«إذا استيقظ أُرَاهُ أحدُكُم مِن منامه فتوضَّأَ فليستنثِرْ ثلاثًا، فإنَّ الشيطانَ يَبِيتُ على خيْشُومِهِ».
رواه البخاري برقم: (3295) واللفظ له، ومسلم برقم: (238)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
غريب الحديث
«فليَسْتَنْثِر»:
أي: فليغسِلْ داخلَ أنفه. المفاتيح، للمظهري (1/ 394).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
الاسْتِنْثَار: إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق مع ما في الأنف من الغُبار ونحوه. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (13/209).
«خَيْشُومه»:
الخَيْشُوم: بفتح الخاء المعجمة، وبسكون الياء التحتانية، وضم المعجمة، وسكون الواو هو الأنف، وقيل: المنخَر. فتح الباري (6/343).
قال النووي -رحمه الله-:
قال العلماء: الخيشوم أعلى الأنف، وقيل: هو الأنف كله، وقيل: هي عِظَام رِقَاق ليِّنة في أقصى الأنف بينه وبين الدماغ، وقيل: غير ذلك، وهو اختلاف متقارب المعنى. شرح صحيح مسلم (3/128).
شرح الحديث
قوله: «إذا استيقظ أُرَاه أحدكم من منامه»:
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«استيقظ» أي: صحا من النوم. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (1/179).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«أُراه» بِضم الهمزة، أي: أظنُّه. إرشاد الساري (1/248).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «من نومه» لم يقيَّد بنوم ليل أو بنوم نهار، ولكن قوله: «فإن الشيطان يَبِيْت» يفيد أن المراد بالنوم هنا نوم الليل. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (1/179).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
ويُقيَّد النوم بمنام الليل كما يفيده لفظ «يبيت»؛ إذ البيتوتة فيه، وقد يقال: إنَّه خرج على الغالب، فلا فرق بين نوم الليل ونوم النهار. سبل السلام (1/ 64).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قلنا: إن كلمة «نوم» عامة، وطريق العموم فيها أنها مضافة، والمفرد المضاف يكون للعموم. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (1/181).
قوله: «فتوضأ فلْيَسْتَنْثِرْ ثلاثًا»:
قال ابن الملك -رحمه الله-:
«فلْيَسْتَنْثِرْ» جواب الشرط، أي: فلْيَغْسل داخل أنفه. شرح مصابيح السنة (1/272).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «فلْيَسْتَنْثِرْ»، اسْتَنْثَرَ حرَّك النُّثْرَة، وهي طرف الأنف، ويجوز أن يكون بمعنى نَثْرتُ الشيء إذا بَدَّدتُّه. الكاشف عن حقائق السنن (3/792).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«فلْيَسْتَنْثِرْ» أي: لإخراج ما في أنفه من أذى، ولما فيه من تنقية مجرى النَّفَس الذي فيه التلاوة، وإصلاح مجاري الحروف. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (2/195).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «فلْيَسْتَنْثِرْ» أكثر فائدة من قوله: فليستنشق؛ لأن الاستنثار يقع على الاستنشاق بغير عكس، فقد يستنشق ولا يستنثر، والاستنثار من تمام فائدة الاستنشاق؛ لأن حقيقة الاستنشاق جذب الماء بريح الأنف إلى أقصاه، والاستنثار إخراج ذلك الماء، والمقصود من الاستنشاق تنظيف داخل الأنف، والاستنثار يخرج ذلك الوسخ مع الماء، فهو من تمام الاستنشاق، وقيل: إن الاستنثار مأخوذ من النُّثْرَة، وهي طرف الأنف، وقيل: الأنف نفسه، فعلى هذا فمن استنشق فقد استنثر؛ لأنه يصدُق أنه تناول الماء بأنْفِه أو بطرف أنفه، وفيه نظر. فتح الباري (6/343).
