي -حفظه الله-:
قوله: «إذا أقيمت الصلاة» الإقامة مأخوذة من قول المؤذن: قد قامت الصلاة، ووُصفت بذلك لأنها الأذان الثاني الذي يُؤْذِنُ المأمومين بالصلاة، وبها أو بعدها مباشرة، إما في أثنائها على قول، وإما عند ختمها يكبِّر الإمام شَارِعًا في صلاته. شرح سنن الترمذي (67/2).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«وأقيمت الصلاة» المفروضة. مرشد ذوي الحجا والحاجة (4/441).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
قوله: «إذا أُقيمت الصلاة» قُيِّد بها مع أنَّ ما قبل إقامتها أولى بذلك. فتح الإله في شرح المشكاة (4/351).
قوله: «ووجد أحدُكم الخلاء»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «ووجد أحدُكم الخلاء» أي: وجد حاجةَ نفسه إلى البراز ليقضيها، فليبدأ بما احتاج إليه من قضاء الحاجة، يعني: من احتاج إلى قضاء الحاجة جاز له ترك الجماعة لهذا العذر. الكاشف عن حقائق السنن (4/ 1134).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
قوله: «ووجد أحدكم الخلاء» أي: ما يدعو إلى الذهاب إليه من بول أو غائط دافَعَه. فتح الإله في شرح المشكاة (4/351).
وقال محمد بن محمد المختار الشنقيطي -حفظه الله-:
والمراد بالخلاء: أنه حاقن إما ببول أو يريد أن يَتَغوَّط، ففي هذه الحالة يكون مدافعًا للأخبَثَين، كما ثبت في الصحيحين عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: قال -صلى الله عليه وسلم-: «لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان»، فقوله -عليه الصلاة والسلام-: «فوجد أحدكم الخلاء» أي: وجد أنه محتاج إلى الخلاء، وهذا من باب أدبه -صلى الله عليه وسلم-؛ حيث كنَّى عن حاجة الإنسان بالخلاء، والعلماء -رحمهم الله- يطلقون ألفاظًا في هذا الباب، فمنهم من يقول: الخلاء، ومنهم من يقول: البراز، ومنهم من يقول: الحاجة، وكل ذلك تأدبًا في اللفظ. شرح سنن الترمذي (67/3).
وقال محمد بن محمد المختار الشنقيطي -حفظه الله-:
وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «وجد أحدكم الخلاء»: يشمل مَن يزعجه ذلك ومَن لا يزعجه.
وتوضيح ذلك: أنه إذا أُقيمت الصلاة وحصل للإنسان حَقَن في البول، أو أراد أن يقضي البراز فإنه تارةً يكون عليه شديدًا بحيث لو صلى تشوَّش فكره، ولم يستطع أن يصلي حاضر القلب ويَعِيَ صلاته فهذه هي أشد الحالات وهي الحالة الأولى.
والحالة الثانية: أن يكون دون ذلك.
وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «وجد أحدكم الخلاء» يشمل الحالتين؛ حيث لم يفرِّق -صلى الله عليه وسلم- بين كونه شديدًا أو دون ذلك، فلما قال -عليه الصلاة والسلام- في حديث أم المؤمنين عائشة: «لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان» دل على أن الحالة شديدة؛ لأن المدافعة غالبًا إنما تكون في حال الحزم والحقن والحصر. شرح سنن الترمذي (67/4).
قوله: «فليبدأ بالخلاء»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«فليبدأ» بالغائط. شرح سنن أبي داود (1/621).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«فليبدأ» وإن فاتته الجماعة، «بالخلاء» أي: بالذهاب إليه؛ ليُفَرِّغ نفسه، حتى يدخل في صلاته من غير شاغل يشغله عن خشوعها، وتدبُّر قراءتها وذِكْرها. فتح الإله في شرح المشكاة (4/351).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «فليبدأ بالخلاء»؛ وذلك لأنه إذا صلى وهو حاقن لا يتفرغ للعبادة، ويكون قلبه مشغولًا. شرح أبي داود (1/ 245).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
فلو خاف فَوْتَ الوقت فوجهان: أصحهما: تقديم الصلاة، والثاني الأَوْلى أن يقضي حاجته، وإن خاف فوت الوقت وهو مقتضى إطلاق الحديث، ولنا وجه أنه إذا صلَّى وقد ضاق عليه الأمر بالمدافعة وسلب خشوعه بطلت صلاته. شرح سنن أبي داود (1/621-622).
وقال الشيخ عبد العزيز الراجحي -رحمه الله-:
إذًا: لا يدخل الشخص الصلاة وهو حاقِن أو حاقِب أو حاسِر، والحاقِن: مُدافِع البول، والحاقِب: مُدافِع الغائط، والحاسِر: مُدافِع الريح. شرح جامع الترمذي (15/11).
وقال محمد بن محمد المختار الشنقيطي -حفظه الله-:
سكت -عليه الصلاة والسلام- عن فعل الصلاة بعد قضاء الحاجة؛ لأنه معلوم بداهة فقال: «فليبدأ بالخلاء» أي: بعد أن ينتهي من خلائه شأنه والصلاة . شرح سنن الترمذي (67/4).
