«ما يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ والمؤمنةِ في نفسِهِ وولدِهِ ومالِهِ حتى يلقى اللهَ وما عليه خطيئةٌ».
رواه أحمد برقم: (7859)، والترمذي برقم: (2399)، واللفظ له، وابن حبان برقم: (2913)، والحاكم برقم: (1281)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (5815)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (2280).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«البلاء»:
الاختبار، يكون بالخير والشر. لسان العرب، لابن منظور (14/ 84).
وقال الفيرزوآبادي -رحمه الله-:
البلاء: الغَمُّ، كأنه يُبْلِي الجسم. القاموس المحيط (1264).
«خطيئةٌ»:
الخطيئة: الذَّنْب، يقال: خَطِئَ يُخْطِئ، ويجوز تسهيل الهمزة، فيُقال: خطيَّة بالتشديد. فتح الباري، لابن حجر (11/ 198).
وقال الحريري -رحمه الله-:
الخطيئة تقع على الصَّغيرة، كما قال سبحانه إخبارًا عن إبراهيم -عليه وعلى نبينا وعلى سائر الأنبياء والمرسلين السلام-: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} الشعراء: 82، ويقع على الكبيرة، كما قال تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} البقرة: 81. درة الغواص في أوهام الخواص (ص: 134).
وقال الراغب -رحمه الله-:
والخطيئةُ والسيئة يتقاربان، لكن الخطيئة أكثر ما تُقال فيما لا يكون مقصودًا إليه في نفسه، بل يكون القصد سببًا لتولُّد ذلك الفعل منه، كمَن يرمي صيدًا فأصاب إنسانًا، أو شَرِب مُسكرًا فجنى جناية في سُكْرِه. المفردات (ص: 287- 288).
وقال ابن قتيبة -رحمه الله-:
قال الأصمعي: يُقال: خَطِئَ الرَّجُلُ يُخطِئ خَطَأً: إذا تعمَّد الذَّنب، فهو خاطئ، والخطيئة منه، والاسم منها الخِطْءُ، وأخطأ يُخْطِئ: إذا غَلَطَ ولم يتعمَّد، والاسم منه الخطأ. غريب القرآن (ص: 131).
شرح الحديث
قوله: «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«ما يزال البلاء» بالمصائب والمتاعِب نازلًا «بالمؤمن والمؤمنة في نفسه». دليل الفالحين (1/199).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
الابتلاء يكون بالخير والشر، فالابتلاء هنا يحتمل: أن المراد بالشر فقط من الألم والفقر، كما يرشد إليه حديث أبي سعيد الآتي: «وقد كان أحدهم يُبْتَلى بالفقر...» الخ.
ويحتمل: أن المراد الأعم من الخير والشر، كما قال نبي الله سليمان -عليه السلام-: {هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} النمل:40، ويدخل سليمان في عموم الأنبياء. التنوير شرح الجامع الصغير (2/382).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«لا يَزال البلاء بالمؤمن» أي: ينزل بالمؤمن الكامل. مرقاة المفاتيح (3/1143).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
إن قيل: في الناس مَن هو أشدُّ بلاء من الأنبياء؟
قيل: لا يبلغ أحدٌ مبلغ الأنبياء في الابتلاء؛ فإنهم قُلِّدوا أمرًا عظيمًا من التلقِّي عن الله، والتبليغ إلى العباد، والصبر على آذاهم لهم من التكذيب والسخرية ونسبة الجنون والسحر إليهم، والتوعد بهم بالرجم والإخراج وغير ذلك. التنوير شرح الجامع الصغير (2/382).
وقال عبد الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
«والمؤمنة» الواو بمعنى (أو) بدليل إفراد الضمير «في نفسه وماله وولده» ووقع في المشكاة: «بالمؤمن أو المؤمنة». تحفة الأحوذي (7/67-68).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«بالمؤمن والمؤمنة في نفسه» بالمرض والفقر، والغربة التي هي في الظاهر كُربة، وإن نظرتَ إليها وأنها واردة إليك مِن أرحم الراحمين انقلَبَت من كونها مِحْنَة إلى كونها مِنْحَة. دليل الفالحين (1/199).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وولده» بفتح الواو واللام وبضم فسكون، أي: أولاده. مرقاة المفاتيح (3/1143).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«وولده» بالموت والمرض، أو عدم الاستقامة أو نحوه مما يُؤلم الوالد بحسب الطبع البشري، «ومالِه» بالتَّلف ببعض الأسباب مِن حَرْقٍ أو سرقة أو نحو ذلك. دليل الفالحين (1/199).