وقال الشيخ عبد القادر شيبة الحمد -رحمه الله-:
«فلْيَسْتَنْثِرْ ثلاثًا» المراد: فليستنشق ثلاثًا، لأنه إذا أفرد الاستنثار فالمراد به استنشاق الماء ثم استخراجه بنفس الأنف، وإذا جمع بين الاستنشاق والاستنثار في حديث واحد فيكون المراد من الاستنشاق جذب الماء إلى الأنف، ومن الاستنثار دفعه منه. فقه الإسلام شرح بلوغ المرام (1/43).
وقال الشيخ عبد الله الفوزان -حفظه الله-:
قوله: «ثلاثًا» مفعول مطلق نائب عن المصدر، أي: استنثارًا ثلاثًا. منحة العلام شرح بلوغ المرام (138).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «ثلاثًا» أي: ثلاث مرات، ولم يُبيِّن هل لكل استنثارة غَرْفَة أم أنه يَسْتَنْثِر بِغَرْفَة واحدة؟
والجواب: أن هذا مما يُتسامح فيه، إن شاء بِغَرْفَةٍ واحدة، وإن شاء بثلاث غَرَفَاتٍ. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (1/180).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
هذا يدل على شرعية الاستنثار ثلاثًا، وظاهره غير الاستنثار في الوضوء، فيتأكد الاستنثار ثلاثًا قبل الوضوء، فإن الاستنثار في الوضوء مستقل. شرح بلوغ المرام (57-58).
وقال الشيخ عبد القادر شيبة الحمد -رحمه الله-:
ظاهر الحديث يفيد طلب الاستنثار عند القيام من النوم سواء أريد الوضوء أم لا، إلا أنه في رواية للبخاري: «إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فليسْتَنْثِر ثلاثًا؛ فإن الشيطان..» الحديث، فدلَّ على أن هذا الظاهر المطلق مقيَّدٌ بإرادة الوضوء. فقه الإسلام شرح بلوغ المرام (1/43).
قوله: «فإن الشيطان يبيت على خيشومه»:
قال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
«فإن الشيطان» الفاء للسببية. مرعاة المفاتيح (2/89).
وقال الشيخ عبد الله الفوزان -حفظه الله-:
قوله: «فإن الشيطان يبيت على خيشومه» الجملة تعليل للأمر بالاستنثار ثلاثًا. منحة العلام شرح بلوغ المرام (138).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «فإن الشيطان...» (أل) هنا للجنس وليست للعهد، فلا يخصُّ شيطانًا معيَّنًا، بل المراد جنس الشياطين. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (1/180).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
والخيشوم: أقصى الأنف المتصل بالبطن المقدَّم من الدِّماغ الذي هو موضع الحسِّ المشترك، ومستقر الخيال، فإذا نام تجتمَّع فيه الأخلاط، وييبَس عليه المخاط، ويَكِلُّ الحس، ويتشوش الفكر، فيرى أضغاث أحلام، فإذا قام من نومه وترك الخيشوم بحاله استمر الكسل والكَلَال، واستعصى عليه النظر الصحيح، وعَسُرَ الخضوع والقيام على حقوق الصلاة وآدابها، وهو المراد من بَيْتُوتَة الشيطان في الخيشوم، والأمر بطرده بالاستنثار. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/189).