وقال محمد بن محمد المختار الشنقيطي -حفظه الله-:
هذا الحديث يدل على فوائد، منها: أن الإمام إذا كان عنده عذر من قضائه لحاجته، وأمكنه أن يقضي الحاجة أو تذكَّر أن عليه جنابة، أو تذكَّر أنه لم يتوضأ وقد أمكنه أن يذهب إلى مكان قضاء الحاجة أو مكان الوضوء ويتوضأ ويدرك الصلاة بالناس فعليه أن يفعل ذلك، ولكن بشرط ألا يضر بالناس، فإذا أضرَّ بهم أو كان الوقت ضيقًا فحينئذٍ يكون الحكم ما فعله عبد الله بن الأرقم -رضي الله عنه وأرضاه- حيث استخلف غيره؛ لكي يصلي بالناس.
قال عروة -رحمه الله-: «فأخذ بيد رجل فقدَّمه وكان إمام القوم» أي: أخذ عبد الله بن الأرقم -رضي الله عنه- بيدِ رَجُل وقدمه لكي يصلي بالناس. شرح سنن الترمذي (67/9).
وقال محمد بن محمد المختار الشنقيطي -حفظه الله- أيضًا:
هذا (أي الحكم) عام يشمل الإمام ويشمل المأموم أنه إذا أقيمت عليه الصلاة أنه يبدأ بالخلاء قبل الصلاة، وفي هذا فوائد:
الفائدة الأولى: فيه دليل على أنه ينبغي على المصلي أن يدفع عنه كل ما يشوِّش عليه فكره ويقطعه عن حضور القلب في صلاته؛ وذلك أنه إذا حضره الخلاء فإنه لا يستطيع أن يكون حاضر القلب، بحيث يَعِي صلاته ويقيمها على وجهها الذي أمر الله -عزَّ وجلَّ- أن تقام عليه، فأمر الشرع أن ينصرف إلى الخلاء؛ حتى يكون حاضر القلب في صلاته وموقفه بين يدي ربه، ويُقاس على الخلاء كل ما يشوِّش الفكر، ومن هنا قال -صلى الله عليه وسلم-: «إذا حَضَر العَشَاء والعِشَاء فابدؤوا بالعَشَاء قبل العِشَاء»، وقال: «لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان»؛ كل هذا لأن الفكر يتشوش وينشغل بهذا الشيء الذي تعلَّق القلب به.
الفائدة الثانية: أنه إذا تعارضت فضيلة متعلقة بالصلاة وفضيلة متعلقة بزمان الصلاة أو مكان الصلاة قُدمت الفضيلة المتعلقة بذات الصلاة على الفضيلة المتعلقة بالزمان والمكان. شرح سنن الترمذي (67/14).
وقال الشيخ محمد بن محمد المختار الشنقيطي -حفظه الله- أيضًا:
فيه: دليل -أيضًا- على مشروعية ترك الصلاة مع الجماعة؛ لوجود العذر، فقوله: «فليبدأ بالخلاء» يعتبر عذرًا من أعذار ترك الجماعة، فالغالب أن المصلي يصلي مع الجماعة، وهذا هو الذي أمر الله به ورسوله -صلى الله عليه وسلم- حيث قال -عليه الصلاة والسلام- للأعمى: «أتسمع النداء؟ قال: نعم... قال: أجب فإني لا أجد لك رخصة»، فأمره -صلى الله عليه وسلم- أن يصلي مع الجماعة، وأن يشهد مع الجماعة، فإذا وجد في نفسه حقنًا لبولٍ أو غائطٍ فإنه ينصرف عن الجماعة ويكون حينئذٍ عذرًا من أعذار ترك الجماعة. شرح سنن الترمذي (67/16).
وقال الطحاوي -رحمه الله-:
قال أصحابنا (يقصد: أصحاب أبي حنيفة) والشافعي وعبيد الله بن الحسن: يُكره أن يصلِّي وهو حاقن، وصلاته جائزة إن لم يترك شيئًا من فروضها.
وقال الثوري: إذا خاف أن يسبقه البول قدَّم رَجُلًا وانصرف.