قوله: «حتى يلقى الله وما عليه خطيئة»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«حتى» غاية لنزول البلاء بأرباب الإيمان، أي: إن البلاء لا يزال بالإنسان، أي: الصابر كما يدل عليه لفظ: «المؤمن والمؤمنة» المحمول عن الفرد الكامل إلى أن يغفر الله له به الخطايا. دليل الفالحين (1/199).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«حتى يلقى الله تعالى» أي: يموت. شرح مصابيح السنة (2/ 325).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
فـ«يلقى» أي: المبتلى؛ ليشمل كلًّا منهما، «تعالى» ولقاء الله كِنَاية عن الموت. دليل الفالحين (1/199).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
«وما عليه من خطيئة» وفي الترمذي: «وما عليه خطيئة» أي: بحذف (مِن) وهكذا في الترغيب، وجامع الأصول، وكذا في رواية الحاكم، ووقع عند أحمد والحاكم والبيهقي وابن أبي شيبة: «من خطيئة». مرعاة المفاتيح (5/ 261).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وما عليه خطيئة» بالهمز والإدغام، أي: وليس عليه سيئة؛ لأنها زالت بسبب البلاء. مرقاة المفاتيح (3/1143).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«وما عليه خطيئة» أي: ذنب، جملة حالية.
وقوله: «خطيئة» ظاهرُ عمومه شمول الكبائر والتَّبِعات، فإنْ ثبت ذلك وأنه مُراد؛ فذلك مِن مَحْضِ فضل الكريم الجواد؛ إذ صالح العمل -ومنه الصبر والاحتساب- إنما يُكَفِّر الصغائر المتعلقة بحقوق الله تعالى. دليل الفالحين (1/199).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«وما عليه خطيئة» من كبيرة ولا صغيرة هذا ظاهره، وإن كان الجماهير قالوا: إن الكبائر لا تُكَفَّر إلا بالتوبة. التنوير شرح الجامع الصغير (2/382).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
الإنسان لا يخلو من خطأ ومعصية وتقصير في الواجب؛ فإذا أَراد الله بعبدهِ الخير عجَّل له العقوبة في الدُّنيا: إِما بماله، أو بأهله، أو بنفسه، أو بأحدٍ ممن يتصل به؛ لأن العقوبة تكفر السيئات، فإذا تعجّلت العقوبة وكَفَّر الله بها عن العبد، فإنه يُوافي الله وليس عليه ذنبٌّ، قد طهرته المصائب والبلايا، حتّى إِنه ليُشدَّد على الإنسان مُوته لبقاء سِيئة أو سيئتين عليه، حتى يخرج من الدُّنيا نقيًا من الذنوب، وهذه نِعمة؛ لأن عذاب الدُّنيا أهون من عذاب الآخرة.شرح رياض الصالحين(1/٢٥٨)
وقال أبو الوليد الباجي -رحمه الله-:
يحتمل: أن يريد أنه يحطّ عنه لذلك خطاياه حتى لا يبقى له خطيئة.
ويحتمل: أن يريد أنه يحصل له على ذلك من الأجر ما يَزِنُ جميع ذنوبه، فيلقى الله تعالى وليس له ذنب يزيد على حسناته، فهو بمنزلة مَن لا ذنب له، وإنما هذا لمن صَبَرَ واحتسب، وأما مَن سخط ولم يرضَ بقدر الله تعالى فإنه أقرب إلى أن يأثم لسخطه، فيكثر بذلك سائر آثامه. المنتقى شرح الموطأ (2/28).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وذلك بالصبر والاحتساب والرضا؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «مَن صبر على مصيبته، واحتسب، كان جزاؤه الجنة». التمهيد (6/ 347).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
ولكن هذا إذا صبر، أما إذا تسخط، فإنَّ مَن تسخَّط فله السُّخط، والله الموفق. شرح رياض الصالحين (1/ 275).
وقال الشيخ فيصل ابن المبارك -رحمه الله-:
في هذا الحديث: أن المصائب والمتاعِب النازلة بالمؤمن الصابر من المرض، والفقر، وموت الحبيب، وتَلَفِ المال، ونقصه: مكفِّرات لخطاياه كلها. تطريز رياض الصالحين (51).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
فإنْ أراد الله به (عبده) خيرًا طهَّره من المادة الخبيثة قبل الموافاة، فيوافيه يوم القيامة مُطَهَّرًا، فلا يحتاج إلى تطهيره بالنار فيطهره منها بما يوفقه له من التوبة النصوح، والحسنات الماحية، والمصائب المكفِّرة، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة، ويمسك عن الآخر مواد التطهير، فيلقاه يوم القيامة بمادة خبيثة، ومادة طيبة، وحكمته تعالى تأبى أن يجاوره أحد في داره بخبائِثِه، فيدخُله النار طُهْرة له، وتصفية وسَبْكًا، فإذا خلصت سبيكةُ إيمانه من الخُبث صلح حينئذٍ لجواره، ومساكنة الطيبين من عباده. زاد المعاد (1/67- 68).