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«فإن الشيطان يبيتُ على خيشومه»... يعني: إذا كان الرجلُ يقظانَ يوسوسه الشيطانُ، ويأمره بالسوء من كلِّ طريق، ويوقعُ في قلبه الوَسْوَسة، فإذا نام الرجلُ عَلِمَ الشيطانُ أنه لا يمكنه وسوسة؛ لأنه زالَ بالنوم إحساسُه، ورُفِعَ عنه بالنوم قَلَمُ التكليف، فيبيت الشيطان في داخل أنفه؛ ليلقيَ في دماغه الرؤيا الفاسدة، ويمنعَه عن الرؤيا الصالحة؛ لأن محلَّ الرؤيا الدماغ، وكثيرٌ من الناس قد يَضِلُّ ويقعُ في الفتنة بالرؤيا الفاسدة، مثل أنْ يريَه الشيطان ويقول له: إنك نبيٌّ، أو إنك وليٌّ، أو أمرَه بشيءٍ لم يكن شرعيًّا، أو نهاه عن شيءٍ هو شرعي، فأمر النبي -عليه السلام- أمَّتَه أنَّ يغسِلُوا داخلَ أنوفهم؛ لإزالة لَوْثِ الشيطان، ونَتْنهِ منها، وطريقُ دفع الرؤيا الفاسدة أنْ يضطجع الرجل بالوضوء على جنبه الأيمن، ويذكرَ اسم الله تعالى، ويقرأَ القرآن حتى يدركَه النوم، فإذا نام كذلك لا يقربُه الشيطانُ حتى يستيقظ. المفاتيح في شرح المصابيح (1/ 394-395).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
قوله: «يبيتُ على خيشومه» فيه ما ينبِّه على أن الشيطان يخرج مع النفس، ويدخل مع النفس، ولعل الله شَرَعَ الاستنثار في الوضوء ليغسل آثار الشيطان. الإفصاح عن معاني الصحاح (6/243).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
والمراد من بيتوتة الشيطان عليه -والله أعلم-: أن الإنسان إذا نام تعلَّق الخُشَام (مرض في الأنف يمنع الشَّم) بخيشومه، ويبس عليه المخاط حتى تنسدّ مجاري الأنفاس منه، وينقطع عن الدماغ ما كان يجده من الراحة باستنشاق الهواء، فيكون في رقدته كالمعذّب في يقظته، فتتغير الطبيعة عن حالها ويتعرض له الشيطان بما يكرهه من أضغاث الأحلام، وإذا هبَّ (أي: قام) من نومه هبَّ لَقِسَ (اللَّقْس: الغَثَيَان وفساد المزاج) النَّفْس، متعوب الطبيعة، ولا تستقيم له القراءة في الصلاة مع ترك الخيشوم على تلك الحالة؛ لأنها تمنع عن تأديةِ الحروف من مخارجها على شرط الصحة، فأمَره بالاستنثار لإزالة هذه العوارض، وصار ذلك الموضع بيته؛ لأنه يستحلي تلك القواطع التي يتمكن منها هناك؛ وذلك مثل قوله -صلى الله عليه وسلم- حكاية عن الشيطان إذا دخل البيت الذي لم يُذكر اسم الله فيه على الطعام: «أدركتُم العَشَاء والمبيت».
ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن الإنسان ما دام متيقظًا وسْوَسَ إليه الشيطان بطريقِ ما يَرِدُ على السمع، ويتراءى للبصر، ويترقَّب الفرصة منه عند النطق إلى غير ذلك من الأحوال، فإذا نام انسدَّت فيه تلك المداخل، ولم يبقَ إلا مدخل النفس من الخيشوم، فيترصد هنالك للتعرُّض له بما يؤذيه، ثم إن الخيشوم باب مفتوح إلى قُبَّة الدماغ، وفيه محل القسوة المتخيلة التي هي مناط الرؤيا الصالحة ومثار الأحلام الكاذبة، فلا يزال بائتًا دون ذلك الباب يعْبَثُ بنفخه ونفثه في عالم الخيال، فرأى الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يمحو باستعمال الطهور المبارك على وجه التَّعبد آثار تلك النفخات والنفثات عن مجاري الأنفاس. الميسر في شرح مصابيح السنة (1/144).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
بَيْتُوتَهُ (الشيطان) على الخيشوم -وهو أقصى الأنف- يجوز أنْ يكون حقيقة، وأنْ يكون مجازًا عن اجتماع الأوساخ هناك المانعة عن النشاط في الطاعة، وكل ما كان من هذا القبيل فهو من جنود الشيطان. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (6/ 215).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