قال: لا يختلفون أنه لو شَغَل قلبه بشيء من أمر دنياه لم يُستحب له الإعادة فكذلك إذا شغله البول. مختصر اختلاف العلماء (1/302).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وقد أجمعوا أنه لو صلى بحضرة الطعام فأكمل صلاته ولم يترك من فرائضها شيئًا أن صلاته مجزية عنه، وكذلك إذا صلى حاقِنًا فأكمل صلاته، وفي هذا دليل على أن الصلاة بحضرة الطعام إنما هو لئلا يشتغل قلب المصلي بالطعام فيسهو عن صلاته ولا يقيمها بما يجب عليه فيها، وكذلك الحاقِن، وإن كنا نكره لكل حاقِن أن يبدأ بصلاته في حالته، فإن فعل وسَلِمَت صلاته جَزَتْ عنه، وبئس ما صنع، والمرء أعلم بنفسه، فليست أحوال الناس في ذلك سواء، ولا الشيخ في ذلك كالشاب. الاستذكار (2/ 297).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
قال ابن القاسم عن مالك: إذا شَغَلَه ذلك فصلى كذلك فإني أحب أن يعيد في الوقت وبعده. التمهيد (22/ 205).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
اتفقت الأُمَّة على أن المصلي ينبغي أن يدخل في الصلاة حاضر القلب خاشع الجسد، ولا يتم له حضور القلب إلا بحذف العوائق وقطع العلائق، وتكلُّف الفكر والذكر، ومع حضور الحدث والجوع لا يتفق له ذلك، بل يكون في قلقٍ إلا أن يكون يسيرًا من شغل الجوع، وقلق الحدث فإنه لا يضره، فإن كان كثيرًا فصلى به أعاد الصلاة أبدًا.
واختلف العلماء في تعليله: فمنهم من علَّله بالشغل المؤدِّي إلى شرود القلب وإسقاط الخشوع.
وقال أحمد بن حنبل: العلة فيه: انتقال الحدث، وعنده أن انتقال الحدث يوجب الوضوء، وانتقال المني يوجب الغسل وإن لم يظهر، وتعلق بأن الشهوة حصلت بانتقال المني، وإن لم يظهر فكان كالتقاء الختانين، وبأن انتقال الحدث سبب لخروجه فلا يكون أقل من مس الذكَر، وكذا لا يصح؛ فإن الأحداث تثبت بالأخبار كما نقلناه، وكذلك الغسل يثبت بأسبابه المعيَّنة بالأخبار، وما ذكره ليس معللًا، ولا ما رأى أنه مثله في معناه.
تفريع: إذا كان صائمًا فحضَرت الصلاة والعَشَاء، فإن كان محتاجًا بدأ بالعَشاء؛ لقول رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: «إذا حضر العَشَاء والصلاة فابدؤوا بالعَشاء» معناه: مع الحاجة أو الصيام، وكذلك رواه الدارقطني مفسَّرًا «وأحدكم صائم»، فإن لم يكن محتاجًا بدأ بالصلاة.
تفريع: يأتي هذا في صلاة الجماعة، فأما إن كان وحدة بدأ بأكله على كل حال لاتساع الوقت، إلا أن يرغب في الفضل، فيبدأ بالصلاة، إلا أن يكون محتاجًا أيضًا فيبدأ بالأكل. عارضة الأحوذي (1/235-236).
وقال ابن سيد الناس -رحمه الله-:
والصلاة بحضرة الطعام عند أصحابنا (يعني: أصحاب الشافعي) ما في معناه مما يشغل القلب ويذهب كمال الخشوع، وهذه الكراهة عند جمهور أصحابنا وغيرهم إذا صلى كذلك وفي الوقت سعة، فإن ضاق بحيث لو أكل أو تطهر خرج وقت الصلاة صلى على حاله؛ محافظة على حرمة الوقت، ولا يجوز تأخيرها.
وحكى أبو سعيد المتولي وجهًا لبعض الأصحاب أنَّه لا يصلي بحاله، بل يأكل ويتوضأ وإن خرج الوقت؛ لأن مقصود الصلاة الخشوع، وإذا صلى على حاله وفي الوقت سَعة فقد ارتكب المكروه وصلاته صحيحة عندنا وعند الجمهور، لكن يستحب إعادتها ولا يجب.
ونُقِلَ عن أهل الظاهر أنها باطلة. النفح الشذي شرح جامع الترمذي (3/ 287).
وقال ابن سيد الناس -رحمه الله-:
وفي قوله: «ووجد أحدكم الخلاء فليبدأ بالخلاء» ما كان -عليه السلام- من مجانبة الفحش والبعد عن دناءة القول، وكذلك كانت العرب تَكْنُوا عن موضع الحاجة بالخلاء والغائط والمذهب والمخرج والكَنِيف والحُش والمِرْحَاض والمِرْفَق؛ للفرار عن التصريح بما يُسْتَقْبَح من ذكر ذلك بخاص اسمه. النفح الشذي شرح جامع الترمذي (3/ 287).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده:
منها:... أنَّ البول والغائط عذر تسقط به صلاة الجماعة.
ومنها: أنه لا يجوز لأحد أن يصلي وبه حاجة إلى البول والغائط.
ومنها: أنه يُطلب من المصلي الإقبال على صلاته، والبعد عن كل ما يشغل قلبه عنها، فلا يدخل فيها، وهو يجد شيئًا يمنعه عن الخشوع.
ومنها: أنه ينبغي لمن فعل شيئًا مستغربًا أن يبين الدليل الشرعي الذي حَمَلَه على فعله؛ فإنَّ عبد الله بن أرقم لما تخلَّف عن صلاة الجماعة بسبب حاجته، بيَّن لأصحابه دليله. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى، باختصار(10/ 593).
وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)