(و) يحتمل: أن يكون هذا على الحقيقة؛ لأن الأنف أحد منافذ الجسم الذي يُتوصل إلى القلب منها، لا سيما وليس من منافذ الجسم ما ليس عليه غلق سواه وسوى الأذنين، وفي الحديث: «إن الشيطان لا يفتح غَلَقًا (أي: مغلقًا)»، وجاء في التثاؤب الأمر بكَظْمِهِ من أجل دخول الشيطان في الفم حينئذٍ، أو يكون على طريق الاستعارة، فإنَّ ما ينعقد من الغبار ورطوبة الخياشيم من القذارة وضد النظافة التي توافق الشيطان -وهي منه- وأمره بذلك إشارة إلى القيام للوضوء للصلاة، كما جاء في الآية، وكما جاء في غسل اليد قبل إدخالها الإناء. إكمال المعلم (2/31-32).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله- مُعلِّقًا:
والقول الثاني أوفق وأدق؛ لأن الكلام لو كان على سبيل الحقيقة ما ذهب الشيطان عن الخياشيم بالغسل، ولم تزل آثار مَبِيْتِهِ بالغسل، وإجراء الاستعارة بأنْ يقال: شَبَّهْنَا القاذورات والأوساخ التي تتراكم ليلًا في الأنف بالشيطان بجامع البشاعة والنفور من كلٍّ، واستَعَرْنَا الشيطان لأوساخ الأنف على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (2/ 132).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
ويحتمل أنْ يكون ذلك عبارةً عن تَكْسِيْلِهِ عن القيام إلى الصلاة، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: «يَعْقِدُ الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عُقَد»، ويكون أمره بالاستنثار أمرًا بالوضوء، كما قد جاء مفسَّرًا في غير كتاب مسلم: «فليتوضأ، وليستَنْثِر ثلاثًا؛ فإن الشيطان يبيتُ على خياشيمه». المفهم (1/ 483-484).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
فيحتمل أنْ يُراد به الاستنشاق، ويحتمل أنْ يُراد به الامتخاط. كشف المشكل (3/ 400).
وقال العراقي -رحمه الله-:
وقد حكى بعض مشايخنا أنَّ العلماء ذكروا للاستنشاق معنى آخر، فذكروا أنَّ الحكمة في تقديمه وتقديم المضمضة وغسل الكفين على غسل الأعضاء الواجبة حتى يعرف المتوضئ بذلك أوصاف الماء الثلاثة، وهي الرائحة والطعم واللون هل هي متغيرة أم لا؟ وهذا وإن كان محتملًا فإنه لا دليل عليه، والعلة المنصوصة في الاستنشاق أولى، والله أعلم. طرح التثريب في شرح التقريب (2/ 53-54).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
والراجح: أنه محمول على الحقيقة، وموكول معرفته وعلمه إلى الشارع، فإنَّ الله تعالى خصَّ نبيه -صلى الله عليه وسلم- بأسرار يقصر عن دركها العقول والأفهام، فالصواب في أمثال هذه الأحاديث أنْ يُؤْمِنَ بظواهرها، ويحترَّز عن بيان كيفياتها. مرعاة المفاتيح (2/ 89-90).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
وتقريبنا الكلام على الوجهين هو من طريق الاحتمال، وحق الأدب دون الكلمات النبوية التي هي مخازن أسرار الربوبية ومعادن الحكم الإلهية ألا يُقْطَع في هذا الحديث وأخواته بشيء، فإن الله تعالى خَصَّ رسوله -صلى الله عليه وسلم- من غرائب المعاني، وكاشَفَه من حقائق الأشياء بما يَقْصُرُ عن بيانه بَاعُ الفهم، ويَكِلُّ عن إدراكه بَصَرُ العقل. الميسر في شرح مصابيح السنة (1/144).
وقال العراقي -رحمه الله-:
«فإن الشيطان يَبِيْتُ على خَيَاشِيْمِه» فبيَّن سبب الأمر، وهو تطهير آثار الشيطان. طرح التثريب (2/53).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
وعلى هذا فالمراد بالاستنثار في الوضُوء للتنظيف، وللمُستيقِظ لطرد الشيطان. شرح سنن أبي داود (2/ 95).
وقال الكلاباذي -رحمه الله- في سبب تخصيص الخيشوم بالبيتوتة:
يجوز أنْ يكون ذلك لبُعْدِه من مواضع التقيُّد؛ فإنَّ العين باب النظر إلى خلق السماوات والأرض...، فهي باب العِبرة، والفم باب الذِّكر...، والأذن باب سماع ذكر الله تعالى، وسماع العلم...، وليس في الخياشيم شيء من هذا المعنى، فيجوز أنْ يكون اقتراب الشيطان من الإنسان، وموضع مدخله فيه إما عن طريق الوسوسة، أو جريانه فيه، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم»، وقال في التثاؤب: «التثاؤب في الصلاة من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم في الصلاة، فليَكْظِمْ ما استطاع»، وقال: «فإن الشيطان يضحك في جوفه»، فأخبر أن الشيطان يدخل في جوف الإنسان، فيجوز أن يكون مدخله فيه من طريق الخياشيم من طريق الوسوسة، وهو باب ظاهر، ويقول الناس لمن استخَفَّه أَمْرٌ، أو ظهر فيه كِبْرٌ: نفخ الشيطان في منخره. بمعاني الأخبار (ص: 107).
وقال العراقي -رحمه الله-:
مَبِيْتُ الشيطان على الخيشوم هل هو لعموم النائمين، أو مخصوص بمن لم يفعل ما يحترس به من الشيطان في منامه كقراءة آية الكرسي، فإنه ثبت في الصحيح أن مَن قرأها عند النوم لا يقربه شيطان، وأيّ قُرْبٍ أَقْرَبُ مِن مَبِيْتِهِ على خَيَاشِيْمِه؟
يحتمل كلًّا من الأمرين، فإن المراد بقوله: «لم يَقْرَبْهُ» أي: لم يَقْرُب إلى المكان الذي يوسوس فيه، وهو القلب، وإن بات على الخيشوم، فيكون محفوظًا منه مع القُرب من البَدَن له دون القلب. طرح التثريب (2/54).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
ظاهر الحديث: أن هذا يقع لكل نائم، ويحتمل: أن يكون مخصوصًا بمن لم يحترس من الشيطان بشيء من الذِّكْر لحديث أبي هريرة المذكور قبل حديث سعد، فإن فيه: «فكانت له حِرْزًا من الشيطان»، وكذلك آية الكرسي، وقد تقدَّم فيه: «ولا يَقْرَبك شيطان».
ويحتمل: أن يكون المراد بنفي القُرْبِ هنا أنه لا يَقْرُب من المكان الذي يوسوس فيه وهو القلب، فيكون مَبِيْتُه على الأنف؛ ليتوصل منه إلى القلب إذا استيقظ، فمن اسْتَنْثَرَ منَعَه من التوصُّل إلى ما يقصد من الوسوسة، فحينئذٍ فالحديث متناوِل لكل مستيقظ. فتح الباري (6/343).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث: إشارة من النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الوضوء عند القيام من نوم الليل؛ فإنه بذلك يصلح له الاستنثار؛ وذلك الاستنثار هو الذي يطرد الشيطان، وإلا فالأُمَّة مُجْمِعَة على أنه إذا انتبه من نومه لم يجب عليه الاستنثار. الإفصاح عن معاني الصحاح (6/243).
وقال المغربي -رحمه الله-:
الحديث فيه: دلالة على وجوب الاستنثار، وهو دليل من قال بوجوبه دون المضمضة كأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور. البدر التمام (1/205).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
الحديث دليل على وجوب الاستنثار عند القيام من النوم مطلقًا، إلا أن في رواية للبخاري «إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فلْيَسْتَنْثِر ثلاثًا فإن الشيطان ...» الحديث، فيقيد الأمر المطلق به هنا بإرادة الوضوء، ويقيَّد النوم بمنام الليل كما يفيده لفظ: «يَبِيْتُ»؛ إذ البيتوتة فيه، قد يقال: إنه خرج على الغالب، فلا فرق بين نوم الليل ونوم النهار. سبل السلام (1/64).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
وقال الجمهور: إن الأمر فيه للنَّدْبِ، مُسْتَدِلِّين له بما أخرجه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه من قوله -صلى الله عليه وسلم- للأعرابي: «مَن توضَّأ كما أمر الله» فأحال على الآية، وليس فيها ذكر الاستنشاق. إرشاد الساري (1/247).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
هل هذا الأمر للوجوب أو لا؟
نقول: الأصل في الأمر الوجوب، لا سيما وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- علَّل ذلك بأمرٍ يجب التَّنزه عنه، وهو أثَر الشيطان الذي يبيت على الخيشوم. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (1/181).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
ومن فوائد هذا الحديث: تكرار التطهير ثلاثًا؛ لقوله: «فليَسْتَنْثِر ثلاثًا»، فهل يؤخذ من هذا أن إزالة النجاسة لا بد أن تكون بثلاث غسلات، وأنه لا يُكتفى بمرة واحدة ولو زالت النجاسة؟
يحتمل هذا وهذا، ويحتمل: أن يقال: إنه يُقَاس عليه بقية النجاسات كما ذهب إليه بعض الفقهاء، وقال: إنه يشترط في إزالة النجاسة أن تكون بثلاث غسلات، والمذهب - كما هو معروف عندكم- لا بد من سبع غسلات.
ومن فوائد هذا الحديث: اعتبار التثليث في كثير من الأحكام الشرعية كما في هذا الحديث ونظائره.
ومن فوائد هذا الحديث: حُسْن تعليم النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ حيث قَرَن الحكم بِعِلَّته، وقَرَنَ الحُكم بالعلَّة له فوائد:
منها: العموم إذا كانت هذه لعلة موجودة في غير ما نص عليه.
ومنها: تنشيط الإنسان على العمل أو نُفُورِه منه؛ فإن كان في خير فإنه يَنْشَطُ، وإن كان في غيره فإنه يهرب ولا يَنْشَطُ، وهذا من باب الترهيب؛ لقوله: «فإن الشيطان يبيت على خيشومه».
ومنها: ثبوت نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن عِلْمَه بأن الشيطان يبيت على خيشومه لا يُدْرَك بالحس؛ فإنه لو اجتمع أهل الأرض كلهم على أن يطَّلِعوا على هذا ما اطَّلَعُوا عليه، ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- اطَّلع على ذلك عن طريق الوحي؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- لا يعلم الغيب.
ومن فوائد هذا الحديث: أن ظاهرَه العموم، أي: عموم الأمر بالاستنثار في كل نوم؛ لقوله: «من نومه»، ولكن العلة تقتضي التخصيص حيث قال: «فإن الشيطان يبيت على خيشومه»، فمِن العلماء من أخذ بالعموم، وقال: إن تعليل بعض أفراد العام بعلة لا يقتضي التخصيص، ومن العلماء من قال: بل العلة تخصيص العام، وعلى كل حال: الاحتياط أن يستنثر الإنسان ثلاثًا حتى في نوم النهار؛ لأن اللفظ يحتمله، وعَوْدُ العلة على بعض أفراده لا يقتضي التخصيص، كما أن عَوْدَ الحُكم على بعض الأفراد داخل في التخصيص. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (1/181-182).